دعوى مخالفة عمر بن الخطاب للتشريع النبوي بتغريمه
المؤتمنين والصناع قيمة الوديعة حال ضياعها(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المشككين أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قد خالف تشريع النبي - صلى الله عليه وسلم - الخاص بعدم تغريم المؤتمن، حيث قال صلى الله عليه وسلم: «لا ضمان على مؤتمن»[1]. ويستدلون على ذلك بتغريم المؤتمنين والصناع قيمة الوديعة في حال ضياعها، ويرون في ذلك مخالفة صريحة لنص من نصوص السنة النبوية.
وجها إبطال الشبهة:
1) المؤتمن الذي ذكر في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الرجل الذي يستودع أمانة معينة فيحفظها ضمن ماله، ويبالغ في الحرص عليها كما يفعل بماله أو أكثر، ومن هنا أطلق عليه وصف "مؤتمن".
2) رأى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن يضمن الصناع ما يضيع منهم من مواد خشية التعدي على هذه الأموال، خصوصا ممن لم يترب على مائدة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم تكن له صحبة من الداخلين في الإسلام بعد غلبة الإسلام أو بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
التفصيل:
أولا. اختلاف معنى المؤتمن عند النبي - صلى الله عليه وسلم - عن معناه عند عمر رضي الله عنه:
يقصد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمؤتمن ذلك الرجل الذي يحافظ على مال غيره كما يحافظ على ماله، فالمتأمل في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي يقول فيه: "لا ضمان على مؤتمن". يستطيع أن يدرك - بوضوح - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعنى في هذا الحديث ذلك الرجل الذي يستودع أمانة معينة، فيحفظها ضمن ماله، ويبالغ في الحرص عليها، كما يفعل بماله وربما أكثر.
ومن هنا جاز أن يطلق عليه وصف "مؤتمن"؛ أي أنه يرعاها ويقوم بحق الأمانة لها، وهنا لا يضمن مثل هذا الرجل ما يضيع منه بغير إرادته؛ لأنه لم يقصر في رعايته وإحرازه، والضمان غرامة لا تصح في حق من قام بواجب الأمانة.
وعلى هذا الفهم لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، نجد أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - لم يحكم بالضمان على المؤتمن، فقد روي أن رجلا استودع متاعا فضاع بين متاعه، فلم يضمنه أبو بكر وقال: هي أمانة، وذلك أن المؤتمن لم يقصر في حفظ الوديعة، بدليل أنها ضاعت ضمن متاعه.
أما عمر - رضي الله عنه - فقد ضمن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قيمة الوديعة التي ضاعت منه؛ حيث سأله عمر رضي الله عنه: "ذهب لك معها شيء"؟ فقال: "لا". فبضياعها وحدها دون شيء آخر من ماله أو متاعه دليل على أنه لم يرعها الرعاية الواجبة كحق الوديعة، أي كما يرعى ماله، وبالإضافة لهذا لم تكن هذه الوديعة شيئا يسيرا، وإنما كانت ستة آلاف درهم، وأقصى ما نستطيع أن نتحدث فيه عن سبب تضمين عمر لأنس بن مالك، إنما هو الإهمال اليسير في حفظ الوديعة وتحريزها[2].
ثانيا. رأى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن الصناع يضمنون ما يضيع منهم من مواد؛ وذلك لاحتمال التعدي على هذه الأموال:
ويقول د. محمد بلتاجي: "لقد رأى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وغيره من الصحابة أن الصناع يضمنون ما يضيع منهم من المواد المودعة لديهم لصياغتها على نحو معين، وذلك لإحتمال التعدي على هذه الأموال".
قال د. محمد يوسف موسى: "ثم حدث في زمن الصحابة أنفسهم أن مالت بعض النفوس شيئا عن الصراط المستقيم، وأن بدت الخيانة تظهر من بعض الناس فيما اؤتمنوا عليه ممن لم تكن لهم صحبة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وجاءوا بعد العهد النبوي، فكان لا بد من علاج لهذه الحالة التي جدت، وظهر هذا العلاج من بعض فقهاء الصحابة أنفسهم، وهو علاج يجعل الأمين حريصا على ما تحت يده كما يجب".
ثم يروى عن بعض الصحابة والتابعين أنهم ضمنوا الصناع ما يوضع في أيديهم من المواد؛ لأن الأمر كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "لا يصلح الناس إلا ذاك"[3].
وبهذا فهم الصحابة من حديث النبي صلى الله علبيه وسلم: "لا ضمان على مؤتمن" أنه لا ضمان على المؤتمن الذي لا يهمل في حفظ أمانته، ولا يتهم في التعدي عليها بنفسه؛ لأن شأن الأمانة كان هكذا في عهد الرسالة، أما إذا قصر المؤتمن، أو ثبت أنه متهم في التعدي عليها بنفسه، فلا شك أنه يضمن قيمتها حفظا لأموال الناس، وزجرا لذوي الأهواء الخائنة، أما إذا ثبت أن المؤتمن لم يقصر في حفظ الوديعة، وليس بمتهم فيها، فلا شك أن قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ينطبق عليه، فلا يضمن قيمتها؛ لأن الضمان غرامة وعقاب، ولا يكون العقاب إلا نتيجة لتهمة الإهمال أو جرم الاستيلاء، وليس أحدهما بمتحقق فيه[4].
الخلاصة:
· كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقصد بقوله: "لا ضمان على مؤتمن" ذلك الرجل الذي يحافظ على الوديعة كما يحافظ على ماله، ولا يقصر في رعايتها وإحرازها، ولهذا ضمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنس بن مالك - رضي الله عنه - قيمة الوديعة التي ضاعت منه؛ لأنه أهمل في حفظها وتحريزها.
· أما موقف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من تضمين الصناع قيمة المواد التي تضيع منهم حال صياغتها، فكان هذا علاجا؛ حيث بدت الخيانة تظهر من بعض الناس فيما اؤتمنوا عليه ممن لم يتربوا على مائدة النبي - رضي الله عنه - ولم تكن لهم به صحبة، وهو علاج يجعل الأمين حريصا على ما تحت يده كما يجب، وزجرا لأهل الأهواء الذين تسول لهم أنفسهم التعدي على أموال الآخرين.
(*) منهج عمر بن الخطاب في التشريع، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط2، 1424هـ/ 2003م.