ادعاء أن العزير - عليه السلام - ابن الله(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن العزير ابن الله، مستدلين على ادعائهم هذا بأنه كتب التوراة بعد ضياعها من صدور اليهود؛ ولذلك قالت اليهود: والله ما أوتي عزير هذا إلا لأنه ابن الله.
وجها إبطال الشبهة:
1) إن اتخاذ الولد من قبل البشر للضعف المستحكم فيهم، فهم يتخذون الولد لإيجاد المعين، وتخليد الذكر بعد الوفاة، وإلى غير ذلك من الأسباب، والله - عز وجل - مستغن عن كل هذه الأسباب.
2) إن أدلة النقل والعقل تنفي عن الله - عز وجل - اتخاذ الولد، وتثبت أنه محض افتراء.
التفصيل:
أولا. اتخاذ الأولاد يكون له أسباب، وليس هناك سبب لأن يتخذ الله ولدا:
إن هذا الادعاء فيه مساس بجلال الله - سبحانه وتعالى - وكمال عظمته، ذلك أن متخذ الولد ضعيف يحتاج إلى معين، وقد تعددت الأسباب التي من أجلها اتخذ الإنسان الولد، وحصرت فيما يأتي:
· أنه يريد أن يبقي ذكره في الدنيا بعد أن يرحل، والله - سبحانه وتعالى - هو الحي الذي لا يموت.
· أنه يريد إعانة ابنه له عندما يكبر ويضعف، والله - سبحانه وتعالى - هو القوي.
· أنه يريد أن يرث ماله وما يملك، والله - سبحانه وتعالى - يرث الأرض ومن عليها.
· أنه يريد أن تكون له عزة ومنعة باستكثار الولد، والله - عز وجل - عزيز بلا ولد ولا عشيرة.
وكما هو ملاحظ فإن هذه الأسباب تتلبس بالضعيف المفتقر إليها، لا القوي الغني عنها، إذ كيف يستقيم القول عقلا بأن الله - عز وجل - المنزه عن كل نقص يتخذ ولدا، واتخاذ الولد نقص يطعن في كمال ألوهيته وربوبيته؟! وهذه آية جلية تدل على أن هذه العقيدة عقيدة باطلة افتراها قلب غير سليم، أنزل الإله من مقام الألوهية إلى مقام البشرية، ثم كيف لرسول معصوم موحى إليه أن ينقل عن ربه كلاما ينتقص من كمال صفاته؟! تعالى الله عما يقول الكافرون علوا كبيرا[1].
ثانيا. الأدلة النقلية والعقلية تنفي بنوة العزير - عليه السلام - لله عز وجل:
1. الأدلة النقلية:
لقد رد الله - عز وجل - على اليهود زعمهم الباطل حيث يقول: )وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون (30) اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون (31)( (التوبة)، أي يشابهون في قولهم: "إن عزيرا ابن الله" قول الأمم الوثنية القديمة التي كانت تقول بتعدد الآلهة، وهو محض زعم لا دليل عليه، بل هو تقليد أعمى وحقد دفين من قبل اليهود لرب العزة، قال سبحانه وتعالى: )قل هو الله أحد (1) الله الصمد (2) لم يلد ولم يولد (3) ولم يكن له كفوا أحد (4)( (الإخلاص)، وهي سورة صريحة في نفي الولد، والوالد، والصاحبة عن الله عز وجل.
وقوله سبحانه وتعالى: )وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون (116)( (البقرة)، وقال سبحانه وتعالى: )وقالوا اتخذ الرحمن ولدا (88) لقد جئتم شيئا إدا (89) تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا (90) أن دعوا للرحمن ولدا (91) وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا (92) إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا (93) لقد أحصاهم وعدهم عدا (94) وكلهم آتيه يوم القيامة فردا (95)( (مريم)، وقال سبحانه وتعالى: )ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون (91)( (المؤمنون).
إن هذه الآيات وغيرها تضافرت لتأكيد حقيقة نفي الولد عن الله - عز وجل - فآية البقرة السالفة تنزهه - عز وجل - عن ذلك وتستشكل حصوله، ولسان مقالها وحالها، كيف يتخذ الولد؟! وقد ملك السماوات والأرض وما فيهما. وكأنها تشير إلى سبب رئيسي في اتخاذ الولد، وهو ابتغاء المعين والمساعد، والله منزه عن ذلك؛ لأنه أغنى الأغنياء، وفي آية سورة مريم نلحظ أن القرآن الكريم قد تدرج في ذكر الأدلة الداحضة فالسماوات تمور، والأرض تتصدع، والجبال تندك؛ لهول هذا الادعاء وشدته، وهي آية كونية عظيمة تفيد أن الكون برمته عبد ذليل لله - عز وجل - وقد أحصاهم تعالى على كثرتهم - كما تؤكد الآية - وسيبعثهم يوم القيامة فرادى. ويستمر القرآن في عرض أدلته الداحضة في آية سورة المؤمنين، وهي تشتمل على دليل أقوى من سابقيه، ذلك أن الله - عز وجل - خاطب العقلاء ممن يتخذون لله الولد بما مفاده أنه لو اتخذ الولد - تعالى عن ذلك علوا كبيرا - لطمحت نفس الولد إلى الألوهية وزاحمته عليها، أو شاركته فيها، والمشاركة مظنة التنازع والتنافس والخصام لبغى أحد الشريكين على الآخر، ولو أجزنا لله ذلك - وحاشاه تعالى - لفسد الكون، وضاعت مصالح العباد، وتبددت الحكمة التي من أجلها خلق الله الناس في الأرض واستعمرهم فيها، ألا وهي العبادة.
2. الأدلة العقلية:
· الشبهة تتنافى مع العقل والمنطق السليمين:
السبب الذي جعل اليهود يزعمون أن عزيرا ابن الله، هو أن عزيرا قد كتب التوراة بعد ضياعها من صدور اليهود؛ ولذلك قالت اليهود: والله ما أوتي عزير هذا إلا لأنه ابن الله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا؛ فالله - عز وجل - ليس بحاجة إلى أحد من خلقه حتى يتخذ له ولدا، فالذي يبحث عن الولد ويتخذه لا بد أن يكون نتيجة شعوره بالحاجة، وحاجته بالفعل تتمثل في حاجته للوقوف بجانبه عند كبره، وحاجته لإبقاء ذكره من بعده.. وما إلى غير ذلك من صنوف الحاجات البشرية، لكن الغني مطلقا ما حاجته إلى الولد؟
والذي يتخذ له ولدا من الطبيعي أن يكون بينه وبين ولده تجانس وتشابه، فإذا كان الوالد إنسانا كان الولد كذلك، وإذا كان الوالد حيوانا كان الولد كذلك، وهكذا لو صح كلامهم لكان عزير إلها! ولو سلمنا بذلك الزعم، فهل يصح أن يكون للكون إلهان؟!
إن هذا ما لم يكن ولن يكون، إن ما في الكون من سنن ثابتة، وقوانين مطردة، ونظام محكم يدل على وحدانية الإله الخالق لهذا الكون؛ لأنه لو اشترك في الخلق أكثر من إله لفسد الوجود؛ لأن من شأن الإله أن يكون تام العلم نافذ الأمر مطلق الإرادة كامل القدرة؛ فإذا كان كل واحد منهما متصفا بهذه الصفات فلا بد أن تظهر آثارها في الوجود، وعندئذ يقع التنازع والاختلاف الذي يؤدي إلى الفساد، ويتفق هذا مع ما استقر في فطرة البشر من أن تعدد الرئاسة للشيء الواحد يؤدي إلى تضارب الآراء واختلاف الأهواء، فإذا كان هذا من صفات البشر الذين يتصور انقياد بعضهم لبعض، فكيف يكون الأمر بالنسبة للألوهية التي تقتضي الكبرياء والعلو والهيمنة والعظمة؟
وهكذا نجد أن التعدد يؤدي إلى الفساد، ولما كان الكون بريئا من الاختلاف منزها عن الفساد، فإن ذلك دليل على وحدة خالقه وصانعه، وهو الله - سبحانه وتعالى - وفي ذلك يقول القرآن: )لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون (22)( (الأنبياء)،، وإذا كانت النتائج الملموسة في الواقع تصدق صحة الفرض، كان ذلك دليلا على أن الفرض صحيح، أما إذا كانت نتائجه فاسدة فإن ذلك يكون دليلا على فساد الفرض، وتسمى هذه الطريقة في المنطق بطريقة التفنيد، وقد بين القرآن أن افتراض تعدد الآلهة يؤدي إلى فساد الوجود، لكن الوجود غير فاسد، إذن فهذا الافتراض فاسد، والقول بوحدانية الإله هو الصحيح؛ ويسمى الدليل الذي استخلصه المتكلمون من الآية الأولى هنا دليل التمانع.. ومما قالوه في هذا الدليل: إننا إذا افترضنا وجود إلهين، وأراد أحدهما شيئا فإما أن يستطيع الآخر إرادة ضده أولا يستطيع، وكلا الأمرين محال، لما يترتب عليهما؛ لأنه إذا أراد أحدهما حركة شيء وأراد الثاني سكونه، فإما أن يقع الأمران معا، وهذا غير ممكن لأن الشيء لا يكون متحركا ساكنا في وقت واحد باعتبار واحد، وإما أن يتخلف الأمران معا فيكون الشيء لا ساكنا ولا متحركا وهذا باطل أيضا؛ لأن الشيء لا بد أن يوصف بواحد منهما فيكون متحركا أو ساكنا، فيلزم وصف الإلهين - على هذا الفرض - بالعجز؛ لعدم نفاذ إرادتهما، فإذا تحقق مراد أحدهما دون الآخر، فالذي تحقق مراده يكون هو الإله، أما العاجز فلا يوصف بالألوهية.
· التوحيد والفطرة الإنسانية:
أوضح القرآن أن الإيمان بإله واحد هو الذي يستقيم مع الفطرة الإنسانية؛ لأن مثل هذا الاعتقاد يؤدي إلى استقامة الشعور، ووحدة الاتجاه، ووحدة الولاء؛ لأن صاحب هذه العقيدة يرجع الأمر كله لله: خلقا، ورزقا، وإحياء، وإماتة، وتصريفا، وتدبيرا، وإعطاء ومنعا، ورفعا وخفضا، فإذا آمن الإنسان بهذا إيمانا راسخا ثابتا في القلب والضمير، فإنه لن يتوجه - عندئذ - بقلبه ومشاعره وعبادته إلا لهذا الإله وحده، يرجو رحمته، ويخشى عذابه، لا يتوكل إلا عليه ولا يلجأ إلا إليه، ولا يطلب حوائجه إلا منه، تقر عينه بعبادته، ويهفو قلبه إلى قربه ومحبته، يصبر على بلائه، ويرضى بقضائه، يشكو إليه ضره، ويرجو منه خيره، فيزداد لله شكرا وطاعة وقربا، فإذا كان المؤمن - على هذا الحال - استقامت نفسه، واطمأن قلبه وتوحدت مشاعره، وتحددت قبلته: )إن ربي على صراط مستقيم (56)( (هود)، وأيقن أن لا إله للكون إلا إله واحد.
وعلى هذا فلا نستطيع أن نصف عزيرا بأنه "ابن الله" لدليل واه لم يثبت أمام الأدلة النقلية والعقلية التي أوردناها، فضلا عن أن اليهود لهم هوى في إسباغ خصال البشرية على الذات الإلهية، والمطلع على التوراة يقف على صحة هذا الكلام.
الخلاصة:
· لقد قامت الأدلة النقلية والعقلية على استحالة أن يكون لله - عز وجل - شريك أو ولد، والله تعالى ليس بحاجة إلى أحد من خلقه حتى يتخذ له ولدا، فالذي يبحث عن الولد ويتخذه لا بد أن يكون هذا نتيجة لشعوره بالحاجة، ولكن الغني غنى مطلقا ما حاجته إلى الولد؟!
· ثم إن الكون ليس له إلا إله واحد وهو الله رب العالمين، ولو كان ما يقولونه صحيحا لثبت أن يكون عزير أيضا إلها، وهذا ما لا يستقيم عقلا: )لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون (22)( (الأنبياء).
· إن اليهود لهم هوى في إنزال الإله من مقامه العظيم إلى مقام البشرية الناقص، فهم لا يتركون أية مناسبة لإلصاق وصف الألوهية بعظمائهم بدون بينة ولا برهان.
(*) العنصرية اليهودية وآثارها في المجتمع الإسلامي، د. أحمد بن عبد الله بن إبراهيم الزغبي، مكتبة العبيكان، الرياض، ط1، 1998م.