توهم وقوع موسى - عليه السلام - في المعصية، لعدم وفائه بشرطه مع الخضر(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن موسى - عليه السلام - قد وقع في المعصية حينما خالف الشرط الذي أخذه عليه الخضر، وتعهد بالوفاء به، وهو أن يضبط نفسه فلا يسأل عن شيء ابتداء حتى يبينه له الخضر من غير سؤال، ولكن ما إن ركبا السفينة وخرقها الخضر حتى اعترض عليه موسى - عليه السلام - قائلا: )أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا (71)( (الكهف)، وكذلك قال له عندما قتل الغلام: )أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا (74)( (الكهف) على الرغم من أن أفعال الخضر لم تكن منكرة بل كانت أفعالا نافعة. كما يتساءلون: كيف يصف موسى - عليه السلام - نفس الغلام بأنها زكية وهذا مخالف للواقع؟!
وجها إبطال الشبهة:
1) تصرفات الخضر مع موسى - عليه السلام - يوهم ظاهرها أنها تصطدم بالمنطق العقلي، وما أنزله الله على موسى - عليه السلام - من شرع، فلا عجب أن تثير استنكار موسى عليه السلام.
2) صدور الاعتراض من موسى - عليه السلام - نابع من غيرته على الدين، وعدم سكوته عن المنكر، ولانتفاء علمه بالحكمة الربانية من وراء هذه التصرفات، إذ إن السكوت على مثل هذه التصرفات المتوهم خطؤها يتنافى مع كونه نبيا مرسلا مأمورا بالنهي عن المنكر والأمر بالمعروف.
التفصيل:
تصادم تصرفات الخضر مع المنطق العقلي، ومع شريعة موسى - عليه السلام - هو الذي أثار استنكار موسى عليه السلام:
قبل بيان حقيقة مخالفة موسى - عليه السلام - الشرط الذي أخذه عليه الخضر قبل اصطحابه ليتعلم منه، لا بد أن نشير إلى حقيقة مهمة، وهي أن الله تعالى قد اختص الخضر بعلم لم يطلع عليه موسى - عليه السلام - واختص موسى بعلم لم يطلع عليه الخضر، وهذا ما قاله الخضر لموسى - عليه السلام - كما جاء في حديث البخاري: «إنك على علم علمكه الله لا أعلمه أنا، وأنا على علم علمنيه لا تعلمه أنت»[1]، وهذا دليل على أن كل واحد منهما كان أعلم من الآخر فيما يعلمه.
والحقيقة الثانية التي نود توضيحها وهي مبنية على الحقيقة السابقة، أن هذا العلم الذي اختص به الخضر وسأل موسى - عليه السلام - أن يتعلمه هو من العلم النافع الذي لا يتعلق بالتشريع الذي أنزل على موسى عليه السلام، بل قد يتعارض معه ويخالفه؛ فتشريع موسى - عليه السلام - عام يراعي المصلحة العامة لمن تشرع لهم في كل زمان ومكان، بينما علم الخضر علم خاص يراعي مصلحة أفراد معينين، ولا يجوز الاعتماد عليه في الأحكام على الأحداث المختلفة التي تتعرض لها الجماعة.
وتأسيسا على ما سبق نستطيع أن نقول: إن موسى - عليه السلام - لما كان من الأنبياء الذين أقامهم الله لإجراء الأحكام على الظاهر، فلا عجب أن يستنكر ما يشاهده من تصرفات للخضر تختلف مع الشريعة التي ألزمه الله بها؛ لهذا توقع الخضر أن يضيق ذرع موسى[2]ـ عليه السلام - عن قبول ما يبديه إليه؛ لأنه علم أن ما يصدر عنه من أفعال ظاهرها المنكر وباطنها المعروف؛ لهذا قال لموسى - عليه السلام - في بادئ الأمر: )قال إنك لن تستطيع معي صبرا (67) وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا (68)( (الكهف) وهذا تحذير منه لموسى - عليه السلام - وتنبيه على ما يستقبله منه حتى يقدم على متابعته - إن شاء - على بصيرة وعلى غير اغترار، وفي هذا إشارة إلى خطورة أعماله وغرابتها في المتعارف بحيث لا تتحمل[3].
ثانيا. صدور الاعتراض من موسى - عليه السلام - نابع من غيرته على الدين، وعدم سكوته عن المنكر:
· بعد أن بينا أن تصرفات الخضر كانت من التصرفات التي يصطدم ظاهرها مع أحكام العقل، ومع أحكام شريعة موسىعليه السلام، نبين الآن الأسباب الحقيقية التي دفعت موسى - عليه السلام - إلى أن يستنكر الأفعال التي صدرت من الخضر ويمكننا تفصيل ذلك في النقاط الآتية:
· إن مخالفة موسى - عليه السلام - للشرط في أول مرة حينما خرق الخضر السفينة، فاعترض عليه قائلا: )أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا (71)( (الكهف)، على الرغم من أنه خرقها لمصلحة لا يعلمها موسى - كانت بسبب نسيان موسى - عليه السلام - لشرط الخضر، يقول سبحانه وتعالى: )قال لا تؤاخذني بما نسيت( (الكهف:73)، والنسيان جائز على الأنبياء في غير التبليغ والشرع[4]، وسر نسيان موسى - عليه السلام - لما قاله الخضر ولما أخذه على نفسه من عهد هو أنه وجد نفسه أمام تصرف عجيب لا مبرر له في نظر المنطق العقلي ولا مسوغ له في شريعته، فإن هذا التصرف من الخضر يعرض السفينة وركابها لخطر الغرق وتؤدي بهم إلى شر كبير، فلا عجب أن يسأل موسى الخضر: لماذا يقدم على هذا الشر الكبير الذي فيه مفسدة عظيمة حسبما يرى؟ بل العجيب حقا أن يرى موسى منكرا وهو نبي فيقره ولا يغيره، ومما يدل على أن موسى - عليه السلام - إنما حمله على المبادرة بالإنكار الثورة والحمية للحق، أنه قال حين خرق الخضر السفينة: )أخرقتها لتغرق أهلها( (الكهف: 71) ولم يقل: لتغرقنا، فنسي نفسه واشتغل بغيره، في الحالة التي كل أحد فيها يقول: نفسي نفسي، لا يلوي على مال ولا ولد، وتلك حالة الغرق، فسبحان من جبل أنبياءه وأصفياءه على نصح الخلق والشفقة عليهم والرأفة بهم[5].
أما قول موسى - عليه السلام - للخضر عندما قتل الغلام: )لقد جئت شيئا نكرا (74)(
· (الكهف) فإن موسى - عليه السلام - فزع من هذا القتل الشنيع المخالف - بحسب الظاهر - لشرع الله الذي أنزل على موسى في التوراة "أنه لا يجوز أن تقتل نفس بغير حق"، وإذا كانت الأولى خرق سفينة واحتمال غرق من فيها، فهذه قتل نفس، قتل عمد لا مجرد احتمال، وهي فظيعة كبيرة لم يستطع موسى أن يصبر عليها على الرغم من تذكره لوعده... فليس ناسيا في هذه المرة ولا غافلا، ولكنه قاصد، قاصد أن ينكر هذا الفعل المؤثم في شريعته والذي لا يصبر على وقوعه ولا يتأول له أسبابا[6].
أما حكمه - عليه السلام - على الغلام بأنه نفس زكية، وهذا مخالف للواقع؛ فلأنه - عليه السلام - حكم عليه حسبما يراه من الظاهر؛ فإن ظاهر أمر الغلام عدم ارتكاب ذنب، قال ابن حزم: وتكلم موسى - عليه السلام - على ظاهر الأمر، وقدر أن الغلام زكي، إذ لم يعلم له ذنبا، وكان عند الخضر العلم الجلي بكفر الغلام واستحقاقه القتل، فقصد موسى - عليه السلام - بكلامه في ذلك وجه الله تعالى والرحمة بالغلام[7]، وعليه "فلو كان الأمر موكولا إلى العلم البشري الظاهر، لما كان له إلا الظاهر من أمر الغلام، وما كان له عليه من سلطان، وهو لم يرتكب بعد ما يستحق عليه القتل شرعا، وليس لغير الله ولمن يطلعه من عباده على شيء من غيبه أن يحكم على الطبيعة المغيبة لفرد من الناس، ولا أن يرتب على هذا العلم حكما غير حكم الظاهر الذي تأخذ به الشريعة وهذا ما فعله موسىعليه السلام.
وقد يسأل سائل: لماذا لم يحترز موسى لنفسه، ويظن أنه قد لا يصبر على شرط الخضر؟ بل جزم بأنه سيصبر بقوله: )قال ستجدني إن شاء الله صابرا( (الكهف:69).
والحق أن المتأمل لقول موسى - عليه السلام - للخضر لا يجد فيه هذا الجزم المزعوم، بل لقد علق موسى هذا الصبر على مشيئة الله - عز وجل - ولم يجزم به كما توهموا، وفي هذا ما فيه من الاحتراز من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الإنسان قد يتصور المعنى الكلي المجرد (التصور النظري)، ولكنه عندما يصطدم بالتطبيق العملي لهذا المعنى والنموذج الواقعي منه يستشعر له وقعا غير التصور المجرد، فالطبيعة البشرية تلتقي كلها في أنها تجد للتجربة العملية وقعا وطعما غير التصور النظري، ولا تدرك الأمور حق إدراكها إلا إذا ذاقتها وجربتها[8]، حتى ولو كانت هذه الطبيعة طبيعة نبي مرسل، بل نبي من أولي العزم من الرسل هو موسىعليه السلام.
وعليه فلا يصح نسبة المعصية لموسى - عليه السلام - في موقفه من الخضر بأي حال من الأحوال.
الخلاصة:
· لقد اختص الله الخضر بعلم لم يطلع عليه موسى - عليه السلام - وهو علم خاص نافع لا يتعلق بالتشريع الذي أنزل على موسىعليه السلام، بل إنه يصطدم معه، كما يصطدم بالمنطق العقلي؛ لهذا استثار إنكار موسى - عليه السلام - واعتراضه.
· إن سبب مخالفة موسى - عليه السلام - لشرطه مع الخضر هو أنه رأى تصرفات عجيبة لا مبرر لها في نظر العقل، ولا مسوغ لها في الشريعة؛ فالتصرف الأول يعرض السفينة وركابها لخطر الغرق وهذا شر كبير، والتصرف الثاني جريمة شنيعة فهي قتل نفس بغير حق، فلم يستطع موسى أن يصبر على هذا، وهو نبي مرسل مأمور بإحقاق الحق وإنكار المنكر.
(*) عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م.