إنكار نظرة الإسلام المتوازنة إلى الإنسان (*)
مضمون الشبهة:
ينكر دعاة المادية على الإسلام نظرته المتوازنة للحضارة الإنسانية عموما، وللإنسان خصوصا روحا وجسدا، ويزعمون أن الإنسان الجسد هو المقوم الأمثل والأوحد للحضارة المادية، وهذا - في ظنهم - ما دفع فرويد إلى تصور الإنسان على أنه مجموعة من الغرائز الجسدية التي تهوي به إلى أصله الهابط، وهو القرد كما يؤكد دارون.
وهم بهذه الدعوى، ينكرون صلاحية المنهج الإسلامي لإرساء مقومات الحضارة الإنسانية، ويشككون في الأسس التي يبني بها الإسلام شخصية المسلم.
وجوه إبطال الشبهة:
1) اختلفت نظرة الإسلام للإنسان روحا وجسدا عن نظرة الحضارة المادية له، فالأولى عادلة متوازنة بين الروح والجسد، أما الأخرى فمادية متدنية؛ وذلك أن تصور الإنسان بوصفه مجموعة من الغرائز الجسدية تصور خاطئ؛ فالتعادل لا يتم ولا يتحقق إلا بعد الإنسان روحا وجسدا.
2) إن الارتقاء المادي ليس دليلا أو مقياسا للرقي الإنساني المأمول، فعلى الرغم من التقدم الذي وصلت إليه الحضارة الغربية - فإنها لم تحقق السعادة الإنسانية.
3) لو كان تجريد الإنسان من روحه، والنظر إليه على أنه جسد فقط يقيم حضارة إنسانية؛ لما بحث ضحايا المادية عن الإسلام بديلا روحيا.
التفصيل:
أولا. النظرة الإسلامية المتوازنة للإنسان:
لقد ذم مثيرو هذه الشبهة الإسلام، بما ينبغي أن يمدح به، وذلك حين أنكروا عليه نظرته المتوازنة إلى الإنسان، على أنه روح وجسد معا.
وإن حضارة الإسلام لا تقف عند النظرة المتدنية للإنسان، التي تغفل جانب الروح وإنها وإن كانت لا تغفل واقع الإنسان الذي يتمثل في أنه جسد، لا تغفل واقعه الآخر بأنه روح، فإن له عقلا وقلبا، وفي هذه تفترق عن سائر الحضارات من أعز مكان وأشرفه، حيث تتجه إلى حضارة المثل، والقيم، والأخلاق، ولا تغفل - بعد ذلك - بقية القوى.
والروح والجسد ثنائية شديدة الوضوح في الماديات، فالجسم مطية، والروح راكب، لا غنى لأحدهما عن الآخر، بيد أن الروح سيد مطاع، والجسد خادم مطيع، وهذه الروح لا تفارق الجسد، إلا مرة واحدة، حين يقبضها ملك الموت، ولا أحد يستطيع أن يعطي رأيا في ماهيتها، فقد حسمها الله بشكل قطعي في قوله سبحانه وتعالى: )ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (85)( (الإسراء).
ثم إن للجسد حقوقا ومتطلبات، لكن لا قيمة لجسد فارقته روحه، فهو جثة هامدة خاوية مهما تكن ضخمة وجميلة، فهي بعد الفراق شيء موحش، وإنما جمالها بحسن الازدواج مع الروح، وعند نقل هذا المعنى إلى مجاله الشرعي، نجد أن العبادات الأربع العملية، بل وسائر التعبدات تجمع بين الجسد والروح.
إن رسالة الإنسان في هذه الحياة تتطلب مزيدا من الدرس والتمحيص، ووظيفته العتيدة في ذلك العالم الرحب يجب أن تحدد، وتبرز حتى يؤديها ببصيرة ووفاء وقوة ومضاء. إن بعض الناس جهل الحكمة العليا من وجوده، فعاش عاطلا في زحام الحياة، وكان ينبغي أن يعمل ويكافح، أو عاش شاردا عن الجادة تائها عن الهدف، وكان ينبغي أن يشق طريقه على هدى مستقيم، والنظرة الأولى في خلق آدم وبنيه، كما ذكرها القرآن الكريم، توضح كل شيء في هذه الرسالة.
لقد بدأ هذا الخلق من تراب الأرض وحدها، والبشر جميعا في هذه المرحلة من وجودهم، ليس لهم فضل يمتازون به، أو يعلي مكانتهم على غيرهم من الكائنات، فكم تساوي حفنة من التراب؟ لا شيء بالطبع. بل إن القرآن الكريم وصفهم في هذه المرحلة بما يدل على تفاهة الشأن، قال الله سبحانه وتعالى: )الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين (7) ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين (8)( (السجدة).
إن الإنسان كائن عظيم حقا، بيد أن عظمته ترجع إلى نسبه السماوي الروحي لا إلى نسبه الأرضي المادي، ومن الناس من يقدرون نسبهم الإلهي هذا فيجعلون الحياة تزدان بالمعرفة والكرامة والفضيلة. ومنهم من تستهويهم نزعات الحمأ المسنون، فيجعلون الحياة تسود بالشهوات والمظالم والأنانية وتسخير الإنسان لأتفه شيء في الكون.
المادية تشد الناس إلى أسفل:
النزاع الأبدي بين الناس في هذه الحياة أساسه: أتكون الهيمنة للحيوان الرابض في دم الإنسان، يتحرك بنزعات القسوة والأثرة وحدها، أم تكون الهيمنة للقلب الإنساني المتطلع إلى الكمال، والسلام، والحب، والإيثار؟
ذاك ما يجب أن يعرف بجلاء وأن ترتفع حناجر المصلحين به، وقد حملنا نحن المسلمين حضارة أعلت قدر الإنسان، ولفتت نظره إلى أن ملكوت السماوات والأرض ممهد له )سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة( (لقمان:٢٠).
إن هذا التسخير لآفاق السماء، وفجاج الأرض، وجعلها في خدمة الإنسان يتضمن إشارة بينة إلى أن الإنسان خلق ليكون سيدا لا مهانا، إن سجود الملأ الأعلى له في السماوات، معناه أن يحيا على ظهر هذه الأرض سيدا، موفور الحرمة مدعوم المكانة، إذ وظيفته أن يخلف الله في أرضه، ولكن لا يجوز عند انشغاله بأعباء العيش الأرضية أن ينسى حقوق ربه الذي أسندها إليه، والذي قواه عليها، قال سبحانه وتعالى: )أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون (115) فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم (116)( (المؤمنون).
وقد صالح الإسلام في تعاليمه بين مطالب الجسد، ومطالب الروح، وبين واجبات الدنيا، وواجبات الآخرة، فكأن الإنسان بعد هذا الصلح الذي عقده الإسلام كيان واحد يستقبل به عالما ليست فيه فواصل بين الموت والحياة.
وتوضيحا لهذا المنهج الوسط قيل لكل إنسان: )وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين (77)( (القصص).
ليس في الإسلام إذن انفصال بين العمل للدنيا، والعمل للآخرة، فإن العمل للدنيا بطبيعته يتحول إلى عبادة، ما دام مقرونا بشرف القصد، وسمو الغاية، وليس فيه تغليب للجسد على الروح، ولا للروح على الجسد، إنما فيه تنظيم دقيق يجعل معنويات الإنسان هي التي تتولى قياده، وتتمسك بزمامه، فلا هو براهب يقتل نداء الطبيعة، ويميت هواتف الفطرة، ولا هو مادي يتجاهل سناء الروح، وأشواقها إلى الرفعة والخلود.
إن الإسلام يلح على كل إنسان فوق ظهر الأرض ألا ينس نسبه السماوي، وألا يتجاهل أصله المنبثق من روح الله، وللجسد كذلك حقوق مقدرة، وقد قال الله في وصف أنبيائه: )وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين (8)( (الأنبياء). لكن توفير هذه الحقوق ليس إلا لصيانة الفؤاد والفكر، وحماية القلب والعقل، فما أشبه هذا الجسم، بزجاجة المصباح الكهربائي، إنها هي التي تصقل الضوء وتحد الشعاع، فلو انكسرت ذهب الضوء واحتبس التيار.
ومع ذلك فالمحافظة على هذه الزجاجة وتلميعها وإزالة الغبار من فوقها شيء غير مقصود لذاته، بل مقصود لينطلق الضوء من خلالها صافيا نقيا، وقد أمر الإسلام بتطهير البدن وتزكية الروح، فقـال: )إن الله يحـب التوابيـن ويحـب المتطهريـن (222)( (البقرة)، وطهارة الروح أساسها حسن الصلة بالله، وطهارة البدن بإزالة ما لا يليق بمكانة إنسان كريم على الله، له رسالة سماوية مجيدة.
إن عبادة الجسد وعبادة المادة والتمرد على الأساس الإلهي في الحياة الإنسانية عوج لا يتمخض إلا عن الشر والبلاء، وآفة الحضارة المادية أنها سخرت العقول للشهوات، وأخرست نداء الروح، وأطلقت نداء الطين، وجحدت أن الإنسان نفخة من روح الله، ورأت أنه - كلا وجزءا - نشأ من الأرض، فلا يجوز أن يرفع رأسه إلى أعلى، يذكر الله ولي نعمته وسر عظمته، ونحن نؤكد أن شرف الإنسانية أولا وآخرا في صلتها بالله، واستمدادها منه وتقيدها بشرائعه ووصاياه، والحرية الحقيقية ليست في حق الإنسان أن يتدنس إذا شاء، ويرتفع إذا شاء، ولكنها تتمثل في أن يخضع لقيود الكمال، وأن يتصرف داخل نطاقها وحده: )وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا (36)( (الأحزاب).
يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: «لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك»[1]. ما الحرية التي هفت إليها الشعوب وتنادى بها كبار القلوب؟ إنها حق البشر في تأمين الوسائل التي يحيون بها زكية نقية، وليست حق امرئ - أي امرئ - في أن ينسلخ عن طبيعته، أو يتمرد على فطرته، إن الحرية ليست حق الإنسان أن يتحول حيوانا إذا شاء، أو يجمد نسبه الروحي إلى رب العالمين، أو يقترف من الأعمال ما يوهي صلته بالسماء، ويقوي صلته بالتراب، فإن الحرية بهذا المعنى لا تعدو قلب الحقائق، وإبعاد الأمور عن مجراها.
والواقع أنك لن تجد أعبد ولا أخنع من رجل يدعي أنه حر فإذا فتشت في نفسه وجدته ذليلا لشهواته كلها، ربما كان عبدا لبطنه، أو فرجه وربما كان عبدا لمظاهر يرائي بها الناس، أو لمراسم يظنها مناط وجاهة، فإذا فقد بعض هذه الرغائب، رأيته أتفه شيء، ولو كان يلي أكبر المناصب بل لو كان ملكا تدين له الرقاب، وهكذا فإن الحرية المطلقة لا تنبع إلا من العبودية الصحيحة لله وحده.
ثانيا. فشل الجانب المادي المحض في تحقيق السعادة الإنسانية:
ليس الجسد - كما زعموا - هو المقوم الأمثل للحضارة الإنسانية، الأمر الذي دفع فرويد إلى تصور الإنسان بوصفه مجموعة من الغرائز الحسية؛ إذ إن الروح هي التي تسعد الإنسان بالطاعات والعبادة، ولذلك نجد أن العبادة تسمى بالجانب الروحي للإنسان، وهذا الأمر يجعل النصارى واليهود حين يدخلون الإسلام يجدون الطمأنينة التي لم يتذوقوها من قبل، يقول فاسان مونتيه: "اخترت الإسلام لأني شعرت بالراحة في ظلاله، فهو لا يفصل بين الروح والجسد".
فربما تكون الروح قادرة على تحقيق مبدأ التعادل لدى الإنسان، فلا يكون تحت ضغط النفس وشهواتها فقط، ربما يقابل النفس التي تجنح إلى دفع جسد الإنسان وعقله نحو الإيغال في الشر، ومع ذلك فإن هناك أنفسا مطمئنة للخير كارهة للشهوات. وبناء عليه يتحقق في الإنسان المسلم التوازن المفقود عند غيره، فلا الجسد يطغى على الإنسان فينقلب حيوانا تسيره غرائزه، ولا العقل يطغى عليه فينقلب إلى خيال بعيد عن الواقع والحياة، ولا القلب وأشواقه يطغى فينقلب الإنسان إلى راهب، ينقطع عن الدنيا، وما فيها، وإنما يسير بقدر، كما أن كلا خلق بقدر.
والأخلاق الإسلامية قومت هذا الجانب، فمن خصائصها التوازن بين مطالب الروح والجسد، فلا تمنع حاجة الجسد من الشهوات والرغبات، بل تصونها في إطارها الشرعي، فمن حق الإنسان إشباع رغباته بالضوابط الشرعية مع اتباع الروح بالذكر والطاعة والعبادة.
فالصلاة - مثلا - جسدها: القيام، والقعود، والركوع، والسجود، والأعمال البدنية، وهي مما يحفظه الكثير من المسلمين ويتعلمونه ويسألون عنه، إلى حد التعمق في الجزئيات وما وراءها. وروحها: الخشوع والإخبات والانكسار لله وتحقيق العبودية والذل والاعتراف لله المجيد بالعظمة والكبرياء والألوهية، وهناك تناسب بين التنافس والحفاوة بروح الصلاة وجسدها، وهو أن أداء الصلاة، ولو ظاهرا، يعني طاعة الإنسان لربه والتزامه بأمره وقيامه بركن من أركان الدين دون شك، لكن يجدر بالمصلي أن يدري لماذا أمره الله الحكيم بأداء الصلاة في أوقاتها وعلى هيئاتها؟ وأن يتساءل عن الأثر الذي تحدثه في نفسه، وعلاقاته، ومجريات حياته! وكذلك الصوم والزكاة والحج، فهذه العبادات لها مقصدان عظيمان:
أولهما: بناء النفس بناء إيمانيا أخلاقيا صادقا، أساسه التقوى واليقين، ففي الصوم قال سبحانه وتعالى: )لعلكم تتقون (183)( (البقرة)، وفي الصلاة: )إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر( (العنكبوت: 45)، وفي الحج: )فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج( (البقرة: ١٩٧)، وفي الزكاة: )تطهرهم وتزكيهم بها( (التوبة: 103). وهكذا كل العبادات تقوم على بناء الذات الإنسانية وإصلاحها أخلاقيا وعقديا، وإيمانيا.
ثانيهما: إصلاح علاقة الفرد مع الآخرين، من خلال القيم والأخلاق وحفظ الحقوق، في كل النواحي وعلى كافة المستويات.
وكل العبادات في الأديان السماوية السابقة وفي ديننا الحنيف عبارة عن منظومة واحدة تصب في هذين المقصدين: بناء الفرد والعلاقة مع الأخرين، وأي معنى للصوم عندما يصوم الإنسان عن كل ما هو مباح في الأصل، ثم هو يفطر على سوء الخلق والأنانية، وحب الذات، مما هو محرم أصلا.
· وفي هذا يختلف منهج الإسلام بوصفه حضارة، في مختلف المجالات عن منهج الحضارة الغربية، إن المنظومة الإسلامية الحضارية تعطى للدين أولوية وتقدر الله حق قدره، أما المشروع الغربي للحضارة فقد أنزل الله منزلة لا تليق به حتى جعلته بطلا في بعض الأساطير عند اليونانيين، إلا أن المشروع الحضاري الإسلامي يعطي الكمال المطلق لله وينزهه عن الشبيه، كما في قوله سبحانه وتعالى: )ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (11)( (الشورى)،
· كما أن الإسلام وضع حدودا فاصلة بين الحلال والحرام، والأشياء التي حرمها لم يكن تحريمها عبثا، أما الحضارة الغربية فقد أغفلت جانب مراقبة الله، فالحرية عندها بديل عن الدين.
· ويزيد على ذلك أن المشروع الحضاري الإسلامي يعطي أولوية للبناء الداخلي، فالله - عز وجل - يقول: )إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم( (الرعد: 11)، فالنهضة والحضارة لا تقومان بالعوامل الخارجية، ولا بالمعونات.
أما الحضارة الغربية، فهي حضارة شيئية فقط، وتجعل من الإنسان وسيلة، فهي تعرض المرأة سلعة تباع وتشترى، ثم تدعي بعد ذلك أنها تدعو لتحريرها ومساواتها بالرجل، أما الحضارة الإسلامية فهي حضارة متوازنة تقدر الأشياء بقدرها، ولا تبخسها حقها، وترى أن الروح أيضا ضرورية، كما أن العقل ضرورة، فالإسلام يجمع بين هذه الثلاثية في تآلف شديد.
كما أن الأخلاق في الحضارة الإسلامية مطلقة، وليست نسبية كما هي في الحضارة الغربية التي ليس لديها مشروع إنساني، وكل العرب والمسلمين الذين يعتقدون أن لها مكانا بين الحضارات، فإنهم سرعان ما سيكتشفون زيف اعتقادهم، وإذا ساروا في فلكها، فإنهم يسيرون في طريق الانتحار، والغواية، ويجب أن ندرك أن هذه الحضارة الغربية غير صالحة للمسلمين؛ لأنها حضارة ليست عادلة، فهي قائمة على القهر، والغلبة، والظلم، واستعمار الشعوب، وامتصاص خيراتها، ولا تعرف حقوق الإنسانية بالمعنى العام للإنسانية.
إن الارتقاء المادي لأمة من الأمم ليس دليلا، أو مقياسا لرقيها الإنساني، فقد تمخضت الحضارة الأوربية عن حروب مدمرة، واستعمار ظالم، وإذا كانت هذه الحضارة فيها بعض آثار العلم، فليس ذلك دليلا على الرقي المأمول! ولأن يعيش الناس في عصر الجمل والسفينة الشراعية سالمين مسالمين خير لهم من أن يعيشوا في عصر الفضاء والقمر متناحرين. ومن ثم اتجه الباحثون إلى العامل الخلقي للأمة، فهو يتصل بالروح لا بالجسد، وهو وحده آية التقدم المنشود، فإذا أقام نظام الأمة على أساس من الخلق القويم فقد ضمنت علاج أكثر الشرور، وحرصت على أن تمد للإنسانية يدا بيضاء تعمل على رأب الصدع وبرء الجراح.
ثالثا. لهذا أنا أسلمت:
إن ما سبق كله هو ما دفع ليوبولد فايس على سبيل المثال المستشرق اليهودي الأصل للإعلان عن إسلامه، حين زار القاهرة، فالتقى بالإمام مصطفى المراغي، فحاوره حول الأديان، فانتهى إلى الاعتقاد بأن "الروح والجسد في الإسلام هما بمنزلة وجهين توأمين للحياة الإنسانية التي أبدعها الله".
ولقد كان ليوبولد رجل التساؤل والبحث عن الحقيقة، وكان يشعر بالأسى والدهشة لظاهرة الفجوة بين واقع المسلمين المتخلف وبين حقائق دينهم المشعة، وفي يوم حاور بعض المسلمين منافحا عن الإسلام ومحملا المسلمين تبعة تخلفهم عن التدهور الحضاري؛ لأنهم تخلفوا عن الإسلام، ففاجأه أحد المسلمين بهذا التعليق: فأنت مسلم، ولكن لا تدري! فضحك قائلا: "لست مسلما، ولكني شاهدت في الإسلام من الجمال ما يجعلني أغضب عندما أرى أتباعه يضيعونه".
ولكن هذه الكلمة هزت أعماقه، ووضعته أمام نفسه التي يهرب منها حتى أثبـت القـدر صـدق قائلهـا، حيـن نطــق ليوبولـد - الذي تسمى بـ "محمد أسد" بعد إسلامه - بالشهادتين. لقد كان محمد أسد طرازا نادرا من الرحالة في عالم الفكر والروح. يقول: جاءني الإسلام متسللا كالنور إلى قلبي المظلم، ولكن ليبقى فيه إلى الأبد، والذي جذبني إلى الإسلام هو ذلك البناء العظيم المتكامل المتناسق، فالإسلام بناء تام الصنعة، وكل أجزائه قد صيغت ليتم بعضها بعضا.. ولا يزال الإسلام - على الرغم من جميع العقبات التي خلفها تأخر المسلمين - أعظم قوة ناهضة بالهمم عرفها البشر.
ويقول: إن الإسلام يحمل الإنسان على توحيد جميع نواحي الحياة؛ إذ يهتم اهتماما واحدا بالدنيا والآخرة، وبالنفس والجسد، والفرد والمجتمع، إنه ليس سبيلا من السبل، ولكنه السبيل الوحيد، فالإسلام وحده يتيح للإنسان أن يتمتع بحياته إلى أقصى حد من غير أن يضيع اتجاهه الروحي دقيقة واحدة، فالإسلام لا يجعل احتقار الدنيا شرطا للنجاة في الآخرة[2].
الخلاصة:
· الحضارة الإسلامية لا تقف عند نظرة الغرب المتدنية للإنسان، فهي - وإن كانت لا تغفل واقع الإنسان على أنه جسد - لا تغفل واقعه على أنه روح.
· ليس الجسد كما زعموا هو المقوم الأمثل للحضارة الإنسانية؛ إذ ربما تكون الروح قادرة على تحقيق مبدأ التعادل لدى الإنسان، فلا يكون تحت ضغط النفس وشهواتها فقط، وبناء عليه يتحقق في الإنسان المسلم التوازن المفقود عند غيره.
· قومت الأخلاق الإسلامية في الإنسان المسلم التوازن المفقود عند غيره، وحفظت التوازن بين مطالب الروح والجسد، فلا تمنع حاجة الجسد من الشهوات والرغبات المباحة، بل تضعها في إطارها الشرعي.
· الارتقاء المادي ليس دليلا، أو مقياسا للرقي الإنساني، فالحضارة الغربية، وإن كانت فيها بعض آثار العلم، إلا أنها تمخضت عن حروب مدمرة، واستعمار ظالم.
· النظرة المادية الغربية للإنسان دفعت عقلاء الغرب أمثال "فانسان مونتيه" و"ليوبولد فايس" إلى إعلان إسلامهم؛ إذ إن الإسلام يعد الروح والجسد وجهين توأمين للحياة الإنسانية التي أبدعها الله عز وجل.
(*) أساليب الغزو الفكري، د. علي محمد جريشة، د. محمد شريف الزيبق، دار الاعتصام، مصر، 1978م.