دعوى عدم حسم القرآن مسألة صلب المسيح عليه السلام(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المغالطين أن القرآن لم يكن حاسما في إثبات صلب المسيح، ويستدلون على ذلك بقوله سبحانه وتعالى: )وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم( (النساء: 157)؛ حيث يدعون أنه يعارض قول الله - سبحانه وتعالى - على لسان المسيح: )فلما توفيتني( (المائدة: 117)، مستنكرين الجمع بين إنكار صلب المسيح، وإلقاء الشبه على غيره وصلبه بدلا منه، ونجاته من الصلب مع الإقرار بوفاته عليه السلام. ويسوقون قول الإمام الرازي لتقوية زعمهم: لو كان الله يلقي شبه إنسان على آخر لاختلت الموازين. ويتساءلون: هل يصح أن يخلط القرآن في حديثه عن أحد أنبياء الله بهذه الصورة؟!
وجوه إبطال الشبهة:
1) عرض القرآن في سورة النساء يؤكد نجاة المسيح - عليه السلام - برفعه إلى السماء من القتل والصلب، وعقيدة المسلمين في خاتمة المسيح يسيرة لا تعقيد فيها، خلافا لعقيدة النصارى.
2) القرآن يقدم على الإنجيل في حادثة رفع المسيح - عليه السلام - وغيرها؛ لخلوه من الخلط والأباطيل، ولعصمته من التحريف، ولتواتره القطعي الثبوت، خلافا للإنجيل.
3) الأدلة العقلية تؤكد نفي صلب المسيح - عليه السلام - وترد كل ما يقال عن قصة صلبه المزعومة.
4) تعارض أقوال وأفعال المسيح في الإنجيل مع عقيدة الصلب والفداء[1] عند النصارى، يؤكد عدم صلاحية الإنجيل كمرجعية لإثبات حادثة الصلب أو غيرها.
5) مصادر مسيحية تؤكد نجاة المسيح من الصلب، ووقوعه على شبيهه.
6) اختلاف الأناجيل في مسألة الصلب يؤكد أن المسيح لم يصلب.
7) تنبؤات المسيح في الكتاب المقدس بنجاته من القتل!
8) شخصية المسيح لا تتلاقى مع النهاية الاستسلامية التي صنعها كتاب الأناجيل.
9) هناك طوائف نصرانية متعددة تنكر صلب المسيح!
10) مسألة الصلب بين إقرار بولس ونفي المسيح، أيهما يصدق النصارى؟!
11) نهاية يهوذا خير شاهد على صدق القرآن وتحريف الإنجيل، ونجاة المسيح.
12) كلام الإمام الرازي مقطوع من السياق، إيهاما للمسلمين أنه ينكر أن عيسى - عليه السلام - شبه لهم، ولو رجعت إلى مصدر كلامه لعلمت تدليس المدلسين.
التفصيل:
أولا. عرض القرآن في سورة النساء يؤكد الرفع وينفي قتل المسيح وصلبه:
التبس على النصارى صلب عيسى - عليه السلام - كما التبس على اليهود.. وحل القرآن الإشكال، وأزال اللبس، لكن النصارى لم يصدقوا القرآن. قال الله عز وجل: )وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما (156) وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا (157) بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما (158)( (النساء).
واعترض النصارى على نفي القرآن قتل عيسى - عليه السلام - وصلبه، واعتبروه خطأ وقع فيه القرآن، واستغرب كثير منهم إنكار القرآن أمرا مجمعا عليه بين اليهود والنصارى، واليونان، والرومان. ويتساءلون: "لماذا ينكر القرآن صلب المسيح وقتله بأيدي اليهود، مع أن اليهود يعترفون بذلك، والنصارى يؤكدونه ويفتخرون به؟ ومدار الإنجيل كله على خبر صلب المسيح والبشارة به، كفاد للبشر"؟
ويدعون أن القرآن ذكر في مواضع أخرى موت المسيح وقيامته، وارتفاعه إلى السماء، كقوله سبحانه وتعالى: )إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي( (آل عمران: ٥٥)، وفيه يقول المسيح: )فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم( (المائدة: ١١٧)، ويقول أيضا: )والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا (33)( (مريم). ويقولون: أليس غريبا أن يجيء من ينكر صلب المسيح بعد حدوثه بستمائة سنة؟! إن حادثة الصلب حقيقة تاريخية، سجلها اليونان، والرومان، واليهود، والمسيحيون... وفي "مجمع نيقية" الذي انعقد سنة (325م)، كتب أساقفة العالم المسيحي قانون الإيمان مقرين صلب المسيح!
يؤمن كل النصارى أن اليهود والرومان قتلوا عيسى - عليه السلام - وصلبوه، وأن روحه خرجت على الصليب، وبعد ثلاثة أيام من دفنه ردت إليه روحه، فقام من قبره، وصعد إلى السماء! وكان اليهود يتباهون ويتفاخرون بقتل عيسى - عليه السلام - قال سبحانه وتعالى: )وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله( (النساء: ١٥٧). أما النصارى فقد جعلوا الصليب جزءا من عقيدتهم ودينهم، والشعار المميز لهم عن باقي أتباع الأديان، ووضعوا الصليب في أعناقهم وعلى كنائسهم، وملابسهم، ومرافق حياتهم، فإذا نفى القرآن صلب عيسى - عليه السلام - نفيا صريحا، فإن النصرانية تتهاوى من أساسها. أما القرآن الكريم فقد نفى صلب عيسى - عليه السلام - وكذب اليهود في ادعاء ذلك، قال سبحانه وتعالى: )وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم( (النساء: 157) فنفى أن يكونوا قد قتلوا عيسى - عليه السلام - أو صلبوه.
ويقرر القرآن أن المختلفين في موضوع القتل والصلب من اليهود والنصارى في شك منه لم يصلوا إلى اليقين؛ لأنهم لا ينطلقون من العلم، وإنما يتبعون الظن، والظن لا يوصل إلى يقين قال سبحانه وتعالى: )وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن( (النساء: 157). ويؤكد القرآن مرة أخرى أنهم لم يقتلوا عيسى - عليه السلام - يقينا؛ لأن الله العزيز الحكيم رفعه إليه قال سبحانه وتعالى: )وما قتلوه يقينا (157) بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما (158)( (النساء).
لقد أراد اليهود الرومان صلب عيسى - عليه السلام - ولكن الله حماه وعصمه منهم، ورفعه إلى السماء، أما هم فقد صلبوا رجلا آخر، وكل ظنهم أنه عيسى! فقال اليهود متبجحين: إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله عليه السلام.
أما معنى قوله سبحانه وتعالى: )ولكن شبه لهم( شبه لهم أمر الصلب والقتل، والتبس عليهم، وهذا معناه أنهم قتلوا وصلبوا شخصا آخر سوى عيسى عليه السلام. ومعنى قوله سبحانه وتعالى: )وما قتلوه يقينا (157) بل رفعه الله إليه( (النساء) لم يقتل اليهود عيسى - عليه السلام - يقينا، ولم يكن الشخص المقتول المصلوب عيسى حقيقة، إنما كان شخصا آخر غيره، بينما كان عيسى في السماء[2]!!
يقول الإمام محمد رشيد رضا في تفسيره لآيات سورة النساء: )وما قتلوه وما صلبوه( أي: والحال أنهم ما قتلوه، كما زعموا تبجحا بالجريمة، وما صلبوه كما ادعوا وشاع بين الناس: )ولكن شبه لهم( أي: وقع لهم الشبهة، أو الشبه فظنوا أنهم صلبوا عيسى، وإنما صلبوا غيره، ومثل هذا الشبه أو الاشتباه يقع في كل زمان كما سنبينه قريبا )وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن( أي: وإن الذين اختلفوا في شأن عيسى من أهل الكتاب في شك من حقيقة أمره، أي: في حيرة وتردد ما لهم به من علم ثابت قطعي، لكنهم يتبعون الظن أي القرائن التي ترجح بعض الآراء الخلافية على بعض، فالشك الذي هو التردد بين أمرين شامل لمجموعهم لا لكل فرد من أفرادهم، هذا إذا كان - كما يقول علماء المنطق - لا يستعمل إلا فيما تساوى طرفاه بحيث لا يترجح أحدهما على الآخر، والذين يتبعون الظن في أمرهم هم أفراد رجحوا بعض ما وقع الاختلاف فيه على بعض بالقرائن أو بالهوى والميل، والصواب أن هذا معنى اصطلاحي للشك. وأما معناه في أصل اللغة فهو نحو من معنى الجهل، وعدم استبانة ما يجول في الذهن من الأمر، قال الركاض الدبيري:
يشك عليك الأمر ما دام مقبلا
وتعرف ما فيه إذا هو أدبرا
فجعل المعرفة في مقابلة الشك. وقال ابن الأحمر:
وأشياء مما يعطف المرء ذا النهى
تشك على قلبي فما استبينها
وفي لسان العرب: أن الشك ضد اليقين، فهو - إذن - يشمل الظن في اصطلاح أهل المنطق، وهو ما ترجح أحد طرفيه. فالشك في صلب المسيح هو التردد فيه أكان هو المصلوب، أم غيره؟ فبعض المختلفين في أمره الشاكين فيه يقول: إنه هو، وبعضهم يقول: إنه غيره، وما لأحد منهما علم يقيني بذلك، وإنما يتبعون الظن. وقوله تعالى: )إلا اتباع الظن( استثناء منقطع كما علم من تفسيرنا له، وفي الأناجيل المعتمدة عند النصارى أن المسيح قال لتلاميذه: "كلكم تشكون في في هذه الليلة". (متى 26: 31، ومرقس 14: 27)، أي: التي يطلب فيها للقتل.
فإذا كانت أناجيلهم لا تزال ناطقة، فإنه أخبر أن تلاميذه وأعرف الناس به سيشكون فيه في ذلك الوقت وخبره صادق قطعا، فهل يستغرب اشتباه غيرهم وشك من دونهم في أمره، وقد صارت قصته رواية تاريخية منقطعة الإسناد؟
)وما قتلوه يقينا( أي: وما قتلوا عيسى ابن مريم قتلا يقينا أو متيقنين أنه هو بعينه؛ لأنهم لم يكونوا يعرفونه حق المعرفة. وهذه الأناجيل المعتمدة عند النصارى تصرح بأن الذي أسلمه إلى الجند هو يهوذا الإسخريوطي، وأنه جعل لهم علامة أن من قبله يكون هو يسوع المسيح فلما قبله قبضوا عليه. وأما إنجيل برنابا فيصرح بأن الجنود أخذوا يهوذا الإسخريوطي نفسه ظنا أنه المسيح؛ لأنه ألقي عليه شبهه. فالذي لا خلاف فيه هو أن الجنود ما كانوا يعرفون شخص المسيح معرفة يقينية. وقيل: إن الضمير في قوله سبحانه وتعالى: )وما قتلوه يقينا( للعلم الذي نفاه عنهم، والمعنى ما لهم به من علم، لكنهم يتبعون الظن، وما قتلوه عن علم وتثبت منه، بل رضوا بتلك الظنون التي يتخبطون فيها، يقال: قتلت الشيء علما وخبرا: إذا أحطت به واستوليت عليه حتى لا ينازع ذهنك منه اضطراب ولا ارتياب. وجاء عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه راجع إلى الظن الذي يتبعونه قال: "لم يقتلوا ظنهم يقينا"؛[3] أي: إنهم يتبعون ظنا غير ممحص ولا موفى أسباب الترجيح، والحكم التي توصل إلى العلم. وقد اختلفت رواية المفسرين بالمأثور في هذه المسألة؛ لأن عمدتهم فيها النقل عمن أسلم من اليهود والنصارى، وهؤلاء كانوا مختلفين ما لهم به من علم يقيني، ولكن الروايات عنهم تشتمل على نحو ما عند النصارى من مقدمات القصة، كجمع المسيح لحواريه "أو تلاميذه"، وخدمته إياهم وغسله لأرجلهم، وقوله لبعضهم: إنه ينكره قبل صياح الديك ثلاث مرات، ومن بيعه بدلالة أعدائه عليه في مقابلة مال قليل، وكون الدلالة عليه كانت بتقبيل الدال عليه له.
ولكن بعضهم قال: إن شبهه ألقي على من دلهم عليه، وبعضهم قال: بل ألقي شبهه على جميع من كانوا معه، وروى ابن جرير القولين عن وهب بن منبه. والحاصل أن جميع روايات المسلمين متفقة على أن عيسى - عليه السلام - نجا من أيدي مريدي قتله؛ فقتلوا آخر ظانين أنه هو.
وأما قوله سبحانه وتعالى: )بل رفعه الله إليه( فقد سبق نظيره في سورة آل عمران وذلك قوله سبحانه وتعالى: )إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا( (آل عمران: ٥٥).
جاء عن ابن عباس تفسير التوفي هنا بالإماتة كما هو الظاهر المتبادر، وعن ابن جريج تفسيرها بأصل معناها، وهو الأخذ والقبض، والمراد منه ومن الرفع: إنقاذه من الذين كفروا بعناية من الله الذي اصطفاه وقربه إليه.
)وكان الله عزيزا حكيما( فبعزته وهي كونه يقهر ولا يقهر، ويغلب ولا يغلب، أنقذ عبده ورسوله عيسى - عليه السلام - من اليهود الماكرين، والروم الحاكمين، وبحكمته جزى كل عامل بعمله"[4].
خاتمة المسيح عند النصارى وعند المسلمين:
جعل النصارى خاتمة المسيح - عليه السلام - خاتمة شنيعة ومأساة مروعة، وجعلوا الاعتقاد بحصولها على الوجه الذي صوروه أصلا من أصول دينهم ودعامة من دعائم عقيدتهم لا يقبل من مؤمن إيمانه إلا بها ولا ينفعه عمل صالح ولا عبادة ولا بر، ولا تقوى، ولا إخلاص دون الاعتقاد بصلب المسيح.
وقد تلمسوا لتلك العقيدة أصلا في العهد القديم، وأسسوا عليه صلب المسيح. فقالوا: إن آدم - وهو أول كل البشر - قد عصى الله - عز وجل - بالأكل من الشجرة، التي نهاه عن الأكل منها، فصار خاطئا وصار جميع ذريته خطاة مستحقين للعقاب في الآخرة بالهلاك الأبدي.
وقد جاء جميع أبناء آدم خطاة مذنبين فهم يحملون وزر ذنوبهم، ووزر ذنب أبيهم الذي هو الأصل لذنوبهم.
ولما كان الله - عز وجل - من صفته العدل والرحمة، فمن عدله أنه لا يترك الجريمة دون عقاب، وإلا لم يكن عادلا، والعقاب مناف للرحمة فلا يكون رحيما إذا عاقب، ولا بد من تحقق العدل والرحمة معا، وللخروج من هذا الإشكال شاء الله أن يحل ابنه الذي هو بنفسه الله في رحم امرأة من ذرية آدم، ويتجسد جنينا في رحمها ويولد منها، فيكون ولدها إنسانا كاملا من حيث إنه ابن لتلك المرأة، وإلها كاملا من حيث إنه ابن الله، ويكون معصوما من جميع المعاصي. ثم بعد أن يعيش كما يعيش الناس، ويأكل مما يأكلون ويشرب مما يشربون، ويتلذذ ويتألم كما يتلذذون ويتألمون، يأتي أعداء الله وأعداء شريعته ويقتلونه شر قتلة وأفظعها، وهي أن يصلبوه ويسمروا يديه ورجليه في الخشب، ثم يقتلوه بعد أن يلطموه على وجهه ويسخروا منه، ويضفروا له إكليلا من الشوك، ويبصقوا في وجهه، كل ذلك ليفدي البشر من جريمة لم يقترفها هو ولا هم.
إن هذه العملية لم يتحقق بها عدل ولا رحمة؛ لأنه ليس من العدل في شيء أن يؤتى ببريء غير مذنب، ويطوق إثم جريمة جناها سواه، كما أن عقاب غير الآثم ليس فيه رحمة، وبخاصة إذا كان المعاقب من شأن الجبلة أن تشمله بالرحمة، ولو مع الذنب، فالابن البار غير الآثم أولى.
والعقاب على هذا الوجه يخالف الكتاب المقدس عندهم، فقد جاء فيه: "لا يقتل الآباء عن الأولاد، ولا يقتل الأولاد عن الآباء، كل إنسان بخطيته يقتل". (التثنية 24: 16)، "وإذا كان على إنسان خطية حقها الموت، فقتل وعلقته على خشبة، فلا تبت جثته على الخشبة، بل تدفنه في ذلك اليوم، لأن المعلق ملعون من الله. فلا تنجس أرضك التي يعطيك الرب إلهك نصيبا". (التثنية 21: 22، 23).
وعلى قول المسيحيين قد بقي الله تعالى مجردا عن صفتي العدل والرحمة من زمن عصيان آدم إلى أن اهتدى إلى تلك الحيلة التي ظهرت له قبيل خلق المسيح - عليه السلام - في مريم. هذا فضلا عن أن عقيدة الصلب لما كانت هي كل الإيمان كانت حادية لمعتنقها
إلى نبذ كل الفضائل، بل مخذلة عن أفعال البر والتقوى، فيكون صاحبها إباحيا فاتكا ليس للفضيلة في نفسه نصيب.
أما خاتمة أمر المسيح بحسب قصص القرآن فهي عجيبة وبسيطة، لا تعقيد فيها؛ ذلك أن المسيح قد أحرج الكهنة والفريسيين[5] بتعليمه، وتجريمه إياهم في طريقتهم، وفضح ريائهم وخبثهم، فدفعهم ذلك إلى الكيد له والتدبير لقتله، فلما اختمر هذا الأمر في أنفسهم شكوا أمره إلى الوالي وزينوا شكواهم بما يستدعي اهتمامه بأن ادعوا عليه أنه يقول: إنه ملك اليهود، وأنهم لا يقرون بملك سوى قيصر رومية، فأرسل الوالي جندا للقبض على المسيح عيسى ابن مريم - عليه السلام - فلما أتوا ولم يبق إلا القبض عليه - والمسيح قد اهتم لهذا الأمر، وخشى أن ينالوه بالأذى - أنقذه الله من أيديهم وطهره منهم، وألقى شبهه على شخص آخر، علم فيما بعد أنه تلميذه الخائن وعرفته الأناجيل بأنه يهوذا الإسخريوطي - كما هو مشهور - وصار بحيث إن كل من رآه لا يشك في أنه يسوع، فأخذ وصلب وقتل ونجا المسيح من شرهم، وقد أعلم الله - عز وجل - الميسح بما سيتم، وشاع في الناس أن يسوع الناصري قتل بعد أن صلب، وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم.
وقد أورد ابن كثير وابن جرير وغيرهما من المفسرين: أن المسيح لما قرب وقت القبض عليه ندب أصحابه ثلاث مرات طالبا أن يتقدم واحد منهم ليفديه، ويقدم نفسه إلى اليهود عوضا عنه، ويكون جزاؤه الجنةـ فلم ينتدب له في كل مرة إلا واحد بعينه، فلما جاء أعداؤه ألقى الله على صاحبه الذي انتدب له شبه المسيح، وصار بحيث لا يشك أحد من أصحابه في أنه يسوع، فألقي القبض عليه وصلب وقتل، وهو يهوذا الإسخريوطي. الذي واطأ الكهنة على الدلالة على المسيح بأجر[6].
ثانيا. القرآن يقدم على الإنجيل:
يقدم القرآن على الإنجيل في قصة رفع المسيح وفي غيرها، إذا تعارض القرآن والإنجيل؛ لأن:
1. القرآن هو الكتاب الخاتم الذي أنزل الله فيه الحقيقة، التي لم تعبث بها الأيدي البشرية، أو المجامع الرومانية.
2. الله فصل فيه كل شيء، وجعله مهيمنا على الكتب السابقة.
3. الله وعد بحفظه، ونفى عنه التحريف، والعبث، والباطل، فما فيه صدق، لا يحتمل الخطأ.
4. القرآن كتب والنبي - صلى الله عليه وسلم - حي، وعرضه جبريل - عليه السلام - عليه عام موته عرضتين.
5. القرآن لم يزد فيه حرف، ولم ينقص منه حرف طوال أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان.
6. القرآن نقل بالتواتر، وعلى أعلى درجات التواتر، حيث ينقله الجيل عن الجيل والأمة عن الأمة.
أما الإنجيل، فإن الله لم يعد بحفظه، ولم يكتب في حياة عيسى - عليه السلام - وبه الكثير من المتناقضات التي لا يمكن التسليم بأنها من عند الله؛ لأنها تفيد تعددية المصادر التي أخذ منها، ولقد تدخل الحكام والأباطرة على مر التاريخ - لحسم مسائل مهمة في النصرانيةـ في نصوص الإنجيل، فقاموا بإثبات ما يوافق عقيدتهم، وشطب ما يخالفها:
يقول النصارى: بأنه كان يوجد بعد رفع المسيح مباشرة:
· كتاب يحتوى على أقوال السيد المسيح.
· وكتاب يحتوي على سيرته.
وأن الأناجيل الأربعة قد جمعت الأقوال والسيرة معا، ثم إن الأقوال قد فقدت، والسيرة أيضا. ويسمون الأقوال "لوجيا" Logia، ويسمون السيرة "كويل" Quelle، وقد حكى الأستاذ عباس محمود العقاد عنهم: أن منهم من يسمى "كويل لوجيا"، والحق: أنهما مختلفان. يقول: "الإنجيل" كلمة يونانية بمعنى الخبر السعيد، أو البشارة. وقد تداول المسيحيون في القرن الأول عشرات النسخ من الأناجيل، ثم اعتمد آباء الكنيسة أربع نسخ منها بالاقتراع - أي بكثرة الأصوات - وهي إنجيل مرقس، وإنجيل متى، وإنجيل لوقا، وإنجيل يوحنا، مع طائفة من أقوال الرسل المدونة في العهد الجديد.
ويرجح المؤرخون المختصون بهذه المباحث أن الأناجيل تعتمد على نسخة آرامية مفقودة، يشيرون إليها بحرف "ك" مختزلة من كلمة كويل Quelle بمعنى "الأصل"[7].
ولقد تتبع الحكام والأباطرة الرومان من يخالفهم الاعتقاد، فقتلوا وأحرقوا الكثير منهم، كما عقدوا العديد من المجامع التي تدرس العقيدة وتقررها حسب أهواء هؤلاء الأباطرة، وتحذف ما يعارضها في هذا الاعتقاد من الأناجيل، ولقد استمر هذا الأمر حتى اليوم، حيث يتم عقد العديد من المجامع - على غرار مجمع نيقية - وحذف الكثير من مواد الإنجيل.
يقول الداعية الإسلامي أحمد ديدات تحت عنوان "كذبة الكتاب المقدس": "لم يسمر عيسى على الصليب، كما سمر الآخران، على العكس من الاعتقاد الشائع، هذا إذا كان فعلا قد صلب! شك توما في صلب المسيح، وقد تكون هذه القصة مجرد اختلاق أثيم، تماما كقصة المرأة التي أمسك بها متلبسة بفعل الزنا، وقد حذفت قصة المرأة هذه من إنجيل يوحنا في النسخة الإنجليزية الحديثة.
يبدأ الإصحاح الثامن لهذا الإنجيل بفقرة (12)، أي كتاب ديني يبدأ بفقرة (12)، لقد أزيلت الفقرات (1ـ 11)؛ لأن الاثنين والثلاثين عالما، والخمسين طائفة تعاونت معهم لتنقيح الكتاب المقدس، ووجدوا أن هذه النصوص مختلقة وكاذبة فأمروا بإزالتها"[8].
وإذا تكلمنا عن التواتر عند نقل النصارى للكتاب المقدس، فإن الواقع يؤكد لنا "أن دعوى التواتر ممنوعة، فإن التواتر عبارة عن إخبار عدد كثير لا يجوز العقل اتفاقهم وتواطؤهم على الكذب بشيء قد أدركوه بحواسهم إداركا صحيحا لا شبهة فيه، وكان خبرهم بذلك متفقا لا اختلاف فيه، هذا إذا كان التواتر في طبقة واحدة، فإن كان التواتر في طبقات كان ما بعد الأولى مخبرا عنها، ويشترط أن يكون أفراد كل طبقة لا يجوز عقل عاقل تواطؤهم على الكذب في الإخبار عمن قبلهم، وأن يكون كل فرد من كل طبقة قد سمع جميع الأفراد الذين يحصل بهم التواتر ممن قبلهم، وأن يتصل السند هكذا إلى الطبقة الأخيرة، فإن اختل شرط من هذه الشروط لا ينعقد التواتر.
وأني للنصارى بمثل هذا التواتر، والذين كتبوا الأناجيل والرسائل المعتمدة عندهم لا يبلغون عدد التواتر، ولم يخبر أحد منهم عن مشاهدة، ومن تنقل عنه المشاهدة كبعض النساء لا يؤمن عليه الاشتباه والوهم، بل قال يوحنا في إنجيله: إن مريم المجدلية وهي أعرف الناس بالمسيح اشتبهت فيه وظنت أنه البستاني، وهو قد كان صاحب آيات، وخوارق عادات، فلا يبعد أن يلقي شبهه على غيره، وينجو بالشكل بصورة غير صورته، كما رووا عنه أنه قال لهم: إنهم يشكون فيه، وكما قال مرقس: إنه ظهر لهم بهيئة أخرى، ثم إن ما عزى إليهم لم ينقله عنهم عدد التواتر بالسماع منهم طبقة بعد طبقة إلى العصر الذي صار للنصارى فيه ملك، وحرية يظهرون فيها دينهم. وقد بين الشيخ رحمة الله الهندي وغيره انقطاع أسانيد هذه الكتب بالبينات الواضحة.
وإذا كانت الأناجيل ورسائل العهد الجديد قد أثبتت صلب المسيح دون القول بغير ذلك، ودون قبول أي رأي آخر يقول بغير ذلك، فالحق الذي يبدو جليا ولا يحتاج إلى برهان أن هذه الكتب:
1. لا دليل على عصمتها، ولا على أن كاتبيها كانوا معصومين.
2. لا دليل على نسبتها إلى من نسبت إليهم؛ لأنها غير متواترة كما تقدم.
3. معارضة بأمثالها كإنجيل برنابا وترجيحهم إياها على هذا الإنجيل لا يصلح مرجحا عندنا؛ لأنهم اتبعوا في اعتمادها تلك المجامع التي لا ثقة لنا بأهلها، ولا كانوا معصومين عندهم ولا عندنا.
4. إنها متعارضة في قصة الصلب وفي غيرها.
5. إنها معارضة بالقرآن العزيز وهو الكتاب الإلهي الذي ثبت نقله بالتواتر الصحيح دون غيره، فقصارى تلك الكتب أن تفيد الظن بالقرائن، كما قال سبحانه وتعالى: )ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا (157)( (النساء)، والقرآن قطعي فوجب تقديمه؛ لأنه يفيد العلم القطعي[9].
ثالثا. الأدلة العقلية على نفي صلب المسيح:
لا يمكن أن يقبل العقل قصة صلب المسيح لعدد من النتائج التي تترتب عليها، ولعدد من الأسباب هي:
لا يمكن أن يقبل هذه القصة من يؤمن بالدليل العقلي أن خالق العالم لا بد أن يكون بكل شيء عليما، وفي كل صنعه حكيما؛ لأنها تستلزم الجهل والبداء على الباري - عز وجل - كأنه حين خلق آدم - عليه السلام - ما كان يعلم ما يكون عليه أمره، وحين عصى ما كان يعلم ما يقتضيه العدل والرحمة في شأنه، حتى اهتدى إلى ذلك بعد ألوف من السنين مرت على خلقه، كان فيها جاهلا كيف يجمع بين تينك الصفتين من صفاته، وواقعا في ورطة التناقض بينهما، ولكن قد يقبلها من يشترط في الدين عندهم ألا يتفق مع العقل، وأن يأخذ صاحبه بكل ما يسند إلى من نسب إليهم عمل العجائب، ويقول آمنت به، وإن لم يدركه، ولم تذعن له نفسه، ومن ينقلون في أول كتاب من كتبهم الدينية - سفر التكوين - هذه الجملة: "فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض وتأسف في قلبه". (التكوين 6: 6)، تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرا.
· يلزم من يقبل هذه القصة أن يسلم بما يحيله كل عقل مستقل من أن خالق الكون يمكن أن يحل في رحم امرأة في هذه الأرض التي نسبتها إلى سائر ملكه أقل من نسبة الذرة إليها، وإلى سمواتها التي ترى منها، ثم يكون بشرا يأكل ويشرب ويتعب ويعتريه غير ذلك مما يعتري البشر، ثم يأخذه أعداؤه بالقهر والإهانة فيصلبوه مع اللصوص، ويجعلوه ملعونا بمقتضى حكم كتابه لبعض رسله، تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرا.
· تقتضي هذه القصة أن يكون الخالق العليم الحكيم قد أراد شيئا بعد التفكر فيه ألوفا من السنين، فلم يتم له ذلك الشيء، ذلك أن البشر لم يخلصوا وينجوا بوقوع الصلب من العذاب، فإنهم يقولون: إن خلاصهم متوقف على الإيمان بهذه القصة وهم لم يؤمنوا بها، ولنا أن نقول: إنه لم يؤمن بها أحد قط؛ لأن الإيمان هو تصديق العقل وجزمه بالشيء، والعقل لا يستطيع أن يدرك ذلك، والذين يقولون: إنهم مؤمنون بها يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم تقليدا لمن لقنهم ذلك، فإن سمينا مثل هذا القول إيمانا، نقول: إن أكثر البشر لا يقولون به، بل يردونه بالدلائل العقلية، ومنهم من يرده أيضا بالدلائل النقلية، من دين ثبتت أصوله عندهم بالأدلة العقلية، ومنهم من لم يعلموا بهذه القصة، ومنهم من يقول بمثلها لآلهة أخرى، فإذا عذبهم الله - عز وجل - في الآخرة ولم يدخلهم ملكوته - كما تدعي النصارى - لا يكون رحيما على قاعدة دعاة الصلب والصليب، فكيف جمع بذلك بين العدل والرحمة؟
· يلزم من هذه القصة شيء أعظم من عجز الخالق - تعالى وتقدس - عن إتمام مراده بالجمع بين عدله ورحمته، وهو انتفاء كل من العدل والرحمة في صلب المسيح؛ لأنه عذبه من حيث هو بشر وهو لا يستحق العذاب؛ لأنه لم يذنب قط، فتعذيبه بالصلب والطعن بالحراب - على ما زعموا - لا يصدر من عادل ولا من رحيم بالأحرى، فكيف يعقل أن يكون الخالق غير عادل ولا رحيم، أو أن يكون عادلا رحيما فيخلق خلقا يوقعه في ورطة الوقوع في انتفاء إحدى هاتين الصفتين، فيحاول الجمع بينهما فيفقدهما معا؟
· إذا كان كل من يقول بهذه العقيدة، أو القصة ينجو من عذاب الآخرة كيفما كانت أخلاقه وأعماله، لزم من ذلك أن يكون أهلها إباحيين، وأن يكون الشرير المبطل الذي يعتدي على أموال الناس وأنفسهم وأعراضهم، ويفسد في الأرض ويهلك الحرث والنسل، من أهل الملكوت الأعلى لا يعذب على شروره وخطيئاته ولا يجازى عليها بشيء، فله أن يفعل في هذه الدنيا ما شاء هواه، وهو آمن من عذاب الله - وناهيك بهذا مفسدا للبشر - وإذا كان يعذب على شروره وخطيئاته كغيره من غير الصليبيين فما مزية هذه العقيدة؟ وإذا كان له امتياز عند الله - عز وجل - في نفس الجزاء فأين العدل الإلهي؟
· ما رأينا أحدا من العقلاء، ولا من علماء الشرائع والقوانين يقول: إن عفو الإنسان عمن يذنب إليه، أو عفو السيد عن عبده الذي يعصيه، ينافي العدل والكمال، بل يعدون العفو من أعظم الفضائل، وترى المؤمنين بالله من الأمم المختلفة يصفونه بالعفو، ويقولون: إنه أهل للمغفرة، فدعوى الصليبيين أن العفو والمغفرة مما ينافي العدل مردودة غير مسلمة[10].
رابعا. تعارض أقوال وأفعال المسيح في الإنجيل مع عقيدة الصلب والفداء عند النصارى:
هناك العديد من الشواهد والأدلة الواردة في الإنجيل التي تتعارض مع عقيدة الصلب والفداء عند النصارى، ومن هذه الشواهد:
· أن أصل هذه العقيدة أن المسيح بذل نفسه باختياره فداء، وكفارة عن البشر، مع أن هذه الأناجيل تصرح بأنه حزن واكتأب عندما شعر بقرب أجله، وطلب من الله أن يصرف عنه هذه الكأس. ففي إنجيل متى: "ثم أخذ معه بطرس وابني زبدي، وابتدأ يحزن ويكتئب. فقال لهم: نفسي حزينة جدا حتى الموت. امكثوا ههنا واسهروا معي». ثم تقدم قليلا وخر على وجهه، وكان يصلي قائلا:«يا أبتاه، إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس، ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت». ثم جاء إلى التلاميذ فوجدهم نياما، فقال لبطرس: «أهكذا ما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة؟ اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة. أما الروح فنشيط وأما الجسد فضعيف». فمضى أيضا ثانية وصلى قائلا: «يا أبتاه، إن لم يمكن أن تعبر عني هذه الكأس إلا أن أشربها، فلتكن مشيئتك". (متى 26: 37 - 42). ومثل هذا في لوقا: "لما صار إلى المكان قال لهم: «صلوا لكي لا تدخلوا في تجربة». وانفصل عنهم نحو رمية حجر وجثا على ركبتيه وصلى قائلا: يا أبتاه، إن شئت أن تجيز عني هذه الكأس. ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك". (لوقا 22: 40 - 42)، فكيف يقول المسيح هذا وهو إله عندهم، فهل يمكن أن يجهل بما يمكن وما لا يمكن، وأن يطلب إبطال الطريقة التي أراد الآب - وهو هو عندهم - أن يجمع بها بين عدله ورحمته؟!
· ومن الشواهد عليها مسألة اللصين اللذين قالوا: إنهما صلبا معه، قال مرقس: "وصلبوا معه لصين، واحدا عن يمينه وآخر عن يساره. فتم الكتاب القائل:«وأحصي مع أثمة». وكان المجتازون يجدفون عليه، وهم يهزون رؤوسهم قائلين:«آه يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام! خلص نفسك وانزل عن الصليب!» وكذلك رؤساء الكهنة وهم مستهزئون فيما بينهم مع الكتبة، قالوا: «خلص آخرين، وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها! لينزل الآن المسيح ملك إسرائيل عن الصليب، لنرى ونؤمن!». واللذان صلبا معه كانا يعيرانه". (مرقس15: 27 - 32).
وكذلك قال متى: "ثم جلسوا يحرسونه هناك. وجعلوا فوق رأسه علته مكتوبة: «هذا هو يسوع ملك اليهود». حينئذ صلب معه لصان، واحد عن اليمين وواحد عن اليسار. وكان المجتازون يجدفون عليه وهم يهزون رؤوسهم قائلين: «يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام، خلص نفسك! إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب!». وكذلك رؤساء الكهنة أيضا وهم يستهزئون مع الكتبة والشيوخ قالوا: «خلص آخرين وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها! إن كان هو ملك إسرائيل فلينزل الآن عن الصليب فنؤمن به! قد اتكل على الله، فلينقذه الآن إن أراده! لأنه قال: أنا ابن الله!». وبذلك أيضا كان اللصان اللذان صلبا معه يعيرانه. (متى 27: 36 - 44).
وأما لوقا فقد سمى الرجلين اللذين صلبا معه مذنبين، ولكنه قال: "وكان واحد من المذنبين المعلقين يجدف عليه قائلا: «إن كنت أنت المسيح، فخلص نفسك وإيانا!» فأجاب الآخر وانتهره قائلا:«أولا أنت تخاف الله، إذ أنت تحت هذا الحكم بعينه؟ أما نحن فبعدل، لأننا ننال استحقاق ما فعلنا، وأما هذا فلم يفعل شيئا ليس في محله». ثم قال ليسوع:«اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك». فقال له يسوع:«الحق أقول لك: إنك اليوم تكون معي في الفردوس». (مرقس 23: 39 - 42)، فكانت نبوءة الكتاب - المراد به إشعياء - أنه يصلب مع أثمة بصيغة الجمع، ثم كان الجمع اثنين ولا بأس بذلك، ولكن كيف يقول اثنان من الإنجيليين المعصومين على رأيهم أن الذي عيره وأهانه هو أحدهما، وهما مثله في عصمته؟
ومثل هذه المخالفات والمعارضات في هذه القصة كثيرة، ومن أظهرها مسألة دفنه ليلة السبت، وقيامه من القبر قبل فجر يوم الأحد، مع أن البشارة أنه يكون في بطن الأرض ثلاثة أيام بلياليها، وهي مدة مكث يونس في بطن الحوت، ومنها مسألة النساء اللواتي جئن القبر، وفيها عدة خلافات في وقت المجيء ورؤية الملك... إلخ[11].لة الا
إن وقوع التشابه أمر وارد وواقع يراه الناس ويتلمسونه ويدركونه حق الإدراك، فهو يقع في التوءم، ويقع في غيرهما من المتباعدين الذين يسكنون في أقطار شتى، وبيئات متباينة بين أفراد الجنس البشري، ووقوع شبه المسيح على غيره، سواء كان يهوذا أم غيره له ما يقويه وما يعضده من الأدلة، وهو متحقق من وجهين هما:
1. أنه عهد بين الناس أن يشبه بعضهم بعضا شبها تاما، بحيث لا يميز أحد المتشابهين المعاشرون والأقربون، وقد يكون هذا بين الغرباء كما يكون بين الأقربين، ولعله يقل في الذين يسافرون وينقلبون بين الكثير من الناس من لم يقع له الاشتباه بين من يعرف ومن لا يعرف، وإننا لزيادة البيان نورد قليلا من الشواهد عن الإفرنج الذين يثق دعاة النصرانية عندنا بهم ما لا يثقون بغيرهم؛ لأن هؤلاء الدعاة من أبناء جنسهم أو مقلدتهم.
قال إميل صاحب كتاب "التربية الاستقلالية" حكاية عن كتاب كتبته امرأة الدكتور إراسم إلى زوجها ما نصه: "لقد كثر ما لاحظت أنه يوجد في بعض الأحوال بين شخصين مختلفين في الذكورة والأنوثة والموطن تشابه كالذي يوجد بين أفراد أسرة واحدة، مع أن كلا منهما يكون أجنبيا عن الآخر من كل الوجوه، أتدري من هو الذي حضرت صورته في ذهني عند وقوع بصري على السيدة وارنجتون؟ ذلك هو صديقك يعقوب نقولا، خلتني أراه بذاته في زي امرأة". فهذا مثال لرأي الكاتب في تشابه الناس.
ويوجد في كتب الطب الشرعي حوادث كثيرة في باب تحقيق الشخصيات دالة على أنه كثيرا ما يحدث للناس الخطأ في معرفة بعض الأشخاص، ويشتبهون عليهم بغيرهم، وقد ذكر جاي وفرير مؤلفا كتاب "أصول الطب الشرعي" في اللغة الإنجليزية حادثة استحضر فيها 150 شاهدا لمعرفة شخص يدعى "مارتين جير"، فجزم أربعون منهم أنه هو هو، وقال خمسون: إنه غيره، والباقون ترددوا جدا ولم يمكنهم أن يبدوا رأيا، ثم اتضح من التحقيق أن هذا الشخص كان غير مارتين جير، وانخدع به هؤلاء الشهود المثبتون، وعاش مع زوجة مارتين محاطا بأقاربه وأصحابه ومعارفه مدة ثلاث سنوات، وكلهم مصدقون أنه مارتين، ولما حكمت المحكمة عليه - لظهور كذبه بالدلائل القاطعة - استأنف الحكم في محكمة أخرى فأحضر ثلاثون شاهدا آخرون، فأقسم عشرة منهم بأنه هو مارتين وقال سبعة: إنه غيره، وتردد الباقون، وقد حدثت هذه الحادثة سنة 1539م في فرنسا.. وأمثالها كثير.
وقد بلغ من شبه بعض الأشخاص بغيرهم أن وجد فيهم بعض ما يوجد في غيرهم ممن شابههم من الكسور أو الجروح، أو آثارها وغير ذلك؛ حتى تعسر تمييز بعضهم عن بعض، ولذلك جد الأطباء في وضع مميزات لأشخاص البشر المختلفين.
2. أن هذه الحادثة من خوارق العادات التي أيد الله بها نبيه عيسى ابن مريم، وأنقذه من أعدائه، فألقى شبهه على غيره، وغير شكله هو فخرج من بينهم وهم لا يشعرون، وفي أناجيلهم وكتبهم جمل متفرقة تؤيد هذا الوجه أشرنا إلى بعضها من قبل، ولا شك أن هذا من الممكنات الخاضعة لمشيئة الله وقدرته.
ويمكن أن يستدل على استجابة الله لدعائه بقول يوحنا حكاية عنه في سياق قصة الصلب: "أجابهم يسوع: ألآن تؤمنون؟ هوذا تأتي ساعة، وقد أتت الآن، تتفرقون فيها كل واحد إلى خاصته، وتتركونني وحدي. وأنا لست وحدي لأن الآب معي. قد كلمتكم بهذا ليكون لكم في سلام. في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن ثقوا: أنا قد غلبت العالم". (يوحنا 16: 31 - 33)، وفي هذا المعنى قول متي: " في تلك الساعة قال يسوع للجموع: «كأنه على لص خرجتم بسيوف وعصي لتأخذوني! كل يوم كنت أجلس معكم أعلم في الهيكل ولم تمسكوني. وأما هذا كله فقد كان لكي تكمل كتب الأنبياء». حينئذ تركه التلاميذ كلهم وهربوا. (26: 55، 56)، وقول مرقص: "فأجاب يسوع وقال لهم: «كأنه على لص خرجتم بسيوف وعصي لتأخذوني! كل يوم كنت معكم في الهيكل أعلم ولم تمسكوني! ولكن لكي تكمل الكتب». فتركه الجميع وهربوا". (مرقس 14: 48 - 50). فهذا نص في أن التلاميذ كلهم هربوا حين جاء الجند ليقبضوا على المسيح، فلم يكن الذين يعرفونه حق المعرفة هنالك.
ومما يدل على استجابة الله دعوته بأن ينقذه ويعبر عنه تلك الكأس عبارة المزامير التي يقولون: إن المراد بها المسيح، وهذا نصها: "أعني يا رب إلهي خلصني حسب رحمتك وليعلموا أن هذه يدك أنت يا رب فعلت هذا، أما هم فيلعنون، وأما أنت فتبارك، قاموا وخزوا، أما عبدك فيفرح، ليلبس خصمائي خجلا وليتعطفوا بخزيهم كالرداء، أحمد الرب جدا بفمي وفي وسط كثيرين أسبحه؛ لأنه يقوم عن يمين المسكين ليخلصه من القاضين على نفسه". (المزامير 109: 26 - 31)، وفي العبارات التي ينسوبنها إلى المسيح شواهد أخرى تدور حول هذا المعنى[12].
خامسا. مصادر مسيحية تؤكد نجاة المسيح من الصلب، ووقوع الصلب على شبيهه:
إن من أشهر وأقدم الأناجيل في الديانة النصرانية إنجيل برنابا، وهو أحد مصادر النصرانية الأساسية قبل انعقاد "مجمع نيقية"، ولقد كان برنابا صاحب هذا الإنجيل من أتباع المسيح القائمين على نشر دعوته، والتبشير باقتراب ملكوت السموات، وقد جاء عنه: "وكان هذا الرجل موثوقا به في الكنيسة ثقة تامة ويندب لوعظ الناس المدعوين للدخول في الدين". (الأعمال 2: 26).
هذا الرجل وجد له إنجيل مدون، وهو عبارة عن قصة للمسيح كإنجيل متى ولوقا، ومرقس، ويوحنا، منقطع السند كما هي منقطعة السند، وهذا الإنجيل يقول فيه مترجمه د. خليل سعادة: تضاربت فيه آراء الباحثين وتشعبت بخصوصه مذاهب المؤرخين وخبطوا فيه بين ضلالة وهدى، وتلمسوا حقيقته بين رشاد وهوى، واستنطقوا الآثار، والأسفار، واستفسروا الأعصار والأمصار، فما ظفروا بعد كل ذلك بما يشفي منهم عليلا، أو يبرد لهم غليلا.
وهذا الإنجيل كانت نسخته بمكتبة الباب - سكتس - بروما واختلسها أسقف يقال له "فرامرينو" حين عثر عليها مصادفة، فقرأها واعتنق الإسلام، وذلك في أواخر القرن السادس عشر، ويقول المترجم في مقدمته: إنه يرى أن كاتب إنجيل برنابا يهودي أندلسي متمكن من الديانة اليهودية والاطلاع عليها قد تنصر واطلع اطلاعا عظيما على النصرانية، ثم أسلم واطلع على الديانة الإسلامية، ويرى أن هذا الحل أقرب إلى الصواب، ثم قال: وبعد كل ما تقدم فإن هذا الإنجيل قد أتى على آيات باهرة من الحكمة وطراز راق من الفلسفة الأدبية وأساليب تسحر الألباب ببلاغتها السامية على ما فيها من البساطة في التعبير، وهو يرمي إلى ترقية العواطف البشرية إلى أفق سام وتنزيهها عن الشهوات البهيمية، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، حاثا على الفضائل، مقبحا للرذائل داعيا الإنسان إلى التضحية بنفسه في سبيل الإحسان إلى الناس حتى يزول منه كل أثر للأنانية ويحيا لنفع إخوانه.
وقال ناشره محمد رشيد رضا في مقدمته: "لم نقف على ذكر لإنجيل برنابا في أسفار التاريخ أقدم من المنشور الذي أصدره البابا جلاسيوس الأول في بيان الكتب التي تحرم قراءتها فقد جاء في ضمنها إنجيل برنابا، وقد تولى جلاسيوس البابوية في أواخر القرن الخامس للميلاد أي قبل بعثة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - على أن بعض علماء أوربا يرتابون اليوم في ذلك المنشور، كما ذكر د. سعادة في مقدمته والمثبت مقدم على المنفي.
مهما يكن من أمر فإنجيل برنابا واحد من الأناجيل التي ألفت في قصة المسيح، وإن كان يمتاز عن سائرها بالبلاغة، ودقة التعبير، ويصرح بأمور لعلها هي التي زهدت الكنيسة فيه حتى حرمه البابا جلاسيوس، ومن ذلك: التصريح باسم محمد في كثير من المواضع، وإني أنقل عن إنجيل برنابا لا لأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ بل لأن روايته للحوادث أبين، واستقصاءه للأخبار أتم، وإن كان في نظري لا تخلو بعض الموضوعات فيه من المبالغات الشعرية.
على أن د. سعادة مترجم إنجيل برنابا قال في مقدمته بعد أن أفاض في الاحتمالات والآراء في إنجيل برنابا: "بيد أن هناك إنجيلا يسمى بـ "الإنجيل الأغنطسي" طمست رسومه، وعفت آثاره، يبتدئ بمقدمة تندد بالقديس بولس، وينتهي بخاتمة فيها مثل ذلك من إنجيل برنابا، فمن المحتمل - أيضا - أن يكون الإنجيل الأغنطسي أبا لإنجيل برنابا. وأقول: ومن المحتمل - أيضا - أن كاتب الإنجيل الأغنطسي ألم بما كتبه برنابا في إنجيله واقتبس منه ما أثبته في إنجيله وأن إنجيل برنابا يصح أن يكون أبا للإنجيل الأغنطسي. ولو أن المسيحيين أبقوا جميع الأناجيل ولم تحرم الكنيسة قراءتها لوصلت إلينا، ولو على نوع من التحريف، ولكن ذلك التحريم أعدم تلك الأناجيل وربما كان فيها الكثير الطيب، وإلا فأين الإنجيل الأغنطسي والأناجيل المذكورة في الأناجيل، وأنها وجدت والأناجيل التي كان الداعون إلى المسيحية كبولس يحذرون الناس من اتباعها كالتي كانوا يقولون إن أصحابها يحرفون إنجيل المسيح[13]؟
ومن المعلوم أن إنجيل برنابا يقرر أن الذي صلب هو يهوذا الإسخريوطي تحديدا، وأن المسيح لم يصلب؛ لذا نجد أن هذا الإنجيل تم استبعاده من قبل الكنيسة، ومن قبل "مجمع نيقية"؛ لأنه يتعارض مع ما يعتنقه الإمبراطور الروماني، والطوائف النصرانية الحاكمة، والموجودة داخل هيكل السلطة، والقوة، والنفوذ، والتغيير، والعجب كل العجب أن تتبع الطوائف النصرانية بولس وتثق به، ولا تتبع برنابا ولا تثق بإنجيله، ومن يراجع صفحة أو صفحات في تاريخ النصرانية، يتبين له الحق، وليقارن بين بولس - صاحب عقيدة الصلب والفداء - وبرنابا - صاحب الإنجيل الشهير - ليجد العجب، حيث كان النصارى لا يثقون ببولس، بل كانوا يعتبرونه عدوا للنصرانية، أما برنابا فكان يقرر أن المسيح لم يصلب، وأن الذي صلب هو يهوذا شبيهه، ولكن النصارى لا يأخذون بقوله؟!
أضف إلى ذلك ما نشرته مجلة "المجلة" في عددها الصادر بتاريخ 9/10/1993م، برقم (712) حول اكتشاف عدد من المخطوطات الضائعة من مكتبة الإسكندرية، كانت بنجع حمادي، وعثروا فيما عثروا على أناجيل مكتوبة بالقبطية، كانت قد دفنت يوم أصدرت روما في القرن الرابع الميلادي أمرها بإحراق الأناجيل غير الأربعة. وقد جاء في الأناجيل القبطية المكتشفة: جاء على لسان بطرس: "إن الذي رأيته سعيدا يضحك هو يسوع الحي، لكن من يدخلون المسامير في يديه وقدميه فهو البديل، فقد وضعوا العار على الشبيه"، وورد فيها أيضا على لسان المسيح: "كان آخر هو الذي وضعوا تاج الشوك على رأسه، كنت أنا في العلاء أضحك لجهلهم"[14].
لا أعلم إلى متى سيكتم النصارى المصادر التي تصرح بعدم صلب المسيح، ووقوع الصلب على شبيهه، وإلى متى لا يعترفون بالحقيقة الواضحة، أم إنهم كما يقول الله سبحانه وتعالى: )فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم( (القصص: ٥٠).
سادسا. اختلاف الأناجيل في مسألة الصلب يؤكد أن المسيح لم يصلب:
لم تختلف الأناجيل الأربعة في مسألة من المسائل كاختلافها في تفصيل مسألة صلب المسيح وقتله، فلا تكاد جزئية من الجزئيات في أحدها تتحد مع الجزئية نفسها في إنجيل آخر، ولما كانت هذه الأناجيل من تأليف قوم يدعي المسيحيون لهم الإلهام ويعتقدون خلوها من الخطأ، كان ينبغي أن تكون كتابتهم في هذه الحادثة المهمة التي هي مناط النجاة، ودعامة الإيمان في نظرهم متطابقة متوافقة بحيث لا يكون فيها اختلاف أصلا، إذ النفس لا تطمئن إلى الأخذ بروايات إذا اتفقت في موضع واحد من قصة جاءت في جميعها فإنها تتخالف في مواضع كثيرة، وإذا لم يكن الراوي أمينا كل الأمانة كانت الثقة بروايته ضعيفة والتصديق بها غير سائغ.
فقد خالف مرقس متى، فزاد في شهادة الشهود عليه قول الشاهدين: "إني أنقض هذا الهيكل المصنوع بالأيادي، وفي ثلاثة أيام أبني آخر غير مصنوع بأياد.. فسأله رئيس الكهنة أيضا وقال له: أأنت المسيح ابن المبارك؟ فقال يسوع: أنا هو. وسوف تبصرون ابن الإنسان جالسا عن يمين القوة، وآتيا في سحاب السماء". (مرقس 14: 58 - 62)، فخالف متى في هذه المواضع. وقوله: "المبارك" يريد "داود".
وأما لوقا فقد ضرب صفحا عن طلب شهود زور على المسيح، ولم يذكر سوى قول مشيخة الشعب ورؤساء الكهنة: إن كنت أنت المسيح، فقل لنا! فقال لهم: إن قلت لكم لا تصدقون، وإن سألت لا تجيبونني ولا تطلقونني. منذ الآن يكون ابن الإنسان جالسا عن يمين قوة الله. فقال الجميع: أفأنت ابن الله؟ فقال لهم: أنتم تقولون إني أنا هو". (لوقا 22: 67 - 70)، فخالف بذلك كلا من سابقيه، ومن المفارقات قول لوقا: إنهم قالوا له: " أفأنت ابن الله"؟ مع أنه لم يدع أنه ابن الله، بل عبر بلفظ "ابن الإنسان".
وأما يوحنا فقد ألغى شهادة الزور وشهوده، وألغى محاكمة الكهنة والشيوخ والكتبة له، ولم يذكر من ذلك شيئا أصلا وهو من أصحاب المسيح وقد شهد ما لم يشهده متى؛ لأنه كان معروفا من رئيس الكهنة، ودخل داره مع يسوع، كما نص على ذلك يوحنا في إنجيله مكذبا مرقس الذي يقول: وهرب منهم عريانا". (مرقس 14: 52)، وبعد هذا فشهادة من شهدوا بمسألة نقض الهيكل ليست شهادة زور، فقد جاء في يوحنا: "انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه". (يوحنا 2: 19)، فكيف يصح أن يقال: إنهم شهدوا زورا؟
وبعد هذا كله فإن الكهنة، ورئيسهم لم يقولوا: إن سبب الموت هو ما ذكر من هدم الهيكل، وبنائه، بل حين قال لهم: إنه المسيح على رأي مرقس، وإنه سيكون على يمين قوة الله، ومع هذا، فلم يرفعوه إلى الوالي بشيء من هذا، بل قالوا: إنه يفسد الشعب ويقول: إنه ملك اليهود.
قال متى: "ولما كان الصباح تشاور جميع رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب على يسوع حتى يقتلوه، فأوثقوه ومضوا به ودفعوه إلى بيلاطس البنطي الوالي. (متى 27: 1، 2)، ووافقه مرقس غير، أنه لم يذكر صفة بيلاطس ولا جنسيته، واختصر فقال: "فقام كل جمهورهم وجاءوا به إلى بيلاطس". (لوقا 23: 1)، وقال يوحنا: "ثم جاءوا بيسوع من عند قيافا إلى دار الولاية، وكان صبح. ولم يدخلوا هم إلى دار الولاية لكي لا يتنجسوا، فيأكلون الفصح". (يوحنا 18: 28). وهذه العبارة انفرد بها يوحنا دون الثلاثة.
قال متى: "حينئذ لما رأى يهوذا الذي أسلمه أنه قد دين، ندم ورد الثلاثين من الفضة إلى رؤساء الكهنة والشيوخ قائلا: قد أخطأت إذ سلمت دما بريئا. فقالوا: ماذا علينا؟ أنت أبصر! فطرح الفضة في الهيكل وانصرف، ثم مضى وخنق نفسه. فأخذ رؤساء الكهنة الفضة وقالوا: لا يحل أن نلقيها في الخزانة لأنها ثمن دم. فتشاوروا واشتروا بها حقل الفخاري مقبرة للغرباء. لهذا سمي ذلك الحقل «حقل الدم» إلى هذا اليوم. حينئذ تم ما قيل بإرميا النبي القائل: وأخذوا الثلاثين من الفضة، ثمن المـثمن الذي ثمنوه من بني إسرائيل، وأعطوها عن حقل الفخاري، كما أمرني الرب". (متى 27: 3 - 10).
هذا التقرير قد أسقطه أصحاب الأناجيل الثلاثة وخالفه مؤلفه الأبركسيس: "فإن هذا - أي يهوذا - اقتنى حقلا من أجرة الظلم وإذ سقط على وجهه انشق من الوسط، فانكبت أحشاؤه كلها، وصار ذلك معلوما عند سكان أورشليم حتى دعي ذلك الحقل في لغتهم "حقل دما" أي: حقل دم". (أعمال الرسل 1: 18، 19)، فالفرق بين تقرير متى وتقرير سفر الأعمال ظاهر، وإذا أخذنا بأحدهما وجب أن يكون الآخر كاذبا، وعبارة سفر الأعمال تفيد أن مؤلفه ليس عبرانيا؛ بدليل قوله: "في لغتهم".
وبعد هذا فقد نسب متى إلى رؤساء الكهنة شراء حقل الفخاري بالفضة، وحينئذ تم ما قيل بأرمياء إلى آخره.
ونسب القول إلى أرمياء غلط؛ فإن هذا القول لا يوجد في كتب أرمياء فذكر متى لاسم أرمياء غلط يقينا، وورد هذا القول في سفر زكريا، ونصه: "فقلت لهم: «إن حسن في أعينكم فأعطوني أجرتي وإلا فامتنعوا». فوزنوا أجرتي ثلاثين من الفضة. فقال لي الرب: «ألقها إلى الفخاري، الثمن الكريم الذي ثمنوني به». فأخذت الثلاثين من الفضة وألقيتها إلى الفخاري في بيت الرب. ثم قصفت عصاي الأخرى حبالا لأنقض الإخاء بين يهوذا وإسرائيل". (زكريا 11: 112 - 14).
وبعد فهذا الكلام الذي في زكريا لا تعلق له بالمسيح أصلا، وليس في شأنه، ولكن القوم يتصيدون كل الكلام ويلحقونه بكتبهم المقدسة ليقيموه دليلا على أن الحادثة قد تنبأ بها الأنبياء من قبل، وهي بعيدة من غرضهم بعد السماء من الأرض.
وكذلك فقد اختلفت الأناجيل الأربعة في بسط السبب الذي بنى عليه الوالي صلب المسيح، وكل واحد يخالف الآخر، وإذا قلنا الوالي، فلا نعني بذلك أنه أدان المصلوب أو وجده مذنبا، فإن كل أناجيل القوم مصرحة بأنه لم يجد فيه علة تستوجب الموت، قال متى: "فوقف يسوع أمام الوالي. فسأله الوالي قائلا: «أأنت ملك اليهود؟» فقال له يسوع:«أنت تقول». وبينما كان رؤساء الكهنة والشيوخ يشتكون عليه لم يجب بشيء. فقال له بيلاطس:«أما تسمع كم يشهدون عليك؟» فلم يجبه ولا عن كلمة واحدة، حتى تعجب الوالي جدا. (متى 27: 11 - 14)، وقد وافقه مرقس: "فسأله بيلاطس:«أأنت ملك اليهود؟» فأجاب وقال له:«أنت تقول». وكان رؤساء الكهنة يشتكون عليه كثيرا. فسأله بيلاطس أيضا قائلا: «أما تجيب بشيء؟ انظر كم يشهدون عليك!» فلم يجب يسوع أيضا بشيء حتى تعجب بيلاطس". (مرقس15: 2 - 5)، وأما لوقا فأثبت ما لم يثبته متى ومرقس؛ حيث قال: "وابتدءوا يشتكون عليه قائلين: إننا وجدنا هذا يفسد الأمة، ويمنع أن تعطى جزية لقيصر، قائلا: إنه هو مسيح ملك. فسأله بيلاطس قائلا: أنت ملك اليهود؟ فأجابه وقال: أنت تقول". (لوقا 23: 2، 3)، وبدهي أن هذا ضد ما قاله متى من أنه لم يجب بشيء حتى تعجب الوالي.
والمطلع على الأناجيل يعلم فساد تلك الدعاوى بما أثبته أصحابه من قوله: أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله، ومن هربه ممن أرادوا المناداة به ملكا، فلو أنه المسيح نفسه لتبرأ من مقالتهم واستشهد على نقض دعواهم، ولكنه المسكين يهوذا الاسخريوطي الذي دهش للقبض عليه وارتبك عقله واستغرق في التأمل فيما هو قادم عليه من أهوال الموت، فأنساه ذلك الجواب، وقد انفرد لوقا بإحياء هيرودس الذي أثبت موته من قبل، وذكر أن بيلاطس أرسل إليه بيسوع، وكان هيرودس - الميت من زمن مديد - يتمنى رؤية المسيح، وأراد أن يصنع أمامه آية، فلم يجبه بشيء، وكيف يجيبه أو يصنع آية وليس هو المسيح صاحب الآيات، وإنما هو يهوذا[15]؟
سابعا. تنبؤات المسيح بنجاته من القتل:
لعله قد تبين لنا مما سبق أن فكرة قتل المسيح كانت دخيلة على رسالته، وأنه بذل كل جهده للعمل ضدها. ويزداد الأمر يقينا حين نرى ما تذكره الأناجيل عن تنبؤات المسيح بنجاته من كل المحاولات التي يبذلها اليهود لقتله. وسوف نكتفي بذكر تلك التنبؤات الواضحة، التي لا يحتاج فهمها إلا لقراءتها فقط:
· "فنادى يسوع وهو يعلم في الهيكل قائلا: «تعرفونني وتعرفون من أين أنا، ومن نفسي لم آت، بل الذي أرسلني هو حق، الذي أنتم لستم تعرفونه. أنا أعرفه لأني منه، وهو أرسلني». فطلبوا أن يمسكوه، ولم يلق أحد يدا عليه، لأن ساعته لم تكن قد جاءت بعد. فآمن به كثيرون من الجمع، وقالوا: «ألعل المسيح متى جاء يعمل آيات أكثر من هذه التي عملها هذا؟». سمع الفريسيون الجمع يتناجون بهذا من نحوه، فأرسل الفريسيون ورؤساء الكهنة خداما ليمسكوه. فقال لهم يسوع:«أنا معكم زمانا يسيرا بعد، ثم أمضي إلى الذي أرسلني. ستطلبونني ولا تجدونني، وحيث أكون أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا». فقال اليهود فيما بينهم: إلى أين هذا مزمع أن يذهب حتى لا نجده نحن؟ ألعله مزمع أن يذهب إلى شتات اليونانيين ويعلم اليونانيين؟ ما هذا القول الذي قال: ستطلبونني ولا تجدونني، وحيث أكون أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا؟". (يوحنا 7: 28 - 36).
لا نظن أن أحدا يشك في وضوح هذا القول الذي يعني - رغم أي شيء - أن اليهود حين يطلبون المسيح لقتله فلن يجدوه؛ لأنه سيمضي للذي أرسله، أي: سيرفعه الله إليه. ومن الطبيعي أن يقال: إن السماء مكان يعجز اليهود عن بلوغه تعقبا للمسيح، بالإضافة إلى عجزهم عن فهم قوله وتحديد المكان الذي أشار إليه في حديثه هذا.
إن هذه النبوءة تقرر شيئا مهما، وهو أن اليهود حين يطلبون المسيح فلن يجدوه، سوف تحدث المعجزة قبل أن يمسكوه، وتتدخل ذراع الرب لإنقاذه قبل أن يلقي أحد عليه الأيادي.
· وفي موقف آخر من مواقف التحدي بين المسيح واليهود أكد لهم نبوءته السابقة، وأن محاولاتهم ضده ستنتهي برفعه إلى السماء بعد عجزهم عن الإمساك به: "قال لهم يسوع أيضا: أنا أمضي وستطلبونني، وتموتون في خطيتكم. حيث أمضي أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا. فقال اليهود: ألعله يقتل نفسه حتى يقول: حيث أمضي أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا؟ فقال لهم: أنتم من أسفل، أما أنا فمن فوق. أنتم من هذا العالم، أما أنا فلست من هذا العالم. فقلت لكم: إنكم تموتون في خطاياكم، لأنكم إن لم تؤمنوا أني أنا هو تموتون في خطاياكم. فقالوا له: من أنت؟ فقال لهم يسوع: أنا من البدء ما أكلمكم أيضا به. إن لي أشياء كثيرة أتكلم وأحكم بها من نحوكم، لكن الذي أرسلني هو حق. وأنا ما سمعته منه، فهذا أقوله للعالم. ولم يفهموا أنه كان يقول لهم عن الآب. فقال لهم يسوع: متى رفعتم ابن الإنسان، فحينئذ تفهمون أني أنا هو، ولست أفعل شيئا من نفسي، بل أتكلم بهذا كما علمني أبي. والذي أرسلني هو معي، ولم يتركني الآب وحدي، لأني في كل حين أفعل ما يرضيه". (يوحنا 8: 21 - 29).
ولقد كانت آخر أقوال المسيح لتلاميذه - في تلك اللحظات التي سبقت عملية القبض مباشرة - هو تأكيده لهم أن الله معه دائما، ولن يتركه: "أجابهم يسوع: ألآن تؤمنون؟ هوذا تأتي ساعة، وقد أتت الآن، تتفرقون فيها كل واحد إلى خاصته، وتتركونني وحدي. وأنا لست وحدي لأن الآب معي. قد كلمتكم بهذا ليكون لكم في سلام. في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن ثقوا: أنا قد غلبت العالم". (يوحنا 16: 31 - 33).
من المؤكد إذن أن ذلك المصلوب الذي تركه إلهه فأطلق صرخة اليأس على الصليب قائلا: "إلهي إلهي، لماذا تركتني". (متى 27: 46) - إنما هو شخص آخر غير المسيح الذي يقول لتلاميذه بكل ثقة ويقين: "أنا لست وحدي لأن الآب معي". وما من شك في أن المصلوب قد غلبه أعداؤه، وقهره الموت وساد عليه بعد أن تجرع كأسه المريرة حتى النهاية. ولهذا يقول بولس: "إن المسيح بعدما أقيم من الأموات لا يموت أيضا. لا يسود عليه الموت بعد". (رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية 6: 9).
نعم لقد ساد الموت على المصلوب كما يسود على كل الموتى - كما قرر بولس - أما ذلك الذي غلب العالم، فهو الذي حطم الإرادة الشريرة لمن في ذلك العالم من أشرار، فمنع محاولاتهم سحقه، ورد الضربة على رأس الخائن.
· "أقول لكم: إنكم لا ترونني من الآن حتى تقولوا: مبارك الآتي باسم الرب". (متى 23: 39). إن التحدي في هذا القول واضح، ذلك أن المسيح يؤكد لأعدائه أنهم لن يروه منذ تلك الساعة، حتى يأتي في نهاية العالم: "وحينئذ يبصرون ابن الإنسان آتيا في سحابة بقوة ومجد كثير". (لوقا 21: 27). لكن ذلك المصلوب رآه الكهنوت اليهودي أسيرا في قبضته أثناء المحاكمة، ثم رأوه بعد ذلك معلقا على الخشبة قتيلا، قد أسلم الروح والمشيئة، ولم يبق منه إلا جسد خامد، فقد نبض الحياة[16].
ثامنا. شخصية المسيح لا تتلاقى مع النهاية الاستسلامية التي صنعها كتاب الأناجيل:
إذا كانت الأناجيل مليئة بالتناقضات التي يستحيل قبولها وتصديقها عقليا على المستوى العام، فإنها مليئة بتناقضات أشد استعصاء وأبعد تصديقا في الأحداث الأخيرة في حياة المسيح قبل الصلب المزعوم وبعده، وبوسع أي قارئ غير متخصص أن يدرك هذا بعد قراءة سريعة لصفحات الإنجيل فضلا عن عالم متخصص.
وتعليقا على الأحداث الأخيرة قبيل الصلب المزعوم وتحليلا لها يقول الداعية الإسلامي أحمد ديدات: "لن يظل يسوع كالبطة الساكنة في انتظار القبض عليه خلسة من اليهود، ها هو يهوذا يعد حوارييه للخاتمة الوشيكة، وفي حيطة وحذر؛ حتى لا يدخل الخوف على قلوب حوارييه، أعد خطة الدفاع، فيقول لهم في لطف: "حين أرسلتكم بلا كيس ولا مزود ولا أحذية، هل أعوزكم شيء؟ فقالوا: لا. فقال لهم: لكن الآن، من له كيس فليأخذه ومزود كذلك. ومن ليس له فليبع ثوبه ويشتر سيفا". (لوقا 22: 35، 36).
هذا الإعداد للجهاد، للحرب المقدسة ضد اليهود، لماذا؟ لماذا هذا التحول نحو العنف؟ ألم يسبق له أن نصحهم: "سمعتم أنه قيل: عين بعين وسن بسن. وأما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضا". (متى 5: 38، 39)، "حينئذ تقدم إليه بطرس وقال: يا رب، كم مرة يخطئ إلى أخي وأنا أغفر له؟ هل إلى سبع مرات؟ قال له يسوع: لا أقول لك إلى سبع مرات، بل إلى سبعين مرة سبع مرات". (متى 18: 21، 22)، (70 × 7 = 490)، أليس هو الذي أرسل حوارييه الاثني عشر المختارين قائلا لهم: "ها أنا أرسلكم كغنم في وسط ذئاب، فكونوا حكماء كالحيات وبسطاء كالحمام". (متى 10: 16).
الموقف والظروف تغيرت، وكأي قائد مقتدر وحكيم، فإن الاستراتيجية يجب أيضا أن تتغير. كان الحواريون قد تسلحوا بالفعل، كانت لهم بصيرة، لم يكونوا قد غادروا الجليل صفر اليدين من السلاح. أجابوا قائلين: "يا رب، هوذا هنا سيفان. فقال لهم: يكفي". (لوقا 22: 38).
يقول المبشرون إبقاء على الانطباع السائد عن يسوع الوديع المسالم أمير السلام: "إن السيوف كانت سيوفا روحية. ولكن إذا كانت السيوف روحية لكان من الواجب أن تكون الملابس أيضا ملابس روحية. ولو كان الحواريون سيبيعون الملابس الروحية لشراء سيوف روحية، فإنهم في هذه الحالة سيكونون عراة روحانيين، وبالإضافة إلى ذلك فإن أحدا لا يستطيع قطع آذان الناس بسيوف روحية، ففي إنجيل متى: "وإذا واحد من الذين مع يسوع مد يده واستل سيفه وضرب عبد رئيس الكهنة، فقطع أذنه. فقال له يسوع: رد سيفك إلى مكانه. لأن كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون". (متى 26: 51، 52)، إن العمل الوحيد للسيوف والبنادق هو القطع والقتل، والناس في عصر المسيح لم تكن تحمل السيوف لتقشير التفاح والموز"[17].
ويستطرد ديدات في تحليل ووصف مشهد القبض على يسوع، فيقول: "تم القبض عليهم نياما، داس عليهم عدوهم بأحذيته الثقيلة، "فلما رأى الذين حوله ما يكون، قالوا: «يا رب، أنضرب بالسيف؟» وضرب واحد منهم - بطرس - عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه اليمنى. فأجاب يسوع وقال:«دعوا إلي هذا!» ولمس أذنه وأبرأها. (لوقا 22: 49 - 51).
ألم يكن يسوع يعرف وجه الحق في قوله السالف، عندما أمر أتباعه أن يبيعوا ملابسهم، ويشتروا بثمنها سيوفا؟ بالتأكيد كان يعرف، إذن فلماذا هذا التناقض الآن؟!
لماذا لا يعطي المسيحيون المجادلون سيدهم ومولاهم حقه وقدره؟ لأنهم برمـجوا لمدة ألفين من السنين على أن عيسى - عليه السلام - الحمل الوديع، أمير السلام، لا يستطيع أن يؤذي ذبابة. ويتجاهلون الجانب الآخر في طبيعته الذي يتطلب الدم والنار. وهم يتناسون أوامره إلى أتباعه أن يحضروا أعداءه الذين لا يعترفون بحكمه: "جئت لألقي نارا على الأرض، فماذا أريد لو اضطرمت؟ ولي صبغة أصطبغها، وكيف أنحصر حتى تكمل؟ أتظنون أني جئت لأعطي سلاما على الأرض؟ كلا، أقول لكم: بل انقساما". (لوقا 11: 49 - 51)[18].
ثم يتكلم ديدات عن خطة الخلاص التي يعرضها الإنجيل، فيقول: "إذا كان ذلك هو خطة الله لاتخاذ قربان أخطاء البشرية فإنه يكون - وحاشا لله أن يكون - قد اختار الفداء غير المناسب، إن الممثل الشخصي لله كان حريصا على ألا يموت. يتسلح، يبكي، يعرق، يصيح، يشكو! وازن بينه وبين شخص آخر كاللورد نلسون بطل الحرب الإنجليزي الذي واجه الموت، بهذه الكلمات الخالدة: "شكرا لله فقد أديت واجبي"، هناك ملايين اليوم يقدمون أرواحهم طواعية، وفي سرور من أجل الملك ومن أجل الوطن بابتسامة على وجوههم، وهم يصيحون "الحمد لله"، أو "الله أكبر"، أو "فلتحيا الملكة". عيسى كان ضحية غير راغبة في ذلك.
إذا كان ذلك حقا بتدبير الله في الخلاص، إذن فهي مؤامرة قاسية، إنه اغتيال بالدرجة الأولى وليس فداء شخصيا.
يقول الميجور بيتس براون في كتابه "حياة قناص في بلاد البنجال" ملخصا عقيدة الفداء المسيحية في جملة واحدة: "لم تتفهم قبيلة واحدة من تلك القبائل الوثنية مثل هذه الفكرة الهائلة، وفيها ما فيها من أن الإنسان كان قد جاء إلى الوجود ملطخا بالخطيئة، وأن هذه الخطيئة التي لم يكن مسئولا عنها كانت في حاجة إلى من يكفر عنها، وأن خالق كل الأشياء كان عليه أن يضحي بابنه الوحيد المولود من صلبه؛ لكي يزيل أثر هذه اللعنة المبهمة"[19].
وهكذا نرى المسيحية غير مقنعة لدى المبشرين والمبشرين بها على حد سواء، ومن العجب أن يطلبوا منا أن نقبل هذه الأضاليل التي لا يسوغها عقل سليم، فكيف إذا كان بين أيدينا السراج الساطع، والبرهان الواضح، والتفسير الشامل، أنتركه ونتبعهم؟!
ولقد ترتب على بحث قضية الصلب في الأناجيل - الكلام للواء أحمد عبد الوهاب - ما يلي:
1. اختلفت روايات الأناجيل الأربعة في أحداث الصلب: فقد اختلف الرواة في مقدمة الأحداث مثل قصة مسح جسد المسيح بالطيب، وقصة خيانة يهوذا. كذلك اختلف الرواة في العشاء الأخير[20] وكيفية التحضير له وتوقيته ودور يهوذا، وما قيل عن شك التلاميذ الذي تنبأ المسيح بوقوعهم فيه في تلك الليلة الأخيرة، واختلفت الأناجيل في الليلة الأخيرة وأحداثها، وإن كان هناك اتفاق على أنه في قمة المحنة التي تعرض لها المسيح "تركه التلاميذ كلهم وهربوا".
واختلفوا في المحاكمات وإعدادها وزمانها ومكانها، كما اختلفوا في قصة إنكار بطرس، وكان الخلاف حادا في الصلب، وأحداثه السابقة واللاحقة، ولعل أخطر خلاف وقع هو ما قيل عن توقيت الصلب ويومه، فقد تأرجح ذلك بين يوم الخميس على أحد الأقوال، ويوم الجمعة على أقوال أخرى، وكما اختلفوا في الصلب، فإنهم اختلفوا في الدفن.
2. واختلفت الروايات التي ذكرت عن نهاية يهوذا، وإن كانت قد اتفقت على أنه هلك في أعقاب حادث الصلب، وفي ظروف غامضة تناظر ما قيل عن هلاك بيلاطس الحاكم الروماني. وهذا الأخير ذكرت بعض الروايات أنه مات ميتة القديسين والشهداء، بينما قالت رواية أخرى أنه مات ميتة الشياطين.
3. وفي شتى المناسبات رأينا المسيح يرفض كل محاولة لقتله يقول لليهود: "لماذا تطلبون أن تقتلوني"؟ وعند المحاكمة كان المقبوض عليه يقول لمحاكميه: "إن سألت لا تجيبوني ولا تطلقوني". بل في النزع الأخير نجد ذلك المصلوب يصرخ في يأس وحسرة قائلا: "إلهي إلهي لماذا تركتني"؟!
4. ويكفي أن نورد في موضوع تنبؤات المسيح بنجاته من القتل قوله: "ستطلبونني ولا تجدونني، وحيث أكون أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا".
5. وأما عن تنبؤات المزامير بنجاة المسيح من القتل، فقد ظهرت فيها الحقيقة بأوضح ما تكون مؤكدة جميعها نجاة المسيح؛ لأن "الرب يحفظه ويحييه، يغتبط في الأرض، ولا يسلمه إلى مرام أعدائه". (المزامير 41: 2). وجاء على لسان المسيح أيضا: "لا أموت بل أحيا وأحدث بأعمال الرب. تأديبا أدبني الرب، وإلى الموت لم يسلمني". (المزامير 118: 17، 18)، أما يهوذا الخائن فإنه "سقط في الهوة التي صنع. يرجع تعبه على رأسه، وعلى هامته يهبط ظلمه. أحمد الرب حسب بره، وأرنم لاسم الرب العلي". (المزامير7: 15ـ 17)، وذلك لأن: "معروف هو الرب. قضاء أمضى. الشرير يعلق بعمل يديه". (المزامير 9: 16)، لقد صلب يهوذا، فهكذا تنبأت المزامير.
6. ولقد اختلف المسيحيون الأوائل في صلب المسيح: اختلفوا فيه كحادث فقال بعضهم: ما صلب المسيح، ولكن صلب أحد تلاميذه. كذلك اختلفوا في الصلب كنظرية تتكلم عن الفداء والخلاص، فرفضه الرافضون، وقالوا: إن الإنسان يعتمد على ركيزتين اثنتين هما: إيمان بالإله الواحد خالق الأكوان، وعمل صالح يثبت ذلك الإيمان ويصدقه. وما عدا ذلك فهو ضلال وضياع.
تلك هي خلاصة النتائج التي انتهى إليها بحث قضية الصلب، وهي تبين أن الصلب يمثل بحق ذروة المشاكل والتناقضات التي تحتويها الأناجيل.
إنه مشكلة رئيسة يكمن حلها في عقل القارئ، وضميره، وهو يستطيع حلها بسهولة بشرط ألا يكون من الذين قال عنهم المسيح: تمت فيهم نبوة إشعياء القائلة: "اذهب وقل لهذا الشعب: اسمعوا سمعا ولا تفهموا، وأبصروا إبصارا ولا تعرفوا. غلظ قلب هذا الشعب وثقل أذنيه واطمس عينيه، لئلا يبصر بعينيه ويسمع بأذنيه ويفهم بقلبه، ويرجع فيشفى". (إشعياء 6: 9، 10)[21].
تاسعا. طوائف نصرانية تنكر صلب المسيح:
إذا نظرنا إلى مسألة صلب المسيح وقتله لم نجدها عند المسيحيين مسألة إجماعية، بل وجد من طوائف المسيحيين من ينفي الصلب والقتل، فمن القائلين بذلك: (الساطرسيون - والكاربوكراتيون - والمراكيونيون - والبارديسيانيون - والبارسكاليونيون - والبوليسيون)، هؤلاء مع كثير غيرهم لم يسلموا بوجه من الوجوه بأن المسيح سمر فعلا، ومات على الصليب - وما ذكر هنا مقرر في تاريخهم - موسيهيم - الذي يدرس في مدارس اللاهوت الإنجيلية.
ومن القائلين بأن الشخص المصلوب غير عيسى قطعا، وأنه لم تسلط عليه أيدي مضطهدين، بل رفع إلى السماء طوائف: (الدوسيتية - والمرسيونية - والقلنطنيائية)، ونذكر هنا شهادات من بعض علماء النصرانية تفيد المطلع بصيرة:
1. قال المسيو إرادوارسيوس الشهير بمعارضة المسلمين في كتابه "عقيدة المسلمين في بعض مسائل النصرانية" صفحة 49 - قال: "إن القرآن ينفي قتل عيسى وصلبه، ويقول بأنه ألقي شبهه على غيره فغلط اليهود فيه وظنوا أنهم قتلوه، وما قاله القرآن موجود عند بعض طوائف النصارى، وقد صرح إنجيل القديس برنابا باسم الذي صلب بدل عيسى فذكر أنه يهوذا".
2. ذكر الهرارنست دي بونس الألماني في كتابه "الإسلام أي النصرانية الحق" في صفحة 142: أن جميع ما يختص بمسائل الصلب والفداء هو من مبتكرات ومخترعات بولس، ومن شابهه من الذين لم يروا المسيح من أصول النصرانية الأصلية.
3. قال ملمن في الجزء الأول من كتابه المسمى "تاريخ الديانة النصرانية": "إن تنفيذ الحكم كان في وقت الغلس[22] وإسدال ثوب الظلام، فيستنتج من ذلك إمكان استبدال أحد المجرمين بالمسيح ممن كانوا في سجون القدس منتظرين تنفيذ حكم القتل عليهم، كما اعتقدت بعض الطوائف وصدقهم القرآن"[23].
1.لماني في كتابه
4. ألقى البروفسور فنك مؤسس "ندوة عيسى" الشكوك على قصة صلب المسيح - عليه السلام - إذ كتب: "إن قصة الصلب ليست من الأمور المقطوع بها"، وكتب أيضا: "إن قصة إلقاء القبض على المسيح ومحاكمته وإعدامه هي في معظمها من نسج الخيال"، وكتب: "إن رواية مرقس عن الآلام التي تصل ذروتها بإلقاء القبض على عيسى، ومحاكمته وصلبه هي من نسج خياله القصصي"، وأيضا: "إن قصة الصلب لا تليق أن تحدث للمسيح إطلاقا".
5. وكتب ويلسون: "ليس هنالك من براهين حقيقية وصادقة لقصة اعتقال عيسى وإعدامه"، وكتب أيضا: "تذكر الأسفار الثلاثة الأولى أن عيسى أسس طقس القربان المقدس خلال، أو بعد الوجبة التقليدية لعيد الفصح اليهودي، فلو صح ذلك لكانت كل تفاصيل القصة: الاعتقال والمحاكمة، والصلب من نسج الخيال، إذ لا يعقل أن يقوم اليهود بخرق أكثر أعيادهم قداسة لأجل محاكمة شخص".
6. أما البروفسور بورتون ماك فليس لديه أي شك في أن القصة خرافية؛ حيث كتب: "أما بالنسبة لقصة الصلب والقيامة، فإن مرقس - أول من كتب القصة - أخذ الفكرة الأساسية من أسطورة كريستوس، غير أنه تجرأ بأن تخيل كيف يمكن أن تبدو قصة الصلب والقيامة لو كتبها تاريخا فعليا تمت أحداثه في القدس، وهو ما كانت الأسطورة ترفضه، وهكذا يمكننا أن نفهم قصة مرقس باعتبارها دمجا لأحداث عيسى الحقيقي مع أسطورة كريستوس"، وكتب: "كافة القصص في الأسفار الأخرى تبدأ من مرقس فلا يغير أحد من المؤلفين بعد مرقس أساس القصة"، وكتب أيضا: "ثم بعد ذلك صار المسيحيون يتخيلون قصة مرقس الخيالية كما لو كانت تاريخا واقعا".
7. وكتب البروفسور Geza Vermes ما يلي: "لم يكن النصارى يعتقدون بقصة آلام المسيح ولا بقصة صلبه"، و"إن أحداث محاكمة المسيح من قبل المحكمة اليهودية العليا بتهمة دينية، وصدور الحكم عليه ثم تصديقه من السلطة السياسية، كل هذه الأحداث ليست خارج نطاق الالتباس والريبة".
وفوق كل ذلك نلاحظ أنه لا يوجد في سفر الأقوال، ولا في سفر توما، المكتشف حديثا، أي إشارة لا من قريب ولا من بعيد عن قصة الآلام والصلب، مع أنهما كتبا في وقت مبكر أي حوالي ثلاثين عاما قبل أول ما كتب من الأسفار الأربعة، فلا بد أنهما أقرب إلى الحقيقة فيما يتعلق بحياة عيسى - عليه السلام - من الأسفار القانونية الأربعة.
8. كانت رسالة شيث الكبير الثانية Second Treatise of the Great Seth من جملة المخطوطات التي تم اكتشافها في نجع حمادي بمصر سنة (1945م)، وقد ورد فيها على لسان المسيح ما يلي: "لقد كان شخصا آخر.. الذي شرب المر والخل، لم يكن أنا.. كان شخصا آخر. كان شخصا آخر الذي وضعوا تاج الشوك على رأسه، في حين كنت مبتهجا في الأعالي من فوق.. كان خطؤهم.. وكنت أضحك من جهلهم". (56: 6 - 20).
9. كما ورد أيضا في مخطوطة "رؤيا بطرس Apocalypse of Peter"، المكتشفة أيضا في نجع حمادي ما يلي: "لقد رأيته، كما بدا لي في ظاهره، وهم يقبضون عليه فقلت: ماذا أرى؟ يا إلهي! هل أنت حقا الذي أخذوه؟ وهل يدقون المسامير في قدمي ويدي شخص آخر؟ ومن هو هذا الذي فوق الصليب يضحك مبتهجا؟ قال لي: هذا الذي تراه يضحك مبتهجا فوق الصليب هو المسيح الحي، أما الذي يدق المسامير في يديه ورجليه فهو البديل، لقد ألحقوا العار بشبيهه الذي بقي بين أيديهم فانظر إلي، وانظر إليه!". (رؤيا بطرس 81: 4 - 24)[24].
إن القرآن الكريم حسم التخبط واللغط في موضوع الصلب - صلب المسيح - حين قال سبحانه وتعالى: )وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا (157)( (النساء).
عاشرا. مسألة الصلب بين إقرار بولس ورفض المسيح:
نشر ماكيل هـ. هارت - وهو مؤرخ بحاثة وعالم رياضيات مشهور - كتابا بعنوان "المائة العظام في التاريخ" ووضع لائحة بأسماء هؤلاء المائة العظام، موضحا الأسباب الموجبة لموقع كل واحد منهم في لائحته، ومن المدهش حقا أن يضع محمدا - صلى الله عليه وسلم - على رأس لائحة المائة وذلك لأسباب وجيهة، في حين أنه وضع عيسى المسيح - عليه السلام - الرجل الذي يدعوه المسيحيون "الرب" و "المخلص"، ولأسباب وجيهة أخرى، وضعه في المقام الثالث في القائمة.
مع العلم بأن عدد المسيحيين اليوم يزيد على عدد المسلمين بما يقرب من مائتي مليون، فإن موقع عيسى هو الثالث في اللائحة؛ لأن المؤرخ هارت يقول بأن بولس وعيسى هما مؤسسا المسيحية، ولكنه يعطي الفضل الأكبر إلى بولس، وكل مسيحي يسلم بأن المؤسس الفعلي للمسيحية هو بولس، وليس عيسى عليه السلام.
إن أسباب الخلاف بين المسلم والمسيحي حول العقيدة، والإيمان، والأخلاق، والفضائل تعود إلى أقوال بولس في رسائله، كورنثوس، فيلبي، غلاطية، تسالونيكي وغيرها في الكتاب المقدس.
وعلى العكس مما نصت عليه تعاليم المعلم - عيسى - بأن الخلاص يتم فقط بحفظ الوصايا وتطبيق الناموس: "فإني الحق أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل. فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلم الناس هكذا، يدعى أصغر في ملكوت السماوات. وأما من عمل وعلم، فهذا يدعى عظيما في ملكوت السماوات". (متى 5: 18، 19)، يدق بولس هذا مسماره واضعا الوصايا والناموس على الصليب "كولوسي 1402 مدعيا أن الخلاص هو فقط في موت وقيامة عيسى المسيح: "لأنه يقول: «الرسائل ثقيلة وقوية، وأما حضور الجسد فضعيف، والكلام حقير». لأننا لا نمدد أنفسنا كأننا لسنا نبلغ إليكم. إذ قد وصلنا إليكم أيضا في إنجيل المسيح. غير مفتخرين إلى ما لا يقاس في أتعاب آخرين، بل راجين إذا نما إيمانكم أن نتعظم بينكم حسب قانوننا بزيادة". (رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنثوس 10: 14، 15). يقول القديس بولس: ليس لدى المسيحية ما تقدمه إلى البشرية غير دم المسيح، فإن لم يمت عيسى ولم يقم من الموت، فلا خلاص في المسيحية!
يقول البروفسور جورغين مولتمان في كتابه "الرب المصلوب": "إن موت عيسى على الصليب هو أساس اللاهوت المسيحي.. وترتكز جميع الأقوال المسيحية عن الرب، والخلق، والخطيئة، والموت على مسألة المسيح المصلوب. كما تنبع كل الأقوال المسيحية عن التاريخ والكنيسة، والإيمان، والقدسية، والمستقبل، والأمل، عن قصة المسيح المصلوب".
وبعبارة موجزة: لا اعتقاد بالصلب.. إذن لا مسيحية!!
إن دعاة المسحية يزعمون أن الخلاص يأتي فقط من "دم الرب عيسى"، ويقولون في ذلك: إن كل أعمالكم نجس... فلو قبلتم دم عيسى لغسل الخطايا، ولو قبلتم به على أنه مخلصكم لأصبحتم كملائكة تمشي على الأرض.
ماذا نقول - نحن المسلمين - ردا على هذا الادعاء المسيحي؟ ليس لدينا جواب أفضل من رد الله على التجمع اليهودي[25]: )وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما (156) وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا (157) بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما (158)( (النساء).
لقد تبنى بولس فكرة سفك دم المسيح كفارة من خطايا البشر، وروج لها في رسائله، تلك الرسائل التي لم يكتب أقدمها إلا بعد رفع المسيح بأكثر من 20 عاما، فلقد كان الصلب وسفك الدم هو ما عزم بولس على ألا يعرف من المسيحية شيئا غيره، وهو يقرر ذلك في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس، حيث يقول: " أنتم الذين أمام عيونكم قد رسم يسوع المسيح بينكم مصلوبا". (رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية 3: 1).
ولقد كان ذلك هو ما قبله بولس وإنجيله الذي ذهب يبشر به: "وأما أنتم أيها الإخوة فلستم في ظلمة حتى يدرككم ذلك اليوم كلص. جميعكم أبناء نور وأبناء نهار... وأما نحن الذين من نهار، فلنصح لابسين درع الإيمان والمحبة، وخوذة هي رجاء الخلاص. لأن الله لم يجعلنا للغضب، بل لاقتناء الخلاص بربنا يسوع المسيح، الذي مات لأجلنا، حتى إذا سهرنا أو نمنا نحيا جميعا معه". (رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل تسالونيكي 5: 4 - 10)[26].
"ومن المعلوم أن بولس كان عدو المسيحيين وخصمهم، وأنه لما ادعى الإيمان لم يصدقه جماعة المسيح - عليه السلام - ولولا أن شهد له برنابا لما قبلوه. وبرنابا يقول في أول إنجيله: إن بولس نفسه كان من الذين بشروا بتعليم جديد غير تعليم المسيح"[27].
وإذا كان بولس مجرد مبشر يهودي بالإنجيل اعتنق النصرانية بدون قبول له من النصارى، لعداوته السابقة للنصرانية، وإذا كان بولس قد أخذ عقيدة الصلب والفداء من الوثنيين الهنود وقام بنسبها للمسيح تلفيقا وزورا، على ما يؤكده علماء النصرانية المنصفون؛ فإننا - أولا وأخيرا - لا نريد أن نقف عند مصب النهر، بل أن نقف عند منبعه، إن الأهم من رأي بولس هو رأي المسيح، هل وافق المسيح على الصلب، وهل سلم نفسه لليهود، وهل تخلى الله عنه؟ ما هو تصورنا لما حدث من خلال تعاليم المسيح، وما ورد على لسانه في الكتاب المقدس، إن عقيدة الصلب والفداء تقتضي أن يبذل المسيح نفسه عن رضا، وطيب خاطر فداء للبشرية، كما يفعل المواطنون حينما يبذلون أنفسهم طواعية في الحروب، ويقبلون على الموت فداء لأوطانهم، فهل كان هذا هو موقف المسيح؟
"منذ بدأ المسيح دعوته حتى آخر يوم فيها، نجد الأناجيل تضع لنا، بين الحين والحين علامات على طريق الرسالة المسيحية، تذكرنا دائما باستبعاد فكرة قتل المسيح مهما وضع من أجل تبريرها من نظريات وفلسفات.
فالمسيح صاحب الدعوة الذي يعلم حقيقتها وحدودها، أكثر من بولس وغيره من كتبة الرسائل المسيحية، هو الذي رفض فكرة قتله واستنكرها تماما، ثم هو قد عمل كثيرا لإحباط جميع المحاولات التي رآها تبذل من اليهود لقتله، فلقد حدث أن "ولما كان العيد قد انتصف، صعد يسوع إلى الهيكل، وكان يعلم. فتعجب اليهود قائلين: كيف هذا يعرف الكتب، وهو لم يتعلم؟ أجابهم يسوع وقال: تعليمي ليس لي، بل للذي أرسلني. إن شاء أحد أن يعمل مشيئته يعرف التعليم، هل هو من الله، أم أتكلم أنا من نفسي. من يتكلم من نفسه يطلب مجد نفسه، وأما من يطلب مجد الذي أرسله فهو صادق وليس فيه ظلم. أليس موسى قد أعطاكم الناموس؟ وليس أحد منكم يعمل الناموس! لماذا تطلبون أن تقتلوني"؟ (يوحنا 7: 14 - 19). "أنا عالم أنكم ذرية إبراهيم. لكنكم تطلبون أن تقتلوني؛ لأن كلامي لا موضع له فيكم. أنا أتكلم بما رأيت عند أبي، وأنتم تعملون ما رأيتم عند أبيكم». أجابوا وقالوا له:«أبونا هو إبراهيم». قال لهم يسوع:«لو كنتم أولاد إبراهيم، لكنتم تعملون أعمال إبراهيم! ولكنكم الآن تطلبون أن تقتلوني، وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله. هذا لم يعمله إبراهيم". (يوحنا 8: 37 - 40).
ولما كان المسيح يخشى على حياته من القتل، فإنه اتخذ من الاحتياطات ما يجنبه الوقوع في براثن أعدائه من اليهود؛ فقد " وجاء إلى الناصرة حيث كان قد تربى. ودخل المجمع حسب عادته يوم السبت وقام ليقرأ، فدفع إليه سفر إشعياء النبي.. وجميع الذين في المجمع كانت عيونهم شاخصة إليه.. فامتلأ غضبا جميع الذين في المجمع حين سمعوا هذا، فقاموا وأخرجوه خارج المدينة، وجاءوا به إلى حافة الجبل الذي كانت مدينتهم مبنية عليه حتى يطرحوه إلى أسفل. أما هو فجاز في وسطهم ومضى. (لوقا 4: 16 - 30).
"فلما خرج الفريسيون تشاوروا عليه لكي يهلكوه. فعلم يسوع وانصرف من هناك". (متى 12: 14، 15). "فرفعوا حجارة ليرجموه أما يسوع فاختفى وخرج من الهيكل مجتازا في وسطهم ومضى هكذا". (يوحنا 8: 59). "وكان يسوع يتردد بعد هذا في الجليل؛ لأنه لم يرد أن يتردد في اليهودية؛ لأن اليهود كانوا يطلبون أن يقتلوه". (يوحنا 8: 1). "فمن ذلك اليوم تشاوروا ليقتلوه، فلم يكن يسوع أيضا يمشي بين اليهود علانية، بل مضى من هناك إلى الكورة القريبة من البرية إلى مدينة يقال لها أفرايم، ومكث هناك مع تلاميذه". (يوحنا 11: 53، 54).
وفي الساعات العصيبة، أو الساعات الأخيرة للمسيح بين الناس نجده يصرخ بكل قوته طالبا النجاة، فما كانت فكرة سفك دمه فدية عن خطايا الكثيرين - إلا سرابا علق برسالته فيما بعد. إن الذين يرفضون هذا القول، إنما يلحقون بالمسيح - عليه السلام - صفات يبرئه منها كل مؤمن وعاقل. إن الأناجيل ترينا - وخاصة في الساعات الأخيرة - مواقف حاكمة، ترفض كلها فكرة قتل المسيح، وتقطع كل صلة بينها وبين رسالته - ومن هذه المواقف ما يلي:
1. في نهاية الفترة التي سبقت عملية القبض مباشرة، كان آخر ما نطق به المسيح في صلاته، هو شهادة أن لا إله إلا الله، وأنه المسيح رسول الله، فقال: "وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته". ثم أعقب المسيح ذلك مباشرة بتقرير واضح - لا لبس فيه ولا إبهام - بين فيه أن الرسالة التي بعثه الله بها قد اكتملت؛ فقال: "أنا مجدتك على الأرض، العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته". (يوحنا 17: 3، 4). لقد اكتملت رسالة المسيح تماما قبل حادث الصلب، فمن الذي يفتي بما يخالف شهادة المسيح؟!
2. وينطق كل مشهد من مشاهد المعاناة في النصوص الحديثة برفض المسيح فكرة قتله: "ثم أخذ معه بطرس ويعقوب ويوحنا، وابتدأ يدهش ويكتئب. فقال لهم: «نفسي حزينة جدا حتى الموت! امكثوا هنا واسهروا». ثم تقدم قليلا وخر على الأرض، وكان يصلي لكي تعبر عنه الساعة إن أمكن. وقال:«يا أبا الآب، كل شيء مستطاع لك، فأجز عني هذه الكأس. ولكن ليكن لا ما أريد أنا، بل ما تريد أنت». ثم جاء ووجدهم نياما، فقال لبطرس:«يا سمعان، أنت نائم! أما قدرت أن تسهر ساعة واحدة؟ اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة. أما الروح فنشيط، وأما الجسد فضعيف». ومضى أيضا وصلى قائلا ذلك الكلام بعينه. ثم رجع ووجدهم أيضا نياما، إذ كانت أعينهم ثقيلة، فلم يعلموا بماذا يجيبونه. ثم جاء ثالثة وقال لهم:«ناموا الآن واستريحوا! يكفي! قد أتت الساعة! هوذا ابن الإنسان يسلم إلى أيدي الخطاة. قوموا لنذهب! هوذا الذي يسلمني قد اقترب". (مرقس 14: 33 - 42).
3. وحين شعر المسيح بالخطر يقترب منه وقوة الظلم تتقدم للقبض عليه، كانت صيحته لتلاميذه: "قوموا ننطلق؛ هوذا الذي يسلمني قد اقترب". (متى 26: 46). لقد كان يطلب بإلحاح إلى تلاميذه أن ينهضوا لمعونته في الانطلاق بعيدا عن المحنة الوشيكة، إلا أنهم كانوا "نياما إذ كانت أعينهم ثقيلة فلم يعلموا بماذا يجيبونه" وتركوه وحيدا يعاني آلامه.
4. وحين جاءت قوة الظلم وتقدم يهوذا ليدلهم على سيده: "قال له يسوع: يا صاحب، لماذا جئت". (متى 26: 50).
5. وفي المحاكمة: "ولما كان النهار اجتمعت مشيخة الشعب: رؤساء الكهنة والكتبة، وأصعدوه إلى مجمعهم قائلين: إن كنت أنت المسيح، فقل لنا! فقال لهم: إن قلت لكم لا تصدقون، وإن سألت لا تجيبونني ولا تطلقونني". (لوقا 22: 66 - 68).
وهنا نجد أن المسئول لو جاوبهم، فلن تخرج الإجابة عن أحد قولين، لا ثالث لهما:
· نعم، أنا المسيح.
· لا، لست أنا المسيح.
ومن الواضح أن كل من يؤمن بروايات الأناجيل عن أحداث الصلب، سوف يرفض حتما الإجابة الثانية، وبذلك تبقى الإجابة الأولى، والتي يمكن أن توضع في الصيغة الآتية: "فقال لهم: نعم، أنا المسيح، لكنكم لا تصدقون وإن سألت لا تجيبونني، ولا تطلقونني"، وسواء وضعت الإجابة الأولى في الصيغة المقترحة، أم لم توضع، فالنتيجة التي لا مفر من قبولها تقول: بفرض أن الذي يستجوبه الكهنوت اليهودي هو المسيح، فمن الواضح أنه كان يطلب إطلاق سراحه. وبذلك لا يوجد محل لأي قول يقول: إنه جاء ليبذل نفسه فدية عن كثيرين.
ومن الواضح أيضا أنه باستخدام القول الثاني، فإن إجابة المقبوض عليه يمكن أن تأخذ الصيغة التالية: "فقال لهم: لا، لست أنا المسيح الذي تطلبونه، لكنكم لا تصدقون. وإن سألت النجاة لا تجيبونني ولا تطلقونني". وسواء كان هذا أو ذاك، فإن ما جاء في هذه المحاكمة يلغي كل ما يقال عن نظرية قتل المسيح.
6. ونصل الآن إلى الشهادة الأخيرة، التي تنسبها الأناجيل للمصلوب في الرمق الأخير، ألا وهي: صرخة اليأس على الصليب. من يسمع قول مصلوب يصرخ إلى ربه "بصوت عظيم قائلا: إلوي إلوي، لما شبقتني؟ الذي تفسيره: إلهي إلهي لماذا تركتني"؟ (مرقس 15: 34)، من يسمع هذا ثم يقول إن المسيح "بذل نفسه لأجل خطايانا؛ لينقذنا من العالم الحاضر الشرير". (رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية 1: 4)، وإنه "بذل نفسه فدية لأجل الجميع". (رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل تيموثاوس2: 6)، أو إنه "إذ وجد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب". (رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي 2: 8)، أو إنه "بعدما قدم عن الخطايا ذبيحة واحدة، جلس إلى الأبد عن يمين الله، منتظرا بعد ذلك حتى توضع أعداؤه موطئا لقدميه". (الرسالة إلى العبرانيين10: 12، 13)؟!
منذ ما يقرب من 2000عام وقف المسيح يعلم الكهنوت اليهودي مشيئة الله، فقال لهم: "لو علمتم ما هو؛ إني أريد رحمة لا ذبيحة". (متى 12: 7)، وحتى اليوم لا يزال الكثيرون مصرين على تجاهل مشيئة الله، فيرفضون الرحمة، ويقبلون الذبيحة [28]!
إننا نظلم عيسى ونغمطه حقه إذا قلنا: إنه كان يبكي كامرأة لينقذ جسده من الآلام الجسمية، سوف يحملون منطقا زائفا لو أنهم نجحوا في قتل أي واحد على أنه المسيح، سوف يتأكدون حينئذ أنه دعا؛ لأن الله العلي القدير لم يكن ليسمح أبدا بقتل المسيح الحق، ومن هنا كان الرفض الدائم لليهود لعيسى ابن مريم - عليه السلام - على أنه المسيح الذي وعدوا به "الرفض الأبدي"[29].
حادي عشر. نهاية يهوذا خير شاهد على صدق القرآن وتحريف الإنجيل:
اتفقت النصارى على القول بأن يهوذا الإسخريوطي هو الذي دل على يسوع المسيح، وكان يهوذا هذا رجلا عاميا من بلدة تسمى "خريوت"، تبع المسيح وصار من خواص أتباعه الذين يلقبونهم بالتلاميذ الاثني عشر، الذين بشرهم بأنهم يكونون معه في الملكوت على اثني عشر كرسيا، ويدينون بني إسرائيل، أي: يحاسبونهم يوم الدين، ومن الغريب أن يهوذا كان يشبه المسيح في خلقه، كما نقل "جورج سايل" الإنكليزي في ترجمته للقرآن المجيد، في تعليقه على سورة آل عمران، وعزا هذا القول إلى "السيرنثيين والكربوكراتيين" من أقدم فرق النصارى الذين أنكروا صلب المسيح، وصرحوا بأن الذي صلب هو يهوذا الذي كان يشبهه شبها تاما.
وقالوا: "حينئذ لما رأى يهوذا الذي أسلمه أنه قد دين، ندم ورد الثلاثين من الفضة إلى رؤساء الكهنة والشيوخ قائلا: قد أخطأت إذ سلمت دما بريئا». فقالوا:«ماذا علينا؟ أنت أبصر!» فطرح الفضة في الهيكل وانصرف، ثم مضى وخنق نفسه". (متى 27: 3 - 5)، وغرضنا من هذا الخبر بيان أنهم معترفون بأن يهوذا فقد بعد حادثة الصلب، ولم يظهر في الوجود، وأنهم يدعون أن سبب هذا هو قتل نفسه من الحزن والأسف. ونحن نرى أنه إنما فقد؛ لأنه هو الذي صلب، والمسيح هو الذي نجاه الله - عز وجل - ورفعه، فإن الذي يحمله حزنه وألم نفسه على أن يبخع نفسه بيده خنقا أو شنقا لا يستبعد منه أن يسلبها بالاستسلام إلى من يتولى ذلك عنه فإنه أهون عليه، فمن المعقول أن يكون يهوذا عندما دل اليهود على المسيح في الليل رأى بعينيه عناية الله - عز وجل - بإنجائه وإنقاذه من بين أيديهم "كما أنجى أخاه محمدا - عليهما الصلاة والسلام - من أيدي كفار قريش، وكانوا أشد معرفة له من معرفة اليهود للمسيح - لأنهم لم يكونوا يحتاجون إلى بذل المال لمن يدلهم عليه، كما بذلت اليهود ثلاثين قطعة من الفضة ليهوذا - فخرج ليلة الهجرة من بين الذين كانوا ينتظرونه عند داره ليقتلوه ولم يبصروه"، فلما رأى يهوذا ذلك وعلم درجة عناية اللهـ عز وجل - بعبده ورسوله عظم ذنبه في نفسه، واستسلم للموت ليكفر الله عنه ذنبه كما كفر ذنب الذين اتخذوا العجل من بني إسرائيل بقتل أنفسهم فأخذوه وصلبوه من غير مقاومة تذكر، فرواية الإنجيل وسفر الأعمال عن وجدانه مخنوقا أو مشنوقا غير مسلمة، وقد تعارض القولان فتساقطا، ووجب اعتماد قول برنابا الذي أخذ به بعض قدماء النصارى.
وإذا كان إيمان يهوذا قويا إلى هذه الدرجة درجة الانتحار والبخع من ألم الذنب فليت شعري، لماذا لا تقبل توبته ولا ينفعه إيمانه حتى ادعوا أنه مات كافرا، وأن كرسيه في الملكوت سيبقى خاليا، وبشارة المسيح لا تكون صادقة؟ ولماذا تقبل توبة بطرس الذي أنكر المسيح ولعنه المسيح في حياته وسماه شيطانا، على أن توبته دون توبة يهوذا، وما كان يهوذا إلا متمما لذريعة الفداء التي هي أساس الدين عندهم".
"إن ما اتفق عليه متى ولوقا - وصمت عنه مرقس ويوحنا - هو أن يهوذا الخائن قد هلك في ظروف مريبة، لكن روايتهما اختلفت في ثلاثة عناصر:
الأول: كيفية موته، وفيها يروي متى أن يهوذا قد انتحر بخنق نفسه، بينما يروي لوقا أنه مات ميتة دموية، انشق فيها وسطه وانسكبت جميع أحشائه.
الثاني: يتعلق بمشتري الحقل، فيروي متى أن رؤساء الكهنة هم الذين اشتروه، بينما يروي لوقا أن يهوذا كان هو الشاري.
الثالث: كذلك اختلفت روايتا متى ولوقا في سبب تسمية الحقل باسم: حقل دم، فرواية متى ترجع ذلك لكونه قد اشترى بنقود كانت ثمنا بيع به دم بريء، بينما يرد لوقا تلك التسمية إلى الميتة الدموية التي ماتها يهوذا.
إن ما يذكره متى ولوقا عن هلاك يهوذا لا يعني إلا شيئا واحدا هو: أن يهوذا قد اختفى في فترة الاضطراب التي غشيت أحداث الصلب وملابساته. وإذا كان هناك من يعطي أيا من هاتين الروايتين قدرا من الثقة، فإن ذلك القدر يمكن تقييمه بمقارنتهما بما ترويه المصادر المسيحية القديمة عن هلاك بيلاطس.
عجبا، وأي عجب... لقد جعلت القصة الأولى من بيلاطس شهيدا، تتسلم رأسه ملائكة السماء؟! في حين جعلت منه القصة الثانية شيطانا، ترتع في جسده الشياطين؟! على أن ما يعنينا هو التشابه الملحوظ بين نهايتي كل من يهوذا وبيلاطس، فقد وجدت روايات تقول أن كلا منهما أهلك نفسه انتحارا، بينما وجدت روايات أخرى تقول بعكس ذلك. فأيهما نرفض، وأيهما نصدق؟!!
إن ذلك يعني شيئا جوهريا لا مناص من الأخذ به في كل ما يتعلق بالعقائد، والروايات الدينية، ألا وهو أن تخضع جميعها للبحث والتمحيص على ضوء ما ميز به الله الإنسان من عقل وفكر، وعندئذ يستطيع الإنسان أن يميز الخبيث من الطيب، والحق من الضلال، أما أن يدعي الناس إلى إبطال عقولهم، والتسليم بكل ما يقال عنه أنه كتاب مقدس، باعتبار "أن كل الكتاب هو موحى به من الله"، فتلك مغامرة لها باب واسع يستطيع التوصيل بسرعة إلى الهلاك الأبدي[30].
إن ما يحكيه متى عن نهاية يهوذا يتعارض كما بينا مع ما يحكيه لوقا، والقاعدة الأصولية في المتعارضين إذا لم يمكن الجمع بينهما ولا ترجيح أحدهما على الآخر أن يقال: "تعادلا فتساقطا"، وبهذه القاعدة التي لا مندوحة عن القول بها في هذه القصة وغيرها من التعارض في هذه الأناجيل اتقاء الوقوع في الترجيح بغير مرجح.
إذن فرواية متى عن نهاية يهوذا ساقطة وكذلك رواية لوقا، فإذا أضفنا إليها إنجيل مرقس ويوحنا، صار عندنا أربعة أناجيل لا يوجد بها رواية صريحة وصحيحة لنهاية يهوذا، وإننا - بناء على ما سبق - لا يسعنا إلا أن نتوجه إليهم بالسؤال قائلين: كيف كانت نهاية يهوذا عندكم يا كتاب الأناجيل ويا أصحاب المعرفة والعلم؟!
إن الإجابة المتوقعة هي: ليس في الإمكان أفضل مما كان، وما كان - للأسف الشديد - من رواية متى ولوقا ساقط، لا يعتد به!
وإذا سألنا: لماذا لا يقبل النصارى إلقاء شبه المسيح على يهوذا، أو غيره وصلبه بدلا من المسيح؟ وهل هذا الأمر صعب الحدوث على أرض الواقع؟
يجيب عن هذا السؤال د. عبد الوهاب النجار فيقول: مما يسهل إلقاء شبه المسيح - عليه السلام - على غيره هذه الحادثة التي ذكرها متى في إنجيله، ونصها: "وبعد ستة أيام أخذ يسوع بطرس ويعقوب ويوحنا أخاه وصعد بهم إلى جبل عال منفردين. وتغيرت هيئته قدامهم، وأضاء وجهه كالشمس، وصارت ثيابه بيضاء كالنور. وإذا موسى وإيليا قد ظهرا لهم يتكلمان معه. فجعل بطرس يقول ليسوع: «يا رب، جيد أن نكون ههنا! فإن شئت نصنع هنا ثلاث مظال: لك واحدة، ولموسى واحدة، ولإيليا واحدة». وفيما هو يتكلم إذا سحابة نيرة ظللتهم، وصوت من السحابة قائلا:«هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت. له اسمعوا». ولما سمع التلاميذ سقطوا على وجوههم وخافوا جدا. فجاء يسوع ولمسهم وقال: «قوموا، ولا تخافوا». فرفعوا أعينهم ولم يروا أحدا إلا يسوع وحده". (متى 17: 1ـ 8).
وقد ذكر هذه الحادثة أو المعجزة كل من مرقس ولوقا، وأغفلها يوحنا، ومن العجيب أنه كان أحد شهودها، ومع ما بينهم من التناقض في عدد الأيام فقد اتفقوا على حصولها في الجملة.
إن هذا التغيير الذي يقرون به في هيئة المسيح - في وجهه وثيابه - يفسر لنا بأجلى بيان إلقاء شبهه على غيره وتغير هيئته، حتى إن الذين أتوا للقبض عليه أخذوا من ألقى عليه شبه المسيح فوقع في الورطة ونجا عيسى عليه السلام[31].
ثاني عشر. كلام الإمام الرازي مقطوع من سياقه:
وأما كلام الإمام الرازي المستدل به فكلام مقطوع من السياق، إيهاما للمسلمين بأن أحد علماء المسلمين ينكر أن عيسى - عليه السلام - شبه لهم، ولو رجعنا إلى مصدر كلامه لعلمت تدليس هؤلاء المدلسين.
والذي ذكره الإمام الرازي هو سؤال - أي: اعتراض - نقله عن أصحابه نقلا أمينا بكامل أدلته كعادة علمائنا في المنهجية والأمانة العلمية، ثم أعقب هذا السؤال بعدة أجوبة عليه من علماء الأمة، ولما وجد أن هذه الأجوبة لا تسلم من الاعتراض ولم ترق إلى الأجوبة العقلية المقنعة - من وجهة نظره - فوض حقيقة الأمر إلى علم الله - عز وجل - فقال: "وهذه الوجوه متعارضة متدافعة، والله أعلم بحقائق الأمور"[32].
الخلاصة:
لقد نص القرآن الكريم صراحة على أن سيدنا عيسى - عليه السلام - لم يصلب، ولم يقتل بل رفعه الله - عز وجل - إليه مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: )وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم(، )وما قتلوه يقينا (157) بل رفعه الله إليه( وقد اتفقت جماهير وعلماء الإسلام قديما وحديثا على نجاة المسيح - عليه السلام - من كيد أعدائه، ومحاولتهم قتله وصلبه، انطلاقا من التأكيدات القرآنية القاطعة. والصواب في رأي أكثر المفسرين أنه رفع حيا بروحه وجسده، وحجتهم في ذلك:
· القول بصلب المسيح - عليه السلام - ينفي ألوهيته عند النصارى، والقول بألوهيته ينفي صلبه.
· ما ورد على لسان المسيح - عليه السلام - في الأناجيل يؤكد أنه لم يصلب.
· هناك العديد من الطوائف والمصادر النصرانية تؤكد نجاة المسيح - عليه السلام - وعدم صلبه.
· ولا تعارض بين آية نفي الصلب، والقتل، وآيات الوفاة والرفع، إنما هي أفهام حظها من التدبر قليل.
· ولقد شبه لهم فقتلوه أو صلبوه، ولا يتنافى هذا مع عدل الله ولا يحصل بإلقاء الشبه على آخر أي اختلال في الموازين.
وأما ما نسب زورا إلى الإمام الرازي فهو تدليس وقطع للكلام من سياقه، لإيهام المسلمين أن بعض علمائهم ينكرون أن عيسى شبه لهم، ولو رجعنا إلى المصدر، لعلمنا كذب ادعاء هؤلاء.
(*) برنامج "أسئلة عن الإيمان"، قناة الحياة، زكريا بطرس. هذا هو الحق، رد على مفتريات كاهن الكنيسة، ابن الخطيب، المطبعة المصرية، مصر، 1399هـ/ 1977م.
[1]. عقيدة الصلب والفداء: هي عقيدة عند النصارى في عيسى ـ عليه السلام ـ أنه صلب وتحمل الآلام؛ ليفدي البشرية من خطيئة آدم ـ عليه السلام ـ والتي لم تكن لتكفر في نظرهم إلا بصلبه، وإن المرء ليعجب من الاختلاف الكبير من قبل الأناجيل في إيراد هذه القصة، ولو صح أن هذا أساس وأن المسيح أنبأ له، لكان اهتمامهم بتدونه متساويا أو متقاربا.
[2]. القرآن ونقض مطاعن الرهبان، د. صلاح عبد الفتاح الخالدي، دار القلم، دمشق، ط1، 1428هـ/ 2007م، ص184: 186 بتصرف.
[3]. أخرجه الطبري في تفسيره (9/ 377) برقم (10790).
[4]. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار الفكر، بيروت، د. ت، ج6، ص18: 21 بتصرف.
[5]. الفريسيون: إحدى الفرق اليهودية، ومعناها: المنعزلون أو المنشقون، وهم يشبهون فريق المعتزلة عند المسلمين، وقد أطلق عليهم هذه التسمية أعداؤهم، ولذلك فهم يكرهونها، ويسمون أنفسهم "الأحبار"، وهذه الطائفة تعتقد أن التوراة بأسفارها الخمسة خلقت منذ الأزل، وهم يعتقدون في البعث، وقيامة الأموات، والملائكة، والعالم الآخر، كما يرون أن التوراة ليس هي كل الكتب المقدسة التي يعتمد عليها، وإنما هناك بجانب التوارة روايات شفوية ومجموعة من القواعد والوصايا والشروح والتفاسير التي تعتبر توراة شفوية، وقد تناقلها الحاخامات من جيل إلى جيل، وربما دونوها أحيانا؛ خوفا عليها من الضياع، وتلك الروايات الشفوية هي التي دونت فيما يسمى بـ "التلمود".
[6]. قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط1، 1985م، ص504: 514 بتصرف.
[7]. الأدلة الكتابية على فساد النصرانية، د. أحمد حجازي السقا، دار الفضيلة، القاهرة، د. ت، ص234.
[8]. أضواء على المسيحية: دراسة تحليلية للكتاب المقدس، أحمد ديدات، ترجمة: د. عادل جلول، دار القارئ، بيروت، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص208.
[9]. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار الفكر، بيروت، د. ت، ج6، ص35 بتصرف.
[10]. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار الفكر، بيروت، د. ت، ج6، ص26: 28.
[11]. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار الفكر، بيروت، د. ت، ج6، ص37، 38.
[12]. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار الفكر، بيروت، د. ت، ج6، ص38: 40 بتصرف.
[13]. قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط1، 1985م، ص479: 481.
[14]. مدرسة الأنبياء: عبر وأضواء، محمد بسام الزين، دار الفكر، بيروت، ط2، 1419هـ/ 1999م، ص329.
[15]. قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط1، 1985م، ص516: 526 بتصرف.
[16]. المسيح في مصادر العقائد المسيحية، أحمد عبد الوهاب، مكتبة وهبة ،القاهرة،ط2 ،1988م، ص207: 209.
[17]. أضواء على المسيحية: دراسة تحليلية للكتاب المقدس، أحمد ديدات، ترجمة: د. عادل جلول، دار القارئ، بيروت، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص168، 169 بتصرف.
[18]. أضواء على المسيحية: دراسة تحليلية للكتاب المقدس، أحمد ديدات، ترجمة: د. عادل جلول، دار القارئ، بيروت، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص174، 175 بتصرف.
[19]. أضواء على المسيحية: دراسة تحليلية للكتاب المقدس، أحمد ديدات، ترجمة: د. عادل جلول، دار القارئ، بيروت، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص171، 172.
[20]. العشاء الأخير: يطلق عليه أيضا "التناول"، ويرمز إليه أيضا بـ "العشاء الرباني"، وهو عشاء عيسى ـ عليه السلام ـ مع تلاميذه؛ إذ اقتسم معهم الخبز والنبيذ، والخبز يرمز إلى جسد المسيح ـ عليه السلام ـ الذي كسر لنجاة البشرية. أما الخمر فيرمز إلى دمه الذي سفك لهذا الغرض، ويستعمل في هذا العشاء قليل من الخبز وقليل من الخمر لذكرى ما فعل المسيح ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليلة موته على حد تعبير النصارى، وكذلك ليكون هذا طعاما روحيا للمسيحيين، فمن أكل هذا الخبز وشرب هذا الخمر استحال الخبز إلى لحم المسيح والخمر إلى دمه، فيحصل امتزاج بين الآكل وبين المسيح وتعاليمه.
[21]. المسيح في مصادر العقائد المسيحية، أحمد عبد الوهاب، مكتبة وهبة ،القاهرة،ط2 ،1988م، ص280: 283 بتصرف.
[22]. وقت الغلس: ظلمة آخر الليل إذا اختلط بضوء الصباح.
[23]. قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط1، 1985م، ص530، 531.
[24]. المسيحية والإسلام والاستشراق، محمد فاروق الزين، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط3، 1424هـ/ 2003م، ص221: 223.
[25]. أضواء على المسيحية: دراسة تحليلية للكتاب المقدس، أحمد ديدات، ترجمة: د. عادل جلول، دار القارئ، بيروت، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص181: 183.
[26]. المسيح في مصادر العقائد المسيحية، أحمد عبد الوهاب، مكتبة وهبة ،القاهرة،ط2 ،1988م، ص191، 192.
[27]. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار الفكر، بيروت، د. ت، ج6، ص37.
[28]. المسيح في مصادر العقائد المسيحية، أحمد عبد الوهاب، مكتبة وهبة ،القاهرة،ط2 ،1988م، ص202: 206.
[29]. أضواء على المسيحية: دراسة تحليلية للكتاب المقدس، أحمد ديدات، ترجمة: د. عادل جلول، دار القارئ، بيروت، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص171.
[30]. المسيح في مصادر العقائد المسيحية، أحمد عبد الوهاب، مكتبة وهبة ،القاهرة،ط2 ،1988م، ص183: 188.
[31]. قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط1، 1985م، ص507، 508.
[32]. مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، دار الفكر، بيروت، 1993م، عند تفسير قوله تعالى: ) وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم (.
wives that cheat
link read here