ادعاء أن تحويل القبلة دليل على تناقض في فعل الله عز وجل(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المغرضين أن تحويل القبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام دليل على اضطراب العبادة الإسلامية، ويرددون في هذا السياق كلاما قديما كانت قد قالته اليهود والمنافقون يومئذ؛ من أن القبلة الحقة إن كانت الكعبة فلم لم يوجه الله المسلمين إليها منذ بداية الدعوة؟ وإذا كانت قبلة بيت المقدس باطلة فلم توجه إليها المسلمون في البداية؟ ويتساءلون: ألا يدل ذلك على وقوع التناقض في فعل الذات الإلهية؟
وجها إبطال الشبهة:
1) علم الله - عز وجل - الشامل المحيط يمنع من وقوع التناقض في أحكامه وشرعه.
2) ثمة مقاصد شرعية وحكم إلهية وراء تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى البيت الحرام، ولله - عز وجل - أن يبتلي عباده بما شاء، وله في ذلك الحكمة البالغة.
التفصيل:
أولا. لا تناقض في أفعال الله عز وجل:
من المقرر في العقيدة الإسلامية أن البداء ممتنع على الله عز وجل وهو أن يظهر شىء كان يجهله، أو تضيف له الوقائع علما لم يكن له، فذلك كله ينافي الألوهية وصفات الكمال الثابتة له.
ومتى ثبت ذلك علمنا أن النهي عما كان مباحا أو إباحة ما كان منهيا عنه إنما هو لحكم ومقاصد إلهية اقتضتها الملابسات والأحوال، والنهي والإباحة جميعا كانا في علم الله السابق القديم الذي لا يعزب عنه شىء ولا يند عنه مخلوق، وعن هذا العلم الشامل المحيط تأتي أحكام الله وأوامره، لا عن التفكير والتدبر وإجالة الخاطر كما هي أحوال البشر، وتحويل القبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام هو مثال لهذا التغيير الذي تقف وراءه مقاصد وحكم إلهية.
وهذا التحويل لا يدل - بحال - على تناقض أفعاله سبحانه، إنما هي حكمة أرادها؛ ليعلم الذين صدقوا وليعلمن المنافقين، ولله - عز وجل - أن يبتلي عباده بما شاء وقتما شاء ولا يسأل عن ذلك؛ لأنه خالقهم وهو أعلم بهم، وأعلم بما يصلحهم.
وقد أخبر الله - عز وجل - بما سيقوله اليهود في هذا التحويل، مع علمهم أن هذا سيكون، وفي كتبهم معلوم، وأن توجه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت المقدس لن يدوم، وقد ذكر الله تعالى موقفهم هذا فقال: )سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (142)( (البقرة).
فقد أخبر الله بما سيقال، وعلم نبيه كيف يرد عليهم.
ما كان تحويل القبلة عبثا، وإنما كان لحكمة إلهية، أرادها الله - عز وجل - وأخبر بها: )وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله( (البقرة: 143).
لقد بين سبحانه أن هذا التحويل كان بلاء، واختبارا ليتميز عند الناس المؤمنون المخلصون من الشاكين المرتابين[1].
ومن حكمة تحويل القبلة إثبات صدق نبوته ودعوته وفضله صلى الله عليه وسلم. وتحويل القبلة جلى الإيمان في نفوس المؤمنين، والنفاق والشرك في نفوس أصحابه. فالمؤمنون قالوا: سمعنا وأطعنا؛ كل من عند ربنا، أما اليهود فقالوا: خالف قبلة الأنبياء، ولو كان نبيا لاستمر على قبلته، وأما المنافقون فقالوا: ما يدري محمد أين يتجه في صلاته، إن كانت الأولى حقا فقد تركها، وإن كانت الثانية حقا فقد كان على الباطل: )كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا (5)( (الكهف).
ويقول سيد قطب: "لقد كان تحويل القبلة أولا عن الكعبة إلى المسجد الأقصى لحكمة تربوية أشارت إليها آية: )وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه( (البقرة: ١٤٣). فقد كان العرب يعظمون البيت الحرام في جاهليتهم، ويعدونه عنوان مجدهم القومي... ولما كان الإسلام يريد استخلاص القلوب لله، وتجريدها من التعلق بغيره، وتخليصها من كل نعرة وكل عصبية لغير المنهج الإسلامي المرتبط بالله مباشرة، المجرد من كل ملابسة تاريخية أو عنصرية أو أرضية على العموم.. فقد نزعهم نزعا من الاتجاه إلى البيت الحرام، واختار لهم الاتجاه - فترة - إلى المسجد الأقصى؛ ليخلص نفوسهم من رواسب الجاهلية، ومن كل ما كانت تتعلق به في الجاهلية، وليظهر من يتبع الرسول اتباعا مجردا من كل إيحاء آخر، اتباع الطاعة الواثقة الراضية المستسلمة ممن ينقلب على عقبيه اعتزازا بنعرة جاهلية تتعلق بالجنس والقوم والأرض والتاريخ، أو تتلبس بها في خفايا المشاعر وحنايا الضمير أي تلتبس من قريب أو من بعيد..
حتى إذا استسلم المسلمون واتجهوا إلى القلبة التي وجههم إليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي الوقت ذاته بدأ اليهود يتخذون من هذا الوضع حجة لهم، صدر الأمر الإلهي الكريم بالاتجاه إلى البيت الحرام.. "[2].
ثانيا. لله تعالى أن يبتلي من شاء من عباده بما يشاء من الأحوال:
لله تعالى أن يبتلي من شاء من عباده بما يشاء من الأحوال، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فأما من كان من أهل الإيمان فسيقول سمعنا وأطعنا، وأما أهل الزيغ فسيقولون سمعنا وعصينا.
وقد ابتلى الله - عز وجل - الأنبياء من قبله بأنواع مختلفة من الابتلاءات، ولم يقل واحد منهم: لـم؟ فكان هذا التحويل بلاء واختبارا ليميز الله المؤمنين المخلصين من الشاكين المرتابين، فقال سبحانه وتعالى: )وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم (143)( (البقرة).
ولما كان نسخ القبلة أول نسخ وقع في الإسلام، وقارنه إرجاف اليهود والمنافقين، أكد الله سبحانه الأمر بالتوجه إلى الكعبة في ثلاثة مواضع متقاربة: فقال سبحانه وتعالى: )قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها( (البقرة: 144). وقال ثانيا: )ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون (149)( (البقرة). وقال ثالثا: )ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون (150)( (البقرة).
وهذا الترديد والتكرير يظهر الشدة التي لقيها المؤمنون من هذا التحويل، وكذلك يظهر قوة إرجاف اليهود والمنافقين وأن قلوبا من المسلمين مالت إلى قولهم.
الخلاصة:
· إن تغيير القبلة وتحويلها من بيت المقدس إلى البيت الحرام في مكة لا يدل بحال على تناقض في أفعاله - عز وجل - لأن علم الله أزلي شامل محيط لما كان وما سيكون، فلا تزيده الوقائع علما كما هي حال البشر.
· والله تبارك وتعالى يفعل ما يشاء وقت ما يشاء، ولا يسأل عما يفعل؛ لأنه هو الخالق والمدبر، وليس هذا فحسب، بل يريد بذلك اختبار عباده وامتحانهم، ليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه.
· ولله أن يغير ما شاء من أحكامه وشرعه وقت ما يشاء؛ لأنه تعالى أعلم بالناس من أنفسهم ويعلم ما يصلحهم.
(*) عقيدة أهل السنة والجماعة، أحمد فريد، مكتبة فياض، المنصورة، 2005م.