استنكار تعلم موسى - عليه السلام - من الخضر(*)
مضمون الشبهة:
يستنكر بعض المتوهمين أن يكون موسى - عليه السلام - قد تعلم من الخضر؛ لأن هذا - في ظنهم - يعني أن الخضر أفضل منه، ويتساءلون: كيف يتعلم نبي يتلقى العلم من الله وحيا دون واسطة بشرية، من بشر عادي؟!
وجها إبطال الشبهة:
1) لقد اختص الله الخضر بعلم لم يعط لموسى عليه السلام، فأراد موسى - عليه السلام ـبهمته العالية أن يزداد من العلم النافع، وهذا لا يعد انتقاصا من قدر موسى عليه السلام.
2) على الرغم من اختلاف آراء العلماء حول حقيقة الخضر بين كونه عبدا صالحا أو وليا أو نبيا، فهو على كل حال ليس بشرا عاديا؛ إذ إن أفعاله كلها صادرة عن وحي إلهي.
التفصيل:
أولا. تعلم موسى - عليه السلام - من الخضر لا يعني تفضيل الخضر عليه:
بداية نشير في عجالة إلى أن أحدا من المسلمين لا يستطيع أن يقدح في فضل نبي الله موسى - عليه السلام - أو أن يشكك في مكانته، ويكفي أنه أكثر الأنبياء ذكرا في القرآن الكريم، فقد ورد اسمه في القرآن (166) مرة، وذكرت قصته في ست وثلاثين سورة في القرآن، وهو من أولي العزم من الرسل الذين أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يقتدي بهم، ويصبر كما صبروا: )فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل( (الأحقاف: 35)، وقد آتى الله موسى مقام المخلصين الذين لا سبيل للشيطان عليهم: )واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا (51)( (مريم)، وقد خصه الله بمقام التكليم المباشر من وراء الحجاب؛ إذ ناداه من جانب الطور الأيمن، وقربه نجيا، وقال له: )قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي( (الأعراف: 144)، وقد أنزل الله عليه التوراة فيها هدى ونور[1]:)إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور( (المائدة: 44)، وكذلك نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن يفضلوه على موسى - عليه السلام - بقوله صلى الله عليه وسلم:«لا تخيروني على موسى»[2].
وإذا أردنا أن نتتبع كل فضائل موسى - عليه السلام - كما وردت في القرآن الكريم والسنة المطهرة، لاحتجنا إلى مصنفات طوال، ولكن يكفي ما ذكرنا للتمهيد لحقيقة تعلم موسى - عليه السلام - من الخضر، وبيان أنها لا تعني بحال من الأحوال الانتقاص من شأن موسىعليه السلام، أو القول بأن الخضر أعلى منه منزلة كما فهم بعضهم خطأ.
وبداية قصة التقاء موسى - عليه السلام - بالخضر رواها أبي بن كعب حيث قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن موسى - عليه السلام - قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه أن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك. قال موسى: يارب، فكيف لي به. قال: تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل[3]، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم»[4] [5].
من هذه الرواية يتبين لنا أن موسى - عليه السلام - لما لم ينسب العلم إلى الله، أوحى الله إليه أن هناك من هو أعلم منه، وكان هذا الوحي أمرا إلهيا أن يلحق موسى - عليه السلام - بمن هو أعلم منه، ويطلب العلم على يديه، فرضي موسى - عليه السلام - بذلك، وأحب أن يزداد علما على علمه، فسأل الله أن يدله على مكانه ليهاجر إليه، ولو طوى لأجل ذلك المسافات الشاسعة، ولو طالت به الرحلة أحقابا مديدة [6]:)لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا (60)( (الكهف)، ولا يعني أن الخضر أعلى منه منزلة؛ لأن طلب العلم أسمى ما يبتغيه الإنسان، ولا يمل من طلبه امرؤ عرف قدره وذاق حلاوته [7].
لهذا "تشوقت نفس موسى الفاضلة، وهمته العالية، لتحصيل علم ما لم يعلم، وللقاء من قيل فيه: إنه أعلم منك "[8]، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن العلم الذى سأل موسى - عليه السلام - تعلمه هو من العلم النافع الذي لا يتعلق بالتشريع للأمة الإسرائيلية، فإن موسى - عليه السلام - مستغن في علم التشريع عن الازدياد إلا من وحي الله إليه مباشرة، لأنه لذلك أرسله، وإنما رام [9]موسى - عليه السلام - أن يعلم شيئا من العلم الذي خص الله به الخضر لأن الازدياد من العلوم النافعة هو من الخير، وقد قال تعالى تعليما لنبيه: )وقل رب زدني علما (114)( (طه)[10]، وعليه فلا غضاضة[11] في أن يطلب نبي الله موسى - عليه السلام - العلم على يد غيره، وخاصة إذا علمنا أن هذا العلم الذي كان عند الخضر هو مما اختص الله به الخضر كما اختص الله موسى - عليه السلام - بعلم لا يعلمه الخضر، فالتفضيل في قوله: «أعلم منك» ليس مطلقا بدليل قول الخضر لموسى عليه السلام: «إنك على علم علمك الله لا أعلمه أنا، وأنا على علم علمنيه لا تعلمه أنت» وعلى هذا فيصدق على كل واحد منهما أنه أعلم من الآخر[12].
ولكن هل كان العلم الذي لدى الخضر أفضل من العلم الذي لدى موسى - عليه السلام - حتى يطلبه موسى عليه السلام؟ بالطبع لا؛ لأن العلم الذي أوتيه الخضر "هو علم سياسة خاصة غير عامة تتعلق بمعينين لجلب مصلحة أو دفع مفسدة بحسب ما تهيئه الحوادث والأحوال لا بحسب ما يناسب المصلحة العامة، فلعل الله يسره لنفع معينين من عنده، كما جعل محمدا - صلى الله عليه وسلم - رحمة عامة لكافة الناس، ومن هنا فارق سياسة التشريع العامة "، ولهذا كان موسى - عليه السلام - فى غناء عنه بما أعلمه الله من أمور الشريعة، ولكن أراد الله أن يعلم موسى - عليه السلام - ألا يغتر بعلمه، وأن الإنسان مهما وصل من العلم فعلمه قليل بالقياس إلى علم الله، وهذا ما قاله الخضر لموسى - عليه السلام - كما جاء من حديث البخاري رحمه الله حينما جاء عصفور فوقع على حرف السفينة التي كانا يركبانها فنقر في البحر نقرة: «ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور بمنقاره من البحر»[13]، ولعل مما يدل على أن العلم اللدني الذي اختص الله به عبده الصالح الخضر لم يكن واجبا على موسى - عليه السلام - تعلمه هو اشتراط العبد الصالح على موسى أن يضبط نفسه إذا أراد صحبته، فلو كان واجبا ما اشترط عليه الخضر، ولما فارقه لأي سبب من الأسباب.
وخلاصة ما قررناه من حقائق أن تعلم موسى - عليه السلام - من الخضر لا يقدح في مكانة موسى - عليه السلام - وفضله كما يتوهمون، كما لا يعني بحال من الأحوال أن يكون الخضر أعلى منزلة من موسى عليه السلام.
ثانيا. لم يكن الخضر في تصرفاته يتصرف باعتباره بشرا عاديا، بل كانت أفعاله صادرة عن وحي إلهي:
سبق أن وضحنا حقيقة تعلم موسى - عليه السلام - من الخضر، ونود هنا أن نوضح أن الخضر لم يكن رجلا عاديا كما يزعمون، بل كانت أفعاله كلها صادرة عن وحي من الله تعالى، وعلى الرغم من أن اسمه لم يرد صراحة في القرآن الكريم، إلا أن الله قد وصفه بأحب الصفات، ونسب له العديد من الخصال نذكر منها:
1. حاز شرف العبودية لله، إذ شهد الله له بقوله: )فوجدا عبدا من عبادنا( (الكهف:65).
2. آتاه الله رحمة من عنده، وقد وصفه الله بقوله: )آتيناه رحمة من عندنا( (الكهف:65).
3. علمه الله علما لدنيا عرف من خلاله حكمة الأقدار والأفعال كما جاء في وصفه: )وعلمناه من لدنا علما (65)( (الكهف).
4. كانت أفعاله صادرة عن وحي من الله، ولهذا قال لموسى عليه السلام: )وما فعلته عن أمري( (الكهف: ٨٢) وقد اختلف العلماء والمفسرون في حقيقة الخضر، فمن قائل: إنه نبي، ومن قائل: إنه عبد صالح أوتي علم الباطن[14]، وقد رجح ابن كثير القول بنبوته لما يلي:
· وصفه الله بالعبودية له - سبحانه وتعالى - بقوله: )فوجدا عبدا من عبادنا( وهذا المقام وصف الله به الأنبياء في القرآن فقال عن نوح عليه السلام: )ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا (3)( (الإسراء)، وقال عن إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليه السلام: )واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار (45)( (ص)، وقال عن داود عليه السلام: )واذكر عبدنا داوود( (ص: 17) وكذلك قال عن أيوب وزكريا والمسيح عليهم السلام، وقد قال عن خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم: )سبحان الذي أسرى بعبده ليلا( (الإسراء: 1).
· آتاه الله رحمة من عنده فقال: )آتيناه رحمة من عندنا( والرحمة تأتي بمعنى النبوة، كما جاء على لسان صالح عليه السلام: )قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة( (هود: 28)، فالرحمة هنا النبوة، وكذلك في قوله عن موسى عليه السلام: )ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة( (الأحقاف: 12) وقوله عن عيسى عليه السلام: )ولنجعله آية للناس ورحمة منا( (مريم:21). فهذه الآيات تدل على أن الرحمة قد وردت بمعنى النبوة أو الرسالة.
· علمه الله علما من لدنه فقال: )وعلمناه من لدنا علما(. وقد ذكر القرآن الكريم أن الله تولى بنفسه مهمة تعليم الأنبياء، فقال عن آدم: )وعلم آدم الأسماء كلها( (البقرة: 31)، ووصف يعقوب - عليه السلام - بقوله: )وإنه لذو علم لما علمناه( (يوسف: 68)، وقال عن داود: )وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل( (المائدة: 110) وقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: )وعلمك ما لم تكن تعلم( (النساء: 113).
· إنه بعد أن فسر لموسى - عليه السلام - حقيقة الأحداث الثلاثة قال لموسى: )وما فعلته عن أمري(، وهذا أقوى دليل على نبوته؛ إذ إن الأنبياء والمرسلين لا يتصرفون في شيء إلا بأمر الله، إن يتبعون إلا ما يوحي إليهم من الله، كما جاء في القرآن على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: )إن أتبع إلا ما يوحى إلي( (يونس: ١٥).
· أضف إلى ما سبق أن ما أقدم عليه الخضر من أفعال، وخاصة قتل الغلام، يخالف نصوصا إلهية أنزلها الله على موسى عليه السلام، فلو لم يكن نبيا يتصرف عن وحي الله لكان عقابه القتل وفق ما أنزل الله، وليس عجبا أن يوحي الله إليه بأن يقتل الغلام لحكمة يعلمها الله، فقد ورد أن الله أوحى إلى إبراهيم بأن يذبح ولده إسماعيل عليهما السلام[15].
وبعد عرض هذه الحقائق نستطيع أن نقول: إن موسى - عليه السلام - لم يتلق العلم على يد بشر عادي كما يزعمون، بل هو وإن افترضنا أنه ليس نبيا فهو عبد صالح لا تصدر أفعاله تبعا لهواه، بل إن أفعاله كلها صادرة عن وحي إلهي كما قلنا.
ولكن لا ينبغي أن يظن أحد أنه أفضل من موسى عليه السلام؛ لأنه وإن كان عبدا صالحا فموسى - عليه السلام - نبي ورسول، وإن كان نبيا فموسى - عليه السلام - أفضل منه كذلك؛ لأن موسى - عليه السلام - رسول وصاحب شريعة بل هو من أولي العزم من الرسل.
الخلاصة:
· لا يستطيع مسلم أن يشكك في فضل موسى - عليه السلام - فهو كليم الله، ومن أولي العزم من الرسل، وقد أنزل الله عليه التوراة فيها هدى ونور، وقد أثنى الله عليه في كثير من آيات القرآن الكريم.
· إن تعلم موسى - عليه السلام - من الخضر لا يقدح في منزلة موسى - عليه السلام - فقد أراد الله أن يعلم موسى أن علم الإنسان مهما بلغ فهو قليل إلى علم الله، وقد أراد موسى - عليه السلام - أن يزداد من العلم والخير ويقابل من قيل عنه: "أعلم منك". وليس في هذا انتقاص لموسي - عليه السلام - ولا لقدره.
· لقد اختص الله الخضر بعلم لم يكن يعلمه موسى، واختص موسى بعلم لم يكن يعلمه الخضر، وعليه فقد كان كل واحد منهما أعلم من الآخر فيما يعلمه.
· لم يكن العلم الذي اختص به الخضر أفضل من العلم الذي اختص به موسى عليه السلام، فقد كان علم الخضر هو سياسة خاصة تعود بالنفع على أفراد معينين لجلب مصلحة لهم أو دفع مفسدة عنهم، بخلاف علم موسى - عليه السلام - العام الذي يهتم بمصالح الناس كافة في زمان ومكان أمته المبعوث لهم.
· اختلف العلماء في حقيقة الخضر، فمن قائل: إنه عبد صالح، ومن قائل: إنه ولي عنده علم الباطن، ومن قائل: إنه نبي، وعلى كل فهو بشر غير عادي، فقد كانت أفعاله صادرة عن وحي إلهي لا هوى شخصي كما يزعمون.
(*) موقع الفتاوى، شيخ الإسلام ابن تيمية. موقع المعرفة