ادعاء نسبة صفات الحوادث إلى الله عز وجل(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن القول بأن الله في السماء مستو على العرش، ينزل إلى السماء الدنيا - كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - يقتضي نسبة الجهة والإشارة إليه، وهي من صفات الحوادث، وإذا كان الله في السماء، فأين كان قبل أن يخلق السماء؟
وجوه إبطال الشبهة:
1) الإيمان بصفات الله تعالى مؤسس على قواعد وأصول عامة مستنبطة من الكتاب والسنة.
2) حقيقة استوائه - عز وجل - على العرش معلومة من الكتاب والسنة، وهي أن العرش فوق السماء السابعة، والله فوق العرش.
3) الله - عز وجل - منزه عن الحوادث وعن مشابهة الخلق، وأن يحصره مكان أو جهة.
التفصيل:
أولا. قواعد الإيمان بصفات الله عز وجل:
1. تنزيه رب السماوات والأرض عن مشابهة الخلق، دل على ذلك قوله عز وجل: )ليس كمثله شيء( (الشورى: 11)، وقوله عز وجل: )هل تعلم له سميا( (مريم: 65)، وقوله عز وجل: )ولم يكن له كفوا أحد (4)( (الأخلاص).
2. إثبات صفات الله تعالى - عز وجل - التي أثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله - صلى الله عليه وسلم - ودل على ذلك قوله تعالى: )وهو السميع البصير( بعد قوله: )ليس كمثله شيء(.
3. قطع الطمع عن إدراك حقيقة كيفية هذه الصفات لقوله عز وجل: )ولا يحيطون به علما (110)( (طه).
قال نعيم بن حماد شيخ البخارى: "من شبه الله بخلقه كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله تشبيه ولا تمثيل"[1].
وقال الإمام الشافعى: "آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله"[2].
قال الإمام ابن تيمية: مذهب السلف في هذا الباب واضح كغيره من الأبواب، وهو وسط بين التشبيه[3] والتعطيل، وهو تسليم كامل لله ورسوله وإيمان بنصوص الصفات من الكتاب والسنة، وعدم التعرض لها بالتأويل بحيث تكون تلاوتها تفسيرها، ولا يحاولون إدراك حقيقتها وكيفيتها؛ لأن ذلك علم استأثر الله به، ولا توهم عندهم تشبيها ولا تجسيما، بل هي تدل على الحقائق التي تليق بالله وحده: )ليس كمثله شيء وهو السميع البصير(، )ولا يحيطون به علما (110)( (طه)، )ولم يكن له كفوا أحد (4)( (الأخلاص)، )هل تعلم له سميا (65)( (مريم)، كانوا ينزهون الله تعالى على ضوء هذه النصوص ولا يكادون يفهمون من الإثبات التشبيه، ولا من التنزيه التعطيل، هذه هي القاعدة عندهم، إثبات بلا تشبيه وتنزيه بلا تعطيل. وإنما لجأ أهل الكلام إلى التعطيل[4] والتأويل[5]؛ لأن قلوبهم قد فهمت الإثبات على أنه تشبيه لله - عز وجل - بخلقه فقالوا بالتعطيل والتأويل.
قال الأوزاعى: كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله - عز وجل - فوق العرش ونؤمن بما وردت به السنة من الصفات"، وهذا التصريح من الأوزاعي يعني الإجماع (إجماع التابعين المبني على إجماع الصحابة المستند إلى صريح الكتاب والسنة)، والإمام الأوزاعي أحد الأئمة الأربعة الذين كانوا في عصر تابعي التابعين وهم مالك بن أنس بالحجاز، والأوزاعي بالشام، والليث بن سعد بمصر والثوري بالعراق، وذكر الأوزاعي ذلك عندما ظهر جهم بن صفوان منكرا كون الله تعالى فوق العرش، ونافيا لصفات الله تعالى.
وسئل الزهري ومكحول عن تفسير أحاديث الصفات فقالا: أمروها كما جاءت. وروى مثل هذا الجواب عن الإمام مالك والثوري والليث قالوا جميعا في أحاديث الصفات: أمروها كما جاءت بلا كيف.
وقال: وجماع الأمر أن الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها ستة أقسام، كل قسم عليه طائفة من أهل القبلة:
· قسمان يقولان: تجري على ظاهرها.
· وقسمان يقولان: هي على خلاف ظاهرها.
· وقسمان: يسكتون.
أما الأولان فقسمان:
أحدهما: من يجريها على ظاهرها، ويجعل ظاهرها من جنس صفات المخلوقين، وهو مذهب باطل أنكره السلف.
والثانى: من يجريها على ظاهرها اللائق بجلال الله، كما يجري ظاهر اسم العليم والقدير والرب والإله والموجود والذات ونحو ذلك على ظاهرها اللائق بجلال الله، وهذا هو المذهب الذي حكاه الخطابي وغيره من السلف، وعليه يدل كلام جمهورهم وهو أمر واضح؛ فإن الصفات كالذات، فكما أن الذات ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس المخلوقات، فصفاته ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس المخلوقات، وما أحسن ما قال بعضهم: إذا قال لك الجهمي كيف استوى؟ أو كيف ينزل إلى السماء الدنيا ونحو ذلك، فقل له: كيف هو في ذاته؟ فإن قال لك: لا يعلم ما هو إلا هو، وكنه الباري تعالى غير معلوم للبشر. فقل له: فالعلم بكيفية الصفة مستلزم للعلم بكيفية الموصوف، فكيف يمكن أن تعلم كيفية صفة لموصوف لم تعلم كيفيته؟ وإنما تعلم الذات والصفات من حيث الجملة على الوجه الذي ينبغي له عز وجل.
بل ما أودعه الله - عز وجل - جنته من نعيم لعباده المؤمنين لا نعلم عن حقيقته شيئا، هذا مع أن الله - عزوجل - أخبر عنه بأسماء نعرفها لأشياء في الحياة الدنيا، فقد ثبت عن ابن عباس أنه قال: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء وقد أخبر الله تعالى أنه: )فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون (17)( (السجدة)، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن في الجنة «ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»[6].
فإذا كان نعيم الجنة وهو خلق من خلق الله كذلك، فما ظنك بالخالق عز وجل؟!
وأما القسمان اللذان ينفيان ظاهرها:
فقسم يتأولونها ويعينون المراد بمثل قولهم: استوى بمعنى استولى، أو بمعنى علو المكانة والقدر، أو بمعنى: ظهور نور العرش، أو بمعنى: انتهاء الخلق إليه، إلى غير ذلك من تأويل اليد بالقدرة أو النعمة، والعين بالرعاية، والنفس بالذات، وغير ذلك من معاني المتكلمين.
وقسم يقولون: الله أعلم بما أراد بها، وهم أهل التفويض في الكيفية والمعنى، فلا يفهمون من آيات وأحاديث الصفات معنى محددا، بل هي عندهم كالحروف المقطعة في أوائل السور (ألم، طس).
وأما القسمان الواقفان:
فقوم يقولون: يجوز أن يكون ظاهرها المراد اللائق بجلال الله، ويجوز ألا يكون المراد صفة الله ونحو ذلك، وهذه طريقة كثير من الفقهاء وغيرهم.
وقسم يمسكون عن هذا كله: ولا يزيدون على تلاوة القرآن وقراءة الحديث، معرضين بقلوبهم وألسنتهم عن هذه التقديرات، فهذه الأقسام الستة لا يمكن أن يخرج الرجل عن قسم منها، والصواب في كثير من آيات الصفات وأحاديثها القطع بالطريقة الثابتة للآيات والأحاديث الدالة على أن الله - عز وجل - فوق العرش، ويعلم طريقة الصواب في هذا وأمثاله بدلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك دلالة لا تحتمل النقض. قال ابن القيم رحمه الله في الشافية الكافية:
لسنا نشبه ربنا بصفاتنا
إن المشبه عابد الأوثان
كلا ولا نخليه من أوصافه
إن المعطل عابد البهتان
من شبه الله العظيم بخلقه
فهو الشبيه بمشرك نصراني
أو عطل الرحمن من أوصافه
فهو الكفور وليس ذا إيمان
ثانيا. حقيقة استواء الله على العرش معلومة من الكتاب والسنة:
وهي أن العرش فوق السماء السابعة، والله فوق العرش، لا يخفى عليه شىء من أعمال بني آدم، لذا فهو فوق سماواته مستو على عرشه، وإليه نتجه في صلاتنا ودعائنا كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقد كان يدعو ويرفع يديه إلى السماء، حتى يرى بياض إبطه. فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه في الدعاء حتى يرى بياض إبطيه»[7].
وحديث الجارية لما سألها - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أين الله؟ قالت في السماء. قال من أنا؟ قالت أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة»[8].
ولا يصح بحال قول من قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر عليها لأنها جارية، وقد جاراها على قدر معرفتها.
ترى هل يقر الرسول - صلى الله عليه وسلم - جارية عل الخطأ وهو في مقام التعليم والبيان في وقت الحاجة، وتأخيره لا يجوز كما هو معروف في الأصول.
ولسنا نعتقد إلا أنه أقرها على الحق لما نطقت به، ولسنا ندري ما يقولون في حديث زينب زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قالت لنساء النبي صلى الله عليه وسلم: «زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات»[9].
ثالثا. الله - عز وجل - منزه عن الحوادث، وعن مشابهة خلقه:
وهذه عقيدة ثابتة، ليس كمثله شىء وهو السميع البصير، وإن من يدعي أن الله استوى على العرش استواء محسوسا لا يعبر عن عقيدة الإسلام والقرآن، فالله - عز وجل - منزه عن الحس؛ لأن الحس شأن المحسوسات وهي المخلوقات، والله تعالى أخبر عن نفسه أنه: )ليس كمثله شيء( وأنه تعالى: )ولم يكن له كفوا أحد (4)(.
فالله - عز وجل - استوى على عرشه كما أخبر بالكيفية التي يعلمها - عز وجل - ولا يعلمها أحد إلا هو، مع الجزم بأنه ليس كمثله شىء في كل ما يتصل به تعالى من أحكام.
وقد تبين من جميع ما تقدم أن أحدا من أئمة المسلمين الذين يثبتون صفات الله في غير تأويل لا يذهب إلى مشابهته تعالى للحوادث، ولا أن إثبات النزول والغضب والرضا ونحو ذلك مما يستلزم مشابهته لخلقه.
ومن المعلوم في تاريخ العقائد الإسلامية أن مسألة وقوع الحوادث في ذاته - عز وجل - إنما كانت مدخلا لنفي أفعاله الاختيارية التي يحفل بإثباتها الكتاب والسنة، وافتراض حالة من السكون الدائم يعتري الذات الإلهية، وذلك شىء آخر غير الذي يقوله القرآن والسنة عن الله عز وجل.
وأما عن إجابة سؤالهم أين كان قبل خلق السماء، فيجيب عبد العزيز بن عبد الرحمن آل الشيخ بقوله:
1. إن ذلك ليس ادعاء، بل الله أخبر بذلك، فقال تعالى: )إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه( (فاطر: ١٠)، ولما كان القرآن عربيا، فالصعود والرفع لا يكون إلا من أسفل إلى أعلى، وقال تعالى: )أأمنتم من في السماء( (الملك: ١٦)، ونحن نعتقد بما جاء به القرآن والسنة من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وهذا ما كان عليه السلف الصالح، وذلك طريق النجاة والسلامة.
أما ما يقوله المأولون من أن قوله تعالى: )أأمنتم من في السماء( يعني شأنه في السماء، فنحن لا نسلم بذلك، بل إن ذلك يستلزم زيادة في القرآن، والزيادة لا تكون إلا حيث يوجد النقص.
والقرآن منزه عن النقص، فكيف نعدل عن النص الظاهر الصريح، ونأتي بحشو في القرآن لنصحح به أقوال من يدعي العلم.
ونحن غير متعبدين بالبحث عما وراء الغيب، ولا عما استأثر الله بعلمه؛ إذ لو كان ضروريا لأخبرنا الله بذلك في كتابه أو على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو المبلغ لما يوحى إليه من ربه، دون تحريف، وإن البحث في ذلك وغيره مما سكت عنه الرسول وأصحابه بحث في الضلال وسبب للوقوع في الهلكة.
الخلاصة:
· إن الله - عز وجل - له الصفات العلى، وله الكمال المطلق، لا يشبه أحدا من خلقه منزه عن الشبيه والشريك، والصاحبة والولد تبارك الله وتعالى، فاستواؤه معلوم، وكيفه مجهول، والسؤال عنه بدعة والإيمان به واجب، ليس كمثله شىء وهو السميع البصير.
· إثبات العلو والفوفية لله - عز وجل - لا يفيد أنه محصور في السماء محاط به، كما أن إثبات الاستواء لا يعني أن العرش يحويه، كما يتوهم ذلك من يتوهمه ويرمي به عقائد المثبتين.
(*)