ادعاء خطأ داود في حكمه في قضية الحرث والغنم(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن داود - عليه السلام - أخطأ في حكمه في قضية الحرث والغنم، وأن ابنه سليمان - عليه السلام - قضى بعده فأصاب القضاء، ويستدلون على ذلك بقوله سبحانه وتعالى: )ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين (79)( (الأنبياء). ويتساءلون: كيف يتناسب الاجتهاد الخاطئ في الحكم مع ما يتصف به الأنبياء من العصمة؟!
وجوه إبطال الشبهة:
1) قضاء داود - عليه السلام - بإعطاء الغنم لصاحب الحرث قضاء صائب؛ لأن الغنم أفسدت الحرث، ولا يعد حكمه خطأ ألبتة.
2) قضاء سليمان - عليه السلام - بانتفاع صاحب الحرث بمنافع الغنم حتى تبلغ قيمة ما أفسدته، ثم ترد الغنم إلى صاحبها، غير متعارض مع حكم داود - عليه السلام - ولكل سنده من فقه الواقع.
3) داود وسليمان - عليهما السلام - اجتهدا في الحكم، واجتهادهما مزكى بتوفيق الله، وكلاهما أصاب، ولكل أجره، لا سيما أنهما نبيان.
التفصيل:
أولا. قضاء داود - عليه السلام - بإعطاء الغنم لصاحب الحرث قضاء صائب:
أخرج ابن جرير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في تفسير قوله سبحانه وتعالى: )وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين (78)( (الأنبياء): أن رجلين دخلا على داود عليه السلام، أحدهما صاحب حرث، والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الحرث: إن هذا أرسل غنمه في حرثي، فلم تبق من حرثي شيئا. فقال له داود عليه السلام: اذهب فإن الغنم كلها لك، فقضى بذلك داود، ومر صاحب الغنم بسليمان - عليه السلام - فأخبره بالذي قضى به داود، فدخل سليمان على داود فقال: يا نبي الله، إن القضاء سوى الذي قضيت. فقال: كيف؟ قال سليمان: إن الحرث لا يخفى على صاحبه ما يخرج منه في كل عام، فله من صاحب الغنم أن ينتفع من أولادها وأصوافها وأشعارها حتى يستوفي ثمن الحرث، فإن الغنم لها نسل في كل عام. فقال داود: قد أصبت، القضاء كما قضيت، ففهمها الله سليمان[1].
وروي أن سليمان - عليه السلام - لما سمع حكم داود - عليه السلام - قال: غير هذا أرفق بالفريقين، فأخبر بذلك داود، فدعاه، فقال: كيف تقضي؟ ويروى أنه قال: بحق النبوة والأبوة إلا أخبرتني بالذي هو أرفق بالفريقين. قال: ادفع الغنم إلى صاحب الحرث، فينتفع بدرها، ونسلها، وصوفها، ويبذر صاحب الغنم لصاحب الحرث مثل حرثه، فإذا صار الحرث كهيئته دفع إلى أهله وأخذ صاحب الغنم غنمه، فقال داود: القضاء ما قضيت[2]، كما قال سبحانه وتعالى: )وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين (78)( (الأنبياء). أي: انتشرت الغنم في الزرع ليلا بغير راع، فأفسدته على صاحبه، وأكلته "وكنا لحكمهم شاهدين" أي: وكنا لحكم الحاكمين والمتحاكمين إليهما حاضرين بعلمنا؛ فلم يخف علينا الحكم، بل علمناه.
وهذه الحادثة، وإن كان حكم سليمان - عليه السلام - أرجح من حكم أبيه داود - عليه السلام - فإن هذا لا يعني خطأ داود في الحكم، ومما يؤيد صحة حكم داود - عليه السلام - قوله تعالى في ختام الآيات التي حكت تلك القصة: )وكلا آتينا حكما وعلما( (الأنبياء: ٧٩)، وهذا يفيد أن قضاء داود - عليه السلام - كان عن حكمة وعلم.
ذكر الله بعد ذلك أنه سخر لداود - عليه السلام - كثيرا من المخلوقات، قال سبحانه وتعالى: )ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين (79)( (الأنبياء). ولا يكون تسخير هذه المخلوقات لداود - عليه السلام - إلا لاستحقاقه وجدارته بمثل هذا، فلو كان داود - عليه السلام - أخطأ في حكمه، ما استحق ثناء الله عليه، وإنعامه عليه بما عدده من نعم بعد ذلك. وقد أخرج ابن جرير عن الحسن - رضي الله عنه - قال: كان الحكم بما قضى به سليمان، ولم يعب داود في حكمه[3].
يتساءل بعض المشككين: إذا كان الأمر كذلك، فلماذا خص الله تعالى سليمان - عليه السلام - في قوله: )ففهمناها سليمان(.
وجواب ذلك: أن تخصيص سليمان - عليه السلام - بالذكر في الآية لا يدل على أن داود بخلافه، فإن دليل الخطاب في اللقب لا يقيد بإجماع المحققين؛ أي أن تخصيص سليمان - عليه السلام - بالذكر لا يعني اختصاصه بالفهم والحكمة دون غيره.
كما أن في هذا التخصيص فائدتين هما:
1. أن داود - عليه السلام - كان متوقفا؛ لتعارض الأمارات، وسليمان - عليه السلام - لم يكن كذلك، بل كانت الأمارات واضحة جلية أمامه، فأصدر حكمه بناء على هذه الأمارات.
2. أن داود - عليه السلام - كان عالـما بالحكم، لكنه أفتى امتحانا لابنه سليمان رجاء أن يفتي به ويستخرج حكمه.
وبالنظر إلى هذا التخصيص - ذكر سليمان - نلحظ أنه كان إقرارا لعين والده داود، وخاصة أن سليمان أفتى بحكم كان أرفق بالخصمين مما رفع قدره بين الناس، وإنما أعرض القرآن عن ذكر داود - عليه السلام - للعلم باشتهاره فيما بين الخلق بمعرفة الأحكام، ثم إن الله عقب على تخصيص سيدنا سليمان بقوله: )ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين (79)( (الأنبياء)؛ لئلا يتوهم أنه كان جاهلا به، وحاكما فيه بغير الصواب[4].
ثانيا. قضاء سليمان - عليه السلام - لا يتعارض مع قضاء داود:
على الرغم من اختلاف حكم داود - عليه السلام - عن حكم سليمان عليه السلام، إلا أن حكم كل واحد منهما لم يكن متعارضا مع الآخر، فكل منهما قد أصاب القضاء، ولكن حكم سليمان - عليه السلام - كان أكثر صوابا من حكم أبيه، ومما يدل على عدم تعارض الحكمين ما يأتي:
1. أن كل حكم من الحكمين قد وافقه مذهب فقهي من المذاهب الفقهية الإسلامية الأربعة؛ فوجه قضاء داود - عليه السلام - بأن الضرر لما وقع بالغنم سلمت بجنايتها إلى المجني عليه، كما قال أبو حنيفة في العبد إذا جنى على النفس يدفعه المولى بذلك أو يفديه، وعند الشافعي: يبيعه في ذلك أو يفديه، ولعل قيمة الغنم كانت على قدر النقصان في الزرع.
ووجه قضاء سليمان - عليه السلام - بأنه جعل الانتفاع بالغنم مقابل ما فات من الانتفاع بالحرث، من غير أن يزول ملك المالك عن الغنم، وأوجب على صاحب الغنم أن يعمل في الحرث حتى يزول الضرر والنقصان الذي أصابه.
ومن هذا القبيل ما قاله أصحاب الشافعي فيمن غصب عبدا، فأبق من يده، فله أن يضمن القيمة، فينتفع بها المغصوب منه مقابل ما فوته الغاصب من منافع العبد، فإذا ظهر العبد تراضيا.
وحكم هذه المسألة في شريعتنا أن يضمن أصحاب الماشية قيمة ما أتلفته مواشيهم ليلا؛ إذ المعتاد ضبط الدواب ليلا، كما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دخلت ناقة البراء حائطا وأفسدته، فقال: "على أهل الأموال حفظها بالنهار، وعلى أهل الماشية حفظها بالليل". وعلى هذا، فإن كلا من الحكمين له أصل شرعي يستند إليه، ومن ثم فلا تعارض بينهما، وإنما هو اختلاف وارد، لا يمنع صحة الحكمين.
2. قضاء سليمان - عليه السلام - كان أرفق بالفريقين من قضاء أبيه داود، وأحسن ما قيل في تفسير حكم داود وحكم سليمان أنهما ليسا حكمين متعارضين، فقضاء داود بإعطاء الغنم لصاحب الحرث؛ لأنه قوم الغنم والكرم - أي الحرث - الذي أفسدته الغنم، فكانت القيمتان سواء، فدفع الغنم إلى صاحب الكرم[5].
أما حكم سليمان باستفادة أصحاب الحرث بألبان الغنم وأصوافها ودفع الحرث إلى صاحب الغنم ليقوم عليه، فإذا عاد الحرث إلى حاله التي أصابته الغنم في السنة المقبلة رد كل واحد منهما ماله إلى صاحبه، فكان حكم سليمان هذا بالنظر إلى تساوي قيمة ما أفسدته الغنم بقيمة ما سيستفيده المتضرر من الغنم.
وهكذا قال النحاس: إنما قضى بالغنم لصاحب الحرث؛ لأن ثمنها كان قريبا منه، وأما في حكم سليمان فقد قيل: كانت قيمة ما نال من الغنم، وقيمة ما أفسدت الغنم سواء أيضا.
وكان حكم سليمان أنفع للطرفين، فلو نفذ حكم داود - مع أنه حكم عادل - فسيحرم صاحب الغنم من ثروته التي ربما ليس له غيرها، ويوغر صدره على صاحب الحرث وهو يرى غنمه قد آلت إليه، ففائدة صاحب الحرث المتضرر من منتجات الغنم تعويض له، وإعادة زراعة ما تلف من قبل صاحب الغنم المعتدية تأديب له، ورد كل مال لصاحبه إبقاء لهما معا، وعودة للوضع إلى ما كان عليه.
وعلى هذا فإنه لا تعارض بين الحكمين، وإنما كان حكم سليمان - عليه السلام - أرفق بالفريقين من حكم داود عليه السلام، وقد دلل على هذا سليمان - عليه السلام - لما سمع حكم داود - بقوله: "غير هذا أرفق بالفريقين"، ثم صدقه داود - عليه السلام - بقوله: "القضاء ما قضيت".
ثالثا. قضاء داود وسليمان - عليهما السلام - كان عن اجتهاد:
والسؤال المطروح الآن هو: هل كان قضاء داود وسليمان - عليهما السلام - عن اجتهاد منهما، أو عن وحي إلهي؟
ذهب بعض العلماء إلى أن القضاء كان بوحي من الله عز وجل، فقال قوم: كان داود وسليمان - عليهما السلام - نبيين يقضيان بما يوحى إليهما، فحكم داود بوحي، وحكم سليمان بوحي نسخ الله به حكم داود، وعلى هذا "ففهمناها سليمان" أي: بطريق الوحي الناسخ لما أوحي إلى داود، وأمر سليمان أن يبلغ ذلك داود؛ ولهذا قال: )وكلا آتينا حكما وعلما( [6].
وقال الجمهور: إن حكمهما كان باجتهاد، إلا أن اجتهاد سليمان أوفق وأرفق، وهذا هو الأرجح.
وهناك عدة أدلة ترجح أن هذا القضاء كان عن اجتهاد؛ وهي:
1. لو كان القضاء بنص عند داود - عليه السلام - لوجب أن يكون النص الناسخ له نازلا أيضا على داود، لا على سليمان عليه السلام.
2. أن الله - عز وجل - مدح كلا منهما عقب ذلك بقوله: )وكلا آتينا حكما وعلما(، ولو كان قضاؤهما عن طريق النص، ما استحقا هذا المدح؛ لأن استحقاق المدح إنما يكون على البراعة في الاستنباط، واستخلاص الحكم الذي ليس فيه نص.
3. قول سليمان - عليه السلام - عن حكم أبيه: "غير هذا أرفق"، وقوله في بعض الروايات: "أرى أن تدفع"، ومناشدة داود لسليمان - عليهما السلام - إظهار ما عنده، ولو كان عند سليمان نص فيها لأظهره من بادئ الأمر، ولما انتظر مناشدة والده له؛ إذ يحرم كتمان النص، وخاصة عند الحاجة إليه.
4. أن الظاهر أن سليمان - عليه السلام - لم يكن نبيا وقت هذه الحادثة، وإنما نبئ بعد ذلك، فقضاؤه كان باجتهاد، وقضاء داود - عليه السلام - باجتهاد أيضا؛ لأنه لايجوز نقض حكم النص بالاجتهاد[7].
وعلى هذا، يرجح أن قضاء داود وسليمان - عليهما السلام - كان عن اجتهاد منهما، أما القول بأنه عن وحي فهو مستبعد.
الخلاصة:
· إن داود - عليه السلام - قضى في حادثة الغنم التي نفشت في الحرث فأصاب في حكمه، ثم قضى ابنه سليمان - عليه السلام - فخالفه في الحكم، لكنه كان أكثر صوابا منه.
· يدل على صحة حكم داود - عليه السلام - قوله سبحانه وتعالى: )وكلا آتينا حكما وعلما(، فهو حكم قد بني على الحكمة والعلم الذي منحه الله له.
· ويدل عليه أيضا إخبار الله - سبحانه وتعالى - أنه سخر لداود ما شاء من المخلوقات؛ كالجبال والطير وغير ذلك، قال سبحانه وتعالى: )ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين (79) وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون (80)( (الأنبياء)، وهذه النعم لا يهبها الله لأحد من عباده إلا لمن اصطفاهم، وارتضاهم قدوة لعباده.
· إن تخصيص الله لسليمان - عليه السلام - بالذكر في قوله عز وجل: )ففهمناها سليمان( لا يدل على عدم فهم داود عليه السلام؛ وذلك لاختلاف موقف كل منهما، فداود - عليه السلام - كان متوقفا لتعارض الأمارات، وسليمان حكم لوضوح الأمارات.
· لم يذكر القرآن الكريم أن داود - عليه السلام - أخطأ في حكمه، ولم ينتقص من قدره، بل قال: )ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما(، وفي الآية إبراز لبراعة سليمان - عليه السلام - وتوفيقه في الحكم الذي يسعد والده، ودأب الوالد أنه يحب أن يكون ولده أفضل منه، خاصة أنه سيرثه في الحكم: )وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين (16)( (النمل).
· حكم سليمان - عليه السلام - كان أرفق بالفريقين من حكم داود عليه السلام؛ لأنه أبقى على ملكية صاحب الغنم لغنمه، كما عوض صاحب الحرث عما أفسدته الغنم.
· كان قضاء كل من داود وسليمان - عليهما السلام - عن اجتهاد، وليس عن وحي من الله عز وجل.
(*) عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م.