توهم وقوع النقص والخلل في القرآن الكريم؛ لعدم إشارته إلى كتب بعض الأنبياء والرسل(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن القرآن كتاب ناقص وبه خلل؛ حيث إنه لم يشر إلى كثير من كتب الأنبياء والرسل المذكورين فيه، والمقدر عددهم بخمسة وعشرين نبيا سوى داود، وموسى، وعيسى، وإبراهيم - عليهم السلام -.. ثم ماذا عن عشرات الأنبياء الذين لم يتعرض القرآن إلى ذكر قصصهم ولا قصص أقوامهم من قريب أو بعيد؟ ويتساءلون: ألا يتناقض هذا مع ما يدعيه المسلمون من إعجاز القرآن وكماله؟!
وجها إبطال الشبهة:
1) إن القرآن الكريم سلك مسلك الإيجاز البليغ في قص قصص بعض الأنبياء والرسل لأخذ العبرة والأسوة، فكان القصد الاعتبار بنهجهم في الدعوة، لا الإخبار بجميع الرسل وإحصاء كتبهم؛ لأنه أمر متعذر، فمن ذكر يغني عمن لم يذكر.
2) لا يعاب القرآن الكريم في عدم تفصيله الحديث عن بعض الأنبياء وأممهم، فما ذكر فيه من قصصهم فيه الكفاية لتحصيل العبرة في الخير والشر، والترغيب والترهيب.
التفصيل:
أولا. لقد سلك القرآن مسلك الإيجاز والاختصار في ذكر قصص بعض الأنبياء؛ لأن القصد من ذكرها أخذ العبرة والعظة:
لقد أخبرنا القرآن الكريم أن الأمر ليس موقوفا على ما أتى به المعترضون، بل الأمر أبعد من ذلك، فنجد القرآن يقول: )ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما (164)( (النساء).
فهناك أنبياء ورسل لم يقصص الحق - سبحانه وتعالى - خبرهم على نبيه - صلى الله عليه وسلم - وليس في ذلك أي مطعن في القرآن الكريم؛ حيث إن الحق - سبحانه وتعالى - أوجب على المسلمين الإيمان بهم على سبيل الإجمال، كما ينبئ عنه قوله سبحانه وتعالى: )آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير (285)( (البقرة). أي ما قصه وما لم يقصه؛ فهناك من الأنبياء من آتاهم الله كتبا كداود عليه السلام: )وآتينا داوود زبورا (163)( (النساء: ١٦٣). وإبراهيم وموسى عليهم السلام: )إن هذا لفي الصحف الأولى (18) صحف إبراهيم وموسى (19)( (الأعلى). وعيسى عليه السلام: )وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين (46)( (المائدة).
فالحق - سبحانه وتعالى - لم يخبر نبيه عما إذا كان قد آتى البعض الآخر كتبا، أم لا؛ كيوسف، ويعقوب، وإسماعيل، وإسحاق، ويونس، وإلياس، واليسع - عليهم السلام -... وليس في هذا ما يقدح في رسالتهم، فقد أخبر القرآن عن نهجهم في الحياة تجاه الدعوة وتوحيد الله عز وجل. ولا بد أن يفهم أن القرآن كتاب هداية، وأنه الأصل الأول للدين، وأنه لم يزعم من قبل أحد نبيا كان أو تابعا له أنه جاء ليلخص لنا الديانات السابقة[1].
ثانيا: القرآن لا يعاب في عدم ذكره بعض الأنبياء، فما ذكره فيه الكفاية لتحصيل العبرة:
يقول الله تعالى في ذكره الحكيم: )ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك( (غافر: ٧٨). ويوضح لنا الشيخ الطاهر ابن عاشور - عند تفسيره هذه الآية - الحكمة من عدم ذكر جميع الأنبياء وقصصهم في القرآن قائلا: "لقد بعث الله رسلا وأنبياء لا يعلم عددهم إلا الله تعالى؛ لأن منهم من أعلم الله بهم نبيه - صلى الله عليه وسلم - ومنهم من لم يعمله بهم، إذ لا كمال في الإعلام بمن لم يعلمه بهم، والذين أعلمه بهم منهم من له قصة في القرآن، ومنهم من أعلمه بهم وحي غير القرآن، فورد ذكر بعضهم في الآثار الصحيحة بتعيين أو بدون تعيين، ففي الحديث: «أن نبيا لسعته نملة فأحرق قريتها فعوتب في ذلك»،[2] ولا يكاد الناس يحصون عددهم لتباعد أزمانهم وتكاثر أممهم وتقاصي أقطارهم مما لا تحيط به علوم الناس ولا تستطيع إحصاءه أقلام المؤرخين وأخبار القصاصين، وقد حصل من العلم ببعضهم وبعض أممهم ما فيه كفاية لتحصيل العبرة في الخير والشر، والترغيب والترهيب.
ولقد جاء في القرآن الكريم تسمية خمسة عشر رسولا وهم: نوح، وإبراهيم، ولوط، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، وهود، وصالح، وشعيب، وموسى، وهارون، وعيسى، ويونس، ومحمد، واثنا عشر نبيا وهم: آدم، وداود، وسليمان، وأيوب، وزكريا، ويحيى، وإلياس، واليسع، وإدريس، وذو الكفل، وذو القرنين، ولقمان، وورد بالإجمال دون تسمية صاحب موسى المسمى في السنة الخضر، ونبي بني إسرائيل وهو صموئيل، وتبع.
وليس المسلمون مطالبين بأن يعلموا غير محمد - صلى الله عليه وسلم - ولكن الأنبياء الذين ذكروا في القرآن بصريح وصف النبوة يجب الإيمان بنبوتهم لمن قرأ الآيات التي ذكروا فيها وعدتهم خمسة وعشرون بين رسول ونبي، ولقد اشتمل قوله تعالى: )وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم (83) ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين (84) وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين (85) وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين (86)( (الأنعام) على أسماء ثمانية عشر منهم، وذكر أسماء سبعة آخرين في آيات أخرى، ولا يجب الإيمان إلا بوقوع الرسالة والنبوة على الإجمال. [3]
وهكذا يعرض القرآن ظاهرة الأنبياء نموذجا موحدا، فهم يشتركون في خصائص معينة لا يجوز أن نفرق بينهم فيها. فمن هذا الجانب يفرض القرآن على أتباعه أن يؤمنوا بجميع الأنبياء في آيات عديدة، فمثلا يقول عز وجل: )آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير (285)( (البقرة).
ويقول عز وجل: )قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (136) فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم (137)( (البقرة).
ويقول عز وجل: )قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (84)( (آل عمران).
ويقول عز وجل: )إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا (150) أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا (151) والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما (152)( (النساء)[4].
الخلاصة:
· لقد سلك القرآن في ذكر قصص الأنبياء مسلك الإيجاز والاختصار؛ وذلك لأن الهدف منها أخذ العبرة والأسوة والاعتبار بنهجهم في الدعوة.
وعلى هذا فقد أرسل الله - عز وجل - رسلا لا يعلم عددهم إلا الله، والمطلوب منا هو الإيمان بهؤلاء الرسل وعدم التفريق بينهم؛ لأن منهم من قص الله - عز وجل - قصته، ومنهم من لم يذكر الله - سبحانه وتعالى - حكايته قال سبحانه وتعالى: )منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك( (غافر: ٧٨)، وهذا من حكمة القرآن في الإرشاد فما كان فيه فائدة من ذكره ذكره، وما لم يكن لم يذكره.
(*) موقع جودت سعيد.