ادعاء مناقضة العقل للإيمان في الإسلام(*)
مضمون الشبهة:
يخطئ بعض الجاهلين في فهم دعوة القرآن الكريم للتفكر والتدبر من أجل الإيمان على بصيرة؛ فهم يفهمون هذه الدعوة على أنها عيب في القرآن وليست ميزة؛ لأنه يدعو إلى إعمال العقل، والإيمان والعقل في ظنهم متعارضان غير متوافقين أصلا.
وجوه إبطال الشبهة:
1) دعوة الإسلام إلى إعمال العقل دليل قوته وصحته، فهو لا يناقض العقل، ولو صحت هذه الدعوى لحجر الإسلام على العقل ورفض التفكير، كما حدث في الديانات المحرفة.
2) تقدير الإسلام للعقل هو تكريم وتشريف للإنسان الذي حرره الإسلام من رق الكهان والقديسين.
3) الإسلام جاء هاديا للعقل ومرشدا له لأن قضاياه توافق العقول، ولم يأت القرآن محكما للعقل في الدين.
التفصيل:
أولا. دعوة الإسلام إلى إعمال العقل دليل قوته وصحته:
هذه الدعوى تنعكس على مدعيها، فإغفال العقل في الديانات المبدلة دليل على أن تصورها الديني لم يعد يقبله عقل صحيح، ودليل على مناقضته ومعارضته للنظرة السوية، ومن هنا كان شعارهم: العن عقلك واعتقد، وأن الإيمان والعقل لا يلتقيان، فكانت عقائدهم سببا في الحجر على العقول وجمود التفكير وتقهقر العلم، إلى أن تمرد العقل عليها وأقصاها، فتبدل التخلف تقدما والحجر والجمود تحررا.
والإسلام يدعو إلى إعمال العقل، ويجعل من التفكير فريضة[1]، لا لضعفه ولكن لقوته؛ لأن العقل كلما استيقظ أدرك أن الإسلام - بكل تعاليمه من أصل الإيمان، الإيمان بالله وحده، ونبذ ما عداه من الشريك، إلى أبسط تعاليمه، كإماطة الأذى عن الطريق - مما يقبله العقل، ويحتاج إليه الإنسان لأنه يلبي حاجاته الفطرية.
ولو كان الإسلام بكل تعاليمه ضعيفا، أو مهزوزا، أو ضعيف الثقة بنفسه؛ لتهرب من العقل كما صنعت عقائد أخرى ولرفض التفكير، ولكنه يحترم العقل ويقدره ويطلب منه أن يقوم بدوره؛ لأن العقل بدوره يقبل تعليمه، فيقبل عليه ويستجيب له.
ثانيا. تقدير الإسلام للعقل هو تحرير للإنسان من رق الكهنة والقديسين:
يقول العقاد: "والذي ينبغي أن يناب إليه[2] مرة بعد مرة أن التنويه بالعقل - على اختلاف خصائصه - لم يأت في القرآن عرضا[3]، ولا تردد فيه كثيرا من قبيل التكرار المعاد، بل كان هذا التنويه بالعقل نتيجة منتظرة يستلزمها لباب الدين وجوهره، ويترقبها من هذا الدين كل من عرف كنهه[4]، وعرف كنه الإنسان في تقديره، فالدين الإسلامي دين لا يعرف الكهانة، ولا يتوسط فيه السدنة والأحبار بين المخلوق والخالق، ولا يفرض على الإنسان قربانا يسعى به إلى المحراب بشفاعة من ولي متسلط، أو صاحب قداسة مطاعة، فلا ترجمان فيه بين الله وعباده يملك التحريم والتحليل، ويقضي بالحرمان أو بالنجاة، فليس في هذا الدين أمر يتجه إلى الإنسان من طريق الكهان، ولن يتجه الخطاب إلا إلى عقل الإنسان حرا طليقا من سلطان الهياكل والمحاريب، أو سلطان كهانها المحكمين فيها بأمر الإله المعبود كما يدين به أصحاب الديانات الأخرى، ولا هيكل في الإسلام )فأينما تولوا فثم وجه الله( (البقرة: 115). ولا كهانة حيث لا هيكل، فكل أرض مسجد، وكل من في المسجد واقف بين يدي الله.
ودين بلا هيكل ولا كهانة لن يتجه فيه الخطاب - بداهة - إلى غير الإنسان العاقل حرا طليقا من كل سلطان يحول بينه وبين الفهم القويم والتفكير السليم.
كذلك يكون الخطاب في الدين الذي يلزم كل إنسان طائره في عنقه، ويحاسبه بعمله، فلا يؤاخذ أحد بعمل غيره: )ولا تزر وازرة وزر أخرى( (الأنعام: 164)، و )كل امرئ بما كسب رهين (21)( (الطور)، )وأن ليس للإنسان إلا ما سعى (39) وأن سعيه سوف يرى (40)( (النجم).
فإذا كان في الأديان دين يجتبى القبيلة بنسبها، أو يجتبى[5] المرء قبل مولده؛ لأنه مولود فيها، أو كان في الأديان دين يحاسبه على خطيئة ليست من عمله، فليس في الإسلام إنسان ينجو بالميلاد أو يهلك بالميلاد، ولكنه الدين الذي يوكل فيه النجاة والهلاك بسعي الإنسان وعمله، ويتولى فيه الإنسان هدايته بفهمه وعقله، ولا يبطل فيه عمل العقل إن الله بكل شىء محيط.
وعلى هذا النحو يتناسق جوهر الإسلام ووصاياه، وتأتي فيه الوصايا المتكررة بالتعقل والتمييز منتظرة مقدرة لا موضع فيها للمصادفة، ولا هي مما يطرد القول فيه متفرقا غير متصل على نسق مرسوم، فإنها وصايا منطقية في دين يفرض المنطق السليم على كل مستمع للخطاب قابل للتعليم.
وهكذا يكون الدين الذي تصل العبادة فيه بين الإنسان وربه بغير واسطة ولا محاباة، ويحاسب فيه الإنسان بعمله كما يهديه إليه عقله، ويطلب فيه من العقل أن يبلغ وسعه من الحكمة والرشاد[6].
ثالثا. جاء الإسلام هاديا للعقل وموجها له إلى مساره الصحيح:
في سياق الحديث عن منزلة العقل في الإسلام يعرض د. عبد الحليم محمود فكرة أن الإسلام يقدر العقل حتى يحتكم إليه في أمر الدين ويناقشها في كتابه "الإسلام والعقل" فيقول - بعد أن يذكر الآيات التي تحض على استخدام العقل -:
هذه الآيات الكريمة، بل والقرآن في جملته والأحاديث الشريفة في جملتها، وتاريخ الإسلام، إن كل ذلك يدل - حسبما يرون - على أن الإسلام دين العقل.
وإذا ما تساءلنا الآن ما يعنون أنه دين العقل؟ أجابوا بأنه يحتكم إلى العقل، ويرون بذلك أنه يحكم العقل في المسائل، والمبادئ والقواعد، وينتهي ذلك - لا مناص - بأن يكون العقل هو القائد وليس الدين، وذلك قلب للأوضاع، وانحراف عن الصراط المستقيم!
أما الصراط المستقيم فيما يتعلق بصلة العقل مع الدين فهو:
جاء الدين هاديا للعقل في مسائل معينة هي:
· الغيبيات: أي: العقائد الخاصة بالله سبحانه، وبرسله عليهم السلام، وباليوم الآخر، والغيب الإلهي.
· الأخلاق: أي: الخير والفضيلة، وما ينبغي أن يكون عليه السلوك الإنساني ليكون الشخص صالحا.
· التشريع: الذي ينتظم به المجتمع، وتسعد به الإنسانية، وجاء الدين هاديا للعقل في هذه المسائل بالذات؛ لأن العقل إذا بحث فيها مستقلا بنفسه فإنه لا يصل فيها إلى نتيجة يتفق عليها الجميع.
ومعنى ذلك أنه لو ترك الناس وعقولهم في هذه المسائل فإنهم يختلفون ويتفرقون فرقا عديدة ويتنازعون، ولا ينتهي الأمر بهم إلى الوحدة والانسجام، ولا إلى الهدوء والطمأنينة.
وجاء القرآن يفهمه العقل في المحكم منه ولا يتناقض العقل في المتشابه منه، ذلك أن القرآن منه: )آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات( (آل عمران: 7)، وقد أراد الإسلام من المسلم أن يستمسك بالمحكمات استمساكا تاما، وأن يعتصم بها اعتصاما كامـلا: )ومن يعتصـم بالله فقـد هــدي إلى صــراط مستقيــم (101)((آل عمران).
وأن يسلم الأمر لله في المتشابه، اللهم إلا إذا فتح الله عليه بوساطة الإلهام الإلهي، عن شىء من أسرار هذا المتشابه الذي لا يناقض العقل، ولا يتعارض مع مبادئه.
هذا هو موقف الدين من العقل، وهو موقف ترشدنا إليه الآيات السابقة نفسها، ونأخذ منها قول الله - عز وجل - لرسوله: )وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر( (الكهف: 29)، في هذه الآية الكريمة يأمر الله - سبحانه وتعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبر بأن ما أتى به إنما هو الحق، وإذا كان هو الحق، فإن كل ما عداه باطل.
أما من أضرب عن ذلك صفحا واتبع الآباء والأسلاف، لمجرد أنهم آباء وأسلاف فإن مثله كمثل البهيمة التي تسير وراء أصحابها لمجرد أنهم يقودونها، وتتبعهم لأنهم يسيرون أمامها، ومن شاء من الناس أن يؤمن بهذا الحق الذي ليس بعده إلا الباطل فليؤمن وليتبع الهدي الحق، ومن شاء أن يكفر بالحق ويتبع الباطل معرضا عن الحق فله ذلك، ولكن ليعلم أن الله عز وجل أعد لمن لم يتبع الإيمان: )نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه( (الكهف: 29).
والقرآن دين العقل بهذه المعاني، فهو هاد للعقل، ومرشد له وقائد، وهو يدعو إلى مبادئ يفهمها العقل في سهولة ويسر، وهو لا يناهض العقل، وعلى العقل أن يلجأ إليه في كل ما أتى به.
على أن القرآن - في حقيقة الأمر - نزل ليقود الإنسانية نحو الكمال الروحي، والمعنى الروحي لا سبيل إلى تحديده من الإنسان نفسه، وإنما تحديده موكول إلى الله سبحانه؛ إذ إن السمو الروحي قرب من الله تعالى، وكل من حاول أن يتخذ طريقا آخر فإنما يجري وراء سراب.
والغاية والوسيلة حددها الله في كتابه الكريم بالأسلوب الإلهي نفسه، ومن فضل الله على المسلمين أن اللغة العربية كانت وسيلة فهم الإسلام، وما دام الأمر كذلك فليس للعقل إلا التسليم والخشوع والخضوع، أو بتعبير أدق السجود، وهو ليس سجودا تعسفيا أو تحكميا، إنما هو سجود مصدره الإيمان اليقيني بأن هذا من عند الله، من هذا نتبين أن الدين هاد للعقل، وأن العقل يجب أن يخضع ويسجد للوحي الإلهي.
ونعود من جديد إلى المسألة التي بدأنا بها الحديث نعود من جديد إلى مسألة القرآن والعقل، سيقولون: ولكن القرآن يطالب دائما بالتفكر والتدبر: )فاعتبروا يا أولي الأبصار (2)( (الحشر)، وقال: )إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب( (ق: 37)، وينعي على المشركين التقليد ويتهكم منهم في اتباعهم آباءهم، فيتساءل: )أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون (170)( (البقرة: 170). وكثيرا ما نجد الآيات تختم بـ: )أفلا يعقلون (68)( (يس)، و: )أفلا تبصرون (72)( (القصص).
والواقع أن القرآن لا يستشير الإنسان في أية قضية من القضايا التي جاء بها الوحي، ولا يحتكم الوحي إلى الإنسان باعتباره حكما في أي مبدأ من مبادئه، ولا يطلب منه مشورة في أية قاعدة من القواعد التي شرعها، بل هذه الأوهام لا تدور بخلد المتدين أبدا.
ذلك أن الوحي نزل على أنه رسالة السماء النهائية إلى العالم، ونزل مبلغا أن هذه الرسالة صدق كلها، حق جميعها، ليس فيها مبدأ مشكوك فيه، ولا قضية تحتمل الصدق والكذب، وليس فيها قيم زائدة، بل هي الحق الخالص، وكل ما ذكره من التفكير والنظر والتدبر إنما أراد به الاعتبار، وأراد أن يقول: تفكروا لتروا أن ذلك هو الحق، أما إذا رأيتم غير ذلك فإنما العيب في بصركم أو في بصيرتكم، إن قلوبكم ران عليها الإثم فضلت، )فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم( (النساء: 65).
ومن لم يسلم إلى الله بكليته فهو الخاسر، لكن باب التوبة مفتوح للتائبين آناء الليل وأطراف النهار، وفي كل لحظة، والناظر إلى السلف الصالح يجدهم كانوا يسلمون النص، وتسجد له قلوبهم قبل جوارحهم، ويجعلون النص هو الحكم المهيمن.
وعن علي - رضي الله عنه - قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه، ولو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه»[7].
وعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم إني أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجي منك إلا إليك، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تتكلم به، قال: فرددتها على النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما بلغت اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت قلت: ورسولك، قال: لا، ونبيك الذي أرسلت»[8].
إن الصحابي الجليل قال: "ورسولك" بدلا من "ونبيك"، فصحح له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "لا، ونبيك الذي أرسلت"، مع أن "رسولك" تشمل النبوة والرسالة معا، وهذا دليل على أننا لا نحكم بالعقل، بل بالدليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم: )إنا كل شيء خلقناه بقدر (49)( (القمر). )وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة( (البقرة: 31).
إن العلم الصحيح الصادق في علم الهداية الإلهية والتربية الربانية إنما هو من الله سبحانه، وكل ابتعاد عنه أو خروج عليه أو تغيير فيه إنما هو ضلال، وما من شك في أن الإنسان منذ أن وجد على ظهر الأرض يحاول أن ينزع نزعة بشرية بحتة ويتصرف في الوحي الإلهي نقصا وزيادة، وبترا وإضافة وتقديرا وتبديلا.
فيقول مثلا: إن الحكمة من تحريم الخمر إنما هي المفاسد التي تنشأ من الشخص الشارب، فإذا ما انتفت تلك المفاسد فلا مانع من شرب الخمر.
ويقول مثلا: إن التكاليف الدينية إنما جاءت لإصلاح الضمير، فإذا كان الضمير صالحا فلا لزوم للتكاليف الدينية، وأعمال العبادة إنما هدفها القرب من الله، فإذا حصل القرب مثلا فلا حاجة إليها، وهكذا يربح الإنسان بأهوائه، ولا نقول بعقله؛ لأن له أهواء يصورها الشيطان منطقا معقولا، كما خرج إبليس قديما - بأهوائه التي تمثلت لذهنه منطقا - عن الدين.
والإمام الغزالي يمثل لذلك بمثال معبر، فيذكر قصة رجل بني لابنه قصرا على رأس جبل، ووضع فيه حشيشا طيب الرائحة، وأوصاه بألا يخلي القصر من هذا الحشيش أبدا، لكن الولد فهم أن الحشيش للرائحة، فنزع الحشيش، فإذا بحية هائلة أتت وضربته ضربة أشرف منها على الموت، فتنبه حيث لم ينفعه التنبه أن حفظ الحشيش حكمته طيب الرائحة، وهو الظاهر، والحكمة الخفية إزالة المهلكات ودفعها عن القصر، فاعتبر الولد بما عنده من العلم العقلي ولم يدرك المعقول كما قال تعالى: )ذلك مبلغهم من العلم( (النجم: 30).
وقال سبحانه وتعالى: )فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون (83)( (غافر)، والمغرور من اغتر بعقله فظن أن ما هو منتف عن علمه فهو منتف في نفسه، فإن الإنسان إنما وسيلته أن تفيده الملل بالوحي ما شأنه ألا يدركه بعقله، وما يخور عقله عنه، وإلا فلا معنى للوحي ولا فائدة إذا كان إنما يفيد الإنسان ما كان يعلمه.
فإن الإنسان وإن بلغ نهاية الكمال في الإنسانية، فإن منزلته عند ذوي العقول الإلهية - التي استنارت بالوحي وسمت بالمبادئ الإلهية - كمثل الصبي والحدث[9] والغر [10] عند الإنسان الكامل.
كذلك الإنسان الكامل الإنسانية، لا يمتنع من أن يستنكر أشياء ويخيل إليه أنها غير ممكنة، من غير أن تكون في الحقيقة كذلك. يشرح أبو سليمان المنطقي كل ذلك بدقة وفي أسلوب جميل فيقول: "إن الشريعة مأخوذة عن الله - عز وجل - بوساطة السفير بينه وبين الخلق من طريق الوحي، وباب المناجاة، وشهادة الآيات، وظهور المعجزات، وفي أثنائها ما لا سبيل إلى البحث عنه والغوص فيه، ولا بد من التسليم المدعو إليه والمـنـبه عليه، وهناك يسقط "لـم"، ويبطل "كيف"، وتذهب "لو" و "ليت" في الريح، ولو كان العقل يكتفي به لم يكن للوحي فائدة.
على أن منازل الناس متفاوتة في العقل وأنصبتهم مختلفة فيه، فلو كنا نستغني عن الوحي بالعقل، كيف كنا نصنع وليس العقل بأسره لواحد منا؟ فإنما هو لجميع الناس، ولو استقل إنسان واحد بعقله في جميع حالاته في دينه ودنياه لاستقل أيضا بقوته في جميع حاجاته في دينه ودنياه، ولكان وحده يفي بجميع الصناعات والمعارف، وكان لا يحتاج إلى آخر من نوعه وجنسه، وهذا قول مردود ورأي مخذول.
فإذا كانت منازل الناس متفاوتة في العقل، وأنصبتهم مختلفة فيه، فمعنى ذلك أن هذا الذي يروق لشخص عقليا ربما لا يروق لغيره عقليا، ويجب من أجل ذلك ألا يتدخل العقل في الدين، وإلا اختلف الناس باختلاف عقولهم وادعى كل أن ما هو عليه هو الحق وما عليه غيره هو الباطل، ونتج عن ذلك اتباع كل أهواءه، )أفرأيت من اتخذ إلهه هواه( (الجاثية: 23)، فتتفرق الأمة وتخرج على ما أحبه الله وأمر به حين قال: )واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا( (آل عمران: 103)".
وإذا تساءلت الآن: ما هو إذن موقف العقل من الدين، وموقف الدين من العقل؟ فإننا نجمل الموضوع في النقاط الآتية:
نزل الدين هاديا للعقل في جميع الأمور التي لو ترك العقل وشأنه فيها ضل السبيل، وعجز عن الوصول إلى الحقيقة، وهذه الأمور هي:
· العقائد.
· المبادئ الأخلاقية إجمالا وتفصيلا.
· التشريع في قواعده العامة، وفي بعض تفصيلاته، وقواعده العامة التي تتضمن الجزئيات على مر الزمن، وعلى اختلاف البيئات.
أما الطبيعة والكون من سمائه إلى أرضه... إلخ فقد تركه الله - عز وجل - للإنسان يدرسه في مصنعه ومعمله بآلاته وأدواته، وحثه على أن يجول في ذلك ما استطاع إليه سبيلا، حتى يكتشف سنن الله الكونية ونواميس الطبيعة، ويرى صنع الله الذي أتقن كل شىء، ولم يحجر الدين على الإنسان في هذا المجال، اللهم إلا الواجب الذي ينبغي أن يكون شعاره دائما، وهو أن يكون هدفه من كل ذلك الخير[11].
وقد ظهر هذا التحديد لدور العقل في كلام الأصوليين المسلمين عن الأحكام وأدلتها، فإنهم قسموها إلى ثلاثة أقسام ارتفع العقل في بعضها إلى أن يكون أصلا لبعض كبريات المسائل الدينية:
القسم الأول: ما لا يمكن إثباته إلا بالدليل العقلي القطعي، مثل وجود الله تعالى وصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في دعوته إلى الإيمان، فهذان الحكمان لا يمكن إثباتهما بالدليل النقلي من غير دليل عقلى؛ لأن الأدلة النقلية من نصوص الشارع لا تثبت إلا بعد العلم بوجود الله وصدق الرسول، فيكون النقلي متوقفا عليهما.
فهذه أحكام شرعية، وإن كان طريق إثباتها العقل؛ لأن الشارع هو الذي أرشدنا إلى الاستدلال على هذه الأحكام بالعقل، ومدركات العقل لا يعتد بها إلا إذا صادق عليها الشرع تمييزا للحقائق عن الأوهام، فمثل هذا عقلي لاهتداء العقل إليه وثبوته به، وشرعي من جهة الاعتداد به وإرشاد الشارع إليه.
القسم الثانى: ما لا يمكن إثباته إلا بالنقل، وهو المغيبات كالأحكام المتعلقة بتفاصيل الحياة الآخرة.
القسم الثالث: ما يثبت بكل من العقل والنقل، مثل الحكم بأنه - عز وجل - عالم وسميع وبصير، ونحو ذلك مما وصف به عز وجل نفسه في القرآن المجيد، ووصفه به الرسول - صلى الله عليه وسلم - في السنة.
والأدلة الشرعية لا تنافي قضايا العقول، ودلل الشاطبي لذلك من عدة وجوه، أهمها[12]:
· أنها لو ناقضتها لم تكن أدلة للعباد على حكم شرعي ولا غيره، لكنها أدلة باتفاق العقلاء فدل على أنها جارية على قضايا العقول.
· أنها لو نافتها لكان التكليف بمقتضاها تكليفا لا يطاق، وذلك من جهة التكليف بتصديق ما لا يصدقه العقل ولا يتصوره.
· أن مورد التكليف هو العقل، وذلك ثابت قطعا بالاستقراء التام حتى إذا فقد ارتفع التكليف رأسا، وعد فاقده كالبهيمة المهملة، وهذا واضح في اعتبار تصديق العقل بالأدلة في لزوم التكليف.
فلو جاءت على خلاف ما يقتضيه لكان لزوم التكليف على العاقل أشد من لزومه على المعتوه والصبي والنائم؛ إذ لا عقل لهؤلاء يصدق أو لا يصدق، بخلاف العاقل الذي يأتيه ما لا يمكن تصديقه به، ولما كان التكليف ساقطا عن هؤلاء لزم أن يكون ساقطا عن العقلاء أيضا، وذلك مناف لوضع الشريعة فكان ما يؤدي إليه باطلا.
واعلم أنه لا حاكم سوى الله تعالى، ولا حكم إلا ما حكم به جل شأنه، ويرى الشيعة أن العقل دليل من أدلة الأحكام وأصل من أصولها ومصدر شرعي من مصادرها، غير أنهم قالوا: شرط عمل العقل ألا يكون حكم عن الله في المسألة بأي طريق من طرق معرفة حكم الله، فلا يكون طريق من الكتاب الكريم ولا من قول أو فعل للنبي صلى الله عليه وسلم.
الخلاصة:
· الإسلام دعا إلى استعمال العقل والتفكير؛ لأنه لا يتناقض مع قضايا العقول، وهذا مصدر قوته ودليل صحته؛ إذ التصورات الدينية الضعيفة والمضطربة وحدها هي التي تهرب من العقل، وترفض التفكير كما في الديانات المحرفة.
· الإسلام حين يقدر العقل البشري فهو يكرم الإنسان ويحرره من رق الكهنوت وأصحاب القداسة الذين استعبدوا أتباع الديانات الأخرى، ونصبوا أنفسهم وسائط بين الله وعباده.
· الإسلام جاء هاديا للعقل؛ لأن قضايا العقول السليمة توافق أحكامه وعقائده، والقرآن حين يخاطب العقل لا ليحكمه في الدين، بل ليرى الحق ويستدل عليه.
(*) حتى الملائكة تسأل: رحلة إلى الإسلام في أمريكا، جيفري لانغ، ترجمة: د. منذر العبسي، دار الفكر المعاصر، بيروت، 2001م.