زعم منافاة العدل الإلهي لمغفرة ذنوب الصائمين(*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المشككين أن الفضل الذي رتبه الإسلام على صوم رمضان من غفران للذنوب والخطايا ينافي ما هو معروف من عدله - عز وجل - وهو العدل الذي تجلى في النصرانية التي تقر أن المسيح عذب وصلب من أجل ذلك الغفران، لا أنه صام ليلة خيرا من ألف شهر، فإن هذا ونحوه - في زعمهم - مما لا يستحق ذلك الجزاء، بل يوشك أن يكون فتحا لباب المعصية والجرأة عليها.
وجوه إبطال الشبهة:
1) لا بد من مكفرات للذنوب؛ حتى لا يغلق باب التوبة فيقنط العبد من رحمة ربه، وتزداد الشرور ويعم الفساد.
2) تكفير الذنوب - الكبائر والصغائر - مقيد بشروط لا بد من تحققها.
3) العقل يقبل غفران الذنوب بالاستغفار والصوم والتوبة ونحوها في الإسلام، بينما يرفض عقيدة الفداء من أجل الخلاص.
التفصيل:
أولا. أثر تكفير الذنوب في إخلاص العبادة لله:
إن فتح باب التوبة أمام الإنسان له مقصد عظيم من قبل الخالق تعالى، فقد شرعها - أي: التوبة - لعباده؛ حتى لا يتوجهوا لغيره ولا يتعلقوا إلا به، ولا يقنطوا من رحمته، كما أنها تعمل على الحد من انتشار الشرور والآثام وشيوع الفساد في الأرض، فالإنسان متى علم أن ذنبه لن يغفر أبدا، وأن باب التوبة موصد أمامه، وأنه بذلك إلى الهلاك صائر لا محالة، فإنه سيقنط وييأس من الرحمة؛ ويؤدي به ذلك إلى التمادي في الشر والفساد، فأيهما أفضل عقلا: أن يقع الإنسان في الذنب مرة واحدة ثم يجد باب التوبة أمامه مفتوحا فيتوب ويكفر عن ذنبه، أم أن يجد باب التوبة موصدا ولا مخرج له فيتمادى في الشرور؛ لأنه يئس من غفرانه وغسله ومحوه عنه، وبذلك ينتشر الفساد في الأرض وتعم الشرور؛ فمن قتل نفسا سوف يستمر في ذلك فيقتل مائة نفس، ومن سرق مرة سوف يستمر في السرقة ويسرق آلاف المرات، ومن تعدى وظلم الآخرين سوف يستمر في عداونه وظلمه.. وما إلى ذلك من ضروب الفساد بسبب القنوط واليأس من المغفرة والرحمة.
نقول: إن الصوم مكفر من بين مكفرات الذنوب الكثيرة، فالذنوب أمراض متنوعة، والأمراض تحتاج إلى أدوية متنوعة، بل إننا نجد المرض الواحد يحتاج إلى أدوية متنوعة، وإذا نظرنا نظرة إجمالية إلى مكفرات الذنوب الكثيرة التي جاءت في ديننا الحنيف وجدناها في جملتها تقود العبد إلى هجر المعاصى؛ ومن هنا نفهم كيف تأتي هذه المكفرات ماحية للذنوب.
وصوم رمضان ليس مجرد جوع وعطش، بل تراه يتمثل في تقوى الصائم لربه، واستشعاره وهو صائم أنه يمتثل أمر الله تعالى ونهيه، وبالتالي فالامتثال والطاعة لا يتجزءان، وقد جاء في الحديث: «رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش»[1].
وتشريع الصوم محاط بزواجر عن الأخطاء وترغيب في الخيرات، بحيث لو امتثلها الصائم كان نموذجا طبا للطهر والنقاء، فيكون خاليا من الخطايا؛ فثبت بذلك أن الصوم بحق من بين مكفرات الخطايا، وهذا هو عين عدل الله وفضله وإحسانه.
على أن التكفير عن الخطايا والذنوب ليس قصرا على باب الصوم وحده؛ فقد رتب الله - عز وجل - على بعض الذنوب مكفرات حتى يتهيأ للمذنب غفران ذنبه والعودة إلى الله - عز وجل - وأمثلة ذلك:
· ما رتبه على المظاهر[2] من عتق الرقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا. هذا ما ورد في قوله تعالى: )والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير (3) فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم (4)( (المجادلة).
· ما رتبه لقبوله توبة قاتل النفس المؤمنة خطا من كفارة الصيام ودفع الدية[3]، قال تعالى: )وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما (92)( (النساء).
· ما رتبه لتوبة قاذف المحصنات المؤمنات الغافلات، قال تعالى: )والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون (4)( (النور).
· ما رتبه لتوبة الزاني في قوله تعالى: )الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين (2)( (النور).
إلى غير ذلك من أنواع الكفارات التي جعل المولى - عز وجل - فيها مخرجا لعباده؛ ليتوبوا إليه ويرجعوا، ولا يتمادوا في الباطل والغي، وهذا محض تفضل من الله تعالى وعدل منه سبحانه.
ثانيا. الكبائر من الذنوب لا يغفرها إلا التوبة منها بشروطها:
وهنا تأتي الإجابة عن السؤال: هل مجرد الصوم يؤدي إلى الخلاص وغفران الخطايا؟ وهل يتنافى ذلك مع عدل الله ورحمته؟
فنقول: إن الصيام والصلاة والحج والزكاة وكل أعمال الطاعات وفعل القربات من صيام النوافل وقيام الليل ومساعدة المساكين والمحتاجين وغيرها - كل ذلك يكفر ذنوبا كثيرة عن الإنسان، لكن هناك الذنوب الكبائر التي لا يكفرها ولا يغفرها إلا التوبة إلى الله تعالى بشروطها، وهى: الإقلاع عن الذنب، والندم على ارتكابه - وهو حزن القلب كلما تذكره وبغض المعصية - والعزم الأكيد على عدم العودة إليه، ورد الحقوق أو المظالم لأهلها فلا يدعي إنسان أنه تاب من هذا الجرم وهو مستمر عليه، وغير نادم على فعله السابق، وإلا فلا تقبل توبته؛ لأن عزمه على عدم الرجوع إليه ضعيف، كما لا تقبل التوبة من إنسان لم يرد المظالم والحقوق لأهلها، فكيف يدعي أنه تاب وهو متعد ظالم لغيره.
وهذه الكبائر مثل: القتل، الزنا، الربا، السرقة، وعقوق الوالدين وغيرها، كلها شرور عظيمة ومفاسد فادحة، إذا انتشرت في المجتمع أهلكته ودمرته؛ لذلك لا بد من الانتهاء عنها حتى تغفر الذنوب، والقيام بكفارة كل ذنب على جدة، كما هو مفصل لدى الفقهاء والعلماء في الشريعة، وهذا ما يوضحه الحديث الصحيح«الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنب الكبائر»[4].
فالشروط التي ينبغي توافرها حتى يكفرالصيام والصلاة وغيرهما الذنوب هو اجتناب الكبائر، وكذلك التوبة منها إن وقع فيها، والتوبة منها بشروطها الخاصة كل ذنب له توبته. فمثلا: لا ينتظر إنسان أن يغفر له صيام رمضان ذنوبه وهو متعد وظالم للآخرين، فلا بد حتى يغفر له أن يرجع عن ذلك بل ويرد المظالم لأهلها.
ثالثا. موقف العقل من تكفير الذنوب في الإسلام وعقيدة الفداء النصرانية:
في العقيدة الإسلامية إذا ارتكب الإنساني ذنبا فهو الذي يتحمله ويتحمل مسئولية نفسه ولا يتحمله عنه غيره: )كل نفس بما كسبت رهينة( (المدثر: 38). والقانون العام في الإسلام وهو كذلك قانون العدل الإلهي: )ألا تزر وازرة وزر أخرى (38) وأن ليس للإنسان إلا ما سعى (39) وأن سعيه سوف يرى (40) ثم يجزاه الجزاء الأوفى (41)( (النجم)، فعلى الإنسان الذي اقترف ذنبا أو خطيئة أن يتوب منها ويكفر عنها حتى تغفر له؛ فلا يتحمل أحد عنه ذنوبه، وإنما المسئولية والمساءلة تقع على عاتق صاحبها، وعليه هو - لا غيره - أن يتخلص ويتطهر من ذنوبه بتحمله وقيامه وحده بالسبل والوسائل التي تخلصه، وكل هذا يقبله العقل ويستسيغه، بل إن الفلاسفة - في طائفة عظيمة منهم - يقولون: الإنسان حر وحريته تستلزم مسئوليته عن قراره وهو معنى يشبه أن يكون متفقا عليه والعقول السليمة، وهو الذي أقره الإسلام في جلاء وحسم، أما التجسد والخلاص عن طريق صلب المسيح - عليه السلام - والإيمان به في العقيدة المسيحية التي يتغنى بها هؤلاء، فأين هو من عدل الله وقداسته؟ وأين العدل الإلهي في أن تتحمل البشرية خطيئة لم ترتكبها ويولد كل إنسان مخطئا بدون أن يرتكب شيئا؟ أم من العدل الإلهي أن يصلب أو يقتل واحد ليغفر للناس جميعا ذنب لم يرتكبوه؟ إنها معادلة متناقضة تتحير العقول في فهمها، بل لا تستطيع أن تقبلها أبدا؛ مما يضطر الإنسان إلى رفضها رفضا قطعيا.
وهل من قداسة الله تعالى التي تعني تنزهه عن الشبيه والمماثل أن يتجسد في شخص إنسان؟ تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، فهذه الأسطورة أسطورة ابن الله الفادي أو المخلص لأبناء آدم من خطيئة أبيهم، هذه المقولة غير المعقولة لا تصلح أساسا للتعامل البشرى؛ إذ إنها تنفي المسئولية الشخصية فكيف ارتضاها الله سبحانه لكي تكون سنته في التعامل مع البشر؟
وإذا افترضنا أن واحدا من البشر ذهب إلى المحكمة متلبسا بجريمة قتل، يده ملوثة بالدم وثبتت إدانته من كل وجه، أيحق له أو لمحاميه أن يدافع قائلا: أنا قتلت، ولكن زيدا من الناس سيتحمل عني هذه المسئولية فحاكموه هو؟
فإذا كان هذا لا يجوز في عرف ومنطق البشر، فكيف به يصح أمام عدالة الله القائل: )ألا تزر وازرة وزر أخرى (38) وأن ليس للإنسان إلا ما سعى (39)( (النجم).
والتوراة التي توجد بين يدي القوم تؤكد ذلك قائلة: "لا يقتل الآباء عن الأولاد ولايقتل الأولاد عن الآباء، كل إنسان بخطئه يقتل"؛ وبناء عليه فقضية فداء المسيح - المدعو إلها سنة 325م - للبشرية قضية كاذبة خاطئة لا يرضى بها الواقع ولا يقبلها العقل السليم، بل رفضها الدين الصحيح (الإسلام) [5].
الخلاصة:
· لا بد من مكفرات الذنوب حتى لا يغلق باب التوبة في وجه الناس فيقنطوا من رحمة الله وييئسوا منه، ويؤدي بهم ذلك إلى التمادي في الذنوب، فتزداد الشرور ويعم الفساد.
· الكبائر من الذنوب لا يكفرها إلا التوبة بشروطها، وهى: الإقلاع عنها، والندم عليها والعزم على عدم الرجوع إليها، ورد المظالم لأهلها، كما أن الإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة من الكبائر، كما روى: لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار.
· العقل يستسيغ طريقة الإسلام في تكفير الذنوب، وهي أن يتحمل الإنسان جريرته، وعليه وحده كفارتها حتى تغفر ذنوبه، بينما لا يقبل العقل السليم عقيدة الفداء في المسيحية والتي تقوم على منظومة متناقضة لا عدل فيها ولارحمة، وهي أن يولد الإنسان مخطئا ويتحمل جرما لم يرتكبه، ثم يقتل أفضل الناس وأبرهم؛ ليغفر للناس خطأ لم يرتكبوه، إن العقول السليمة حينما تسمع ذلك تضطر إلى أن ترفضه بل أن تستهجنه.
(*) هل القرآن معصوم؟ موقع إسلاميات، عبد الله عبد الفادي