ادعاء قدم العالم (*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المشككين أن العالم قديم قدم الخالق، وأنه نشأ من عناصر مادية، كالماء والهواء، والنار، والتراب، ويستدلون على ذلك بقولهم: إن كل شىء يفسر بالمادة والحركة، وأنهما عنصران أزليان أبديان، والعالم مدبر مسير بقوانينهما.
وجها إبطال الشبهة:
1) العلم الحديث أثبت حدوث العالم من العدم.
2) النقل والعقل يدلان على حدوث العالم من العدم.
التفصيل:
أولا. العلم الحديث أثبت حدوث العالم من العدم:
العالم حادث من العدم بدليل قوله تعالى: )أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي( (الأنبياء: 30)، وقد أثبت العلم الفيزيائي أن الكون (السماء والأرض) كان كتلة ضئيلة، فانفتقت بانفجار حراري عظيم، منذ خمسة عشر بليون سنة، وذلك قوله سبحانه: )ثم استوى إلى السماء وهي دخان( (فصلت: ١١) بعد أن خلق الأرض من الكتلة الدخانية في يومين: )خلق الأرض في يومين( (فصلت: 9).
وأكد كثير من علماء الكون أنه باستعلام قوانين الفيزياء لاستنباط الكيفية التي كان الكون عليها حين نشأته وبداية تكوينه، تبين أن الكون كان في بدايته حارا وكثيفا، وكان غازيا وكانت مادته وإشعاعه ممتزجين معا امتزاجا يختلف فيه تماما عما نعرفه عنهما، من حيث تميزهما الواضح عن بعضهما.
فالإشعاع والمادة في بداية نشأة الكون سلكا سلوكا لا يكاد يميز أحدهما عن الآخر، وهم يعتقدون أن درجة حرارته كانت عالية جدا مما أدى إلى الانفجار العظيم. وبعد اكتشاف القانون الثاني للحرارة الديناميكية، ثبت أن هذا العالم وجد بعد عدم، وبالتالي فهو محدث وليس قديما.
وهذا القانون الذي نسميه "قانون الطاقة المتاحة"، أو "ضبط التغيير" يثبت أنه لا يمكن أن يكون وجود الكون أزليا، فهو يصف لنا أن الحرارة تنتقل دائما من وجود حراري إلى عدم حراري، والعكس غير ممكن، وهو أن تنتقل دائما هذه الحرارة من (وجود حراري قليل) أو (عدم وجود حراري) إلى وجود حراري أكثر، فإن ضابط التغيير هو: التناسب بين (الطاقة المتاحة) و(الطاقة غير المتاحة).
وانطلاقا من هذه الحقيقة القائلة بأن العمليات الكيماوية والطبيعية جارية، وأن الحياة قائمة، يثبت لدينا قطعا أن الكون ليس بأزلى؛ إذ لو كان أزليا لكان من اللازم أن يفقد طاقته منذ زمن بعيد، بناء على هذا القانون، ولما بقي في الكون بصيص[1] من الحياة.
يذكر هذا التحقيق العلمي الحديث عالم أمريكي في علم الحيوان هو (إدوارد ثوركسيل) فيقول: وهكذا أثبتت البحوث العلمية - دون قصد - أن لهذا الكون بداية، فأثبت تلقائيا وجود الإله؛ لأن لكل شىء بداية لا يمكن أن يبتدئ بذاته، ولا أن يحتاج إلى المحرك الأول - الخالق الإله - وقد قال نفس الكلام السير جيمس: تؤمن العلوم الحديثة بأن عملية تغير الحرارة سوف تستمر حتى تنتهي طاقاتها كلية، ولم تصل هذه العملية حتى الآن إلى آخر درجاتها؛ لأنه لو حدث شىء مثل هذا لما كنا الآن موجودين على ظهر الأرض حتى نفكر فيها.
إن هذه العملية تتقدم بسرعة مع الزمن، ومن ثم لا بد لها من بداية، ولا بد أنه قد حدثت عملية في الكون يمكن أن نسميها "خلقا" في وقت ما، حيث لا يمكن أن يكون هذا الكون أزليا، وهناك شواهد طبيعية كثيرة أثبتت أن الكون لم يكن موجودا منذ الأزل، وأن له عمرا محدودا، وعلى سبيل المثال نجد علم الفلك يقرر أن الكون يتسع بالتسلسل الدائم، وأن كل مجاميع النجوم والأجرام والأجسام الفلكية تتباعد بسرعة مدهشة، بعضها عن بعض، ويمكن أن نفسر هذه الحالة تفسيرا جيدا إذا نحن سلمنا بوقت للبدء كانت فيه الأجرام التركيبية مركزة ومجتمعة بعضها مع بعض، ثم بدأت الحركة والحرارة، ويقدر العلماء أن هذا الكون قد وجد نتيجة الانفجار فوق العادة منذ 500.000.000.000 سنة، فالإيمان بهذا الكشف العلمي، وهو أن للكون عمرا محدودا يتعارض مع إنكار وجوده[2].
ثانيا. النقل والعقل يدلان على حدوث العالم من العدم:
قد تضافرت الأدله على حدوث العالم، وقد ثبت علميا صدق كثير من هذه الآيات، وقد ذكرنا بعضها في الفكرة الأولى، وأما في هذه الفكرة فستدلل بالنقل والعقل، ومن هذه الآيات قوله تعالى: )الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون (4)( (السجدة). وقوله: )أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير (19) قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير (20)( (العنكبوت)، وقوله: )أم خلقوا من غير شيء أم هـم الخالقـون (35) أم خلقـوا السمـاوات والأرض بــل لا يوقنــون (36)( (الطور).
وهذه الآيات مجتمعة تقرر أن الحياة لم تكن كائنة، ثم كانت بأمر الله أوجدها الله في الوقت الذي أراده، ولفظة "خلق" إشارة إلى التكوين، ويقرر المفسرون في هذه الآيات أن السماوات والأرض كانتا معدومتين، فأوجدهما الله، والممكنات باعتبار ذاتها وحدها تكون معدومة، واتصافها بالوجود لا يكون إلا من واجب الوجود وهو الله تعالى.
يقول الأشعري: "إن سأل سائل فقال: ما الدليل على أن للكون صانعا صنعه ومدبرا دبره؟ قلنا الدليل على ذلك الإنسان، فالإنسان الذي هو غاية الكمال والتمام، كان نطفة ثم تحولت إلى علقة ثم إلى لحم، ودم وعظم، وعلمنا أنه لم ينقل نفسه من حال إلى حال، وإذا كان تحول النطفة علقة ثم مضغة، ثم لحما، أعظم في الأعجوبة كان أولى أن يدل على صانع صنع النطفة، ونقلها من حال إلى حال، وقد قال الله تعالى: )أفرأيتم ما تمنون (58) أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون (59)( (الواقعة)، فلم يستطيعوا أن يقولوا بحجة أنهم يخلقون ما يمنون.
فإن قالوا: فما يدريكم أن تكون النطفة لم تزل قديمة؟
قلنا لهم: وأين كانت قبل مجىء صاحبها، أو قبل وصوله إلى مرحلة البلوغ والرشد؟ ولو كان ذلك - القدم - جائزا لم يجز أن يلحقها الاعتمال والتأثير، ولا الانقلاب والتغيير ولا الموت؛ لأن القديم لا يجوز تغييره وانتقاله".
حقا، فقد كان الله ولم يكن شىء قبله وكان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض، وكتب في الذكر كل شىء، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قد بين بأوجز كلام، وأحسنه بيانا ما يتضمن أن جميع الموجودات سوى الله محدثة مخلوقة: )هو الأول والآخر والظاهر والباطن( (الحديد: 3).
وصحيح الدلالة العقلية يثبت أن العالم حادث من العدم؛ إذ إن العالم مخلوق ولا بد لكل مخلوق من خالق، ولا يجوز عقلا أن يوجد المخلوق والخالق في آن واحد، فالصانع لا بد أن يكون سابقا للصنعة.
والخالق أزلي الوجود؛ إذ لو كان مسبوقا بالعدم لكان لا بد من مؤثر في إيجاده، ومحال أن يكون مع ذلك إلها، وعندئذ، فلا بد أن يكون الإله هو السابق عليه والموجد له، فيكون هو القديم إذا، وهذا هو المطلوب بيانه.
أو أن يكون ذلك السابق أيضا مسبوقا بعدم، وأن موجودا قد أثر فيه فأوجده، وهكذا، فيستلزم ذلك فرض التسلسل، وهو باطل بالبرهان العلمي.
فلا بد إذا أن تكون الموجودات كلها مستندة في وجودها إلى ذات واجبة الوجود؛ ولا تكون هذه الذات واجبة الوجود إلا إذا كانت مؤثرة في غيرها غير متأثرة بسواها، وذلك يستلزم أن تكون متصفة بالقدم.
وإنما يستشكل العقل - بعد هذا - تصور حقيقة هذه الذات واجبة الوجود، وتصور ما هية فعلها في الكون، وكيف اتجهت إلى العدم المحض فأحدثت عنه وجودا هو ذلك الكون ممدود الأطراف والنواحي. والعجز في مثل هذا ليس طعنا في العقل وقدرته على الإدراك؛ فحسبه أن يرى آثار الصفات الإلهية في الكون، وأن يتدبر فعله - عز وجل - فيما يولد أو يموت، أو ما يحدث أو يزول، وما يسكن أو يضطرب في ذلك الكون الشاسع.
إن العقل وقف عن إدراك الروح، فالعقل لم يدرك الروح، ولم يعرف حقيقتها، منذ الأزل وحتى الآن، فهو واقف أمام أمرها - وهي متوغلة فيه - يقول: "لا نعرف شيئا من أمر الروح" وإذا كانت الروح مخلوقا من مخلوقات الله، وعجز الإنسان عن إدراكها، فكيف يدرك خالقها؟ )لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير (103)( (الأنعام)، )قل هو الله أحد (1) الله الصمد (2) لم يلد ولم يولد (3) ولم يكن له كفوا أحد (4)( (الإخلاص).
الخلاصة:
· إن الفكرة القائلة بقدم العالم مثل خالقه فكرة باطلة، ويستدل القرآن على بطلانها عقلا بأن الذي يخلق لا يكون خالقا، ولا بد أن يسبق الخالق خالقه في الوجود، إن الصنعة لا يمكن أن تصاحب صانعها في بدء الوجود، بل لا بد أن تتأخر عنه.
· إن قانون "الطاقة المتاحة" أو "ضابط التغيير" يثبت أن الحرارة تنتقل دائما من وجود حراري إلى عدم حراري، والعكس غير ممكن، وعليه فجريان الحياة وقيامها يثبت أن الكون ليس أزليا، إذ لو كان أزليا لكان من اللازم أن يفقد طاقته منذ زمن بعيد.
(*) البابية والبهائية في الميزان، مجموعة من علماء الأزهر، مطبوعات الأزهر، مصر، 1985م.