مرحبًا بكم فى موقع بيان الإسلام الرد على الافتراءات والشبهات
 بحث متقدم ...   البحث عن

الصفحة الرئيسية

ميثاق الموقع

أخبار الموقع

قضايا الساعة

اسأل خبيراً

خريطة الموقع

من نحن

اتهام المسلمين بالعنف والغلظة في معاملة غير المسلمين (*)

مضمون الشبهة:

يزعم بعض المدعين أن تشريع الإسلام ينتهج نظام العنف والغلظة في معاملة غير المسلمين، ويصادر حقوقهم، ويستدلون على ذلك بما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه»[1]. ويمنع غير المسلمين من ممارسة حقوقهم الدينية والسياسية والاجتماعية في المجتمع الإسلامي. ويتساءلون: ألا يدل ذلك على إهدار حقوق غير المسلمين والعنف والغلظة في التعامل معهم؟!

وجوه إبطال الشبهة:

1) الإسلام دين عالمي يتجه برسالته إلى البشرية كلها، ورسالته تدعو للتعايش الإيجابي بين البشر جميعا في جو من الإخاء والتسامح بين كل الناس - على اختلاف معتقداتهم - وقد أسس القرآن لهذه السماحة بمبادئ متعددة.

2) دستور الإسلام وعلاقة المسلمين مع غيرهم - قديما وحديثا - يؤكدان على سماحة الإسلام وإنسانيته، والواقع الفعلي للصحابة والتابعين وقادة المسلمين خير شاهد على هذه السماحة.

3) رد التحية لغير المسلمين بـ "عليكم السلام" ممنوعة إذا تحقق أنه قال "السام عليكم" أو شك فيما قال، وأما إذا تحقق من قوله: "السلام عليكم" فمن باب العدل والإحسان التحية بمثلها، أو بأحسن منها، وعدم إلقاء السلام عليهم من قبيل أنها تحية من خصائص أهل الإسلام؛ فلا تقال لغيرهم.

4) بمقارنة يسيرة بين أوضاع غير المسلمين في المجتمعات الإسلامية، وأوضاع المسلمين في المجتمعات غير الإسلامية، يتبين لنا الفروق الشاسعة بين سماحة الإسلام والسماحة الوهمية التي يدعيها أنصار الحضارات الحديثة.

التفصيل:

أولا. الإسلام دين عالمي يدعو إلى التسامح:

يهدف الإسلام إلى التعايش الإيجابي بين البشر جميعا، في جو من الإخاء والتسامح بين كل الناس، بصرف النظر عن أجناسهم وألوانهم ومعتقداتهم؛ فالجميع ينحدرون من نفس واحدة.

وعالمنا اليوم في أشد الحاجة إلى التسامح الفعال والتعايش الإيجابي بين الناس أكثر من أي وقت مضى؛ نظرا لأن التقارب بين الثقافات والتفاعل بين الحضارات يزداد يوما بعد يوم بفضل ثورة المعلومات والاتصالات، والثورة التكنولوجية التي أزالت الحواجز الزمانية والمكانية بين الأمم والشعوب، حتى أصبح الجميع يعيشون في قرية كونية كبيرة.

والإسلام دين يسعى من خلال مبادئه وتعاليمه إلى تربية أتباعه على التسامح إزاء كل الأديان والثقافات، فقد جعل الله الناس جميعا خلفاء في الأرض التي نعيش فوقها، وجعلهم شركاء في المسئولية عنها، ومسئولين عن عمارتها ماديا ومعنويا كما يقول القرآن الكريم: )هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها( (هود: 61)، أي: طلب منكم عمارتها وصنع الحضارة فيها، ومن أجل ذلك ميز الله الإنسان بالعقل وسلحه بالعلم؛ حتى يكون قادرا على أداء مهمته وتحمل مسئولياته في هذه الحياة.

ولهذا يوجه القرآن الكريم خطابه إلى العقل الإنساني الذي يعد أجل نعمة أنعم الله بها على الإنسان.

ومن هنا فإن على الإنسان أن يستخدم عقله الاستخدام الأمثل، وفي الوقت نفسه يطلب القرآن من الإنسان أن يمارس حريته التي منحها الله له، والتي هي شرط ضروري لتحمل المسئولية، فالله - عزوجل - لا يرضى لعباده الطاعة الآلية التي تجعل الإنسان عاجزا عن العمل الحر المسئول، فعلى الإنسان إذن أن يحرص على حريته، وألا يبددها فيما يعود عليه وعلى الآخرين بالضرر.

ومن شأن الممارسة المسئولة للحرية أن تجعل المرء على وعي بضرورة إتاحة الفرصة أمام الآخرين لممارسة حريتهم أيضا؛ لأن لهم نفس الحق الذي يطلبه الإنسان لنفسه، وهذا يعني أن العلاقة الإنسانية بين أفراد البشر هي علاقة موجودات حرة يتنازل كل منهم عن قدر من حريته في سبيل قيام مجتمع إنساني يحقق الخير للجميع، وهذا يعني بعبارة أخرى أن هذا المجتمع الإنساني المنشود لن يتحقق على النحو الصحيح إلا إذا ساد التسامح بين أفراده، بمعنى أن يحب كل فرد للآخرين ما يحب لنفسه[2].

التأسيس القرآني للسماحة الإسلامية:

والسماحة الإسلامية عطاء بلا حدود، فليست مجرد كلمة تقال أو شعار يرفع أو صياغة نظرية مجردة، كما أنها ليست مجرد فضيلة إنسانية يتحكم حاكم بمنحها لمن يشاء، أو منعها عمن يشاء، وإنما هي دين مقدس، ووحي سماوي، وبيان نبوي عن هذا الوحي، ومن ثم فالسماحة ثمرة الدين الخالد، والشريعة الخاتمة، وهي منهاج المسلمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولا غرابة في أن يعلي الإسلام قيمة التسامح، ويؤسس القرآن لهذه القيمة، وعن ذلك يذكر المفكر الإسلامي د. محمد عمارة أن القرآن بدأ فأسس السماحة الإسلامية على قاعدة الرؤية الفلسفية الإسلامية للكون والوجود، ففي هذا الوجود هناك "حق" هو الله عزوجل، و"خلق" يشمل جميع عوالم المخلوقات وهناك "واجب الوجود" وهناك "الوجود المخلوق" لـ "واجب الوجود".

وفي هذا التصور الفلسفي الإسلامي تكون "الواحدية والأحدية" فقط للحق، لله - عزوجل - واجب الوجود؛ بينما تقوم كل عوالم الخلق المادية والنباتية والحيوانية والإنسانية والفكرية، أي: كل ما عدا الذات الإلهية، على التعدد، والتنوع والتمايز والاختلاف باعتبار هذا التنوع والتعدد والتمايز والاختلاف قانونا إلهيا تكوينيا، وسنة من سنن الله التي لا تبديل لها ولا تحويل، الأمر الذي يستلزم - لبقاء هذه السنة الكونية قائمة ومطردة - تعايش كل الفرقاء المختلفين، وتعارف جميع عوالم الخلق، أي: سيادة خلق السماحة في العلاقات بين الأمم والشعوب، والثقافات والحضارات، والمذاهب والفلسفات، والشرائع والملل والديانات، والأجناس والألوان، واللغات، والقوميات، فبدون السماحة يحل "الصراع" الذي ينهي ويلغي ويفني التعددية محل التعايش والتعارف، الأمر الذي يصادم سنة الله - عزوجل - في الاختلاف والتنوع بكل عوالم المخلوقات.

على هذه الرؤية الفلسفية الإسلامية للكون والوجود أقام الإسلام مذهبه في السماحة، باعتبارها فريضة دينية، وضرورة حياتية، لتكون جميع عوالم الخلق على هذا النحو الذي أراده الله.

وفي التأسيس القرآني لهذه الرؤية الفلسفية الإسلامية للكون والوجود نقرأ في آيات الذكر الحكيم: )يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير (13)( (الحجرات)، فالإنسانية تتنوع إلى شعوب وقبائل، والسماحة هي السبيل إلى تعايشها وتعارفها في الإطار الإنساني العام.

وهذه الأمم والشعوب والقبائل تتنوع أجناسها وألوانها وألسنتها ولغاتها ومن ثم قومياتها كآية من آيات الله، والسماحة هي السبيل لتعايش الأجناس والقوميات في إطار الحضارات الجامعة لشعوب هذه القوميات.

وهذه الأمم والشعوب تتنوع دياناتها وتختلف مللها وشرائعها، وتتعدد مناهجها وثقافاتها وحضاراتها، باعتبار ذلك سنة من سنن الابتلاء والاختبار الإلهي لهذه الأمم والشعوب، وحتى يكون هناك تدافع وتسابق بينها جميعا على طريق الحق وفي ميادين الخيرات، قال عزوجل: )لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون (48)( (المائدة)، وقال عزوجل: )ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين (118) إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين (119)( (هود).

والمفسرون لهذه الآيات يقولون عن هذا الاختلاف: إنه علة الخلق، وأن المعنى: وللاختلاف خلقهم، وبدون السماحة يستحيل تعايش هذه التعددية، التي هي علة الوجود، وسر التسابق في عمران هذا الوجود.

وانطلاقا من هذا الموقف القرآني الذي جعل هذا التنوع سنة إلهية وقانونا كونيا، كان العدل الذي هو معيار النظرة القرآنية وروح الحضارة الإسلامية، وهو أساس السماحة الإسلامية في التعامل مع كل الفرقاء المختلفين، ففي التأسيس لهذه السماحة العادلة يطلب القرآن الكريم منا العدل مع النفس والذات.. وذلك في قول الله عزوجل: )إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا (97)( (النساء).

ويطلب منا العدل مع الآخر في قوله عزوجل: )فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم( (الشورى: 15)، وقوله عزوجل: )يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا( (النساء: 135)، وقوله عزوجل: )وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون (152)( (الأنعام)، بل ويوجب الله - عزوجل - علينا العدل حتى مع من نكره فقال عزوجل: )يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون (8)( (المائدة)، وقال عزوجل: )ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا( (المائدة: 2)، بل ويوجب القرآن علينا العدل حتى مع من يعتدي علينا ويقاتلنا، قال عزوجل: )فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم( (البقرة: 194).

إن الإسلام دين ودولة، وأمة وجماعة، ونظام واجتماع، ليس الدين الذي يخلو من السلطة التي تعاقب المعتدين وتدين الجناة، ومع ذلك فإن سماحته تدعو إلى العدل في رد العدوان، وإنزال العقاب والجزاء، بل وتفضل الصبر الجميل على رد العقاب، قال عزوجل: )ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين (125) وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين (126) واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون (127) إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون (128)( (النحل).

كذلك يوجب الإسلام علينا العدل في النظر إلى المخالفين لنا في الاعتقاد الذي هو سنة إلهية، ونحن مدعوون وفق منهاج القرآن ألا نضع كل المخالفين لنا في سلة واحدة، وألا نسلك طريق التعميم الذي يظلم عندما يغفل الفروق بين مذاهب هؤلاء المخالفين ومواقفهم، وإقامة لهذا المنهاج رأينا القرآن الكريم لا يعمم أبدا في حديثه عن أهل الكتاب وأصحاب العقائد والديانات، وإنما يميز بين مذاهبهم وطوائفهم، فيقول عزوجل: )من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون (113)( (آل عمران)، وقال عزوجل: )وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب (199)( (آل عمران)، وقال عزوجل: )ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون (75)( (آل عمران).

فالقاعدة القرآنية الحاكمة في التمييز العادل بين الفرقاء المخالفين لنا هي أنهم: )ليسوا سواء(، صنع القرآن ذلك عندما ميز فرقاء اليهود فلم يعمم في الحكم على مجموعهم، وصنع ذلك أيضا في الحديث عن النصارى عندما ميز بين من هم أقرب مودة للمسلمين، قال عزوجل: )ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون (82)( (المائدة).

لقد صنعوا ذلك وهم نصارى ولصنيعهم هذا لم يحبط الإسلام عملهم، ولم يضعهم في سلة الأخرين - من النصارى - الذين أشركوا المسيح مع الله في الألوهية، والربوبية والخلق، فكفروا بالوحدانية التي جاء بها السيد المسيح - عليه السلام - عندما قالوا: "إن المسيح هو خالق كل الأشياء، وإن كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء عما كان فهو الأول والآخر": )لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار (72)( (المائدة)، فلم يسو القرآن الكريم بين هؤلاء الفرقاء من النصارى.

والمنطق الإسلامي لهذا التمييز المؤسس للعدل والسماحة هو العدل الإلهي الذي هو فريضة إسلامية جامعة؛ فالله - عزوجل - رب العالمين جميعا: )الحمد لله رب العالمين (2)( (الفاتحة)، وليس رب شعب بعينه دون سائر الشعوب، والتكريم الإلهي شامل لكل بني آدم: )ولقد كرمنا بني آدم( (الإسراء: 70)، ومعيار التفاضل بين البشر المكرمين هو التقوى: )إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير (13)( (الحجرات)ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا (123)( (النساء).

وليس معيار التفاضل لونا أو جنسا أو سلالة أو أية صفة من الصفات اللصيقة التي تستعصي على الاختيار والكسب والتغيير. ولذلك قال الله عزوجل: )إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا (30)( (الكهف)، )إن الله لا يضيع أجر المحسنين (120)( (التوبة)، )إنا لا نضيع أجر المصلحين (170)( (الأعراف)، )فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره (7) ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره (8)( (الزلزلة)، )إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62)( (البقرة).

وتأسيسا على هذا العدل الإلهي، أسس القرآن الكريم سماحة الإسلام في النظر إلى مواريث النبوات والرسالات التي سبقت رسالة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم؛ فالقرآن الكريم لم يأت نافيا لما سبقه من كتب، وإنما جاء مصدقا لها ومهيمنا عليها، أي مشتملا على ثوابتها ومستوعبا لأركان العقائد فيها، ومضيفا إليها، ومصححا لما طرأ عليها؛ فعلى حين كانت اليهودية تنكر النصرانية، وكانت النصرانية تنكر اليهودية، قال عزوجل: )وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم( (البقرة: 113)، جاء القرآن الكريم مصدقا لما بين يديه من الكتب السماوية السابقة: )وهو الحق مصدقا لما معهم( (البقرة: 91)، ومؤكدا على أن ما أصاب بعض مواضع هذه الكتب لم يمح ما أودعه الله فيها من هدى ونور: )الله لا إله إلا هو الحي القيوم (2) نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل (3) من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان( (آل عمران)، فالتوراة: )فيها هدى ونور( (المائدة: 44)، وكذلك الإنجيل: )وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور( (المائدة: 46)، وطلب الإسلام من أهل الكتاب تحكيم كتبهم، ولم يطلب منهم نبذها: )وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه( (المائدة: 47)، )وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله( (المائدة: 43).

ذلك هو التأسيس القرآني للسماحة الإسلامية على الرؤية الفلسفية للكون والوجود، المحكومة بسنة التعدد والتنوع والتمايز والاختلاف كقانون تكويني أزلي أبدي؛ الأمر الذي يجعل السماحة ضرورة لازمة، وفريضة واجبة لبقاء قانون التنوع والاختلاف عاملا في عوالم المخلوقات والفلسفات والشرائع والديانات والثقافات والقوميات والحضارات[3].

مبادئ التسامح في الإسلام:

وعن مبادئ هذا التسامح يعرض لنا د. شكور الله باشا زاده أهم هذه المبادئ محتكما في عرضه واستقاء معلوماته إلى النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، ومعضدا ببعض مؤلفات المستشرقين المشهورين مع عقد مقارنات مع الديانات الأخرى فيقول: إن الإسلام هو دين التسامح وإذا احتكمنا بالنصوص القرآنية، فيمكننا صياغة المبادئ الآتية للتسامح في الإسلام.

1. اختلاف الناس في عقائدهم حكمة إلهية: قال عزوجل: )ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين (118)( (هود)، وقال عزوجل: )ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا( (يونس: 99). ومعنى الآيتين المباركتين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان حريصا على إيمان قومه، شديد الاهتمام به، فنزلت الآيتان لبيان أن إيمان الملجأ[4] غير نافع، وبين - عزوجل - أن ذلك لو كان ينفع لأكره أهل الأرض عليه.

2. الاقتناع هو أساس الإيمان: قال عزوجل: )لا إكراه في الدين( (البقرة: 256). ويفسر العلامة الراغب الأصفهاني الإكراه بمعنى حمل الإنسان على ما يكرهه ويكتب في تفسير الآية: فقد قيل في ذلك أقوال:

الأول: كان ذلك في ابتداء الإسلام، فإنه كان يعرض على الإنسان الإسلام، فإن أجاب وإلا ترك.

والثاني: أن ذلك في أهل الكتاب فإنهم إن أدوا الجزية والتزموا الشرائط تركوا.

والثالث: أنه لا حكم لمن أكره على دين باطل فاعترف به ودخل فيه. والرابع: لا اعتداد في الآخرة، بما يفعل الإنسان في الدنيا من الطاعة كرها. والخامس: لا يحمل الإنسان على أمر مكروه في الحقيقة مما يكلفهم الله، بل يحملون على نعيم الأبد. والسادس: أن الدين الجزاء. معناه: أن الله ليس بمكره على الجزاء، بل يفعل ما يشاء بمن يشاء كما يشاء[5].

ويقول الزمخشري في تفسيره لهذه الآية: أي لم يجر الله أمر الإيمان على الإجبار والقسر، ولكن على التمكين والاختيار، أي: لو شاء لقسرهم على الإيمان لكنه لم يفعل وبني الأمر على الاختيار.

أما ابن كثير فيفسر هذه الآية بمعنى: "أيها المسلمون، لا تكرهوا أحدا على الدخول في دين الإسلام، فإنه بين واضح جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحدا على الدخول فيه.

وفي القرآن الكريم آيات كثيرة ناهية عن حمل الإنسان على الاعتقاد بإكراه، قال عزوجل: )أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين (99)( (يونسوقال - عزوجل - أيضا: )وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر( (الكهف: 29).

3.  ينبغي أن تكون الدعوة إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة: قال سبحانه وتعالى: )ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن )( (النحل:125)، وقال عزوجل: )( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن( (العنكبوت:46). والمقصود في تلك الآيات أن الحوار ينبغي أن يكون على أساس الحكمة لإبراز كلمة سواء بين المسلمين وبين أهل الكتاب؛ إذ قال سبحانه وتعالى: )قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله( (آل عمران: 64).

هذا وقد دل الإسلام على الملتقى أو النقطة المشتركة بين المسلمين وأهل الكتاب وهي الحنيفية الإبراهيمية - تلك الحركة الدينية التوحيدية القوية الواسعة الانتشار - التي سبقت الديانات السماوية الثلاث، ومهدت الطريق لها وبقيت جذورها راسخة في العقلية التوحيدية العربية إلى أن جاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - فسار على ذات النهج التوحيدي المستقيم لإبراهيم عليه السلام: )واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا (125)( (النساء).

وإذا لم يتمكن المسلمون وأهل الكتاب من إبراز كلمة سواء بينهم فهناك مبدأ أخير من مبادئ التسامح التي يقدمها الإسلام وهو:

4. لكل فرد حق في أن يبقى على اعتقاده: قال عزوجل: )لكم دينكم ولي دين (6)( (الكافرون)، وبيان موقف القرآن الكريم من اليهودية والنصرانية، دليل آخر على سماحة الإسلام.

مبدئيا يعلن الإسلام أنه دين الله الحق، لكنه مع ذلك لا يحدد حدود الاعتقاد بحد ذاته فقط، بل يعترف بالتعددية، ولا يوجد في القرآن الكريم آية اتهام لنبي أو لكتاب، ولا تعصب ضد الصابئة واليهود والنصرانيين.

ونرى أن الإسلام قد اعترف بسماوية اليهودية والنصرانية، وأن موسى وعيسى - عليهما السلام - نبيان مرسلان، وأكد القرآن الكريم أن التوراة والإنجيل وحيان من الله، ويتجلى ذلك في قوله عزوجل: )إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور( (المائدة: 44)، وقوله عزوجل: )وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور( (المائدة: 46)، وقوله عزوجل: )قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (136)( (البقرة).

وكما حفل القرآن الكريم بدعوة المسلمين إلى التسامح والتعايش مع أصحاب الديانات الأخرى، حفلت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحض المسلمين كذلك على السماحة والرفق بأهل الملل الأخرى؛ فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قائلا: «من أسلم من المسلمين فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم، ومن أقام على يهودية أو نصرانية فلا يفتن عنها...»[6]. وقد أقر النبي - صلى الله عليه وسلم - الحرية الدينية في ميثاق المدينة، حيث أكد - صلى الله عليه وسلم - أن لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم. وعندما صالح النبي - صلى الله عليه وسلم - نصارى نجران أباح لقبيلة تغلب المسيحية أن يبقوا في مسيحيتهم.

هذا، وتربت أجيال من المسلمين على أوامر القرآن الكريم ونواهيه، وتوجيهات نبيهم - صلى الله عليه وسلم - فيما يخص التسامح، ولو ألقينا النظر إلى صفحات التاريخ يمكننا أن نلمس كثيرا من المؤشرات عن التسامح الإسلامي.

لما بدأت الفتوحات الإسلامية وتم فتح كثير من الأقاليم في عهد الخلافة الراشدة مثل العراق، والشام، ومصر، رحبت جماعات كثيرة من اليهود والنصارى من سكان هذه الأقاليم بالفتح الإسلامي؛ لأنه حررهم من ظلم الساسانيين والرومانيين ومتعهم بالحرية الدينية.

وإذا قرنا هذه المؤشرات بالمؤشرات من تاريخ أوربا في القرون الوسطى رأينا نماذج كثيرة من قلة التسامح عند الأوربيين حينذاك، ولقد قام أنصار الكنيسة الأرثوذكسية بالتضييق والتشديد على بعض المذاهب غير النصرانية، وخاصة على مذهب أرسطو الفلسفي، وأغلقت مدرسة أصحاب أرسطو بأمر من الإمبراطور زينون سنة 489م. وأغلق بعده الإمبراطور البيزنطي جتنيان سنة 529م، في أثينا المدرسة الفلسفية الأخيرة وهي مدرسة الأفلاطونية الجديدة.

واضطر الفلاسفة من أتباع الأفلاطونية الجديدة، وأصحاب أرسطو المنتمون إلى الدوائر النسطورية إلى اللجوء إلى إيران الساسانية، وتأسست هناك مدرستان فلسفيتان في نيسيبين وهندشابور.

وعندما كانت أوربا النصرانية تواصل معاقبتها لأصحاب الآراء الأخرى، والكنيسة تعاقب مدرسة أرسطو نرى في العالم الإسلامي مشهدا آخر: تترجم مؤلفات أفلاطون وأرسطو من السريانية إلى العربية في "دار الحكمة" التي أسسها الخليفة المأمون في القرن التاسع في بغداد. وحاول المأمون إعلان حرية الاعتقاد التامة لأهل الذمة عام 200 هـ/ 810م؛ إذ كان يقول: كل جماعة تعتقد دينا وتتألف من عشرة أنفار لها حق أن تختار لها زعيما روحانيا يعترف به الخليفة.

صحيح أنه إلى جانب صفحات التسامح والمودة، كانت هناك صفحات التعصب أيضا في تاريخ المجتمعات الإسلامية، ويمكننا أن نقف على سبيل المثال عند طلب تمييز أهل الذمة بملابس خاصة بغرض تمييزهم عن المسلمين، أو منعهم من الركوب على السرج، وقصرهم أن يركبوا البرذعة بغرض إذلالهم، لكنه كما يكتب د. محمد عمارة كان الدين بريئا من كل ذلك، فمسئولية الطائفية والشقاق الديني لم تكن أبدا مسئولية الإسلام، ولا مسئولية أي دين من الأديان، إنما كانت مسئولية الدولة، التي ابتعدت عن روح الإسلام، ومسئولية رؤساء الأديان، الذين جعلوا مهمتهم التبرير والتنظير لتجاوزات الدولة لروح الإسلام[7].

إن الإسلام هو دين التسامح، وأن مبادئه كلها داعية إلى ذلك ودافعة له.

ثانيا. دستور الإسلام يؤكد سماحة الإسلام وإنسانيته مع أهل الديانات الأخرى:

إن الإسلام هو دين التسامح، وإن مبادئه كلها داعية إلى ذلك التسامح ودافعة إليه، وإن اتهام الإسلام بعدم التسامح، اتهام لا علاقة له بالإسلام.

ويؤكد على هذا المعنى د. عمر عبد العزيز قريشي إذ يقول: "إن المجتمع الإسلامي مجتمع يقوم على عقيدة وفكرة "أيديولوجية" خاصة، منها تنبثق نظمه و أحكامه وآدابه وأخلاقه، وهذه العقيدة أو الفكرة "الأيديولوجية" هي الإسلام، وهذا هو معنى تسميته "المجتمع الإسلامي" فهو مجتمع اتخذ الإسلام منهاجا لحياته ودستورا لحكمه، ومصدرا لتشريعه وتوجيهه في كل شئون الحياة وعلاقاتها، فردية واجتماعية، مادية ومعنوية، محلية ودولية.

ولكن ليس معنى هذا أن المجتمع المسلم يحكم بالفناء على جميع العناصر التي تعيش في داخله وهي تدين بدين آخر غير الإسلام.

كلا، إنه يقيم العلاقة بين أبنائه المسلمين وبين مواطنيهم من غير المسلمين على أسس وطيدة من التسامح والعدالة والبر والرحمة، وهي أسس لم تعرفها البشرية قبل الإسلام، وقد عاشت قرونا بعد الإسلام، وهي تقاسي الويل من فقدانها، ولا تزال إلى اليوم، تتطلع إلى تحقيقها في المجتمعات الحديثة، فلا تكاد تصل إليها في مجتمع ما، وفي وقت ما، إلا غلب عليها الهوى والعصبية، وضيق الأفق والأنانية، وجرتها إلى صراع دام مع المخالفين في الدين أو المذهب أو الجنس أو اللون.

دستور العلاقة مع غير المسلمين:

أساس هذه العلاقة مع غير المسلمين قوله عزوجل: )لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8) إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون (9)( (الممتحنة)، فالبر والقسط مطلوبان من المسلم للناس جميعا، ولو كانوا كفارا بدينه، ما لم يقفوا في وجهه ويحاربوا دعاته، ويضطهدوا أهله.

ولأهل الكتاب من بين غير المسلمين منزلة خاصة في المعاملة والتشريع، والمراد بأهل الكتاب: من قام دينهم في الأصل على كتاب سماوي، وإن حرف وبدل بعد، كاليهود والنصارى الذين قام دينهم على التوراة والإنجيل.

فالقرآن ينهى عن مجادلتهم في دينهم إلا بالحسنى، حتى لا يوغر المراء الصدور، ويوقد الجدل نار العصبية والبغضاء في القلوب، قال عزوجل: )ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون (46)( (العنكبوت).

ويبيح الإسلام مؤاكلة أهل الكتاب، والأكل من ذبائحهم، كما أباح مصاهرتهم والتزوج من نسائهم المحصنات العفيفات، مع ما قرره القرآن من قيام الحياة الزوجية على المودة والرحمة في قوله عزوجل: )ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة( (الروم: 21)، وهذا في الواقع تسامح كبير من الإسلام، حيث أباح للمسلم أن تكون ربة بيته، وشريكة حياته وأم أولاده غير مسلمة، وأن يكون أخوال أولاده وخالاتهم من غير المسلمين، قال عزوجل: )اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان( (المائدة: 5).

وهذا الحكم في أهل الكتاب وإن كانوا في غير دار الإسلام، أما المواطنون المقيمون في دار الإسلام فلهم منزلة ومعاملة خاصة، وهؤلاء هم "أهل الذمة". فما حقيقتهم؟

أهل الذمة: كلمة معناها العهد والضمان والأمان، وإنما سموا بذلك؛ لأن لهم عهد الله وعهد الرسول، وعهد جماعة المسلمين؛ أن يعيشوا في حماية الإسلام، وفي كنف المجتمع الإسلامي آمنين مطمئنين، فهم في أمان المسلمين وضمانهم، بناء على "عقد الذمة" فهذه الذمة تعطي أهلها - من غير المسلمين - ما يشبه في عصرنا "الجنسية" السياسية التي تعطيها الدولة لرعاياها، فيكتسبون بذلك حقوق المواطنين ويلتزمون بواجباتهم.

فالذمي على هذا الأساس من "أهل دار الإسلام" - كما يعبر الفقهاء - أو من حاملي "الجنسية الإسلامية" - كما يعبر المعاصرون - وعقد الذمة عقد مؤبد، يتضمن إقرار غير المسلمين على دينهم، وتمتعهم بحماية الجماعة الإسلامية ورعايتها، بشرط بذلهم "الجزية" والتزامهم أحكام القانون الإسلامي في غير الشئون الدينية، وبهذا يصيرون من أهل "دار الإسلام".

فهذا العقد ينشئ حقوقا متبادلة لكل من الطرفين: المسلمين وأهل ذمتهم، بإزاء ما عليهم من واجبات.

فما الحقوق التي كفلها الشرع لأهل الذمة، وما واجباتهم؟

القاعدة الأولى في معاملة أهل الذمة في "دار الإسلام" أن لهم من الحقوق مثل ما للمسلمين، إلا في أمور محددة مستثناة، كما أن عليهم ما على المسلمين من الواجبات إلا ما استثني؛ فأول هذه الحقوق هو:

1.  حق الحماية:

حق تمتعهم بحماية الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي، وهذه الحماية تشمل حمايتهم من كل عدوان خارجي، ومن كل ظلم داخلي، حتى ينعموا بالأمان والاستقرار على سبيل التفصيل التالي:

·       الحماية من الاعتداء الخارجي:

أما الحماية من الاعتداء الخارجي، فيجب لهم ما يجب للمسلمين، وعلى الإمام أو ولي الأمر في المسلمين، بما له من سلطة شرعية، وما لديه من قوة عسكرية، أن يوفر لهم هذه الحماية، ورد في "مطالب أولي النهى" - من كتب الحنابلة -: "يجب على الإمام حفظ أهل الذمة ومنع من يؤذيهم، وفك أسرهم، ودفع من قصدهم بأذى إن لم يكونوا بدار حرب، بل كانوا بدارنا، ولو كانوا منفردين ببلد".

وعلل ذلك بأنهم: "جرت عليهم أحكام الإسلام وتأبد عقدهم، فلزمه ذلك كما يلزمه للمسلمين".

ويؤكد هذا ما نقله الإمام القرافي المالكي في كتابه "الفروق" من قول الإمام الظاهري ابن حزم في كتابه "مراتب الإجماع": "أن من كان في الذمة، وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع[8] والسلاح، ونموت دون ذلك، صونا لمن هو في ذمة الله - عزوجل - وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة". وحكى في ذلك إجماع الأمة.

وعلق على ذلك القرافي بقوله: "فعقد يؤدي إلى إتلاف النفوس والأموال - صونا لمقتضاه عن الضياع - إنه لعظيم".

ومن المواقف التطبيقية لهذا المبدأ الإسلامي، موقف شيخ الإسلام ابن تيمية، حينما تغلب التتار على الشام، وذهب الشيخ ليكلم "قطلوشاه" في إطلاق الأسرى، فسمح القائد التتري للشيخ بإطلاق أسرى المسلمين، وأبى أن يسمح له بإطلاق أهل الذمة، فما كان من شيخ الإسلام إلا أن قال: لا نرضى إلا بافتكاك جميع الأسارى من اليهود والنصارى، فهم أهل ذمتنا، ولا ندع أسيرا من أهل الذمة، ولا من أهل الملة، فلما رأى إصراره وتشدده أطلقهم له.

·       الحماية من الظلم الداخلي:

وأما الحماية من الظلم الداخلي، فهو أمر يوجبه الإسلام ويشدد في وجوبه، ويحذر المسلمين أن يمدوا أيديهم أو ألسنتهم إلى أهل الذمة بأذى أو عدوان؛ فالله - عزوجل - لا يحب الظالمين ولا يهديهم، بل يعاجلهم بعذابه في الدنيا، أو يؤخر لهم العقاب مضاعفا في الآخرة.

وقد تكاثرت الآيات والأحاديث الواردة في تحريم الظلم وتقبيحه، وبيان آثاره الوخيمة في الآخرة والأولى، وجاءت أحاديث خاصة تحذر من ظلم غير المسلمين من أهل العهد والذمة.

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من ظلم معاهدا، أو انتقصه حقا، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة»[9].

ولهذا كله اشتدت عناية المسلمين منذ عهد الخلفاء الراشدين، بدفع الظلم عن أهل الذمة، وكف الأذى عنهم، والتحقيق في كل شكوى تأتي من قبلهم.

فقد كان عمر - رضي الله عنه - يسأل الوافدين عليه من الأقاليم عن حال أهل الذمة، خشية أن يكون أحد من المسلمين قد أفضى إليهم بأذى، فيقولون له: "ما نعلم إلا وفاء"، أي بمقتضى العهد والعقد الذي بينهم وبين المسلمين، وهذا يقتضي أن كلا من الطرفين وفي بما عليه.

كما قال عمر - رضي الله عنه - في وصيته للخليفة بعده:«وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله، أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم»[10]، وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يقول: "إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا".

وفقهاء المسلمين من جميع المذاهب الاجتهادية صرحوا وأكدوا بأن على المسلمين دفع الظلم عن أهل الذمة والمحافظة عليهم؛ لأن المسلمين حين أعطوهم الذمة قد التزموا دفع الظلم عنهم، وهم صاروا به من أهل دار الإسلام، بل صرح بعضهم بأن ظلم الذمي أشد من ظلم المسلم إثما.

·       حماية الدماء والأبدان:

وحق الحماية المقرر لأهل الذمة يتضمن حماية دمائهم وأنفسهم وأبدانهم، كما يتضمن حماية أموالهم وأعراضهم.. فدماؤهم وأنفسهم معصومة باتفاق المسلمين، وقتلهم حرام بالإجماع؛ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما»[11].

ولهذا أجمع فقهاء الإسلام على أن قتل الذمي كبيرة من كبائر المحرمات لهذا الوعيد في الحديث ولكنهم اختلفوا: هل يقتل المسلم بالذمي إذا قتله؟ والصحيح أنه يقتل به.

وكما حمى الإسلام أنفس أهل الذمة من القتل حمى أبدانهم من الضرب والتعذيب، فلا يجوز إلحاق الأذى بأجسامهم، ولو تأخروا أو امتنعوا عن أداء الواجبات المالية المقررة عليهم كالجزية والخراج[12]، هذا مع أن الإسلام تشدد كل التشدد مع المسلمين إذا منعوا الزكاة.

ولم يجز الفقهاء في أمر الذميين المانعين أكثر من أن يحبسوا تأديبا لهم، بدون أن يصحب الحبس أي تعذيب أو أشغال شاقة، وفي ذلك يكتب أبو يوسف: أن حكيم بن هشام أحد الصحابة رضي الله عنهم - رأى رجلا - وهو على حمص، يشمس ناسا من النبط في أداء الجزية، قال: ما هذا؟ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله - عزوجل - يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا»[13].

وكتب علي - رضي الله عنه - إلى بعض ولاته على الخراج: "إذا قدمت عليهم فلا تبيعن لهم كسوة شتاء ولا صيفا، ولا رزقا يأكلونه، ولا دابة يعملون عليها، ولا تضربن أحدا منهم سوطا واحدا في درهم، ولا تقمه على رجله في طلب درهم، ولا تبع لأحد منهم عرضا[14]، في شيء من الخراج، فإنما أمرنا أن نأخذ منهم العفو، فإن أنت خالفت ما أمرتك به، يأخذك الله به دوني، وإن بلغني عنك خلاف ذلك عزلتك"[15]. قال الوالي: إذن أرجع إليك كما خرجت من عندك[16]! قال: "وإن رجعت كما خرجت".

·       حماية الأموال:

ومثل حماية الأنفس والأبدان حماية الأموال، هذا مما اتفق عليه المسلمون في جميع المذاهب، وفي جميع الأقطار، ومختلف العصور.

روى أبو يوسف في "الخراج" ما جاء في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل نجران: «ولنجران وحاشيتها جوار الله، وذمة محمد النبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أنفسهم وملتهم وأراضيهم وأموالهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبيعهم... وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير...» [17].

وفي عهد عمر إلى أبي عبيدة بن الجراح - رضي الله عنهما - أن: "امنع المسلمين من ظلمهم والإضرار بهم، وأكل أموالهم إلا بحلها".

وعلى هذا استقر عمل المسلمين طوال العصور، فمن سرق مال ذمي قطعت يده، ومن غصبه عزر، وأعيد المال إلى صاحبه، ومن استدان من ذمي فعليه أن يقضي دينه، فإن مطله وهو غني حبسه الحاكم حتى يؤدي ما عليه.

وبلغ من رعاية الإسلام لحرمة أموالهم وممتلكاتهم أنه يحترم ما يعدونه - حسب دينهم - مالا وإن لم يكن مالا في نظر المسلمين.

فالخمر والخنزير لا يعتبران عند المسلمين مالا متقوما، ومن أتلف لمسلم خمرا أو خنزيرا لا غرامة عليه ولا تأديب، بل هو مثاب مأجور على ذلك؛ لأنه يغير منكرا في دينه، يجب عليه تغييره أو يستحب، حسب استطاعته، ولا يجوز للمسلم أن يمتلك هذين الشيئين لا لنفسه ولا ليبيعها للغير.

أما الخمر والخنزير إذا ملكهما غير المسلم، فهما مالان عنده، بل من أنفس الأموال، كما قال فقهاء الحنفية، فمن أتلفهما على الذمي غرم قيمتهما على مذهب الحنفية.

·       حماية الأعراض:

ويحمي الإسلام عرض الذمي وكرامته، كما يحمي عرض المسلم وكرامته، فلا يجوز لأحد أن يسبه أو يتهمه بالباطل، أو يشنع عليه بالكذب أو يغتابه أو يذكره بما يكره في نفسه أو نسبه أو خلقه أو خلقه أو غير ذلك مما يتعلق به.

ويبين الفقيه الأصولي المالكي شهاب الدين القرافي في كتاب "الفروق": "إن عقد الذمة يوجب لهم حقوقا علينا؛ لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا[18]، وذمتنا وذمة الله عزوجل، وذمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة، فقد ضيع ذمة الله، وذمة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وذمة دين الإسلام".

وجاء في "الدر المختار": "يجب كف الأذى عن الذمي وتحرم غيبته كالمسلم"، ويعلق ابن عابدين على ذلك بقوله: لأنه بعقد الذمة وجب له ما لنا، فإذا حرمت غيبة المسلم حرمت غيبته، بل قالوا: إن ظلم الذمي أشد.

2.  التأمين عند العجز والشيخوخة والفقر:

وأكثر من ذلك أن الإسلام ضمن لغير المسلمين في ظل دولته، كفالة المعيشة الملائمة لهم ولمن يعولونه، لأنهم رعية للدولة المسلمة وهي مسئولة عن كل رعاياها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته»[19].

وهذا ما مضت به سنة الراشدين ومن بعدهم؛ ففي عقد الذمة الذي كتبه خالد بن الوليد لأهل الحيرة بالعراق، وكانوا من النصارى: "وجعلت لهم، أيما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنيا فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طرحت جزيته وعيل من بيت مال المسلمين هو وعياله"[20].

وكان هذا في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وبحضرة عدد كبير من الصحابة، وقد كتب خالد به إلى الصديق ولم ينكر عليه أحد، ومثل هذا يعد إجماعا.

وبهذا تقرر الضمان الاجتماعي في الإسلام، باعتباره مبدأ عاما يشمل أبناء المجتمع جميعا - مسلمين وغير مسلمين - ولا يجوز أن يبقى في المجتمع المسلم إنسان محروم من الطعام أو الكسوة أو المأوى أو العلاج، فإن دفع الضرر عنه واجب ديني، مسلما كان أو ذميا.

وذكر الإمام النووي في "المنهاج" أن من فروض الكفاية: دفع ضرر المسلمين ككسوة عار، أو إطعام جائع إذا لم يندفع بزكاة وبيت مال.

ووضح العلامة شمس الدين الرملي الشافعي في "نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج" أن أهل الذمة كالمسلمين في ذلك، فدفع الضرر عنهم واجب...

3.  حرية التدين:

ويحمي الإسلام فيما يحميه من حقوق أهل الذمة حق الحرية. وأول هذه الحريات: حرية الاعتقاد والتعبد، فلكل ذي دين دينه ومذهبه، لا يجبر على تركه إلى غيره، ولا يضغط عليه ليتحول منه إلى الإسلام، وأساس هذا الحق قوله عزوجل: )لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم (256)( (البقرة)، قوله عزوجل: )أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين (99)( (يونس).

قال ابن كثير في تفسير الآية الأولى: أي لا تكرهوا أحدا على الدخول في دين الإسلام، فإنه بين واضح، جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه.

وسبب نزول الآية كما ذكر المفسرون يبين جانبا من إعجاز هذا الدين، فقد رووا عن ابن عباس قال: كانت المرأة تكون مقلاة[21]، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده، وكان يفعل ذلك نساء الأنصار في الجاهلية، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقال آباؤهم: لا ندع أبناءنا[22]، فأنزل الله - عزوجل - هذه الآية: )لا إكراه في الدين(، فرغم أن محاولات الإكراه كانت من آباء يريدون حماية أبنائهم من التبعية لأعدائهم المحاربين الذين يخالفونهم في دينهم وقوميتهم، ورغم الظروف الخاصة التي دخل بها الأبناء دين اليهودية وهم صغار، ورغم ما كان يسود العالم كله حينذاك من موجات التعصب والاضطهاد للمخالفين في المذهب، فضلا عن الدين، كما كان في مذهب الدولة الرومانية التي خيرت رعاياها حينا بين التنصر والقتل، فلما تبنت المذهب "الملكاني" أقامت المذابح لكل من لا يدين به من المسيحيين من اليعاقبة وغيرهم.

رغم كل هذا، رفض القرآن الإكراه، بل من هداه الله وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه، وختم على سمعه وبصره، فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورا.

فالإيمان عند المسلمين ليس مجرد كلمة تلفظ باللسان أو طقوس تؤدى بالأبدان، بل أساسه إقرار القلب وإذعانه وتسليمه.

ولهذا لم يعرف التاريخ شعبا مسلما حاول إجبار أهل الذمة على الإسلام، كما أقر بذلك المؤرخون الغربيون أنفسهم.

وكذلك صان الإسلام لغير المسلمين معابدهم ورعى حرمة شعائرهم، بل جعل القرآن من أسباب الإذن في القتال حماية حرية العبادة، وذلك في قوله عزوجل: )أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير (39) الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز (40)( (الحج).

وقد رأينا كيف اشتمل عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل نجران، أن لهم جوار الله وذمة رسوله على أموالهم وملتهم وبيعهم.

وفي عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى أهل إيلياء - القدس - نص على حريتهم الدينية، وحرمة معابدهم وشعائرهم: "بسم الله الرحمن الرحيم.. هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسائر ملتها، لا تسكن كنائسهم، ولا تهدم ولا ينتقص منها، ولا من حيزها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود"[23].

وكل ما يطلبه الإسلام من غير المسلمين أن يراعوا مشاعر المسلمين، وحرمة دينهم، فلا يظهروا شعائرهم وصلبانهم في الأمصار الإسلامية، ولا يحدثوا كنيسة في مدينة إسلامية لم يكن لهم فيها كنيسة من قبل، وذلك لما في الإظهار والإحداث من تحدي الشعور الإسلامي مما قد يؤدي إلى فتنة واضطراب.

على أن من فقهاء المسلمين من أجاز لأهل الذمة إنشاء الكنائس والبيع وغيرها من المعابد في الأمصار الإسلامية، وفي البلاد التي فتحها المسلمون عنوة - أي إن أهلها حاربوا المسلمين ولم يسلموا لهم إلا بحد السيف - إذا أذن لهم إمام المسلمين بذلك، بناء على مصلحة رآها، ما دام الإسلام يقرهم على عقائدهم.

ويبدو أن العمل جرى على هذا في تاريخ المسلمين، وذلك منذ عهد مبكر، أما في القرى والمواضع التي ليست من أمصار المسلمين فلا يمنعون من إظهار شعائرهم الدينية وتجديد كنائسهم القديمة وبناء ما تدعو حاجتهم إلى بنائه، نظرا لتكاثر عددهم.

وهذا التسامح مع المخالفين في الدين من قوم قامت حياتهم كلها على الدين، وتم لهم به النصر والغلبة، أمر لم يعهد في تاريخ الديانات، وهذا ما شهد به الغربيون أنفسهم.

يقول العالم الفرنسي جوستاف لوبون: "رأينا من آي القرآن أن مسامحة محمد لليهود والنصارى كانت عظيمة إلى الغاية، وأنه لم يقل بمثلها مؤسسو الأديان التي ظهرت قبله كاليهودية والنصرانية على وجه الخصوص، وسنرى كيف سار خلفاؤه على سنته" وقد اعترف بذلك التسامح بعض علماء أوربا المرتابون أو المؤمنون القليلون الذين أمعنوا النظر في تاريخ العرب، والعبارات الآتية التي أقتطفها من كتب الكثيرين منهم تثبت أن رأينا في هذه المسألة ليس خاصا بنا، قال روبرتسن في كتابه "تاريخ شارلكن": "إن المسلمين وحدهم الذين جمعوا بين الغيرة لدينهم وروح التسامح نحو أتباع الأديان الأخرى وأنهم مع امتشاقهم الحسام نشرا لدينهم، تركوا من لم يرغبوا فيه أحرارا في التمسك بتعاليمهم الدينية"[24].

4.  حرية العمل والكسب:

لغير المسلمين حرية العمل والكسب، بالتعاقد مع غيرهم، أو بالعمل لحساب أنفسهم، ومزاولة ما يختارون من المهن الحرة، ومباشرة ما يريدون من ألوان النشاط الاقتصادي، شأنهم في ذلك شأن المسلمين.

فقد قرر الفقهاء أن أهل الذمة في البيوع والتجارات وسائر العقود والمعاملات المالية كالمسلمين، ولم يستثنوا من ذلك إلا عقد الربا، فإنه محرم عليهم كالمسلمين، وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صالح أهل نجران وكتب إليهم: "ألا يأكلوا الربا، فمن أكل الربا من ذي قبل فذمتي منه بريئة، وعليهم الجهد والنصح فيما استقبلوا غير مظلومين ولا معنوق عليهم"[25].

كما يمنع أهل الذمة من بيع الخمور والخنازير في أمصار المسلمين، وفتح الحانات فيها لشرب الخمر وتسهيل تداولها أو إدخالها إلى أمصار المسلمين على وجه الشهرة والظهور، ولو كان ذلك لاستمتاعهم الخاص، سدا لذريعة الفساد وإغلاقا لباب الفتنة.

وفيما عدا هذه الأمور المحدودة، يتمتع الذميون بتمام حريتهم، في مباشرة التجارات والصناعات والحرف المختلفة، وهذا ما جرى عليه الأمر ونطق به تاريخ المسلمين في شتى الأزمان، وكادت بعض المهن أن تكون مقصورة عليهم كالصيرفة والصيدلة وغيرها، واستمر ذلك إلى وقت قريب في كثير من بلاد الإسلام، وقد جمعوا من وراء ذلك ثروات طائلة معفاة من الزكاة ومن كل ضريبة إلا الجزية، وهي ضريبة على الأشخاص القادرين على حمل السلاح وهي مقدار جد زهيد.

قال آدم ميتز: "ولم يكن في التشريع الإسلامي ما يغلق دون أهل الذمة أي باب من أبواب الأعمال، وكانت قدمهم راسخة في الصنائع التي تدر الأرباح الوافرة، فكانوا صيارفة وتجارا وأصحاب ضياع وأطباء، بل إن أهل الذمة نظموا أنفسهم، بحيث كان معظم الصيارفة الجهابذة في الشام مثلا يهودا. على حين كان أكثر الأطباء والكتبة نصارى. وكان رئيس النصارى ببغداد هو طبيب الخليفة، وكان رؤساء اليهود وجهابذتهم عنده[26].