استنكار إخفاء المسلم عقيدته خشية الأذى (*)
مضمون الشبهة:
ينكر بعض المغالطين على المسلم إخفاءه لعقيدته بغرض النجاة من إيذاء الكفار. ويستدلون على ذلك بقوله تعالى: )إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان( (النحل 106)، وبقصة عمار بن ياسر حينما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إن عادوا فعد»، ويتساءلون: كيف يكون ذلك عند المسلمين، وعيسى يقول: من أنكرني قدام الناس ينكر قدام ملائكة الله؟!
وجوه إبطال الشبهة:
1) من رحمة الله - عز وجل - أنه تجاوز عن الخطأ والنسيان وما أكره الناس عليه.
2) شرع العمل بالتقية[1] تخفيفا على المكلف في حالات خاصة تقتضي هذا التخفيف، وليس الإسلام بدعا من الشرائع في استخدامه للتقية، بل شرعها عدد غير قليل من الشرائع على رأسها اليهودية.
التفصيل:
أولا. تجاوز الله - عز وجل - عما أكره الناس عليه:
من رحمة الله - عز وجل - بهذه الأمة أنه لا يؤاخذ أحدا في حالات الخطأ والنسيان والاستكراه، ومن هنا يأتي دور مسايرة الإسلام للفطرة الصحيحة ومشيه في خطها، ومن هنا تبرز سماحة الإسلام ويسره في تلك الحالات الناتجة عن بعض مواطن النقص في طبيعة الإنسان.
وإن الإسلام ليسهم بجزء وافر من اليسر في هذه الحالات من الضعف البشرى؛ فلا يؤاخذ على الإثم المرتكب من جراء النسيان أو الخطأ أو الإكراه، ولا يعد ذلك من الأمور التي تستحق المؤاخذة كما لو صدرت في حالات متكاملة من التذكر، والعلم، والاختيار.
وقد خشى المؤمنون من المؤاخذة على ما يرتكبونه بسبب هذه الملابسات فأطلقوها دعوات لله؛ أن يعفو عنهم، ويغفر لهم، وألا يؤاخذهم عليها: )ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا( (البقرة: 286)، وقد لبى الله نداءهم، واستجاب دعاءهم، فرفع ذلك عنهم، روى مسلم أنه لما قالوا ذلك قال الله: «قد فعلت»[2].
بل إن المؤمنين الأوائل في مكة قد لقوا من الأذى ما لا يطيقه إلا من نوى الشهادة، وآثر الحياة الأخرى، ورضى بعذاب الدنيا عن العودة إلى ملة الكفر والضلال، وقد شق ذلك عليهم كثيرا حتى إن بعضهم قد قارب الكفار في بعض ما يقولونه، وخشى أن ذلك لا يجوز له، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين له أن مثل ذلك جائز.
فعن أبي عبيدة محمد بن عمار بن ياسر قال: «أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادوه، فشكا ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - كيف تجد قلبك؟ قال مطمئن بالإيمان قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن عادوا فعد»[3]، وبسبب هذه القصة نزل قوله عز وجل: )إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان( (النحل: 106) [4].
يقول العلامة السعدي في تفسير هذه الآية: فمن أكره على الكفر وأجبر عليه وقلبه مطمئن بالإيمان راغب فيه، فإنه لا حرج عليه ولا إثم، ويجوز له النطق بكلمة الكفر عند الإكراه عليها. ودل ذلك على أن كلام المكره على الطلاق أو العتاق أو البيع أو سائر العقود لا عبرة به، ولا يترتب عليه حكم شرعى؛ لأنه إذا لم يعاقب على كلمة الكفر إذا أكره عليها فغيرها من باب أولى وأحرى[5].
وقد حفلت دواوين السنة المطهرة بذكر هذه الملابسات التي تنتاب المسلم في حياته، ورفعت المؤاخذة بالإثم المرتكب من جرائها، فكانت بذلك موافقة للقرآن، مصدقة له، مؤكدة ما قرره في ذلك من أحكام.
وعن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله تجاوز لأمتي عن ثلاث: عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»[6].
كما روى ابن حاتم عن أم الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله تجاوز لأمتي عن ثلاث: عن الخطأ والنسيان والاستكراه ". قال أبو بكر الهذلى: فذكرت ذلك للحسن، فقال: أجل، أما تقرأ بذلك قرآنا: )ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا( (البقرة: 286) [7].
ومن محاسن الإسلام أنه قرر قاعدة "الضرورات تبيح المحظورات"، فمن مسلمات المبادئ لدى جمهور المسلمين أن شريعة الإسلام قد ابتنت أحكامها على مراعاة الحكم، جلبا للمصالح أو دفعا للمفاسد.
والمتأمل في نصوصها يجد أن ذلك واضح في جميع ما قررته من أحكام، وفي كل ميدان تناولته من ميادين الحياة. وليس غريبا عليها أن تسلك هذا المسلك أو تتجه هذا الاتجاه، فإنها تنزيل من خالق البشر، المتصف بكمال الحكمة والخبرة بشئون خلقه.
وقد يطرأ على الإنسان حالة من الخطر أو المشقة الشديدة على نحو يخاف عنده حدوث ضرر أو أذى بالنفس أو بالعرض أو بالعقل، أو بالمال ونحو ذلك، فما موقف الإسلام عندئذ؟
بالنظر إلى نصوص شريعة الإسلام نجد أنه قد راعى جميع الظروف والأحوال وأعطى لكل ذلك ما يناسبه من أحكام، وقد حسب للضرورة حسابها، فأباح فيها المحظورات وأحل فيها المحرمات، بقدر ما تنتفي به هذه الضرورات بغير تجاوز لها ولا تعد لحدودها، وهذا ما يعرف عند جمهور العلماء بقاعدة "الضرورات تبيح المحظورات" فكل محظور في الحالات الاعتيادية يباح في حالة الضرورة، بل قد يرتفع إلى درجة الوجوب والإلزام، وقد وردت الأدلة من القرآن الكريم والسنة النبوية بتشريع هذا المبدأ وتقريره، وإحاطته بالقيود التي لا بد من توافرها فيه.
وإنما يجب على المسلم أن يقي نفسه من الهلاك ويحفظ حياته في غير حالة النطق بكلمة الكفر، فإن التلفظ بكلمة الكفر تحت ضغط العذاب وشدة الألم، ليس من باب الواجب، وإنما هو من باب الرخصة؛ ذلك لأن إزهاق النفس يقابله أمر عظيم سام، فهو يلفظ أنفاسه في سبيل إحقاق الحق، ومن أجل التوحيد وتحت رايته، ولذلك فقد ترك المكلف مخيرا بين الأمرين[8].
ثانيا. حول شروط العمل بالتقية وأنها ليست خاصة بالمسلمين:
إن مسألة التقية - على الوجه المتقدم - هي ضرورة لاعادة مطردة، ولا وجه للموازنة بينها وبين المداهنة في أمر الاعتقاد أو المراء فيه، وهو معنى يزداد جلاؤه بالنظر إلى جملة القيود التي وضعها العلماء والمسلمون لإباحة التقية في الدين، ومنها:
· أن يكون الخوف من المكروه أمرا محققا لا مظنونا.
· أن يغلب على ظنه أنه متى استعمل التقية نجا.
· ألا يكون للمكلف مخلص من ذلك المكروه إلا بالتقية.
· أن يكون الأذى المخوف مما لا يطاق احتماله[9].
ومبدأ التقية - في ضوء هذه القيود - هو من جملة المحظورات التي تبيحها الضرورة، وهو - كذلك بعيد الصلة أو مقطوعها بالمداراة المذمومة على حساب الاستعلان بالإيمان والاستعلاء به على الآلام التي يؤذي بها المشركون أتباعه.
وليست التقية مسلكا يخص المسلمين وحدهم، بل هي شىء نجده في عديد من الديانات والمذاهب، لا سيما في أطوار الضعف من تاريخها، والحق أن النظر في تواريخ الأديان والعقائد يظهر صورا بالغة السوء من السرية والتستر، وذلك نحو ما عرفته اليهودية في شكل تنظيمات كالماسونية، وكذلك ما عرفته العقائد الفارسية أيام هوت إمبراطورية الفرس؛ فسعوا إلى إشاعة عقائدهم في شكل جماعات سرية تفسد على المسلمين دينهم ووحدتهم.
الخلاصة:
· ليس ثمة ضعف من المسلم أن يحفظ عقيدته بتخفيه من بطش الجبارين والمعاندين لعقيدة الإسلام، وليس خروجا من الدين أن يظهر الكفر، وقلبه مطمئن بالإيمان، فإن من محاسن الإسلام السمحة أنه تجاوز عما استكره المسلمون عليه، فمن استكره منهم على ما حرمه الله - عز وجل - كالنطق بالكفر أو أكل المحرم، أو إفطار رمضان إلى غير ذلك عفا الله عنه.
· لقد قرر الإسلام قواعد مهمة لهذه الأمة؛ دفعا للحرج عنها وتخفيفا منه عليهم، رحمة بهم، فشرع لهم إباحة المحظور عند الضرورة، وهو ما عرف بقاعدة "الضرورات تبيح المحظورات".
· وشرع لهم الأخذ بالرخصة عند قيام العذر الشرعي على ذلك، فلله الحمد أولا وآخرا على نعمة الإسلام.
(*)