دعوى مخالفة عمر بن الخطاب لنصوص التشريع حيث طبق
حكم الغنيمة على حكم سلب القتيل (*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المغالطين أن عمر - رضي الله عنه - خالف نصا من نصوص السنة، ودليلهم على ذلك تطبيقه لحكم الغنيمة على سلب القتيل، ولم يكن هذا دأب النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: «من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه»[1]. وقد روي أن الزبير بن العوام بارز رجلا فقتله، فأعطاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - سلبه، أما عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فلم يعط البراء سلبه، بل قال: «إنا كنا لا نخمس السلب، وإن سلب البراء قد بلغ مالا كثيرا ولا أراني إلا خامسه»[2]، فكان أول سلب خمس في الإسلام، ويتساءلون: ألم يخالف عمر بذلك نصا من نصوص السنة الصريحة؟!
وجها إبطال الشبهة:
1) حكم السلب ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، سواء نص عليه الإمام أو لم ينص، وقد يخمس وقد لا يخمس.
2) تخميس عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - للسلب عندما بلغ مالا كثيرا، تحقيق للمصلحة العامة التي تقدم على المصلحة الخاصة تلقائيا، ولخوف عمر من تحول نية القتال عند المسلمين من الجهاد إلى البحث عن المال.
التفصيل:
أولا. حكم السلب ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، سواء نص عليه الإمام أو لم ينص:
السلب لغة: ما يأخذه أحد القرنين في الحرب من قرنه، مما يكون عليه ومعه من ثياب وسلاح ودابة، وهو بمعنى مفعول أي: مسلوب. ويقال: أخذ سلب القتيل وأسلاب القتلى. والمصدر السلب ومعناه: الانتزاع قهرا. ولا يخرج معناه الاصطلاحي عن معناه اللغوي[3].
وأما عن حجيته، وحكم تخميسه:
· فقد ذهب جمهور الفقهاء وهم: الشافعية، والحنابلة، والأوزاعي، والليث وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، إلى أن المسلم إذا قتل أحدا من المشركين في المعركة مقبلا على القتال فله سلبه، قال ذلك الإمام أو لم يقل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من قتل كافرا فله سلبه»[4]، ولقول سعد بن أبي وقاص لما خلا يدعو الله هو وعبد الله بن جحش يوم أحد:«يا رب، إذا لقينا القوم غدا فلقني رجلا شديدا بأسه شديدا حرده فأقاتله فيك ويقاتلني، ثم ارزقني عليه الظفر حتى أقتله وآخذ سلبه»[5].
· وذهب الحنفية إلى أن القاتل لا يستحق السلب، إلا إذا اشترط له الإمام ذلك كأن يقول قبل إحراز الغنيمة، وقبل أن تضع الحرب أوزارها: من قتل قتيلا فله سلبه. وإلا كان السلب من جملة الغنيمة بين الغانمين.
· وقال الطحاوي من الحنفية: أمر السلب موكول للإمام، فيرى فيه رأيه، لما روي عوف بن مالك - رضي الله عنه - «أن مدديا[6] اتبعهم فقتل علجا[7]، فأخذ خالد بعض سلبه وأعطاه بعضه، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لا تعطه يا خالد»[8].
ولما ورد في قصة قتل أبي جهل، حيث أعطي سلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح مع قوله صلى الله عليه وسلم: «كلاكما قتله»[9] [10].
وعلى هذا فعمر - رضي الله عليه وسلم - لم يخالف الرسول؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - في حديث خالد قال: "لا تعطه يا خالد"، كما أنه - صلى الله عليه وسلم - أعطى سلب أبي جهل لمعاذ بن عمرو بن الجموح مع قوله صلى الله عليه وسلم: "كلاكما قتله"، ويتضح من هذا وذاك أن للإمام الحق في اشتراط السلب للقاتل أو منعه؛ وعلى هذا فلعمر - رضي الله عنه - الحق في منع السلب أو إعطائه، فلماذا يدعي المدعون ادعاءهم الباطل أن عمر - رضي الله عنه - خالف نصا من نصوص السنة؟!
· وقال المالكية: وهو رواية عن أحمد، اختارها أبو بكر من الحنابلة، إن القاتل لا يستحق السلب إلا أن يقول له الإمام ذلك، ولا يجوز أن يقول الإمام ذلك، إلا بعد انقضاء الحرب، حتى لا يشوش نيته، ولا يصرفها لقتال الدنيا، لأن السلب عندهم من جملة النفل؛ فيعطيه الإمام للمصلحة حسب اجتهاده، واستدلوا بحديث عوف بن مالك المتقدم.
· وكما روي عن شبر بن علقمة قال: بارزت رجلا يوم القادسية فقتلته، وأخذت سلبه، فأتيت به سعدا، فخطب سعد أصحابه وقال: إن هذا سلب شبر خير من اثني عشر ألفا، وإنا قد نفلناه إياه[11].
هل يخمس السلب؟
اختلف الفقهاء في تخميس السلب؛ فذهب بعضهم إلى أن السلب لا يخمس؛ لما رواه عوف بن مالك وخالد بن الوليد: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بالسلب للقاتل ولم يخمس السلب»[12]، ولقول عمر رضي الله عليه وسلم:«"إنا كنا لا نخمس السلب..»[13].
وذهب آخرون إلى أن السلب يخمس؛ لعموم قوله عزوجل: )واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير (41)( (الأنفال)، وإلى هذا ذهب ابن عباس، وقال إسحاق: إن استكثر الإمام السلب خمسه وذلك إليه.
· وأما الحنفية والمالكية فيرون أن سلب المقتول كسائر الغنيمة، لا يختص به القاتل، وأن القاتل وغيره فيه سواء، وينفله الإمام. ومحل التنفيل عند الحنفية أربعة الأخماس قبل الإحراز بدار الإسلام، ومن الخمس بعد الإحراز بدار الإسلام، وعند المالكية يكون من الخمس ينفله الإمام للمقاتل إن رأى مصلحة في ذلك[14].
فدل ذلك على أن ما فعله عمر - رضي الله عنه - لم يكن مخالفا للقرآن أو السنة؛ حيث إن تخميس السلب هو رأي من آراء العلماء كما نصت الآية على ذلك في قوله عزوجل: )واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول(، والسلب من الغنيمة كما قال بذلك الحنفية والمالكية، فأين المخالفة بعد كل ذلك؟!
ثانيا. المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة إذا تعارضتا:
وذلك أن الأولى تتعلق بمجموع الناس، أما الثانية فإنما تتعلق بفرد أو أفراد. وقد روي أن الزبير بن العوام بارز رجلا فقتله، فأعطاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - سلبه كله وقال: «من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه»[15]. وروي أيضا أن البراء بن مالك بارز مرزبان الزأرة في قتال المسلمين مع الفرس في خلافة عمر رضي الله عنه، فصرعه وأخذ منه سوارين ويلمقأ[16] من ديباج ومنطقة فيها ذهب وجوهر، فبلغ ثمن ذلك ثمانين ألف درهم، فقال عمر رضي الله عنه: إنا كنا لا نخمس السلب، وإن سلب البراء قد بلغ مالا كثيرا، ولا أراني إلا خامسه، فكان أول سلب خمس في الإسلام.
إذن فقد طبق عمر - رضي الله عنه - حكم الغنيمة على السلب حين بلغ ثمنه مالا كثيرا، فهل خالف بذلك نصا من نصوص السنة؟
لقد كان عمر - رضي الله عنه - ملتزما بتنفيذ ما يراه محققا للمصلحة العامة كما كان ملتزما بنصوص السنة، ومما لا شك فيه أنه رأى تحقيق المصلحة في تطبيق حكم الغنيمة على السلب وتخميسه، حين بلغ ثمنه ثمانين ألف درهم، وفيما يتصل بنص السنة في السلب، فإنه يبدو - من عمل عمر - رضي الله عنه - وقوله - أنه كان يرى أن بعض المسائل الفرعية التي تستتبعها أحكام القتال، مما لم ينص عليه في القرآن كالسلب، كان حكمها إلى ولي الأمر ليمضي فيها ما يراه مصلحة عامة.
ومن ثم رأى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يعطي السلب للمقاتل وحده، حين كانت قيمته شيئا يسيرا، لا يؤثر في قيمة الغنيمة كمجموع يقسم أربعة أخماسه على جميع المقاتلين. أما وقد بلغ سلب البراء وحده ثمانين ألفا، فقد رأى عمر - رضي الله عنه - أنه خرج عن مفهوم السلب الذي يخص به المقاتل؛ ليدخل تحت مفهوم الغنيمة التي يقسم أربعة أخماسها بين المقاتلين جميعا، فعمر - رضي الله عنه - نظر إلى تشريع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في السلب على أنه كان اختيارا منه فيما رآه محققا للمصلحة في عهده، أما اختيار عمر - رضي الله عنه - تخميس السلب العظيم في خلافته؛ فإنما كان ذلك اختيارا منه أيضا لما رآه مصلحة عامة، وذلك كله بناء على أن السلب من الأمور الفرعية، التي ليس فيها تشريع خالد على مر العصور، واختلاف الظروف، وإنما يختار فيها ولي الأمر ما يحقق المصلحة العامة.
وربما كان من الأسباب التي دفعت عمر - رضي الله عنه - إلى هذا أيضا خوفه أن يستشري نبأ هذا السلب العظيم القيمة بين المقاتلين، فيتعرض بعضهم لمبارزة أو قتال من يظنون أن معه مالا كثيرا، ويعرضون عن غيره؛ رجاء السلب الكبير، وقد كان عمر - رضي رالله عنه - حريصا على أن يخلص القتال لوجه الله، وفي سبيله أولا وقبل كل شئ، ولم يكن عمر - رضي الله عنه - يريد أن تتحول المطامع المادية - وهي جزء من طبيعة البشر - إلى محور للقتال وهدف أساسي فيه؛ ومن ثم رأى أن يطبق على السلب الكبير القيمة حكم الغنيمة التي لا تخص أحدا بعينه، وقد كان يصدر في هذا عن حديث للرسول صلى الله عليه وسلم، قصر فيه القتال في سبيل الله على من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا؛ فقد «سئل الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليري مكانه، فمن في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله»[17].
إذن فقد كان من حق عمر - رضي الله عنه - أن يفعل ما يراه محققا للمصلحة العامة، فيما رأى أن لولي الأمر فيه النظر والرأي، من أحكام تتغير فيها المصلحة بتغير الظروف والزمان والمكان[18].
وعليه فإن ادعاء أن عمر - رضي الله عنه - خالف التشريع، وعطل بعض أحكامه ادعاء باطل، لا أساس له من الصحة.
الخلاصة:
· السلب: هو ما يأخذه أحد القرنين في الحرب من قرنه، ولا يخرج معناه الاصطلاحي عن معناه اللغوي؛ وهو موكول للإمام، يرى فيه رأيه؛ لأن السلب من جملة النفل فيعطيه الإمام للمصلحة حسب اجتهاده.
· المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة إذا تعارضتا؛ وذلك أن الأولى تتعلق بمجموع الناس، أما الثانية فإنما تتعلق بفرد أو أفراد؛ ولذلك كان عمر - رضي الله عنه - ملتزما بتنفيذ ما يراه محققا للمصلحة العامة، كما كان ملتزما بنصوص السنة، ومما لا شك فيه أنه رأى تحقيق المصلحة في تطبيق حكم الغنيمة على السلب وتخميسه، فعمر - رضي الله عنه - نظر إلى تشريع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في السلب على أنه كان اختيارا منه لما رآه محققا للمصلحة في عهده.
· الأسباب التي دفعت عمر - رضي الله عنه - إلى هذا: خوفه أن يستشري نبأ هذا السلب العظيم القيمة بين المقاتلين؛ فيتعرض بعضهم لمبارزة أو قتال من يظنون أن معه مالا كثيرا، ويعرضون عن غيره؛ رجاء السلب الكبير، وقد كان عمر رضي الله عنه - حريصا على أن يخلص القتال لوجه الله عزوجل - قبل كل شيء - ولم يكن عمر - رضي الله عنه - يريد أن تتحول المطامع المادية - وهي جزء من طبيعة البشر - إلى محور للقتال وهدف أساسي فيه.
(*) منهج عمر بن الخطاب في التشريع، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط2، 1424هـ/ 2003م.