ادعاء خطأ القرآن في عدم ذكر سبب انتباذ مريم العذراء (*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن القرآن أخطأ؛ لأنه لم يذكر السبب في انتباذ مريم مكانا شرقيا، واتخاذها حجابا من دون أهلها. ويتساءلون: هل تشاجرت مريم مع أهلها، وهم المشهورون بالتقوى؟ كما أن القرآن يقول: إنها كانت في المحراب في كفالة زكريا في حين يقول الإنجيل: إن مريم كانت في الناصرة.
وجها إبطال الشبهة:
1) هذه الدعوى لا أساس لها من الصحة؛ لأن المتأمل في القرآن الكريم، يجد أن هذه القصة سيقت لبيان سبب انتباذ مريم عليها السلام.
وكان هذا الانتباذ مرتين:
· الأولى: مكانا شرقيا للعبادة والتنسك.
· الثانية: مكانا قصيا أي بعيدا، وذلك بعدما أحست بحملها خوفا من رميها بالمنكر، أو أن تمس بسوء.
2) قول الأناجيل: إن مريم كانت في الناصرة - إن صح ذلك - فقد يكون في بعض تنقلاتها، فقد ذكروا أيضا أنها جاءت إلى مصر.
التفصيل:
أولا. كيف يدعي هؤلاء أن القرآن لم يذكر سبب انتباذ مريم عليها السلام، والقصة كلها مسوقة من أجل هذا الغرض:
إن هذا يدل على أن القوم حينما قرءوا القصة في القرآن لم يعقلوا منها شيئا؛ حيث إنهم لم يفهموا الغرض الواضح الذي من أجله سيقت القصة.
لقد انتبذت مريم من أهلها مرتين:
الأولى: انتبذت مكانا شرقيا للعبادة والتنسك.
الثانية: انتبذت مكانا قصيا بعيدا، وذلك بعدما أحست بحملها؛ خوفا من رميها بالمنكر، أو أن تـمس بسوء.
والمقصود بالانتباذ هنا التنحي والتباعد، وانتبذت: أي تنحت وتباعدت، والانتباذ هو الاعتزال والانفراد[1].
أما عن المرة الأولى وهي الواردة في بداية القصة في سورة مريم: )واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا (16) فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا (17)( (مريم). والسبب في هذا الانتباذ إذا لم يكن مفهوما هنا، هو عبادة الله والخلوة بمناجاته، فإنه قد ذكر صراحة في: )إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم (35)( (آل عمران).
وبذلك يتبين لنا أن مريم - عليها السلام - كانت وقفا على سدانة المعبد وخدمته والعبادة فيه، فتنحت عن الناس لذلك ودخلت المسجد إلى جانب المحراب من جهته الشرقية لتخلو للعبادة فيه، فدخل عليها جبريل - عليه السلام - فقوله: "مكانا شرقيا" أي: مكانا من جانب الشرق، والشرق بسكون الراء: المكان الذي تشرق فيه الشمس، والشرق بفتح الراء: الشمس، وإنما خص المكان بالشرق؛ لأنهم كانوا يعظمون جهة المشرق من حيث تطلع الأنوار، وكانت الجهات الشرقية من كل شيء أفضل من سواها[2].
إذن لم يكن اعتزال السيدة مريم بسبب مشاجرة مع أهلها، كما يفترض هؤلاء هذا الافتراض السخيف الذي لا يخطر ببال عاقل يتابع ويفهم ما جاء في القرآن الكريم عن مريم - عليها السلام - ونشأتها وأبويها، وقد تعودنا ونحن نقرأ قصص القرآن أن نلاحظ أن كثيرا من التفاصيل تطوى ولا تذكر، خاصة إذا كانت تفهم من سياق القصة ولا حاجة لذكرها ولا جدوى منه.
والذي يفهم من حال مريم أنها اتخذت مكانا شرقي بيت المقدس بمعزل عن الناس؛ إمعانا في عبادة الله والأنس به وحده، وحتى لا يشغلها شاغل من البشر عن عبادة ربها[3].
وليس بلازم أن يكون المكان الذي "انتبذته" مكانا بعيدا جدا يخشى عليها فيه الخطر بسبب بعده، ولكنه يكفي لأن يكون بعيدا عن الاختلاط بالناس.
جاء في رسالة يعقوب: أن مريم وهي في سن الثالثة ذهبت بها أمها بصحبة أبيها إلى أورشليم، وسلماها إلى كهنة هيكل سليمان، وكانت علامات السرور تبدو عليها، ثم تركاها ورجعا إلى أورشليم، وعاشت مع الراهبات المنذورات إلى أن حبلت.
وإن نظرنا في خريطة فلسطين، نجد حبرون أسفل أورشليم، وقريبة منها، ونجد الناصرة على الخط نفسه وبعيدة عن أورشليم؛ فتكون أورشليم غرب الناصرة، وشرق حبرون.
أما المرة الثانية التي ذكرها القرآن بشأن انتباذ مريم فكانت بعدما أحست بحملها فخافت أن يرميها قومها بالمنكر: )فحملته فانتبذت به مكانا قصيا (22) فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا (23)( (مريم).
إذن كان خروج مريم - عليها السلام - في هذه المرة خوفا من القيل والقال، وحتى لا تمس بسوء، وقيل: "انتبذت مكانا قصيا" أي: اعتزلت بحملها وتنحت به عن الناس مكانا نائيا.[4]وقيل في "زوائد الزهد" عن نوفل: إن جبريل نفخ في جيبها فحملت حتى أثقلت وآلمها ما يؤلم النساء، وكانت في بيت نبوة فاستحيت وهربت؛ حياء من قومها، فأخذت نحو المشرق.[5] [6] وكان من فيض كرم الله عليها أنه هيأ لها الطعام والشراب والمأوى.
ولما حملت مريم - عليها السلام - ضاقت بحملها ذرعا، وعلمت أن كثيرا من الناس سيتكلمون في حقها، وهذا ما حدث، حيث تعجب "يوسف بن يعقوب النجار" وكان ابن خالها، فجعل يتعجب من ذلك عجبا شديدا؛ وذلك لما يعلم من ديانتها، ونزاهتها وعبادتها.
بل وصل الأمر إلى أكبر من ذلك حيث اتهمها بعض الزنادقة بيوسف الذي كان يتعبد معها في المسجد، وتوارت عنهم مريم، واعتزلتهم، وانتبذت مكانا قصيا، وألجأها المخاض واضطرها إلى جذع النخلة الذي كان يابسا، ولكن الله ـ سبحانه وتعالى ـ لبى حاجتها إلى الطعام والشــراب، حيـث قـال سبحانـه وتعالـى: )وهـزي إليك بجــذع النخلة تساقـط عليـك رطبـا جنيــا (25)( (مريم)، وقوله سبحانه وتعالى: )فكلي واشربي وقري عينا( (مريم: ٢٦)[7].
ثانيا. إن صح قول الأناجيل بأن مريم كانت في الناصرة، فإنما كان ذلك في بعض تنقلاتها:
لما كبرت السيدة مريم - عليها السلام - تفرغت للعبادة، وأوغلت فيها باعتزالها، فكانت البشرى بعيسى في قمة عبادتها لربها وأنسها به، وأما قول الإنجيل: إن مريم كانت في الناصرة، فعلى فرض صحته فإن ذلك يكون في بعض تنقلاتها، فقد ذكروا أيضا أنها جاءت إلى مصر.
وقد تبين أن الناصرة من نصيب سبط زبولون - وهو من أسباط السامريين - وهي من سبط يهوذا - على حد زعمهم - فكيف تكون من سكان الناصرة؟! وإذا كانت من سكان الناصرة، فلماذا أتت إلى أورشليم لتعد مع سكانها، وسكان أورشليم من سبطي يهوذا وبنيامين؟ فالحق ما قاله القرآن إنها كانت هارونية، ومعلوم أن زكريا وامرأته، ويوحنا المعمدان كانوا من التابعين لأهل أورشليم[8].
الخلاصة:
· لم يكن اعتزال السيدة مريم - عليها السلام - بسبب مشاجرة مع أهلها كما يفترض بعض المتوهمين، بل كان اعتزالا للناس، وخلوة لعبادة الله، كما أن هناك كثيرا من التفاصيل لا تذكر في القرآن؛ لأنها تفهم من سياق الكلام، ولا حاجة لذكرها.
· الانتباذ لا يدل على مشاجرة، أو كراهية، ولكنه هنا بمعنى الابتعاد والاعتزال، كما حدث مع موسى وهو طفل، ثم إن خروج مريم - عليها السلام - كان خوفا من القيل والقال، وحتى لا تمس بسوء، وقد حفظها الله سبحانه وتعالى - ورزقها المأوى والطعام والشراب.
· الإعجاز في ولادة مريم هو الذي أثار تعجب اليهود، وظنوا بها أسوأ الظنون بعد أن غابت عنهم لبعض الوقت.
· إذا سلمنا جدلا بقول الأناجيل: إن مريم كانت في الناصرة، فإن ذلك يكون في بعض تنقلاتها، حيث ذكروا أيضا أنها جاءت إلى مصر.
(*)