الزعم أن القرآن الكريم يؤكد فكرة الحلول والاتحاد(*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المشككين أن القرآن يؤكد فكرة الحلول والاتحاد[1]، مستدلين على ذلك بقوله عز وجل: )فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين (30)( (القصص)، قائلين بأن قوله: )من الشجرة( يوحي بأن الله يحل في الشجرة، وإذا كان الله على حد زعمهم يحل في الشجرة، فمن باب أولى أن يحل في البشر - يقصدون عيسى عليه السلام.
وجوه إبطال الشبهة:
1) القول بحلول الله في بعض الأجسام واتحاده معها هو عقيدة وثنية ونصرانية أبطلها الإسلام، ونهى عن القول بها.
2) الأدلة على بطلان القول بالحلول والاتحاد عقلا ونقلا.
3) طرق تلقى الوحي عن الله - عز وجل - كثيرة، ولا تستلزم الحلول أو الاتحاد، وليس في الآية ما يرشد إلى ما ذكروا.
التفصيل:
أولا. الحلول والاتحاد عقيدة وثنية أبطلها الإسلام:
الذهاب إلى تقديس أنواع من الجماد أو الحيوان أو بعض البشر هو اعتقاد موروث عن المجتمعات البدائية التي لم يهذبها التمدن والحضارة، في عبارات فلسفسة هيأت له أن يشيع في المجتمعات التي عرفت طرفا من المدينة والنظام، على نحو ما نرى النصرانية مع اعتقاد اجتماع اللاهوت والناسوت في شخص المسيح - عليه السلام - وما ظهر في الإسلام من مذاهب باطنية منحرفة ادعت حلول روح الله - عز وجل - في أشخاص بأعينهم.
وفي العصور الأخيرة ظهرت مذاهب هي من جنس الباطنية[2] القديمة، لكن كأنها تلكأت في الزمن فجاءت متأخرة بعد أن أدرك البشرية التقدم العلمي، وأصبح الاعتقاد بمثل هذا ضربا من الجنون والخلل العقلي، وذلك كالبهائية[3] التي خلعت القداسة على مؤسسها البهاء وولده عبد البهاء عباس، وكأن ذلك كله ضرب من عبادة الشيطان الذي حذر القرآن منه من قبل، قال تعالى: )ألم أعهـد إليكـم يا بني آدم أن لا تعبـدوا الشيطــان إنـه لكـم عـدو مبيـن (60) وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم (61) ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون (62)( (يس).
إن الإله الحق لا يشبه الخلق، ولا الخلق يشبهونه، وهو غني عن الخلق، والخلق كلهم محتاجون إليه، وهو - عز وجل - ذو صفات وكمالات مطلقة لا حدود لها، ولا نهاية لها، وحقيقة لا يصل إليها الخلق مجتمعين، فكيف يحل من هذا شأنه في كائن محدود في ذاته وصفاته وعمره وجميع شأنه؟
كيف يحل اللامحدود في المحدود؟ إذن تنقلب الحقائق فيصير اللامحدود محدودا والمحدود لا محدودا، وقلب الحقائق مستحيل عند جميع العقلاء.
ثانيا. الأدلة على بطلان القول بالحلول عقلا ونقلا:
ما ينبغي أن يحل الإله - عز وجل - في عبد من عباده - كما زعمت النصارى في المسيح - وهو سبحانه قد بين حقيقته البشرية، فقال ـ عز وجل ـ: )إنما المسيح عيسى ابـن مريـم رسـول الله( (النساء: ١٧١)، وقال - عز وجل - عنه وعن أمه: )كانا يأكلان الطعام( (المائدة:75)، وهذا من أبين الأدلة النقلية على أنه بشر، وليس من صفات الله - سبحانه وتعالى - مثل هذه الصفات التي من شأنها النقص، تعالى الله عما وصفه به هؤلاء الواصفون.
ولقد تناسوا أن العبد عبد، وأن الإله إله، وشتان بينهما وأن الله - عز وجل - يقول: )لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا (172)( (النساء)، وغفلوا عن أن العبادة توفيق وأن الهداية منحة، وأن العبد مهما أطاع واتقى متقلب في نعم الله التي لا تعد ولا تحصى، ولا يملك من أمر نفسه أو غيره شيئا.
ومن قال عن نفسه: إنه الحق!! أو: ما في الجبة إلا الله!! أو: أنا من أهوى، ومن أهوى أنا، وكذلك من قال:
لقد صار قلبي قابلا كل صورة
فمرعى لغزلان وديرا لرهبان
وبيتا لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه، فالحب ديني وإيماني
كل هؤلاء إما مخبولون فقدوا وعيهم وزاغ منهم البصر، وإما منافقون يحملون وثنيات الأمم ويريدون أن يصدوا عن سبيل الله[4].
وعقلا: الإله الحق لا يشبه الخلق، ولا الخلق يشبهونه، وهو غني عن الخلق، والخلق كلهم فقراء إليه، وهو ذو صفات وكمالات مطلقة لا حدود لها، ولا نهاية لها، وحقيقة لا يصل إليها الخلق مجتمعين، فكيف يحل من هذا شأنه في كائن محدود في ذاته وصفاته، وعمره، وكل ما يتصل به؟
إذن تنقلب الموازين والحقائق، فيصير اللامحدود محدودا، والمحدود لا محدود، وهذا قلب للحقائق، وقلب الحقائق مستحيل، عند جميع العقلاء.
هذا موقف الإسلام من تلك العقيدة كما تظهره نصوصه، وهو كذلك موقف تؤيده الدلائل العقلية، والمعتقد النصراني إنما أقر مثل هذا بناء على تصوره الخاص للمسيح - عليه السلام - ولذلك فإن فكرة حلول الإله تبرير للإفك، لكنه تبرير له بإفك أفظع منه، وبما لا يقبله دين صحيح ولا عقل سليم، والقرآن الكريم لم يكن في آية من آياته مقرا لهذا الإفك بحال من الأحوال، ولم تنص المواضع المشار إليها على ذلك الباطل البين.
والآيات تذكر أن الله تعالى نادى موسى عليه السلام: )وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا (52)( (مريم)، )فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة( (القصص: 30).
ولم تقل الآيات إن الله - عز وجل - تجسد في جماد، أو في شجرة.
إنه سمع النداء وألقى الله في قلبه هذا النداء، ولم تذكر الآيات أكثر من ذلك.
التجسد: تجسد الإله المنزه عن الشبيه في بشر أو شجر، أمر غير مقبول لا عقلا ولا شرعا.
وقد ناقش علماء العقيدة المسلمون منذ القدم هذه الفكرة، فكرة حلوله - عز وجل - في بعض خلقه - وقد تقدم أنها لا تخص النصارى وحدهم، وأنها ظهرت عند طوائف من المنتسبين إلى الإسلام - ناقش المتكلمون ذلك كله وبينوا مجافاته للإدراك العقلي لا للنصوص الدينية وحدها.
وذلك أن المحل الذي يجوز هؤلاء أن ذاته سبحانه وتعالى تحل فيه لا يتصور فيه أن يكون قديما متى تقرر أن الله - عز وجل - هو واجب الوجود القديم الذي لا ينازعه في القدم سواه، ولا يجوز - كذلك - أن يكون محلا حادثا؛ فإن الله - سبحانه وتعالى - إن كان محتاجا إليه كان ذلك نقصا فيه، وإن لم يكن محتاجا إليه لم يكن القول بالحلول أولى من القول بعدمه.
ويضاف إلى ذلك أن المحل المدعى إن كان قابلا للانقسام فما حل فيه كان بمنزلته في التشكل والانقسام، وهو ما لا يليق بجلاله - عز وجل - وإن لم يكن قابلا للقسمة فهو بمنزلة الجوهر [5] الفرد في الصغر والضآلة، وذلك أيضا لا يليق بصفاته عز وجل.
ثالثا. طرق تلقي الأنبياء الوحي من الله عز وجل:
لا يتلقى الأنبياء الوحي من الله تعالى عن طريقة الحلول في النبي أو الرسول - كما زعموا - بل كما قال تعالى: )وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم (51)( (الشورى). وطرق الوحي إما الرؤية الصادقة، وإما الإلهام والقذف في القلب من غير رؤية، وإما أن يكلم الله نبيه بما يريد من وراء حجاب يقظة أو مناما، وإما بإرسال الملك، والملك إما أن يتمثل في صورة رجل، أو في صورته التي خلقه الله عليها، أو يأتي على صورته الملائكية لكنه لا يرى[6]. ولا يتصور أن يحل الله - عز وجل - في نبي ليبلغه وحيه، والله تعالى منزه أن يحل في مخلوق، لا في نبي ولا في غيره.
والروح التي في الجسد، وتحل فيه ما هي إلا خلق من خلق الله، وليس حلولها يعني أن الله حل في إنسان، وإلا لكان الناس جميعا حلت فيهم آلهة أو إله، بل كل الكائنات الحية التي بها حياة يحل فيها الإله، فهل حل الإله فيها جميعا [7]؟!
وليس في هذه الآية ما يصلح شاهدا في قضية الحلول؛ فإن قصارى ما ترشد إليه الآية أن موسى - عليه السلام - قد سمع صوتا آتيا من قبل الشجرة، لا أن الله حل فيها، ولا أن كلامه عز وجل مخلوق في الشجرة، فذلك وهذا مما لا تفيده الآية، وهما كذلك مما ينزه الله - عز وجل - عنه.
الخلاصة:
· إن القول بالحلول أو الاتحاد وهم قديم كانت ذهبت إليه الوثنيات الأولى في صورة عبادة أصناف الجماد أو الكائنات الحية، ثم تحول على العقائد السماوية بعد تبدليها في صورة عبارات مصقولة، لكنها عند التأمل لا تخفي حقيقته.
· ولقد جاء الإسلام فهدم هذه العقيدة من أصولها، ثم تابع علماء العقيدة المسلمون تنفيدها بمسالك عقلية تظهر ما بها من ضعف وتهافت.
· إيحاء الله - عز وجل - لأنبيائه لا يلزم عنه حلوله - عز وجل - أو جزء منه في ذات النبي، بل للوحي طرق أخرى كثيرة بينها الله - عز وجل - في كتابه، وشوهدت في أحوال نبيه صلى الله عليه وسلم.
(*) البابية والبهائية في الميزان