دعوى مخالفة عمر بن الخطاب لتشريع عقوبتي القصاص وشرب الخمر(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المشككين أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خالف القرآن والسنة في تشريعهما للحدود، ويستدلون على ذلك بقتل عمر - رضي الله عنه - لجماعة من الناس اجتمعوا على قتل رجل واحد، وقال: "لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا"، وكذلك جلده شارب الخمر ثمانين جلدة، وقد جلده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين، وفعل أبو بكر - رضي الله عنه - مثل ذلك. ويتساءلون: ألا يخالف ما فعله عمر - رضي الله عنه - معنى التساوي في القصاص في قوله عزوجل: )يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان( (البقرة: 178)؟ ويخالف أيضا ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عقوبة شارب الخمر؟!
وجها إبطال الشبهة:
1) قتل الجماعة بالواحد يكون هو المحقق لمصلحة الجماعة، فلو علم الجماعة أنهم إذا قتلوا الواحد لم يقتلوا؛ لتعاون بعض الناس على قتل عدو لهم بالاشتراك في قتله، كما أن المراد بالقصاص في الآية قتل من قتل كائنا من كان؛ حيث تراعي الحدود فكرة التعدي والجور دون نظر إلى محل التعدي من حيث انفراده أو تعدده.
2) الآثار الواردة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن الصحابة - رضي الله عنهم - تؤكد على وجود عقوبة لشارب الخمر، ولكن هذه الآثار لا تحدد مقدار هذه العقوبة كما ولا كيفا، وتركت تحديدها للإمام أو من ينوب عنه، وهذا ما فعله عمر رضي الله عنه، ولم ينفرد بتحديد مقدار العقوبة اللازمة وحده، بل اعتمد على آراء الصحابة، وعلى إجماع سكوتي منهم على ما فعله.
التفصيل:
أولا. قتل الجماعة بالواحد في بعض الحالات - كما فعل عمر بن الخطاب - يكون هو المحقق لمصلحة الجماعة:
يقرر النص القرآني أصلا من الأصول العامة للتشريع الإسلامي وهو العدل المطلق، قال عزوجل: )وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون (45)( (المائدة)، وقال عزوجل: )كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد( (البقرة: 178)، فإزهاق نفس القاتل مقابل نفس المقتول هو الأصل في التشريع الإسلامي، لكن ما الحكم إذا اجتمعت أكثر من نفس على إزهاق نفس واحدة؟ وكيف يتحقق معنى النفس بالنفس عند القصاص من هذه الأنفس القاتلة؟!
روي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قتل نفرا - خمسة أو سبعة - برجل واحد قتلوه غيلة[1]، وقال: "لو تمالأ عليه أهل صنعاء قتلتهم به جميعا"، وروى الجصاص أنه ثبت عن عمر قتل جماعة رجال بالمرأة الواحدة من غير خلاف ظهر من أحد نظرائه، مع استفاضة ذلك وشهرته عنه، ومثل ذلك يكون إجماعا، إذن أزهق عمر النفوس القاتلة بنفس واحدة، فهل خالف معنى المساواة في القصاص في النصين السابقين؟
وقال القرطبي في تفسير مقابلة النفس بالنفس: "إن المراد بالقصاص في الآية قتل من قتل كائنا من كان؛ ردا على العرب التي كانت تريد أن تقتل بمن قتل من لم يقتل، وتقتل في مقابلة الواحد مائة؛ افتخارا واستظهارا بالجاه والمقدرة؛ فأمر الله - عزوجل - بالعدل والمساواة، وذلك بأن يقتل من قتل".
وعلى هذا نقول: إن النص القرآني في القصاص قصد به تقرير أصل من الأصول العامة التي جاء بها التشريع الإسلامي، وهو العدل المطلق في كل المواقف، ولأن العرب كانوا يقتلون غير القاتل من أقربائه، ويسرفون في ذلك إظهارا للمنعة، وفي هذا من الظلم والجور وإزهاق النفوس ما فيه؛ لذلك جاء القرآن مقررا أن النفس المذنبة وحدها هي التي يقع عليها القصاص.
وإذا نظرنا إلى الأنفس التي اجتمعت على إزهاق نفس واحدة، فإن كلا منها نفس مذنبة؛ إذ اشتركت اشتراكا مؤثرا في الجريمة، ومن ثم ينطبق على كل منها أنها نفس قاتلة أخذت بالنفس المقتولة، فلا ينظر إلى وحدة النفس المقتولة وتعدد النفوس القاتلة، إنما ينظر إلى الإثم والجناية والتعدي، أوليس كل منهم ينطبق عليه وصف القاتل لاشتراكه في القتل؟
النصوص الإسلامية تراعي في العقوبات فكرة التعدي والجور:
النصوص الإسلامية كلها تراعي في العقوبات فكرة التعدي والجور، دون أن تنظر إلى محل التعدي، من حيث انفراده أو تعدده، فإذا اشترك عشرة رجال في الزنا بامرأة واحدة، فهم زناة، تماما كما لو زنى كل منهم بامرأة معينة، فإذا اشتركوا في شرب دن[2] من الخمر فهم شاربون، تماما كما لو شرب كل منهم دنا أو عشرة دنان، وإذا اشتركوا في سرقة مال رجل واحد، فهم سراق كما لو سرق كل منهم رجلا معينا.
وعلى هذا يعتبر ما فعله عمر رضي الله عنه - ووافقه عليه الصحابة - اتباعا منه لما روعي في العقوبات الإسلامية من فكرة التعدي، دون نظر منه إلى ما قد يفهمه بعض من يتمسكون بحرفية الألفاظ، وبخاصة إذا كان فهمهم مؤديا إلى إهدار دماء المعتدي عليهم، والإضرار بالمصالح العامة[3].
هدف عمر - رضي الله عنه - من تطبيق التشريع هو تحقيق مصلحة الناس بما يتمشى مع النصوص:
مما لا شك فيه كما يقول د. محمد بلتاجي أن هدف عمر - رضي الله عنه - من تطبيق التشريع هو تحقيق مصلحة الناس في عهده بما يتمشى مع النصوص، وقتل الجماعة بالواحد طريق من الطرق التي اتبعها للوصول إلى هذا الهدف، فإذا كان النص القرآني يتسع للقصاص من كل نفس انطبق عليها وصف القتل، سواء انفردت به أم اشتركت فيه، بالنظر إلى فكرة التعدي، وإذا كان التشريع الإسلامي في العقوبات قد راعى هذه الفكرة، وإذا كان هذا محققا لمصالح الناس عامة؛ فقد كان من حق عمر أن يقتل الجماعة بالواحد.
أما أن قتل الجماعة بالواحد كان - ولا يزال - محققا لمصلحة الجماعة، فهذا مما لا يخالف أحد فيه؛ لأن عدم القصاص منهم، يكون حافزا لمن يريد أن يقتل إنسانا بأن يشرك معه آخر - أو آخرين - كي ينجو من القصاص، وبهذا يبطل معناه وهدفه في قوله عزوجل: )ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون (179)( (البقرة)، وهي الآية التي تلت مباشرة آية قتل الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى، فكيف يتمسك بعض الناس بما يفهمونه من ظاهر آية، ليبطلوا الهدف الأصلي الذي تبينه الآية التي تليها؟ وإذا اجتمعت نصوص القصاص مع المصلحة العامة على شيء واحد فيجب ألا ينظر إلى غيره.
ويؤكد على هذا قول القرطبي: "ولو علم الجماعة أنهم إذا قتلوا الواحد لم يقتلوا، لتعاون الأعداء على قتل أعدائهم بالاشتراك في قتلهم، وبلغوا الأمل في التشفي، ومراعاة هذه القاعدة أولى من مراعاة الألفاظ".
وقد نظر معظم دارسي هذه المسألة لفكرة تحقيقها للمصلحة، وسدها للذريعة، وإلى جانب هذا فهي تستند إلى ما فهمه عمر - رضي الله عنه - من نص آيات القصاص، من حيث انطباق وصف القاتل على كل من اشترك في القتل، فنفسه بالنفس المقتولة، ونفس شريكه بالنفس المقتولة، دون نظر إلى توحد هذه النفس وتعدد نفوس القاتلين، ولم يثبت مخالفة أحد من الصحابة لعمر في هذا، وقد وافقه فيما بعد جمهور فقهاء الأمصار، ومنهم: مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري وأحمد وأبو ثور وغيرهم، ومن البدهي أن هذه المسألة لم يكن لها نظير في عهد الرسالة[4].
وعليه فإن قتل الجماعة بالواحد هو المحقق لمصلحة المجتمع الإسلامي، وهو الفهم الصحيح لمقاصد الدين، ولا خطأ على عمرـ رضي الله عنه - في ذلك.
ثانيا. النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يضع حدا معينا لعقوبة شارب الخمر، وللإمام أن يزيد على الحدود المقدرة إذا لم تكن رادعة للبعض:
لقد تصرف عمر - رضي الله عنه - في حدود سلطته بوصفه أميرا للمؤمنين ووليا لأمرهم، ولم ينفرد برأيه وحده بل اعتمد على آراء الصحابة، وأيضا على إجماع سكوتي منهم على ما فعل، ويبين لنا د. محمد بلتاجي هذه القضية فيقول: حرمت الخمر بنص القرآن الكريم، لكننا لا نجد فيه عقوبة محددة لشاربها، فماذا نجد في السنة؟
· لقد أتي النبى - صلى الله عليه وسلم - برجل قد شرب، فقال صلى الله عليه وسلم: «اضربوه. قال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه..» [5].
· وروي في حد شارب الخمر: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلد أربعين، وأبا بكر أربعين، وكملها عمر بن الخطاب ثمانين.. وكل سنة»[6].
· وعن السائب بن يزيد قال: «كنا نؤتى بالشارب على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وإمرة أبي بكر، وصدرا من خلافة عمر رضي الله عنه، فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا، حتى كان آخر إمرة عمرـ رضي الله عنه - فجلد أربعين، حتى إذا عتوا وفسقوا جلد ثمانين»[7].
فنرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: "اضربوه" دون أن يحدد المقدار والكيفية، وبم يضرب، فمنهم الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه.
وفي رواية السائب بن يزيد مثل ذلك، ليس في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقط، بل في خلافة أبي بكر - رضي الله عنه - وصدرا من عهد عمر رضي الله عنه؛ حيث كان يؤتى بالشارب فيضربونه بأيديهم ونعالهم وأرديتهم، ثم إن عمرـ رضي الله عنه - جلد فيها أربعين بالتحديد، حتى إذا عتوا فيها، زادها إلى ثمانين وعلى هذه الرواية - بالإضافة إلى رواية أبي هريرة - نجد أن عمر هو الذي حدد العقوبة تحديدا مفصلا، حيث جعلها أربعين ثم ثمانين، وحيث جعلها جلدا، أي بسوط أو ما يشبهه.
لكن في رواية: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جلد أربعين، وجلد أبو بكرـ رضي الله عنه - أربعين، وفي رواية أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جلد بالجريد والنعال بدون تحديد العدد، وأن أبا بكر - رضي الله عنه - جلد أربعين - نجد أنفسنا أمام احتمالين هما:
1. أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يحدد مقدارا معينا، كما يؤخذ من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، والسائب بن يزيد.
2. أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جلد أربعين تحديدا، كما يؤخذ من رواية أبي يوسف، فإذا أخذنا بالاحتمال الأول اعتبرنا عقوبة الشارب تعزيرا لا حدا، وإذا أخذنا الاحتمال الثاني اعتبرنا عقوبة الخمر حدا منذ عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن مقدارها كان أربعين، فبأي الاحتمالين؛ نأخذ؟
مما لا شك فيه أن لشارب الخمر عقوبة هي الضرب والجلد، هذا ما تجمع عليه كل الروايات، لكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يحدد مقدار الضربات، أو الجلدات في كل الحالات، فكان يأمر بالضرب، فيقوم بذلك الحاضرون من الصحابة، بعضهم يضربه بيده أو بنعله أو بثوبه، أو بالجريد في حالات أخرى، ولم يثبت على سبيل القطع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حدد مقدارا معينا في كل الحالات، كما أنه لم يحدد لهم بم يضربون، وإنما هو أمر عام مقصود به مطلق العقوبة والردع.
ثم إن الصحابة بعد عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، حين أرادوا أن ينفذوا العقوبة، ورغبة منهم في متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - تماما - وعلى وجه الدقة - تساءلوا عن عدد الضربات أو الجلدات في عصره ليضربوا مثلها، فقدروها بأربعين أو نحو أربعين، ومن ثم جلد أبو بكر - رضي الله عنه - أربعين.
ومن هذا التقدير - الذي حدث قطعا بعد عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - جاءت الروايات التي روت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جلد أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، أوليس الصحابة قدروا الضربات في عهد الرسول بنحو أربعين؟ فمن هنا يستطاع أن يقال: إنه جلد أربعين، لكن هناك فرقا دقيقا بين الحالتين: أن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد حدد أربعين في كل حالة على أنه حد مقرر كسائر الحدود، وأن يكون الصحابة قدروا ما كان يحدث في عهد النبيـ صلى الله عليه وسلم - بأربعين أو نحوها. والحالة الأولى لم تحدث قطعا، بدليل كل الروايات الأخرى الصحيحة، وبخاصة روايتي أبي هريرة والسائب بن يزيد، والثانية هي التي حدثت. وهذا الفرق الدقيق - الذي لا يكاد يلمح - هو الذي أوجد نوعا من التعارض الظاهري بين الروايات، حيث لا تعارض في الحقيقة.
ويؤكد هذا ما رواه ابن رشد عن بعض العلماء: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحد في ذلك حدا، وإنما كان يضرب فيها بين يديه بالنعال ضربا غير محدد، وأن أبا بكر - رضي الله عنه - شاور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم بلغ ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لشارب الخمر؟ فقدروه بأربعين. وروي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضرب في الخمر بنعلين أربعين فجعل عمر مكان كل نعل سوطا. وروي عن طريق آخر عن أبي سعيد الخدري ما هو أثبت من هذا، وهو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضرب في الخمر أربعين. وروي هذا عن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم ــ عن طريق أثبت وبه قال الشافعي.
وعلى هذا نستطيع أن نقبل كل الروايات مجتمعة، بل إننا نستطيع أيضا أن نقبل أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حدد أربعين في حالة أو اثنتين، لكن ليس في كل الحالات كما تدل عليه باقي الروايات الصحيحة، ثم لا نجد في هذا القبول ما يعارض تصورنا للأمر؛ لأن تحديد الرسول مرة، وتركه التحديد مرات - دليل قوي على أنه لم يكن هناك مقدار معين، بمعنى الحد الشرعي الملزم في كل الحالات، فكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يرى مرة أن ما فيه المصلحة في حالة هو الضرب غير المحدد بالثياب أو بالنعال أو بالأيدي، ويرى مرة أخرى أن المصلحة في الضرب المحدد مرة بأربعين، ومرة بالجريد، وهكذا تبعا لحالة الشارب، وعلى هذا نستطيع أن نقول: إن تحديد الصحابة - أو بعضهم - ضرب الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأربعين، إنما جاء على أساس المرة أو المرتين التي رأى فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - يحدد أربعين أو نحوها.
وكيف يكون حدا مقررا، وقد ثبت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بمطلق الضرب، دون أن يحدد لكل منهم المقدار الذي يجب أن يتوقف عنده؟ أوليست الزيادة على الحد تعديا له؟ كما أن النقصان عنه يخرجه عن حقيقة الحد؟!
على ضوء هذا التصور نستطيع أن نقبل كل ما روي في هذا الشأن على أنه حديث صحيح، ونستطيع أيضا أن نقبل ما روي عن علي من أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جلد أربعين، ثم ما روي من أنه لم يعين مقدارا لهذا الحد يطبق في كل الحالات.
ولنتأمل قول علي في الرواية التي أوردها ابن حزم: وكل سنة - تعقيبا على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جلد أربعين، وجلد أبو بكر - رضي الله عنه - أربعين. وجلد عمر - رضي الله عنه - ثمانين، ألا يشعر قوله هذا بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين جلد أربعين لم يحدد مقدار ذلك تحديدا التزم به في كل مواقفه، وبالتالي لم يلتزم به المسلمون بعده، وإلا فكيف تكون مجاوزة عمر - رضي الله عنه - له سنة هي الأخرى؟ وهذه الرواية هي التي أوردها أبو يوسف أيضا، وفي آخرها أيضا: وكل سنة، أي أن الرواية الوحيدة التي ذكرت عن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه جلد أربعين بالتحديد، إنما كانت تعني موقفا أو حالة واحدة من حالات عدة، وإلا فكيف جاز أن يكون عمل عمر - رضي الله عنه - هو الآخر سنة إذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد التزم في كل مواقفه بالأربعين؟ وهذا نقد داخلي للرواية في حد ذاتها، فكيف إذا جمعنا إليها قول علي: إن الرسول لم يسن في الخمر مقدارا معينا؟
فإذا سلمنا بهذا وجب أن نقرر أن عقوبة الشارب في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم تكن حدا مقرر العدد، فهل كانت تعزيرا إذن؟ لقد ذهب إلى ذلك بعض العلماء، منهم الشاطبي.
لكننا نلاحظ هنا ظاهرة معينة، هي أن عقوبة الشارب في عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - وغيرها من العصور التي طبقت فيها هذه العقوبة - كانت الجلد أو الضرب، وإن حدث اختلاف في عدد الضربات، وهذه الظاهرة تجعلنا نتوقف كثيرا عند إطلاق وصف "التعزير" على هذه العقوبة؛ لأن التعزير عقوبة غير محصورة في نوع واحد من العقاب؛ حيث يترك أمرها للقاضي من حيث تقدير نوعها ومقدارها، فلم اقتصرت عقوبة الخمر على مر العصور على الجلد؟
إنه ليستوقفنا هنا الإجماع المتوالي على تحديد عقوبة معينة، من بين سائر العقوبات التعزيرية، ومن ثم نرى أن الوصف الدقيق لعقوبة شارب الخمر هو: أنها عقوبة حددها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالضرب، أو الجلد على وجه العموم، لكنه لم يحدد مقدار الضربات؛ بل تركه للقاضي يرى في كل حالة ما يتناسب معها، وبهذا تجمع بين العقوبة المحددة وغير المحددة، فهي محددة في نوع العقاب، غير محددة في مقداره.
ويرى الشوكاني - الذي رأى فيما سبق أن الصحابة لم يجمعوا على مقدار معين ولم يثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مقدار معين - أن ابن المنذر والطبري وغيرهما حكوا عن طائفة من أهل العلم أن الخمر لا حد فيها وإنما فيها التعزير، واستدلوا بالأحاديث المروية عنه - صلى الله عليه وسلم - وعن الصحابة من الضرب بالجريد والنعال والأردية.
وأجيب بأنه قد انعقد إجماع الصحابة على جلد الشارب، واختلافهم في العدد إنما بعد الاتفاق على ثبوت مطلق الجلد، أي أنهم اتفقوا على نوع العقوبة، وهو الجلد واختلفوا في المقدار، وهو العدد تبعا لتقديراتهم للحالات المختلفة، ثم يقول الشوكاني:
فالأولى الاقتصار على ما ورد عن الشارع من الأفعال، وتكون جميعها جائزة، فأيها وقع فقد حصل به الجلد المشروع الذي أرشدنا إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالقول والفعل، حيث قال صلى الله عليه وسلم: «من شرب الخمر فاجلدوه»[8]. فالجلد المأمور به هو الجلد الذي وقع منه - صلى الله عليه وسلم - ومن الصحابة بين يديه، ولا دليل يقتضي تحتم مقدار معين لا يجوز غيره.
هذه هي عقوبة الخمر كما تصورها النصوص، ولا نحتاج بعد ذلك أن نجيب عن السؤال: هل كانت حدا أم تعزيرا؟ لأننا لا نجد دليلا شرعيا أو عقليا يلزمنا بأن نطلق عليها وصف "الحد" أو وصف "التعزير" كما حدد الفقهاء معنيهما؛ لأن فيها التحديد في نوع العقوبة وهو يجعلها شبيهة بالحدود، وترك تحديد المقدار للقاضي وهو يجعلها أشبه بالتعزير، فلنكتف بالقول بأنها عقوبة الخمر كما تؤخذ من مجموع النصوص[9].
الظروف التي دفعت عمر - رضي الله عنه - إلى جعل عقوبة شارب الخمر ثمانين جلدة:
يحدثنا د. محمد بلتاجي عن الظروف التي دفعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى أن يجعل عقوبة شارب الخمر ثمانين جلدة بدلا من أربعين، فيقول:
روى الدارقطني عن ابن عباس بسند متصل: «أن الشراب كانوا يضربون في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأيدي والنعال والعصي، حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أبو بكر - رضي الله عنهم - يجلدهم أربعين حتى توفي، ثم كان عمر - رضي الله عنهم - من بعده يجلدهم كذلك أربعين، حتى أتي برجل من المهاجرين الأولين وقد شرب فأمر به أن يجلد، فقال: لم تجلدني؟ بيني وبينك كتاب الله؟ فقال عمر رضي الله عنه: وأي كتاب الله تجد ألا أجلدك؟ قال له: إن الله - عزوجل، يقول في كتابه: )ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين (93)( (المائدة)، فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا، شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدرا وأحدا والخندق والمشاهد.
فقال عمر رضي الله عنه: ألا تردون عليه ما يقول؟
فقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: إن هؤلاء الآيات أنزلن عذرا للماضين وحجة على المنافقين؛ لأن الله تعالى يقول: )يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون (90)( (المائدة)، ثم قرأ حتى أنفذ الآية الأخرى، فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فإن الله قد نهاه عن أن يشرب الخمر.
فقال عمر رضي الله عنه: صدقت، ماذا ترون؟
فقال علي رضي الله عنه: إنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذي، وإذا هذي افترى، وعلى المفتري ثمانون جلدة. فأمر به عمرـ رضي الله عنه - فجلد ثمانين»[10].
وهناك رواية أخرى تذكر أن الذي تأول هذه الآية وجلده عمرـ رضي الله عنه - هو قدامة بن مظعون.
وروى ابن حزم فيما سبق أن عمر - رضي الله عنه - كان يجلد ثمانين لمن تتابع في الخمر وإلا جلد أربعين. كما روى السائب بن يزيد أن عمر - رضي الله عنه - جلد أربعين في صدر خلافته، حتى عتوا فيها وفسقوا جلد ثمانين.
وروى أبو يوسف أنه أتي إلى عمر - رضي الله عنه - برجل قد شرب خمرا في رمضان، فضربه ثمانين وعزره عشرين.
ومن ثم ذهب الجمهور إلى أن عقوبة الشارب ثمانون، ودليلهم: تشاور عمر والصحابة - رضي الله عنهم - لما كثر في زمانه شرب الخمر، وإشارة علي - رضي الله عنه - عليه بأن يجعل الحد ثمانين قياسا على حد الفرية، فإنه - كما قيل عنه - إذا شرب سكر، وإذا سكر هذي، وإذا هذي افترى.
إن عمر - رضي الله عنه - لم يفكر في زيادة العقوبة إلا بعد أن هانت الأربعون عليهم؛ فتحاقروا العقوبة وأقبلوا على الخمر، وأكثروا منها، وعتوا فيها وفسقوا، ووصل الأمر ببعضهم إلى محاولة التأويل الخاطئ لآيات القرآن الكريم؛ تبريرا لشربهم فخاف عمر - رضي الله عنه - من هذا الاجتراء أن يأخذ صورة جماعية، فرأى أن يفكر - ومعه المسلمون - في علاج حاسم سريع، ولم ينفرد عمر - رضي الله عنه - بالأمر ويجلد الثمانين إلا بعد أن استشار جمع الصحابة، فأشار علي - رضي الله عنه - بأن يزيدهم إلى ثمانين، واستند إلى القياس على الافتراء والقذف، ووافقه جمهور الصحابة سكوتا.
وبهذا يتبين لنا أن هذه العقوبة لم يكن فيها مقدار معين، لا ينبغي لأحد أن يزيد عليه، بل إن الأمر في مقدارها ترك للقاضي، أو ولي الأمر، ولم يتفاقم الأمر في خلافة أبي بكر - رضي الله عنه - وكانت قصيرة شغل المسلمون في معظمها بحروب الردة - إلى حد أن يفكر في زيادة العقوبة، كما حدث بعد ذلك في عهد عمر رضي الله عنه.
ومما لا شك فيه أن الأربعين الثانية تعزير، حتى على رأي القائلين بأن الأربعين الأولى حد. ومما يؤكد هذا قول د. عبد العزيز عامر: "إذا أخذنا بالآثار التي تفيد أن عقوبة الخمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت مقدرة بأربعين - وهو الذي ذهب إليه الشافعي ــ فإن العقوبة في هذه الجريمة على عهده - صلى الله عليه وسلم - تكون حدا لا تعزيرا، ويكون ما بعد الأربعين تعزيرا لا حدا؛ إذ إن للإمام أن يزيد على الحدود المقدرة إذا لم تكن رادعة للبعض"، وقد سبق القول بأننا لم نرفض هذه الآثار، وإنما أخذنا بها مع الآثار الأخرى، ولم نجد تعارضا.
وعلى أية حال فإن التكييف التشريعي للأربعين الثانية - هو أنها تعزير - استند إلى قياس، وتم له إجماع سكوتي وقصد به تحقيق المصلحة العامة.
لكن، هل اكتفى عمر - رضي الله عنه - بهذا النوع من التعزير؟ لقد كان يضاعف التعزير كلما رأى الظروف تستوجب ذلك، كما يروي أبو يوسف أنه أتي برجل قد شرب في رمضان، فجلده الثمانين ثم عزره عشرين؛ لانتهاكه حرمة الشهر، ويقول ابن القيم: "إن التعزير لا يتقدر بقدر معلوم، بل هو بحسب الجريمة في حينها، ووصفها، وكبرها، وصغرها"، ثم يروى عن عمر تعزيراته في الخمر، من حلق الرأس، والنفى، وزيادة الأربعين، وتحريق حانوت الخمر.
وكان كل هذا - وأكثر منه - من حقه ما دام في سبيل المصلحة العامة، وهذا يقودنا إلى سؤال آخر هو: هل يلتزم الناس في عصورهم المختلفة - ومنها عصرنا الحديث - بالثمانين التي أقرت في عهد عمر رضي الله عنه؟
هنا نعود إلى ما سبق أن رويناه عن ابن حزم، من أنه صح أن عثمان وعليا وعبد الله بن جعفر - بحضرة الصحابة رضي الله عنهم - جلدوا في الخمر أربعين بعد موت عمر رضي الله عنه، وهو دليل على تغير المقدار بتغير الناس، وهذا ينطبق على كل عصر، مع ملاحظة أن تكون العقوبة ابتداء هي الجلد، لالتزام المسلمين بما تكرر وقوعه في عصر الرسالة، أما المقدار فيحدد بما يحقق مصالح الناس. ولولي الأمر بعد ذلك أن يعزر الشارب بما يراه من سائر التعزيرات التي تضاف إلى العقوبة الأصلية، وهي مطلق الجلد، وإجماع الصحابة على الجلد، باعتباره العقوبة الرئيسية الملزمة، يجب أن يمتد زمنيا، في صورة إجماع أجيال المسلمين المتعاقبة على الالتزام بنوع عقوبة شرب الخمر التي أقرها الرسول صلى الله عليه وسلم، ويجب ألا تقل العقوبة عن الأربعين التي وردت في حديث علي - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم، مما طبقه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في عصر الرسالة مرة على الأقل؛ لأن المسلمين - في أي عصر - لن يكونوا أكثر التزاما لأوامر الله من الصحابة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد يثار في مثل هذا الموضع - وغيره من مواضع العقوبات التعزيرية - ما روي عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أنه قال: «لا تجلدوا فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله تعالى»[11]، فكيف زاد عمرـ رضي الله عنه - في التعزير عنها؟
وقد أجيب عن هذا بما يرويه ابن فرحون: "قال المازري: وتأول أصحابنا الحديث على أنه مقصور على زمنه صلى الله عليه وسلم، كان يكفي الجاني منهم هذا القدر، وتأولوه على أن المراد بقوله: "في حد"، أي في حق من حقوق الله تعالى، وإن لم يكن من المعاصي المقدر حدودها؛ لأن المعاصي كلها من حدود الله عزوجل، ثم يروي ابن فرحون - كدليل على تغير مقدار العقوبات التعزيرية بتغير الناس وما يردعهم - أن مالكا عزر رجلا بضربه أربعمائة"[12].
وعليه فإن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لم يخطئ في زيادة الضرب لشاربي الخمر؛ حيث إن الزيادة كانت تعزيرا، وهو كخليفة له حق التعزير.
الخلاصة:
· الادعاء أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خالف القرآن والسنة حينما قتل الجماعة بالواحد، وحينما جلد شارب الخمر ثمانين جلدة ادعاء باطل لا أساس له من الصحة؛ فلم يشهد بصحته الواقع، كما لم يشهد بصحته ما عرف عن عمر - رضي الله عنه - من طاعته المطلقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
· النص القرآني في القصاص قصد به تقرير أصل من الأصول العامة التي جاء بها التشريع الإسلامي، وهو العدل المطلق في كل المواقف، كما أن النصوص الإسلامية كلها تراعي في العقوبات فكرة التعدي والجور دون أن تنظر إلى محل التعدي، من حيث انفراده أو تعدده؛ وعلى هذا يعتبر ما فعله عمر - رضي الله عنه - اتباعا منه لما روعي في العقوبات الإسلامية من فكرة التعدي، دون نظر منه إلى ما قد يفهمه بعض من يتمسكون بحرفية النص.
· هدف عمر - رضي الله عنه - من تطبيق التشريع، كان تحقيق مصلحة الناس بما يتمشى مع النصوص، وقتل الجماعة بالواحد طريق من الطرق التي اتبعها للوصول إلى هذا الهدف؛ لأن قتل الجماعة بالواحد كان - وما يزال - محققا لمصلحة الجماعة، فهذا مما لايخالف أحد فيه.
· تجمع الروايات الواردة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعن الصحابة أن عقوبة شارب الخمر هي الضرب أو الجلد، لكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يحدد مقدار الضربات أو الجلدات في كل الحالات، فكان يأمر بالضرب؛ فيقوم بذلك الحاضرون من الصحابة، بعضهم يضرب شارب الخمر بيده أو بنعله أو بثوبه أو بالجريد، ولم يثبت على سبيل القطع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حدد مقدارا معينا في كل الحالات، كما أنه لم يحدد لهم بم يضربونه، وإنما هو أمر عام مقصود به مطلق العقوبة والردع.
· لم يفكر عمر - رضي الله عنه - في زيادة العقوبة إلا بعد أن هانت الأربعون جلدة على الناس؛ فتحاقروها وأقبلوا على الخمر وأكثروا منها، فاستشار عمر جمع الصحابة رضي الله عنهم؛ فأشار علي - رضي الله عنه - بأن يزيد العقوبة إلى ثمانين، واستند إلى القياس على الافتراء والقذف، ووافقه جمهور الصحابة بإجماع سكوتي.
(*) منهج عمر بن الخطاب في التشريع، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط2، 1424هـ/ 2003م.