إنكار ثبوت عقيدة التوحيد في الشرائع السماوية(*)
مضمون الشبهة:
ينكر بعض المغالطين ثبوت عقيدة التوحيد في الشرائع السماوية، ويدعون أنها أقرت عقيدة التثليث، مستدلين على ذلك ببعض شعائر المسلمين، كقولهم في الأذان: الله أكبر؛ فاستخدام صيغة أفعل تدل على أن هناك أكثر من إله، هذا أكبرهم. وكذلك قول المسلمين: بسم الله الرحمن الرحيم؛ كما يقول النصارى: بسم الآب والابن والروح القدس، كما يستدلون على ذلك بقوله تعالى: )فتبارك الله أحسن الخالقين (14)( (المؤمنون) حيث تدل صفة أفعل (أحسن) أيضا على وجود أكثر من خالق، هذا أحسنهم، ويتساءلون: كيف بعد هذا يدعى أن الإيمان في الإسلام مؤسس على التوحيد؟
وجوه إبطال الشبهة:
1) الحقيقة الواضحة في القرآن هي التوحيد الخالص، ونفي ألوهية غير الله، ونبذ الشرك، وهذا هو الأساس الذي تصح معه جميع الأعمال.
2) التوحيد هو أصل جميع الشرائع، والأنبياء دينهم واحد وإلههم واحد.
3) ليس في القرآن الكريم ما يسوغ أن يكون إشارة إلى إقرار التثليث ونحوه من صور التعدد.
التفصيل:
أولا. التوحيد الخالص في القرآن الكريم:
إن التوحيد هو الأساس الذي تقوم عليه العقيدة الصحيحة في الإسلام، وتصح معه جميع الأعمال، كما قال تعالى: )قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا (110)( (الكهف)، وقال تعالى: )ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين (65)( (الزمر)، وقال تعالى: )إنا أنزلنا إليــك الكتـاب بالحـق فاعبـد الله مخلصا له الديـن (2) ألا لله الدين الخالـص( (الزمر).
فدلت هذه الآيات الكريمة، وما جاء بمعناها - وهو كثير - على أن الأعمال لا تقبل إلا إذا كانت خالصة من الشرك، والتوحيد ثلاثة أنواع:
1. توحيد الربوبية[1]:
وهو الذي أقر به الكفار على زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يدخلهم في الإسلام، وقاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستحل دماءهم وأموالهم، وهو توحيد بفعله تعالى، والدليل قوله تعالى: )قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميـت من الحي ومـن يدبـر الأمر فسيقولــون الله فقـل أفلا تتقـون (31)( (يونس)، وقال تعالى: )قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون (84) سيقولون لله قل أفلا تذكرون (85) قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم (86) سيقولون لله قل أفلا تتقون (87) قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتـم تعلمـون (88) سيقولـون لله قـل فأنـى تسحــرون (89)( (المؤمنون).
والآيات على هذا كثيرة جدا، أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر[2].
2. توحيد الألوهية[3]:
وهو التوحيد الذي وقع فيه النزاع في قديم الدهر وحديثه، وهو: توحيد الله بأفعال العباد، كالدعاء والنذر والنحر، والرجاء والخوف والتوكل، والرغبة والرهبة والإنابة.
وذلك كما في قوله تعالى: )وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين (60)( (غافر)، وكل نوع من هذه الأنواع عليها دليل من القرآن.
وأصل العبادة تجريد الإخلاص لله تعالى وحده، وتجريد المتابعة للرسول - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: )وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا (18)( (الجن)، وقال تعالى: )وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون (25)( (الأنبياء)، وقال تعالى: )له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال (14)( (الرعد)، وقال تعالى: )ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير (30)( (لقمان).
3. توحيد الذات والأسماء والصفات:
قال تعالى: )قل هو الله أحد (1) الله الصمد (2) لم يلد ولم يولد (3) ولم يكن له كفوا أحد (4)( (الإخلاص)، وقال تعالى: )ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون (180)( (الأعراف)، وقال تعالى: )ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (11)( (الشورى) [4].
مما سبق يتبين أن التوحيد هو أساس العقيدة الصحيحة، ولأهميته كان اهتمام الرسل - عليهم السلام - بإصلاح العقيدة أولا ودعوة الناس إلى توحيد الله - عز وجل - وترك عبادة ما سواه، كما قال تعالى: )ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت( (النحل: 36)، وكل رسول يقول أول ما يخاطب قومه: )اعبدوا الله ما لكم من إله غيره( (الأعراف: 59)، قالها نوح، وهود، وصالح، وشعيب، وسائر الأنبياء لقومهم.
وقد بقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكة بعد البعثة ثلاثة عشر عاما يدعو الناس إلى التوحيد، وإصلاح العقيدة؛ لأنها الأساس الذي يقوم عليه بناء الدين[5].
وقد تبين أن الإسلام نبذ الشرك ونفى تعدد الآلهة، فليس في هذا الوجود من إله إلا الله عز وجل.
ثانيا. التوحيد هو الأصل الذي دعت إليه جميع الشرائع، والأنبياء دنيهم واحد وإلههم واحد:
وهذا في القرآن مذكور في مواضع كثيرة، وكذلك في الأحاديث الصحيحة مثل ما جاء، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة والأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد» [6]، ومثل صفته في التوراة: "لن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء، ففتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا"، ولهذا وحد الصراط والسبيل في مثل قوله تعالى: )اهدنا الصراط المستقيم (6)صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين (7)( (الفاتحة)، ومثل قوله تعالى: )وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله( (الأنعام:153).
والإسلام دين جميع المرسلين، قال نوح عليه السلام: )فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين (72)( (يونس)، وقال الله عن سحرة فرعون: )ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين (126)( (الأعراف)، وقال عن فرعون: )آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين (90)( (يونس)، وقال الحواريون: )اشهدوا بأنا مسلمون (64)( (آل عمران)، وقال يوسف عليه السلام: )توفني مسلما وألحقني بالصالحين (101)( (يوسف)، وقال موسى: )وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين (84)( (يونس)، وقالت بلقيس: )رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين( (النمل: 44)، وقال عن التوراة: )إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار( (المائدة: 44).
وقد وردت نصوص عديدة في التوراة تدعو إلى التوحيد، وتحذر من صور الشرك، فقد جاء في سفر الخروج: "أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية". (الخروج 20: 2)، وفي سفر التثنية: "فتحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك ومن كل قوتك، ولتكن هذه الكلمات التي أنا أوصيك بها اليوم على قلبك، وقصها على أولادك، وتكلم بها حين تجلس في بيتك، وحين تمشي في الطريق، وحين تنام وحين تقوم، واربطها علامة على يدك، ولتكن عصائب بين عينيك، واكتبها على قوائم أبواب بيتك وعلى أبوابك.ومتى أتى بك الرب إلهك إلى الأرض التي حلف لآبائك إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن يعطيك، إلى مدن عظيمة جيدة لم تبنها، وبيوت مملوءة كل خير لم تملأها، وأبآر محفورة لم تحفرها، وكروم وزيتون لم تغرسها، وأكلت وشبعت، فاحترز لئلا تنسى الرب الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية. الرب إلهك تتقى، وإياه تعبد، وباسمه تحلف. لا تسيروا وراء آلهة أخرى من آلهة الأمم التي حولكم، لأن الرب إلهكم إله غيور في وسطكم، لئلا يحمي غضب الرب إلهكم عليكم فيبيدكم عن وجه الأرض". (التثنية 6: 5 - 15)، وكما نهوا عن عبادة الأوثان نهوا عن عبادة النجوم وغيرها كما جاء: "ولئلا ترفع عينيك إلى السماء، وتنظر الشمس والقمر والنجوم، كل جند السماء التي قسمها الرب إلهك لجميع الشعوب التي تحت كل السماء، فتغتر وتسجد لها وتعبدها ". (التثنية 4: 19).
بل وأمروا أن يعاملوا بالشدة جميع الأمم التي تدين بعبادة الأوثان، كقوله في سفر التثنية: "فإنك تحرمهم، لا تقطع لهم عهدا، ولا تشفق عليهم، ولا تصاهرهم. بنتك لا تعط لابنه، وبنته لا تأخذ لابنك؛ لأنه يرد ابنك من ورائي فيعبد آلهة أخرى، فيحمي غضب الرب عليكم ويهلككم سريعا، ولكن هكذا تفعلون بهم: تهدمون مذابحهم، وتكسرون أنصابهم، وتقطعون سواريهم، وتحرقون تماثيلهم بالنار". (التثنية 7: 2 - 5).
وكما أمروا بالقسوة على الأمم الوثنية أمروا بمثل ذلك في حق من يشرك منهم: فقد أمر موسى - عليه السلام - بني لاوي رهطه بقتل عبدة العجل حين عبد العجل في غيبته، وفي سفر التثنية: "إذا قام في وسطك نبي أو حالم حلما، وأعطاك آية أو أعجوبة، ولو حدثت الآية أو الأعجوبة التي كلمك عنها قائلا: لنذهب وراء آلهة أخرى لم تعرفها ونعبدها، فلا تسمع لكلام ذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم، لأن الرب إلهكم يمتحنكم لكي يعلم هل تحبون الرب إلهكم من كل قلوبكم ومن كل أنفسكم، وراء الرب إلهكم تسيرون، وإياه تتقون، ووصاياه تحفظون، وصوته تسمعون، وإياه تعبدون، وبه تلتصقون، وذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم يقتل، لأنه تكلم بالزيغ من وراء الرب إلهكم الذي أخرجكم من أرض مصر، وفداكم من بيت العبودية، لكي يطوحكم عن الطريق التي أمركم الرب إلهكم أن تسلكوا فيها، فتنزعون الشر من بينكم، وإذا أغواك سرا أخوك ابن أمك، أو ابنك أو ابنتك أو امرأة حضنك، أو صاحبك الذي مثل نفسك قائلا: نذهب ونعبد آلهة أخرى لم تعرفها أنت ولا آباؤك من آلهة الشعوب الذين حولك، القريبين منك أو البعيدين عنك، من أقصاء الأرض إلى أقصائها، فلا ترض منه ولا تسمع له ولا تشفق عينك عليه، ولا ترق له ولا تستره، بل قتلا تقتله، يدك تكون عليه أولا لقتله، ثم أيدى جميع الشعب أخيرا، ترجمه بالحجارة حتى يموت". (التثنية 13: 1 - 10).
وكما أمرت التوراة بعبادة الله وحده ونبذ الشرك وعبادة غير الله، كذلك وجد في الإنجيل ما يدل على أن الله واحد لا شريك له، وما ذهبوا إليه من التثليث وادعاء آلهة مع الله، هو وهم باطل لا دليل عليه من كتابهم، وهذا التوحيد قد بينته نصوص من أناجيلهم على النحو التالى:
1. إنجيل متى: "وإذا واحد تقدم وقال له: أيها المعلم الصالح، أي صلاح أعمل لتكون لي الحياة الأبدية، فقال له: لماذا تدعوني صالحا، ليس أحد صالحا إلا واحد وهو الله". (متى 19: 16، 17). فهذا القول يقلع أصل التثليث، وما رضى تواضعا أن يطلق عليه لفظ الصالح. أيضا ولو كان إلها لما كان لقوله معنى، وكان عليه أن يبين، لا صالح إلا الآب وأنا وروح القدس، ولم يؤخر البيان عن وقت الحاجة. وإذا لم يرض بقوله "الصالح"، فكيف يرضى بأقوال أهل التثليث التي يتفوهون بها في أوقات صلاتهم: يا ربنا وإلهنا يسوع المسيح لا تضيع من خلقت بيدك؟
وورد في قول إبليس للمسيح: "إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل، لأنه مكتوب: أنه يوصي ملائكته بك، فعلى أياديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك، قال له يسوع: مكتوب أيضا: لا تجرب الرب إلهك، ثم أخذه أيضا إبليس إلى جبل عال جدا، وأراه جميع ممالك العالم ومجدها، وقال له: أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي، حينئذ قال له يسوع: اذهب يا شيطان! لأنه مكتوب: للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد". (متى 4: 6 - 10).
ويقول المسيح لتلاميذه: "متى صليتم فقولوا: أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء، كذلك على الأرض، خبزنا كفافنا وأعطنا اليوم، واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا، ولا تدخلنا في تجربة، لكن نجنا من الشرير؛ لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد آمين". (متى 6: 9 - 13).
ويقول: "أفما قرأتم ما قيل لكم من قبل الله القائل: أنا إله إبراهيم، وإله إسحاق، وإله يعقوب، ليس الله إله أموات، بل إله أحياء". (متى 22: 31، 32).
2. إنجيل مرقس: "فجاء واحد من الكتبة، وسمعهم يتحاورون، فلما رأى أنه أجابهم حسنا سأله: أية وصية هي أول الكل، فأجابه يسوع: إن أول كل الوصايا: اسمع يا إسرائيل: الرب إلهنا رب واحد، وتحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل فكرك، ومن كل قدرتك هذه هي الوصية الأولى، وثانية مثلها هي أن تحب قريبك كنفسك، ليس وصية أخرى أعظم من هاتين". (مرقس 12: 28 - 31).
3. إنجيل يوحنا: قال عيسى - عليه السلام - في خطاب الله: "وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته". (يوحنا 17: 3)، فبين عيسى - عليه السلام - أن الحياة الأبدية عبارة عن أن يعرف الناس أن الله واحد حقيقي، وأن عيسى - عليه السلام - رسوله. وما قال: إن الحياة الأبدية أن يعرفوا أن ذاتك ثلاثة أقانيم ممتازة بامتياز حقيقي. وأن عيسى إنسان وإله، أو أن عيسى إله مجسم، فلو كان اعتقاد التثليث مدار النجاة لبينه، وإذ ثبت أن الحياة الأبدية اعتقاد التوحيد الحقيقي لله واعتقاد الرسالة للمسيح، فضدها يكون موتا أبديا وضلالا بينا ألبتة. والتوحيد الحقيقي ضد للتثليث الحقيقي. وكون المسيح رسولا ضد لكونه إلها؛ لأن التغاير بين المرسل والمرسل ضروري.
وهذه النصوص السابقة تدل على أن المسيح - عليه السلام - دعا إلى عبادة الله وحده، ولم يدع أحدا إلى عبادة نفسه، والقرآن يشهد له أنه ما خالف الأنبياء والمرسلين في دعوة التوحيد، قال تعالى: )ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون (63) إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم (64)( (الزخرف).
ويذكر لنا القرآن صورة لما سيكون يوم القيامة، حين يسأل عيسى - عليه السلام - عما يقوله النصارى من أمرهم أن يتخذوه وأمه إلهين من دون الله، فيجيب على ذلك البهت بهذا الجواب المفحم: )سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب (116) ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد (117)( (المائدة). فتبين أن التوحيد هو أصل جميع الأديان، دعت إليه التوراة ودعا إليه الإنجيل، وإنما طرأت مزاعم التعدد بالتثنية أو الثليث في هذه القصائد في طور متأخر من تاريخها، ولم تكن تعرفها النصوص الأولى التي لم تزل - على رغم تبديلها - تحتفظ بما يشهد للاعتقاد الأول فيها، وهو التوحيد[7].
ثالثا. تهافت المزاعم عن إقرار الإسلام لبعض صور التثليث:
من العجيب - بعد كل ما تقدم - أن يلتمس أناس إشارات إلى التثليث في القرآن الكريم وغيره من العبادات التي يرددها المسلمون في عباداتهم، ويقدمون هذا الفهم الخاطئ لهذه الإشارات التي يتوهمونها على الآيات الصريحة الكثيرة التي تشرح التوحيد خالصا من شوائب الشرك.
ومن ذلك استدلالهم بما يقال في أول القرآن عند التسمية )بسم الله الرحمن الرحيم( بأنه مثل ما جاء في الإنجيل عن عيسى عليه السلام: "فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس". (متى28: 19)، فالمسلمون بهذا في نظرهم يعتقدون بتثليثهم. والجواب: أن التثليث ليس من المسيحية التي أتى بها المسيح، فالمسيح جاء بالتوحيد الخالص الذي دعا إليه جميع الأنبياء، وقد تقدم بيان ذلك.
أما زعمهم أن )بسم الله الرحمن الرحيم( هي مثل: الآب والابن والروح القدس، فهذا فهم خاطئ وتحريف؛ لأن الله تعالى في البسملة معناه: الذات الموصوفة بصفات الكمال، ونعوت الجلال، و )الرحمن الرحيم( صفات الله سبحانه وتعالى باعتبار الخير والإحسان الصادرين عن قدرته[8].
فهذا - إذن - ليس تثليثا، والله - عز وجل - كما هو رحمن ورحيم، فهو - أيضا - ملك وقدوس، وسلام ومؤمن ومهيمن... إلخ، فأسماء الله وصفاته كثيرة، لا يعقل أن يقال إن الله يتعدد بتعدد صفاته وأسمائه.
وأما استدلالهـم بقـول الله تعالـى: )فتبـارك الله أحسـن الخالقيــن (14)( (المؤمنون)، فهذا فهم خاطئ، فقوله في هذه الآية: )أحسن الخالقين( أي: المقدرين، والعرب تطلق الخلق وتريد التقدير، ومنه قول زهير:
ولأنت تفري ما خلقت وبعـ
ض القوم يخلق ثم لا يفري
فقوله: يخلق ثم لا يفرى؛ أي: يقدر الأمر، ثم لا ينفذه لعجزه عنه كما هو معلوم[9].
فكيف يزعمون ذلك والله تعالى ينفي الخلق عن غير الله، فيقول: )أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون (17)( (النحل)، ويثبت الخلق لله وحده: )ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين (54)( (الأعراف: 54)، أي: له الخلق وليس لغيره، ويتحدى الله تعالى أن يكون الشركاء الذين يعبدون من دونه الله يخلقون: )إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب (73)( (الحج).
وأما زعمهم بأن قول المؤذن: "الله أكبر" يقتضي أن هناك مقارنة بين إلهين أكبر وأصغر، فهذا الفهم الفاسد يبرهن على فساده آيات كثيرة، جاءت صريحة قاطعة بأن لا إله إلا الله، حتى أصبحت حقيقة إسلامية يعرفها جميع الناس عن الإسلام دين التوحيد، الذي لا يؤمن فيه المؤمن بإله مع الله.
أما التكبير بهذه الصيغة في الآذان وفي الصلاة، وفي الذكر فهو تنبيه للعاقل بأنه مهما كبر عندك شىء فانتبه إلى أن الله أكبر منه؛ ليترك كل ما في يده مهما كان شأنه عنده، ويقبل على ربه ومناجاته، فليس هناك أكبر من الله تعالى.
من هنا اقتضت الحكمة أن يفتتح بها الآذان ويختتم، وتفتتح بها الإقامة للصلاة وتختتم، وتفتتح بها الصلوات وتتخلل أعمالها، ليكون التكبير تنبيها متواليا يرد المسلم إلى ربه كلما شرد به تفكيره إلى ما يهمه من أمر دنياه.
ومن هنا كان التكبير شعار المجاهدين المنتصرين الفاتحين، فهو مصدر إلهام لهم، وقوة إيمانية لهم، حيث لا يجدون فوق الله كبيرا، وبهذا تتحطم على أيديهم قوى الطغيان والبطش مهما أوتيت، وكيف يكون التكبير اعترافا ضمنيا بإله مع الله، وإن كان أصغر، مع أن كل تكبير في أذان أو إقامة أو صلاة، أو ذكر يعقبه إعلان بأنه: لا إله إلا الله، لا إله غيره، لا إله معه، لا إله إلا هو سبحانه؟!
الخلاصة:
· إن توحيد الله - عز وجل - هو الحقيقة الواضحة الجلية التي دعا إليها الإسلام، وتوحيد الله - عز وجل - ونفي ألوهية غير الله، ونبذ الشرك، وتعدد الآلهة أمور يعلمها كل مسلم ولا تخفى على أحد؛ لأن الإسلام جعل التوحيد هو الأساس الذي تصح معه جميع الأعمال.
· والتوحيد هو دعوة جميع الأنبياء، وكذلك هو أول ما بدأ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعوته، وظل في مكة ثلاث عشرة سنة، يدعو إليه، التوحيد هو دين جميع المرسلين، أقرته التوراة والإنجيل، على الرغم مما فيها من أمور تتنافى مع العقيدة الصحيحة، كالقول بالتثليث وألوهية غير الله.
· وما زعمه هؤلاء من إقرار الإسلام لصور من التثليث هو زعم طائش لا يستند إلى فهم سليم لهذه الإشارات والشواهد التي استدلوا بها، وهو يخالف ما يعرفه المسلمون عن دينهم بالبداهة ويجعلونه أصل إيمانهم.
(*) هذا هو الحق: رد على مفتريات كاهن الكنيسة، ابن الخطيب، المطبعة المصرية