الزعم أن القرآن لا يراعي الفوارق الزمنية بين الأنبياء والرسل (*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن القرآن الكريم لا يراعي الفوارق الزمنية بين الأنبياء، ويستدلون على ذلك بقوله سبحانه وتعالى: )ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين (84)( (الأنعام)، فأيوب بن أموص بن أسباط عيص بن إسحاق، ويتساءلون: أين أيوب من عصر إبراهيم وإسحاق والد إسرائيل - عليهم السلام - في أرض فلسطين؟ وأين أموص والد النبي أشعياء من أيوب؟
وجوه إبطال الشبهة:
1) القرآن الكريم كتاب هداية، وليس كتاب تاريخ، فهو يركز على مواطن العبرة ليؤدي رسالته.
2) كلام المفسرين والمؤرخين ليس حجة؛ لأنه كلام بشر، وكل يؤخذ من كلامه ويرد إلا النبي صلى الله عليه وسلم.
3) الترتيب لا يكون في كل الأحوال ترتيبا زمنيا فقط، فإذا دعت دواعي العبرة نظم بين بعض الوقائع المتفرقة والأسماء التي عاشت على مراحل متباعدة في سلك واحد، فإن هذا يحقق الهدف القرآني.
التفصيل:
أولا. القرآن الكريم كتاب هداية، وليس كتاب تاريخ:
فلا ينتظر منه أن يسرد تاريخا ووقائع متتابعة، فهو يركز على مواطن العبرة ليؤدي رسالته، وهي هداية الناس؛ ولذلك حينما يلقي القرآن الضوء على الأنبياء، فإنه لا يلزم أن يذكرهم في تسلسل زمني، بقدر ما يلزم أن يصل إلى هدفه، وهو هداية الناس: )إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا (9)( (الإسراء). وبناء على ذلك فإذا دعت دواعي العبرة نظم بعض الوقائع المتفرقة، والأسماء التي عاشت على فترات متباعدة في سلك واحد فإن هذا يحقق الهدف القرآني.
ثانيا. كلام المفسرين والمؤرخين ليس حجة؛ لأنه كلام بشر، وكل يؤخذ من كلامه ويرد إلا النبي صلى الله عليه وسلم:
كيف يذكر القرآن الأنبياء والرسل مرتبين ترتيبا زمنيا وتاريخيا، وبعثتهم كانت متفرقة الزمان والمكان؟! فكان لكل نبي زمان معين، ومكان معين حسب مقتضى كل زمان ومكان وما يحتاجه، فالله - عز وجل - لم يبعثهم عبثا، بل كان لكل نبي زمان، ولكل نبي مكان ابتعثه الله إلى أهل هذا المكان، فكيف يغفل القوم عن هذه النقطة ويطالبون القرآن بأن يذكرهم مراعيا الفوارق الزمنية أو المكانية؟!
ولذلك فإن كلام البيضاوي لا يكون حجة على القرآن، وكذلك فإن القرآن حينما ذكر أيوب في جملة هؤلاء الأنبياء، لم يكن ذكره من أجل الإشارة إلى الناحية التاريخية أو الزمنية، بقدر ما كان يفيد المقصد والهدف القرآني من خلال ذكر هؤلاء الأنبياء، لبيان فضلهم للناس، وشرف أصلهم كما ورد في تفسير قوله تعالى: )ومن ذريته( أنه حال. وفائدة الحال التنويه بهؤلاء المعدودين بشرف أصلهم وبأصل فضلهم، والتنويه بإبراهيم أو بنوح بفضائل ذريته، والضمير المضاف إليه عائد إلى نوح لا إلى إبراهيم؛ لأن نوحا أقرب مذكور[1]. وفي هذا إشارة إلى أن القرآن الكريم كان يقصد ذكرهم من جملة من شرفهم؛ لأنه لما ذكر سبحانه إنعامه على خليله من جهة الفرع، ثنى بذكر إنعامه عليه من جهة الأصل، فإن شرف الوالد سار إلى الولد[2]. ولا يلزم ذلك أن ذكرهم مرتبين ترتيبا زمنيا وتاريخيا، بل يذكر ما يفيد المقام.
ثالثا. الله - عز وجل - لم يبعث الأنبياء عبثا، بل كان لكل نبي زمان ومكان، فكيف يغفل القوم عن هذه النقطة ليطالبوا القرآن بأن يذكرهم بدون فوارق زمنية أو مكانية؟!
العطف في الآية موطن الشاهد عند المتوهمين بالواو، وهي لا تفيد الترتيب، كما أن الترتيب لا يكون في كل الأحوال ترتيبا زمنيا فقط، ولكنه قد يكون ترتيبا في الفضل، وقد يكون ترتيبا في الخصائص، والمزايا التي أكرم الله بها أنبياءه ورسله، وقد لمس هذا المعنى الإمام الرازي في تفسيره فقال: عندي فيه وجه من وجوه الترتيب؛ وذلك لأنه - عز وجل - خص كل طائفة من طوائف الأنبياء بنوع من الإكرام والفضل.
فأول المراتب المعتبرة عند جمهور الخلق: الملك، والسلطان، والقدرة، والله - عز وجل - قد أعطى داود وسليمان من هذا الباب نصيبا عظيما.
المرتبة الثانية: البلاء الشديد والمحنة العظيمة، وقد خص الله أيوب بهذه المرتبة والخاصية.
المرتبة الثالثة: من كان مستجمعا لهاتين الحالتين، وهو يوسف - عليه السلام - فإنه نال البلاء الشديد الكثير في أول الأمر، ثم وصل إلى الملك في آخر الأمر.
المرتبة الرابعة: من فضائل الأنبياء - عليهم السلام - وخواصهم قوة المعجزات وكثرة البراهين، والمهابة العظيمة... وتخصيص الله - عز وجل - إياهم بالتقريب العظيم، والتكريم التام، وذلك كان في حق موسى وهارون عليهما السلام.
المرتبة الخامسة: الزهد الشديد والإعراض عن الدنيا، وذلك كما في حق زكريا ويحيى وعيسى وإلياس - عليهما السلام -، ولهذا السبب وصفهم الله بأنهم من الصالحين.
المرتبة السادسة: الأنبياء الذين لم يبق لهم فيما بين الخلق أتباع وأشياع، وهم: إسماعيل واليسع ويونس ولوط عليهم السلام.
فإذا اعتبرنا هذا الوجه الذي راعيناه ظهر أن الترتيب حاصل في ذكر هؤلاء الأنبياء - عليهم السلام - بحسب هذا الوجه الذي شرحناه[3].
الخلاصة:
· إن ما جاء في القرآن الكريم من قصص ووقائع حق لا ريب فيه، ومطابقة أخبار القرآن الكريم للواقع - أيا كان هذا الواقع - ماضيا أو مستقبلا حق لاريب فيه، ولقد توصل العقلاء والعلماء عن طريق مناهج البحث العلمي الصحيحة إلى أن ما جاء في القرآن الكريم من تاريخ وأخبار؛ مطابق للواقع وذلك خير دليل على صدقه.
إن القرآن الكريم كتاب هداية وليس كتاب تاريخ، وبناء على ذلك، فإذا دعت دواعي العبرة نظم بعض الوقائع المتفرقة والأسماء التي عاشت في فترات متباعدة في سلك واحد، فإن هذا يحقق الهدف القرآني.
(*) موقع المعرفة.