ادعاء اختلاف تصور الإله عند المسلمين عنه لدى سائر الأنبياء(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المغالطين أن الإله الذي يؤمن به المسلمون هو إله خاص بهم وحدهم، مختلف عن الإله الذي دعت إليه كل الرسالات وديانات كل الرسل من قبل؛ فليس هو إله إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، وموسى، وعيسى - عليهم السلام، ومتى تقرر أن وحي الله في جانب العقائد لا يتبدل كان ذلك بمجرده طعنا في الإسلام وعقيدته؛ بما أن تصوره عن الإله لا يكاد يعرف عن أحد من الأنبياء السابقين.
وجها إبطال الشبهة:
1) العقيدة في الله التي بعث بها الأنبياء جميعهم لم يختلف مضمونها منذ بعثة أدم ـعليه السلام - إلى بعثة خاتم النبييين محمد - صلى الله عليه وسلم - وهي الإيمان بوجود الله ووحدانيته.
2) الصورة التي تقدمها الكتب المقدسة لغير المسلمين من اليهود والنصارى للألوهية فيها من التشويه وإثبات صفات النقص ما يتنزه جناب الألوهية عنه، وهو ما لا نجده في التصور الإسلامي عن الإله.
التفصيل:
أولا. العقيدة الصحيحة التي بعث بها الأنبياء عليهم السلام:
إن العقيدة الصحيحة لم يختلف مضمونها منذ بعثه آدم - عليه السلام - إلى خاتم النبيين محمد - صلى الله عليه وسلم - ومضمونها الذي تعاقب الرسل والأنبياء على الدعوة إليه هو: الإيمان بوجود الله ووحدانيته، وتنزيهه عن كل ما لا يليق به من صفات النقص، والإيمان باليوم الآخر والحساب والجنة والنار وما إلى ذلك.
فكان كل رسول يدعو قومه إلى الاعتقاد بهذه الأمور، وكان كل منهم يؤكد بذلك دعوة من بعث قبله، ويبشر ببعثة من سيأتي بعده، وهذا وضحه الله - عز وجل - في كتابه المبين في آيات كثيرة، كقوله تعالى: )وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون (25)( (الأنبياء)، وقوله تعالى: )شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب (13)( (الشورى).
بل إن من يتتبع آيات القرآن الكريم، يلاحظ أن اسم الإسلام كان هو الاسم القديم والدائم لهذه العقيدة، يقول تعالى: )ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين (67)( (آل عمران)، وفي قوله تعالى عن سحرة فرعون: )قالوا إنا إلى ربنا منقلبون (125) وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيــات ربنــا لمـا جاءتنــا ربنا أفرغ علينـا صبـرا وتوفنـا مسلميـن (126)( (الأعراف) وفي قوله تعالى عن حواريي عيسى عليه السلام: )فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريـون نحن أنصـار الله آمنـا بالله واشهـد بأنا مسلمــون (52)( (آل عمران)، ومن ذلك يتبين أن الدين الحق واحد لم يتعدد، وأن كلمة "الأديان السماوية" التي تتكررعلى ألسنة عوام الناس كلمة خاطئة، فليس ثمة إلا دين حق سماوي واحد تعاقبت الأنبياء والرسل على الدعوة إليه والبعثة به.
وكيف يمكن للدين الحق أو الاعتقاد الصحيح أن يتعدد أو يختلف على ألسنة الأنبياء والمرسلين، وأمور العقيدة تكون دائما من قبيل الإخبار، والخبر الواحد لا يمكن أن ينقل على أشكال ووجوه عديدة متخالفة ثم تكون كلها أخبارا صحيحة سماوية صادقة؟
إن الذي تطور وتغير مع الزمن وعن طريق بعثة الرسل والأنبياء، إنما هو التشريع على اختلافه من عبادات ومعاملات... وغير ذلك. والحكمة في ذلك أن التشريع إنما هو إقامة الأحكام التي يتوخى منها تنظيم حياة المجتمع والفرد، وبدهي أن يكون للتطور الزمني واختلاف الأمم والأقوام أثر في تطور شرائعهم، ففكرة التشريع - إذا - قائمة على ما تقتضيه مصالح العباد في دنياهم وآخرتهم، وهذه المصالح كثيرا ما تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، فقد بعث موسى - عليه السلام - إلى بني إسرائيل، وكان الشأن يقضي - بالنسبة لحال بني إسرائيل إذ ذاك - أن تكون شريعتهم شديدة وقائمة في مجموعها على أساس العزائم لا الرخص، ولما مرت أزمنة وبعث فيهم سيدنا عيسى عليه السلام جاءهم بشريعة أسهل وأيسر، وانظر إلى قول الله تعالى على لسان عيسى - رضي الله عنه - وهو يخاطب بني إسرائيل: )ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون (50)( (آل عمران)، فقد بين لهم أنه فيما يتعلق بأمور العقيدة، مصدق لما جاء في التوراة، ومؤكد له ومجدد للدعوة إليه، أما بالنسبة للتشريع وأحكام الحلال والحرام، فقد كلف ببعض التغييرات وإيجاد بعض التسهيلات؛ فعمل الرسول بالنسبة للعقيدة ليس سوى تأكيد نفس العقيدة التي بعث بها من قبله دون أي مخالفة أو تغيير.
والذي يدرس شئون العقيدة وبراهينها، إنما يدرس تلك الحقائق التي ألزم الله عباده بالإيمان والاعتقاد بها منذ بعثة آدم عليه السلام إلى أن يرث الأرض ومن عليها، وتلك هي العلاقة بين العقيدة الإسلامية وكل ما جاء به الأنبياء والرسل - عليهم السلام -، وأهل الكتاب يعلمون هذه العلاقة، ويعلمون وحدة الدين، ويعلمون أن الأنبياء إنما جاءوا ليصدق كل منهم الآخر فيما بعث به، وما كانوا ليتفرقوا إلى عقائد متباينة مختلفة، ولكنهم اختلفوا وتفرقوا فيما بينهم، واختلقوا على الأنبياء ما لم يقولوه على الرغم مما جاءهم من العلم في ذلك، بغيا بينهم، وصدق الله إذ يقول: )إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب (19)( (آل عمران) [1].
ثانيا. أهل الكتاب حرفوا كتبهم وغيروا عقيدتهم، أما العقيدة الإسلامية فبقيت على الأصل الصحيح:
جاء الإسلام بالعقيدة الصحيحة المؤكدة لما أرسل الله به رسله من قبل بصورة متكاملة ونظرة متوازنة توافق الفطرة الإنسانية، ويستسيغها العقل البشري، على النقيض من تلك الصورة التي عرضتها اليهودية والنصرانية المحرفتين للإله، فالإله الذي نؤمن به وندين بشرعه هو إله واحد لا شريك له متصف بصفات الكمال، ووضوح هذا التصور يقابله وضوح هذه الشريعة الإسلامية وكمالها ومواءمتها لأحوال الناس، وتميز العقيدة يدل دلالة يقينية على تميز الشريعة، فإن الإله الذي له حق العبودية هو وحده الذي له حق التوجه والعبادة، وهو وحده الذي له حق التشريع.
وإليك تصور الإله عند اليهود والنصارى؛ لتعلم الفرق بين العقيدة الصحيحة التي تتفق مع الفهم الفطري السليم، وبين هذا الانحطاط والسقوط:
1. الإله عند اليهود:
اتصف اليهود بالطبيعية المادية، فقد كانوا دائما مائلين إلى تشبيه الإله وتجسيمه: )وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون (55)( (البقرة)، وعلى الرغم من بقايا النظرة الصحيحة للإله كإله واحد مستحق للعبودية، طغت طبيعة اليهود الحسية على هذا التوحيد الخالص، وألبست الإله ثوب الخصوصية لهذا الشعب.
فإله اليهود ليس عالـما بكل شئ، كما أنه ليس معصوما من الخطأ. ويهوه إله اليهود يأكل ويشرب ويأمر بالسرقة، يهوه إله قاس ومدمر، متعصب لشعبه، ليس إله كل الشعوب، بل إله بني إسرائيل فقط، وهو بهذا عدو للآلهه الآخرين، كما أن شعبه عدو للشعوب الأخرى، وقد قسم لهم الشعوب قسمين: أمما قريبة، وهؤلاء جزاؤهم التحريم والقتل، وأما الأمم البعيدة فقد جاء النص عليهم بمايلى: "حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستبعد لك، وإن لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكروها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة، كل غنيمتها، فتغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك". (التثنية 20: 10 - 14). ولا يمكن أن يقبل عاقل أن تكون هذه الدعوة دعوة رب إله، وإن شاءوا أن يعرفوا دعوة الإله لعبيده فليقرءوا ما خاطب به الإسلام شعوب الأرض إبان الفتوحات الإسلامية.
2. الإله عند النصارى:
المسيح - كما يدعي المسيحيون - إله النصارى، فالله عندهم هو الذي نزل وظهر كإنسان، وصلب وصعد إلى السماء، فهو ذو طبيعة واحدة، كما يرى الأرثوذكس[2]، أو هو إله ذو طبائع ثلاث فهو آب وابن وروح قدس، وكل واحد، منهم متفرد عن الآخر، ولكنهم ليسوا ثلاثة، بل إله واحد وهو ليس واحدا بسيطا، ولكنه آلهة ثلاثة، والعقلية التي تؤمن وتعتقد هذه العقيدة لا يمكن أن تكون سوية، وما يقال عن النصرانية يقال عن اليهودية من سفاهة العقيدة في الإله، وغباوة التصور العنصري، الذي يرى الإله إلها خاصا لشعب خاص، وباقي شعوب الأرض خلقوا من طينة مختلفة.
3. العقيدة الإسلامية في الله:
هذه العقيدة يصورها أدق تصوير قوله تعالى: )قل هو الله أحد (1) الله الصمـد (2) لـم يلـد ولـم يولد (3) ولم يكن لـه كفـوا أحـد (4)( (الإخلاص)، إنها أحدية الوجود، فليس هناك وجود حقيقي إلاوجوده، وكل موجود آخر فإنما يستمد وجوده من ذلك الوجود الحقيقي، ويستمد حقيقته من تلك الحقيقة الذاتية، وهي من ثم أحدية الفاعلية، فليس سواه فاعلا في شىء من هذا الوجود أصلا، وإذا استقر هذا التفسير ووضح هذا التصور خلص القلب من كل غاشية ومن كل شائبة، ومن كل تعلق بغير هذه الذات الواحدة المنفردة بحقيقة الوجود وحقيقة الفاعلية، فعندئذ يتحرر العبد من جميع القيود، ويتحرر من الرغبة في غير الله والرهبة من غير الله، وهو لا يفقد شيئا متى وجد الله، ومن ذا يرهب ولا وجود لفاعلية إلا الله؟!
يلي هذه الدرجة درجة يرى فيها القلب يد الله في كل شىء ووراءها الدرجة التي لا يرى فيها شيئا في الكون إلا الله، ويصحب هذا نفي فاعليه الأسباب ورد كل شىء وكل حدث وكل حركة إلى السبب الأول الذي منه صدرت وبه تأثرت، قال تعالى: )فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم (17)( (الأنفال)، وقال تعالى: )وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم (126)( (آل عمران)، وقول تعالى: )وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما (30)( (الإنسان).
ومن هنا ينبثق منهج متكامل للحياة: منهج لعبادة الله وحده الذي لا حقيقة لوجود إلا وجوده، ولاحقيقة لفاعلية إلا فاعليته، ولا أثر لإرادة إلا إرادته، ومنهج للاتجاه إلى الله وحده في الرغبة والرهبة، وإلا فما جدوى التوجه لمن لا حقيقة لوجوده، ولا حقيقة لفاعليته؟ إنه منهج للتلقي عن الله وحده، تلقي العقيدة والتصور والقيم والموازين، والشرائع والقوانين والأوضاع والنظم، والآداب والتقاليد، فالتلقي لا يكون إلا عن الوجود الواحد والحقيقة المفردة في الواقع وفي الضمير، ومنهج للتحرك والعمل لله وحده ابتغاء القرب من الحقيقة، ومنهج يربط مع هذا بين القلب البشري وبين كل موجود برابط الحب والأنس والتعاطف والتجاوب[3]. هذه العقيدة الصافية هي التي ترتاح إليها الفطر السوية، وتقبلها العقول السليمة، وهي العقيدة التي جاء بها الرسل جميعا.
الخلاصة:
· العقيدة الصحيحة لم يختلف مضمونها منذ بعثة آدم - عليه السلام - إلى بعثة خاتم النبيين محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو الإيمان بوجود الله ووحدانيته وتنزيهه عن كل ما لا يليق به من صفات النقص، والإيمان باليوم الآخر والحساب والجنة والنار...
· ليس هناك إلادين حق سماوي واحد تعاقبت الأنبياء والرسل على الدعوة إليه والبعثة به، وعمل الرسول بالنسبة للعقيدة ليس سوى تأكيد لنفس العقيدة التي بعث بها من قبله دون أي تخالف أو تغير.
· جاء الإسلام بالعقيدة الصحيحة الواضحة بصورة متكاملة ومتوازنة للإله، توافق الفطرة الإنسانية ويستسيغها العقل البشري، ففي حين اتصف اليهود بالطبيعة المادية التي تميل إلى تشبيه الإله وتجسيمه، وزعم النصارى أن المسيح هو الله جاء الإسلام ليقر عقيدة الوحدانية واتصافه - عز وجل - بالكمال والجلال، وتنزيهه عن كل ما لا يليق بجانب الألوهية، هذه هي العقيدة النقية، وهي التي ترتاح إليها الفطرة السوية، وتقبلها العقول السلمية، وهي العقيدة التي جاء بها كل الأنبياء والمرسلين من آدم - عليه السلام - إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - وبهذا البيان بطل الزعم القائل: إن الإله الذي يعبده المسلمون يختلف عن إله الديانات السماوية الآخرى.
(*) قضايا قرآنية في الموسوعة البريطانية: نقد مطاعن ورد شبهات، د. فضل حسن عباس، دار البشير، عمان، الأردن، ط2، 1410هـ/ 1989م.