الزعم أن الإسلام يولي الإيمان اهتماما وعناية أكثر من العمل(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن الإسلام يعني بالإيمان ويهتم به أكثر من عنايته واهتمامه بالعمل، ويستدلون على هذا بأن الإسلام جعل الإيمان بالله ورسوله شرطا لقبول العمل الصالح والفوز بالجنة، كما أن الإسلام كثيرا ما ينذر أولئك الذين لا يقبلون دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعذاب النار في الآخرة، وكثيرا ما يكفر من لا يؤمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبرسالته وإن حسن سلوكه وصلحت أعماله.
وجوه إبطال الشبهة:
1) إن الكثرة المطلقة من الآيات التي ذكر فيها الإيمان في القرآن الكريم إنما اقترن فيها الإيمان بالعمل الصالح، وهو ما جعل العمل داخلا في مسمى الإيمان عند كثير من علماء المسلمين.
2) اعتنى الإسلام بشأن العمل حتى جعله قيمة عليا تتشكل من خلالها سائر المبادئ والقيم.
3) وجه الإسلام الإنسان إلى أن يبذل طاقته في التعامل مع الطبيعة، وتعاليمه في ذلك كثيرة ظاهرة.
4) الإيمان بالله - عز وجل - شرط قبول العمل، وعلى هذا مضت الأديان كلها لا الإسلام وحده.
التفصيل:
أولا. اقتران الإيمان بالعمل الصالح في القرآن الكريم:
إن الناظر في آيات التنزيل العزيز يجد بين يديه تلازما لافتا بين الإيمان والعمل الصالح، حتى ما يكادا أن يذكران إلا مقترنين معا، وذلك في مثل قوله تعالى: )إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا (96)( (مريم)، )فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون (15)( (الروم)، )ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار( (التغابن: 9).
كما نجد شرط الإيمان لاحقا لهذا العمل الصالح في الآيات التي تبدأ بذكر من يعملون الصالحات؛ تأكيدا لسلامة النية والقصد فيه، وهو ابتغاء وجه الله به دينا وعبودية وإسلاما لله الحق، وذلك في مثل قوله تعالى: )ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة( (النساء: 124). )ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما (112)( (طه).
كما نجد بعض الآيات التي تبدأ بذكر من يؤمنون بدلالة لفظ آخر غير الإيمان - نجد فيها قاعدة هذا التلازم المتكامل بين الإيمان والعمل الصالح بنفس وضوحها في الآيات السابقة، وذلك في مثل قوله تعالى: )إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون (30)( (فصلت). فالذين قالوا )ربنا الله( هم المؤمنون ولا ريب، أما قوله تعالى: )ثم استقاموا( فهذا يعني الشرط اللازم لصحة الإيمان، أي: الذين استقاموا إلى ربهم بهذا "العمل الصالح" الذي يكون سكينة في أنفسهم، تتنزل بها ملائكة الله عليهم ومعها البشري بهذه الجنة التي وعد الله بها المتقين المحسنين.
ومثل ذلك قوله تعالى: )إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا( (فصلت: 30)، )فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (35)( (الأعراف)، ذلك أن التقوى هي آية الإيمان باتقاء واجتناب ما نهى الله عنه من المنكر، ولذلك جاء شرط الإصلاح بعد التقوى في قوله: )وأصلح( لازما لتعزيز هذا الانتهاء عن المنكر بالعمل الصالح الذي يكون في طاعة الله وهو "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"[1].
دخول العمل بالجوارح في مسمى الإيمان:
إن الإيمان في العقيدة الإسلامية اعتقاد وقول وعمل، والدليل على دخول الأعمال في مسمى الإيمان قول الله عز وجل: )وما كان الله ليضيع إيمانكم( (البقرة: ١٤٣)، أي: صلاتكم إلى المسجد؛ كما فسره ابن عباس - رضي الله عنهما - وقوله عز وجل: )ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون (177)( (البقرة)، وفسر الصديق - رضي الله عنه - البر بالإيمان، فدخل في مسمى الإيمان أعمال القلب والجوارح، والدليل من السنة قوله صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، أفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى[2] عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان»[3].
وخير دليل على ارتباط وتلازم الإيمان والعمل الصالح - أن الإيمان يزيد بالأعمال الصالحة، وينقص بالمعاصى؛ إذ يقول صلى الله عليه وسلم: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائهم»[4].
ويقول سبحانه: )ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم( (الفتح: 4)، )ويزداد الذين آمنوا إيمانا( (المدثر: 31)، وإذا علمنا أن الإيمان يزيد بالأعمال الصالحة، كما رأينا -، فهو بالبداهة ينقص بالفترة والمعاصي.
يقول الشيخ حافظ بن أحمد: "وعلى هذا إجماع الأئمة المعتد بإجماعهم أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، وإذا كان ينقص بالفترة عن الذكر، فلأن ينقص بفعل المعاصي من باب أولى"[5].
ثانيا. اعتنى الإسلام بالعمل فجعله قيمة عليا تتشكل من خلالها كافة المبادئ والقيم:
إن الإسلام أعطى للعمل أولوية كبيرة، وجعل له قيما عليا هي التي تشكل ما عداها من القيم الأخرى في أي مجتمع أو دولة، بمعنى آخر: إن هناك قيما عديدة لها وجودها وحركيتها، ولكن تشكل من خلال القيمة العليا التي تبسط نفوذها على ما عداها من القيم[6].
ولهذا أبرزت الحرية كقيمة عليا في المجتمع الغربي، وليس معنى هذا أن المجتمع الغربي ليس لديه قيم أخرى، فإن لديه قيم العدالة والمساواة والعمل وكل القيم، ولكنها تبرز من خلال الحرية وتتشكل بها، وكذلك في المجتمع الشرقي هناك قيمة المساواة كقيمة عليا.
ونأتي إلى الإسلام الذي جعل من العمل قيمة عليا، تتفرع من خلاله عدة مبادئ وقيم أخرى؛ مثل: الحرية والعدالة والمساواة؛ لذلك فقد قدس الإسلام العمل وحض عليه، ونهى عن الكسل وحذر من عواقبه، والله - عز وجل - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وكافة المؤمنين هم الذين سيراقبون أعمالنا، يقول الله عز وجل: )وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون( (التوبة: 105).
إن العمل في مفهومه كما يشمل الأعمال البدنية من زراعة وتجارة وصناعة، مثلا... إلخ، يشتمل أيضا على الأعمال القلبية، كالغضب والرضى، والحب والكراهية والحقد، وحب الخير للناس.. إلى غير ذلك مما يقع في الشريعة الإسلامية تحت مسئولية الإنسان ويستحق من أجله الثواب والعقاب، كما يتضمن مفهوم العمل في الإسلام، كذلك الأعمال الفكرية والعقلية، مثل أعمال التخطيط والتصميم، ومثل التأمل والتفكير في ملكوت السموات والأرض[7].
كما يعتبر الإسلام النية في تقويمه للعمل، فإذا كانت النية في العمل خيرة كان العمل خيرا، وإن كانت النية سيئة كان العمل شرا، وقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»[8].
كما قال الله تعالى: )فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره (7) ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره (8)( (الزلزلة). حتى إن الإيمان اقترن في آيات عديدة بالعمل الصالح: )الذين آمنوا وعملوا الصالحات( (العصر: 3، يونس: 9، هود: 23).
وهذا العمل الصالح المقترن بالإيمان يجاوز في أثره الحياة الدنيا إلى حيث ينفع صاحبه في الحياة الآخرة، فقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»[9]. أي أنه يجب أن يعمل الإنسان أعمالا ينتفع بها بعد موته إما من تربية ذرية صالحة، أو علوم نافعة أو صدقات جارية.
وإذا رأينا الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: «اغتنم خمسا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وشبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك»[10]. لعرفنا أننا يجب أن ننتهز الشباب والصحة والحياة للعمل الجاد والمثمر بعيدا عن إغراء المال وضياع الزمان[11].
خصائص العمل في الإسلام:
1. التوازن بين العمل للدنيا والآخرة:
لقد أكد القرآن والسنة على أنه لا ينبغي الاهتمام بالجانب الدنيوي وإهمال الجانب الأخروي، فإذا عملت لدنياك من أجل دينك ووطنك ونفسك وأسرتك، فلا يؤثر ذلك في أخلاقك وعقيدتك وعملك للدار الآخرة، فإن عملك في الدنيا للدنيا يصبح واجبا شرعيا، فإن القواعد الأصولية تحدد أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولذلك فالعمل للدنيا مع العمل للآخرة فريضة إسلامية[12].
وقد قال الله تعالى: )فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور (15)( (الملك)، فمطلوب التوازن بين عمل الدنيا والعمل للآخرة، لماذا؟ لأن الدنيا مزرعة الآخرة والناس فيها ثلاث أصناف: صنف شغله معاشه عن معاده فهو هالك، وصنف شغله معاده عن معاشه فهو فائز ولكنه مقصر لتركه فضيلة السعي في طلب الرزق بالكسب الشريف، وصنف معتدل، وهو من شغله معاده ومعاشه فعمل لكليهما وهو الذي ينبغي للمؤمن[13].
2. على طالب الرزق أن يطلب حلاله:
إن النبيين والمرسلين قد أتوا بشريعة تعلن أن على طالب الرزق أن يطلب حلاله، فقد قال تعالى: )يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم (51)( (المؤمنون).
كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لكعب بن عجرة رضي الله عنه في عقاب الكسب الآثم: «يا كعب بن عجرة، إنه لا يدخل الجنة لحم نبت من السحت، النار أولى به»[14]. وقوله صلى الله عليه وسلم في الكسب الحرام وسوء عاقبته أن صاحبه يعاقب عليه، ولو أنفقه في وجوه البر: «من أصاب مالا من مأثم فوصل به رحما، أو تصدق به، أو أنفقه في سبيل الله، جمع الله ذلك كله ثم قذفه في النار»[15] [16].
3. السعي الدائب المستمر لطلب الرزق:
إن السعي لطلب الرزق - أي: العمل للدنيا - فريضة على كل مسلم لكي ينفع نفسه وأهله ووطنه، فقد جاء عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «على كل مسلم صدقة، قالوا: يا نبي الله، فمن لم يجد؟ قال: "يعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق"، قالوا: فإن لم يجد؟ فقال: "يعين ذا الحاجة الملهوف"، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: فليعمل بالمعروف أو ليمسك عن الشر، فإنها له صدقة»[17].
وهذا الحديث يعطينا منهجا في السعي الدائب لطلب الرزق للتصدق، أو فعل وعمل الخير دائما وباستمرار[18]، ويعطينا الحديث صورة عن تبصير المسلم بأنواع من العمل قد ينتبه إليها ولا يعرف مكانها في نظر الإسلام.
كذلك يحدد هذا الحديث الشريف الصحيح المنهج إلى السعي الدائب في ثلاثة أمور:
· الحث على العمل حتى لا يكون المسلم عالة على غيره، لا ينفع نفسه ولا ينفع الناس.
· أن ينتفع بما يجمع فلا يحرم نفسه ولا أهله مما أفاء الله عليه، فذلك شر المنازل عند الله.
· أن ينفع الناس معه، ولا يستأثر بالتمتع به هو وأهله دون إخوانه المسلمين[19].
ثالثا. وجه الإسلام الإنسان لأن يبذل طاقته في التفاعل مع قوى الطبيعة:
لقد وجه الإسلام الإنسان لأن يبذل طاقته في معالجة طاقات الكون حتى ينال منها ما يحفظ عليه حياته، وحيويته، وطاقته؛ لينفق ذلك كله في عمارة الكون.
ويبارك الإيمان الطاقات العاملة، فيكرم الإنسان بالعمل ويدفعه إلى النظر في الكون؛ فيجعل تأمله وتدبره، والعلم بنواميسه[20] والعمل للإفادة من طاقاته سياحة قدسية، وعبادة خاشعة فيقول الحق: )فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون (10)( (الجمعة)، وقال سبحانه: )هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور (15)( (الملك).
وهكذا يطلق الدين قوى الإنسان في أنقى وأصفى حالاتها لتعمل مع قوى الطبيعة، تعمل بعد أن نقاها الإيمان من اليأس، والتكبر، والبطر[21]، والغرور.
وهكذا تأتي العقيدة الإسلامية تعزيزا للسعى الإنساني في سبيل الحرية، وتأتي إطلاقا لقوى الإنسانية في أوسع مداها، وتسخيرا للقوى الكونية في شتى أسبابها، مع سد المسارات التي تبدد هذه القوى.
إن العمل - والعمل الدائب الجاد - في هذا الكون العظيم الرائع هو عبادة الإسلام، ولقد كتب الله على نفسه أن يمد مخلوقاته بأسباب الحياة المعقولة: )وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها( (هود: 6). ولكن كيف؟ إن الله - عز وجل - أودع موارد الرزق في الكون وأسباب الكسب في الإنسان[22].
إن الله - سبحانه وتعالى - أعطى الإنسان طاقة تفجر ما فطر في الكون من طاقات قال تعالى: )ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون (10)( (الأعراف). وقال سبحانه: )وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (13)( (الجاثية).
وتتركز فكرة الإسلام عن العمل في أن الإيمان لا يقعد بالمرء عن طلب الرزق، والتوكل على الله لا يعني أن السماء تمطر ذهبا أو فضة، إن الإيمان في المفهوم الإسلامي يزيد المؤمن بالله عملا في كون الله ابتغاء فضل الله؛ ولذلك فإن طلب الرزق عباده، وعمارة الأرض عبادة، والإيمان لا يقوم إلا بكليهما معا[23].
وتتزين فلسفة العمل في الإسلام فتظهر في أحسن صورة لها عندما يرى الله العمل ويشجع على إتقانه فيقول الله تعالى: )إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا (7)( (الكهف)، وضمن - سبحانه وتعالى - الأجر للعاملين: )إن الله لا يضيع أجر المحسنين (120)( (التوبة)، كما جاء عن عائشة رضي الله عنها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه»[24]. فالعمل الدائب والمثابرة عليه مما يساعد على مضاعفة الإنتاج؛ ولذلك حث الإسلام على إتقان العمل والمثابرة عليه وتحمل أعبائه ومشاقه[25].
وجزاء إتقان العمل هو تحقيق الرفاهية للعاملين، ولغيرهم من أفراد أمتهم وتحريرهم من كل قيد ظالم أو استغلال مستبد، أما جزاء إتقان العمل في الآخرة، فهو المثوبة من الله بإجزال العطاء.
تعاليم الإسلام بشأن الحث على العمل:
إن إتقان العامل لعمله أهم وسيلة من وسائل الإنتاج، وعامل من أهم عوامل الازدهار، ويعتبر العامل في الوقت نفسه غاية للعمل تعود عليه ثمرته، وينعم بخيره بما ينتفع به من خدمات يقدمها إليه المجتمع في مختلف شئون حياته: )من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد (46)( (فصلت).
ولذلك دعا الإسلام إلى زيادة الإنتاج، فقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من العجز والكسل حيث قال: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل والهرم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات»[26].
والمصطفى - صلى الله عليه وسلم - لا يستعيذ بالله إلا من عظيم سيئ الأثر في حياة الأمة[27]. ونتحدث عن مجالات وصول الإنسان المسلم بالعمل إلى الرخاء:
1. الدين يطلق كل طاقات الإنسان إلى العمل والإنتاج[28]، وفي هذا تتعدد النواحي التي عني بها الإسلام:
فهو يوصي المؤمن بأن يستعيذ من العجز والكسل ومن كل معوقات العمل مادية ونفسية، كما جاء في الحديث.
طاقة الإنسان البدنية لا بد أن تطلق وتستغل في مجالها النافع فرسول الإسلام يقول: «ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده»[29].
وطاقة الإنسان العقلية قد رفع الإسلام شأنها على نحو لافت، وقد خلدها القرآن الكريم في سياحة هادية خلال ملك الله العريض منذ أول آياته نزولا وحتى الآية الكريمة: )إنما يخشى الله من عباده العلماء( (فاطر: 28).
رأس المال النقدي الذي يتجمع نتيجة الجهد الإنساني المبذول لا يرضى الإسلام بحبسه عن التداول، فإنه يبغض ذلك؛ لأنه يتكدس، في أيدي فئة قليلة من الناس، الذين يكنزون الثروات في الخزائن.
كل هذه طاقات يباركها الإيمان الذي يجعل المؤمن أثبت قدما وأصلب عودا وأطول نفسا في جهاده المقدس، لا يلتصق بالأرض ولا يشمخ في السماء، لا يطغيه الفرح ولا تفجعه المصيبة، إن أصابته السراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته الضراء صبر فكان خيرا له.
2. الإسلام والاستفادة من كل الإمكانيات لزيادة الإنتاج:
لقد فتح القرآن الكريم عقول المؤمنين على الكون الكبير ليقرءوا كتابه ويتدبروا أسراره، ويستلهموا حكمته في الزراعة والري ثم بقية المجالات فقد قال تعالى: )وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون (4)( (الرعد). وقال سبحانه وتعالى: )أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون (60) أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون (61)( (النمل).
بل يدفع الإسلام عجلة الإنتاج بكل قوة إلى آخر لحظة من الزمان ففي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة[30]، فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل»[31]. وهكذا يأمر الإسلام بغرس فسيلة النخل التي لا تثمر إلا بعد سنين، ولو كانت الدنيا بأسرها توشك أن تزول، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة»[32]. فعلى المؤمن أن يواجه الكون بكل طاقاته، بإيمانه وعقله وجهده[33].
3. حقوق العامل وواجباته:
لقد رأينا أن الإسلام يطالب العامل بإتقان العمل ويحذره من الإهمال، لكنه بجانب ذلك حرص كل الحرص على حماية العامل من كل ظلم يقع عليه كما حرص على رعايته، والعناية به صحيا وتدريبيا وفكريا وتثقيفيا؛ فقد أوجب الإسلام:
حق العامل في أن يأخذ أجره، ففي الحديث القدسي عن رب العزة تبارك وتعالى يقول فيه: «ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة.. ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره»[34] [35].
بل أوجب الإسلام على صاحب العمل أن يفي للعامل بحقه كاملا غير منقوص فور الفراغ منه مباشرة، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه»[36].
كما كتب الإمام علي - رضي الله عنه - إلى أحد ولاته يقول له: "أسبغ على عمالك الأرزاق، فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجة عليهم إن خالفوا أمرك أو خانوا أمانتك".
ولم ير الإسلام في العمال أنهم مجرد تروس ماكينات أو آلات للإنتاج، فهم ليسوا دواليب تدر الثروة والنفع على كواهلهم لحساب غيرهم، فقد قرر حقوق الإنسانية كاملة للعامل، واهتم بالحفاظ على كرامته، فقد أمر الرسول باحترام إنسانية العامل ومعاملته بالعدل والترفق به، وعدم إرهاقه في العمل، وذلك في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «إخوانكم خولكم[37]، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم»[38] [39].
كما أن الدين الإسلامي يفرض على المجتمع أن يراعي طاقات أفراده، فيتعهد الإنسان بالتعليم والتدريب والتوجيه بما يرفع كفايته الفنية والإنتاجية فطلب العلم فريضة، وهو حق للفرد وواجب عليه، والدولة تلتزم بتهيئة كل سبيل إليه.
رابعا. الإيمان شرط لقبول العمل الصالح والجزاء عليه في الآخرة:
إنه مهما عمل الإنسان من أعمال الخير فلن تقبل منه ولن يجازى عليها في الآخرة بالثواب والنعيم المقيم في جنات الرضوان إلا إذا مات مؤمنا بالله وحده لا شريك له وبدعوة نبيه صلى الله عليه وسلم حتى لو أتى بأعظم الأعمال الصالحة، وإنما هو يجازى على أعماله الصالحة في الحياة الدنيا، ولا يبخسه الله شيئا، ولا يظلم ربك أحدا.
ولو افترضنا احتمالية العلاقة بين الإيمان والعمل من الاقتران وعدمه، فنحن أمام الأمور الأربعة التالية:
· إيمان وعمل.
· إيمان بلا عمل.
· عمل بلا إيمان.
· لا عمل ولا إيمان.
والإسلام لا يقر من ذلك كله إلا الأمر الأول وهو وجوب اقتران العمل بالإيمان؛ حتى يجازى عليه الإنسان في الآخرة ويقبل منه، أما الإيمان بلا عمل فهو شىء لعله لا يتصور رأسا؛ لأن العمل الصالح هو ثمرة الإيمان الموجود في القلب، ولا يصح أن يدعي أحد أن الإيمان قد وقر[40] في قلبه، ثم لا يظهر أثر ذلك على سلوكه وأعماله، بل يكون ادعاؤه باطلا مجردا من الحقيقة، أما العمل بلا إيمان، فهذا هو حال الذين لم يؤمنوا بما جاء به خاتم الأنبياء، وهؤلاء يجزون على أعمالهم الصالحة في الدنيا، أي: ينالون ثوابهم في الحياة الدنيا، فأولئك قوم عجلت لهم حسناتهم في الدنيا، لكن في الآخرة ليس لهم أجر ولا ثواب؛ لأن أعمالهم افتقدت شرط القبول وهو الإيمان، قال تعالى: )وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا (23)( (الفرقان)، أما عن عدم العمل وعدم الإ يمان، فهذا ما لم يقل به أحد ولا هو مقبول في العقول ولا النفوس.
وليس الإسلام بدعا في ذلك، بل هو عام في العقائد والأديان السابقة للإسلام؛ فإن المشركين، مثلا، اعتبروا الرسول - صلى الله عليه وسلم - صابئا لمجرد كفره بعقائدهم، ولم يبالوا بحسن معاملته لهم، فهل الإسلام سيقبل منهم العمل الصالح دون أن يؤمنوا بأول وأهم أركانه وهو "شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله"، إن الذي يأخذونه على الإسلام يجده صاحب كل ملة حقا له، والإسلام ليس استثناء من هذه القاعدة.
إن الإيمان بالله ورسوله هو الذي يوجه العمل والسلوك التوجيه الصحيح، ويكسبه البقاء والدوام؛ لأنه ليس مرتبطا بمكاسب عاجلة يزول بزوالها، ولكنه مرتبط بالأبقى والأخلد، وهو وجه الله وابتغاء رضوانه ولقائه: )فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا (110)( (الكهف)، والعمل القويم من غير رصيد إيماني سراب خادع، )كسراب بقيعة( (النور: 39).
إن التصورات الدينية بعامة تجعل جنة الآخرة قصرا على معتنقي هذه التصورات في الدنيا، لا يشذ عن هذا مذاهب أو فرقة، وليس ما نراه من تدافع ونزاع بين أصحاب الديانات المختلفة، والفلسفات والآراء الفكرية المختلفة إلا مظهرا لاعتقاد أن الحقيقة واحدة، وأن الذين هدوا إليها هم أهل الحق في الدنيا وأهل النجاة في الآخرة، وليس الإسلام بدعا في شىء من ذلك كله.
الخلاصة:
· الإيمان والعمل مترابطان متلازمان، وقد اهتم الإسلام بهما على السواء، أما ما يتخذه المشككون ذريعة للزعم أن الإسلام يعني بالإيمان أكثر من العمل، من كون الإسلام لا يقبل من لا يؤمنون بالله ورسوله، وإن كان سلوكهم قويما، فأي ملة تقبل من لا يؤمنون بعقائدها، وإن كان سلوكهم قويما! فمهما حسن عمل الإنسان فلن يدخل في الإسلام إلا بالإيمان بالله ورسوله، وإن كان عمله محمودا ويجازى عليه في الدنيا.
· الإيمان بمعناه الشامل في الإسلام يتضمن التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح، وهذه الأركان لا ينفصل بعضها عن بعض، وهي بجملتها تصور الإيمان الإسلامي السليم.
· اعتنى الإسلام بالعمل فجعله قيمة عليا تتشكل من خلالها كافة المبادئ والقيم، وذلك يظهر في جملة التعاليم التي وجه الإسلام إليها أتباعه.
· وجه الإسلام الإنسان لأن يبذل طاقته في التفاعل مع قوى الطبيعة، ليستخرج كنوزها، ويكتشف أسرار الله فيها، وجعل هذا سببا للنجاة من العذاب والفوز بثواب الله ما دام قائما على إيمان صادق.
(*) قصة الحضارة