الزعم أن الشيوعية والماركسية تغني عن الدين عموما وعن الإسلام خصوصا(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المشككين أن الدين وسيلة لخداع الناس، خاصة الفقراء والمساكين والمتعصبين، وما الحياة إلا مادة تحكمها الطبيعة بقوانينها التطورية؛ فلا إله، ولا أخلاق، وصلاح الناس إنما في تشيعهم، لا تدينهم أو إسلامهم، ذاهبين إلى أن النظرة الشيوعية الماركسية تغني عن التدين عموما، وعن الإسلام خصوصا.
وجوه إبطال الشبهة:
1) الشيوعية أو الماركسية مذهب لا يعترف بالله ولا بالوحي؛ لأنه لا يؤمن بما وراء المادة، ويعتبر الدين خدعة للسيطرة على عقول المستضعفين، والعوامل الاقتصادية - في حسابهم - هي المحرك الأول للأفراد والجماعات، وقد ساعد على انتشاره فساد العقيدة النصرانية، كما أنه يعد خلاصة الإلحاد الذي نادى به أصحاب الفكر الفلسفي الأوربي في عصور النهضة.
2) تأسست الشيوعية لصالح المشكلة اليهودية التي لن تجد حلا - في تقديرهم - إلا بالتحويل الاشتراكي للعالم بأسره، وإذابة الأديان كلها في بوتقة الماركسية.
3) الشيوعية عقيدة تعادي الأديان كلها، وتخص الإسلام بمزيد من العداوة، ولها أساليب متنوعة في حربه
4) الإسلام يقر بوجود الله الخالق المدبر، ولم يشغل الشعوب عن المطالبة بحقوقها، ولكنه قضى على العنصرية. وهو يرفض الشيوعية ويحاربها ويقاومها.
التفصيل:
أولا. الشيوعية (الماركسية): نشأتها، تطورها، أفكارها:
يشير د. القرضاوي إلى أن الشيوعية هي العدو الثالث للإسلام والمسلمين بعد الاستعمار والصهيونية فيقول: "تعد الشيوعية عقيدة وفكرة ومذهبا، كما أنها نظام دولة وحكومة، منبثقة عن العقيدة، فهي - باعتبارها عقيدة وفكرة - تعادي الأديان كلها، وتخص الإسلام بمزيد من العداوة والنقمة، إنها فكرة مادية تقوم على فلسفة (المادية التاريخية) التي قال بها ماركس، والتي لا ترى وجودا إلا للمادة، ولا تؤمن بما وراء المادة، أو الحس (الميتافيزيقا) وما دام الله الخالق للكون والإنسان غير مادي، بمعنى أنه لا يرى ولا يلمس ولا يشم ولا يذاق ولا يدرك بأية حاسة من الحواس المعروفة، فهي لا تؤمن بوجوده، بل لا تعترف بحاكميته لخلقه، ولا بحقه - جل شأنه - في أمرهم ونهيهم والتشريع لهم.
إن فلسفة ماركس تؤكد ما قاله الفلاسفة الماديون قديما وحديثا، مثل فويرباخ الذي قال: ليس صوابا أن الله خلق الإنسان، بل الصواب أن الإنسان هو الذي خلق الله! فالدين في نظر الشيوعيين خرافة روجتها طبقات الملوك والنبلاء الأثرياء والإقطاعيين وأمثالهم؛ لإلهاء الفقراء والطبقات الكادحة والمسحوقة في المجتمعات البشرية عن المطالبة بحقوقهم، والثورة على ظالميهم، على أمل أن يعوضوا عن ذلك في الجنة. والدين بهذا الاعتبار يعد مخدرا أو أفيونا للشعوب، كما قال ماركس ومن تبعه.
والشيوعية لها فلسفة في تفسير الكون والحياة والإنسان والتاريخ، تناقض فلسفة الإسلام وفكرته الكلية في تفسير هذه الأشياء؛ فالكون هو هذا المادي المنظور، ولا يوجد كون آخر غير منظور، ولا خالق يدبر هذا الكون. والحياة هي هذه التي نعيشها، ولا حياة أخرى وراءها للحساب والجزاء. والإنسان هو هذا الغلاف الطيني المادي الذي نراه، ولا روح فيه. والتاريخ إنما تحركه وتسيره عوامل اقتصادية بحتة، وعلاقات الإنتاج وأساليبه هي التي تحدد مسيرته"[1].
أما العوامل الروحية والأخلاقية والفكرية، فليس لها اعتبار يذكر.
والشيوعية تقوم على فلسفة حتمية الصراع بين الطبقات. وقد كانت روسيا مقرا لقيام الشيوعية؛ لكثرة أقطاب اليهود القاطنين فيها، ولوجود مجموعة من منكري اليهودية، والمذاهب الاشتراكية[2] على أرضها أمثال: لينين وترتسكي وستالين[3].
وقد نسبت تلك الفلسفة المادية إلى اثنين، هما: ماركس ولينين، فصارت تسمى بالماركسية - اللينينية، وقد برزت هذه المادية التاريخية ممثلة لرد فعل عنيف سياسي وفلسف، على المجتمع الرأسمالي[4] الأوربي في القرن التاسع عشر. كانت السمة الغالبة على ذلك المجتمع وجود طبقتين اجتماعيتين متعاديتين: طبقة برجوازية[5] رأسمالية، تقوم على ركائز الإنتاج والاقتصاد والمال والسياسة، وطبقة كادحة صناعية، أو زراعية، أو حرفية، خاضعة لسيطرة الطبقة الأولى. وهكذا ثبتت الاشتراكيات الحديثة، في مناخ القرن التاسع عشر في أوربا في وقت كانت الرأسمالية التي تفجرت في أوربا بعد الإصلاح الديني بها، قد وصلت إلى حالة من الإفلاس، نتجت عن فساد العقيدة المسيحية في الغرب، فلم تعد هذه العقيدة بقادرة على أن تفسر العالم للإنسان الأوربي، تفسيرا يقبله عقله أوضميره أو حسه الديني، فجاءت تلك الاشتراكيات الحديثة، لتسد ذلك الفراغ.
ولكن ثورات عام 1848م فشلت، وبذلك خابت آمال ماركس، وزاد من خيبة أمله، طرده من ألمانيا، حيث سافر إلى باريس، وقابل هناك الفيلسوف الألماني أنجلز (1820: 1885م) الذي كان قد أمضى في إنجلترا بعض الوقت متصلا بالاشتراكيين الإنجليز، وفي سنة 1849م، طرد ماركس من باريس، فذهب إلى بروكسل، وبصحبته زميله وصديقه أنجلز، وقضى ماركس بقية حياته في تهذيب (البيان الشيوعي). وفي عام 1867م نشر الجزء الأول من كتابه (رأس المال)، ثم قام أنجلز بإصدار الجزأين الثاني والثالث في عامي 1885م، و 1895م على التوالي، بعد موت المؤلف ويتضمن المجلد الأول جوهر تعاليم ماركس، وكان ماركس يحلم بأن تتفجر ثورته الشيوعية في إنجلترا، أكثر البلاد الرأسمالية تقدما في ذلك الوقت، ولكن كتب لها أن تتفجر في أكثر البلاد تخلفا في ذلك الوقت، في روسيا القيصرية، وسهر على تطبيق الماركسية في روسيا بعد الثورة البلشفية (لينين)، وإلى الرجلين - ماركس ولينين - صارت الاشتراكية الحديثة، أو العلمية، أو الشيوعية، أو (الماركسية - اللينية) تنسب، ومن الاتحاد السوفيتي انتقلت الشيوعية، بعد الحرب العالمية الثانية إلى بلاد أوربا الشرقية.
وهدمت الشيوعية كل أساس قامت عليه الرأسمالية، فصادرت الحرية السياسية، وألغت الملكية الفردية، وحاربت الأديان السماوية، واعتبرتها من أسباب تخلف الشعوب، وأنكرت وجود الله، وجعلت للناس إلها جديدا هو الدولة، وعلى رأسها رئيسها بطبيعةالحال[6].
وهناك عوامل كثيرة ساعدت على انتشار الإلحاد في العالم، ومكنت للمذهب الشيوعي والإلحاد المدمر في أوربا، أهمها [7]:
1. ظلم الكنيسة النصرانية، وتحالفها مع الملوك النصارى على استعباد الشعوب النصرانية واستذلالهم واستغلالهم باسم السلطة الروحية الدينية.
2. فساد الديانة النصرانية، وبطلانها ومنافاتها للعقول، وتصادمها مع حاجات الإنسان الفطرية، الأمر الذي يسهل على أتباعها التنكر لها، والكفر بها، بمجرد وجود من استطاع أن يفلت من زمامها، وينتقدها ويبين خطأها.
3. طفرة العلوم الكونية، والصناعية، والآلية، طفرة أدهشت العقول وحيرتها، الأمر الذي حمل الناس على تصديق كل نظرية تأتي باسم العلم ونظرياته، وإن كانت النظرية فرية ظاهرة معلوما كذبها، ومعروفا كاذبها.
وقد أدت هذه (الطفرة) بالاتحاد السوفيتي إلى أن يكون القوة الثانية في العالم بلا منازع في أقل من نصف قرن من الزمان، فسبقت روسيا بذلك بلادا سبقتها على طريق التقدم، بأكثر من مائتي سنة، كإنجلترا وفرنسا، ففيعام 1913م، كان نصيب روسيا القيصرية من الإنتاج الصناعي العالمي يزيد قليلا عن 4 %، وبعد ذلك صارت الصناعة السوفيتية تمثل حوالي 1/5 من الإنتاج العالمي، رغم أن البلاد لا تمثل أكثر من 1/15 من سكان العالم. وكان الاتحاد السوفيتي أول بلد في التاريخ يرسل رجلا إلى الفضاء.
ولقد كانت هذه الإنجازات هي التي حدت بالدارسين والباحثين إلى دراسة الشيوعية، وجعلت من الاشتراكية مطلبا عزيزا تسعى إليه دول العالم الثالث؛ لتختصر طريقها إلى المستقبل، بعد أن ضيع الاستعمار عليها الكثير من الفرص في الماضي.
4. ميل الإنسان بطبعه إلى الشهوات والملاذ، ونفوره من القيود والأنظمة التي تحد من ميوله وتوجه غرائزه، لا سيما إذا وجد مشجعا على ذلك مؤيدا له في نزعته التحررية الإباحية التحللية من كل القيود الأخلاقية والالتزامات الدينية الشرعية.
5. غيبة الحكم الإسلامي، وخفوت نور الإسلام، وتقلص ظل الإسلام وسلطانه الروحي، وانحساره عن المد الخيري الذي كان يمنح البشرية في شتى أنحاء العالم طاقات كبيرة من القيم الروحية والأخلاقية البشرية الفاضلة الكريمة؛ إذ إن الفترة التي ظهر فيها المذهب المادي الشيوعي كان الإسلام قد ران عليه عقائد الخرافات والضلالات، وحل بدياره الدمار، وبأسواق علومه ومعارفه الكساد والدمار؛ نتيجة لكيد أعدائه له، وغفلة بنيه عنه، فوجد ذلك المذهب الإلحادي جوا خاليا للتضليل والمغالطة، والفساد، فحكم على الأديان كلها بالبطلان، ونسب كل ضعف في الناس إليها، وكفر بها وحاربها، ووجه نقده إليها بلا هوادة.
أما والله لو وجد هذا المذهب الإلحادي الإسلام حاضرا ما غاب، فوجد اختراعاته، وتفوقه في كل مجالات الحياة العلمية، من كونية وتقنية وتشريعية وروحية، ووجد عدله في شعوبه ورحمته للناس أجمعين، ووجد سعادته تغمر أهله وتتعداهم إلى خصومهم وأعدائهم - لما أمكنه أن يقول، فضلا عن أن يصول أو يجول.
من أين استقى ماركس أفكاره التي بنى عليها نظرته الشيوعية؟
إن الراصد لتاريخ البشرية يرى أن حقيقة الألوهية كانت هي الطابع المشترك الذي لم تتخل عنه البشرية، ولم ترفضه إلا في الندرة عن طريق الواحد بعد الآخر، وإن كان تخليها عن طريق تصورها عن طبيعة الإله أو ذاته، حتى جاء عصر النهضة الأوربية، ونادى أصحاب الفكر الفلسفي الأوربي بأن كل العقائد المضادة للخبرة الإنسانية، والملاحظة التجريبية يجب أن تستبعد، ونظروا إلى النبوءات، والمعجزات والوحي، وكل الشعائر، والطقوس الدينية بوصفها خرافة، وشبه فولتير (1694: 1778م) خلق الله للكون بتجميع صانع الساعات للساعة، ثم انقطاع صلته بها بعد ذلك.
ورفض دافيد هيوم (1711: 1776م) العقائد الدينية على أساس عدم إمكانية البرهنة عليها، لا بالتجربة العلمية، ولا بالعقل الإنساني، وهاجم هيوم رب فولتير نفسه قائلا: "إننا رأينا الساعات تصنع، ولم نر العالم يخلق"، وأعلن هيوم أيضا عدم اقتناعه بالبرهان القائل بضرورة وجود حياة أخرى، يتحقق فيها العدل في الثواب والعقاب، نظرا لعدم تحقق ذلك في هذه الدنيا.
وزعم فرويد (1856: 1939م) أن الدين مصدره اللاشعور، لا الوحي، وزعم استحالة البرهنة على صحة الإيمان الديني، ومن ثم أنكر وجود الله.
وظهر نيتشه بالمذهب الوضعي الذي أنكر الإله والدين، وآمن بالطبيعة والمادة على أساس أن هذه الطبيعة هي التي تكون عقل الإنسان، والإنسان بناء على هذا لا يملي عليه من خارج الطبيعة، وبناء على هذا اعتبروا أن الدين خداع؛ لأنه وحي من وراء الطبيعة، وما وراء الطبيعة لا يحبونه، فلما جاء كونت طالب بأن يحل العلم الواقعي محل اللاهوت، ثم جاء ماركس آخر سلسلة في حلقة الإلحاد، وبلغت الفلسفة المادية ذروتها لديه؛ فأنكر وجود الإله، والأديان عنده أفيون الشعوب، ولم ير وجودا إلا للمادة، ورأى أن المادة توجد قبل أن يوجد العقل، وما دام الأمر كذلك؛ فالمادة في نظره أكثر أهمية وأكثر اعتبارا من العقل، إذ العقل متوقف على المادة في وجوده.
فالماركسية مذهب فلسفي يؤمن بالحس وقيمته في التوجيه، وهو ضد الدين والعقل معا، وهي ترى أن المادة أزلية، وأن العوامل الاقتصادية هي المحرك الأول للأفراد والجماعات، وبناء على هذا التصور أقام ماركس حتمياته التي تتلخص فيما يأتي:
· ديكتاتورية الطبقة العاملة.
· إيجاد المجتمع الإنساني عديم الطبقات.
· ظهور الدولة التي لا تعرف رجل الشرطة.
· التبشير بالحكومة العالمية.
ونعود نتساءل: من أين استقى ماركس أفكاره التي بنى عليها هذا التصور؟ هل تكونت لديه نتيجة لدراساته المكثفة عن العوامل التاريخية، والاقتصادية، واستقراءاته الواسعة عن الأديان خاصة، والأمم والشعوب عامة، أو أنه سبق بهذه الأفكار التي أقام عليها بنيان الماركسية، ولا يتعدى دوره فيها عن إبرازها والمطالبة بتطبيقها؟
للإجابة عن هذا التساؤل علينا أن نستعرض مع د. عبد الرحمن عميرة مبادئ الماركسية وقواعدها؛ لنعرف من أي المصادر استقى ماركس نظريته التي عرفت فيما بعد بالاشتراكية العلمية، أو الشيوعية:
1. لقد استخدمت الماركسية "مبدأ النقيض" لتحقيق مخططها، ومبدأ النقيض سابق على ماركس، فقد استخدمه نيتشهلتأييد العقل، وأقام هيجل عليه فلسفته لتأييد العقل والوحي. أما ماركس فقد استخدم مبدأ النقيض، وطبقا لاستخدام مبدأ النقيض في القيم أصبحت هذه القيم تتغير، وأصبح الاعتقاد بثباتها وهما، وطبقا لاستخدامه في دائرة الجماعة، أصبحت الجماعة غير مستقرة وينتظر فيها التحول حتما، ثم الانقلاب من وقت لآخر، فالملكية تتحول إلى الإقطاع، والإقطاع يتحول إلى الرأسمالية، والرأسمالية إلى ديكتاتورية العمال، وديكتاتورية العمال إلى الشيوعية، أو الحكومية العالمية. وأصبح الشيء الطبيعي لديها يتغير إلى مقابله، والقيمة الخلقية تتغير إلى نقيضها، والجماعة تتحول إلى ضد نظامها، كما أصبح هذا التحول منتظرا وضروريا. وما يتحول إليه الأمر هو الأفضل؛ فالحال الجديدة للشيء، والقيمة والجماعة أفضل من الحال السابقة
2. واستخدمت مبدأ "تبعية العقل في وجوده لوجود المادة "الذي أسس عليه كونت فلسفته الوضعية، وبناء على ذلك فإنها لا ترى استقلالا للعقل، فضلا عن سيادته على غيره، وأصبح العقل في نظرها انعكاسات للمادة، أي: مظهرا لها؛ ولأن وجود العقل غير مستقل عن المادة، وإنما وجوده كظاهرة لها فقط، أصبح الله غير موجود إطلاقا في نظرها؛ لأنه ليس شخصا، بل مجرد عن التشخيص الحسي، ومجرد عن التحديد الواقعي في هذه الحالة، ولذا فهو غير موجود عندها؛ لأن الموجود هو مادي فقط، أو ظاهر للمادة، والمادة هي الموجودة وحدها وجودا أوليا أصيلا، وظاهرة المادة تابعة في الوجود لها.
وإن تبعية العقل للمادة أحلت "الجبر" محل "الاختيار" في توجيه الفرد، وأصبح الفرد لذلك مجبورا لا اختيار له، مجبورا ببيئته، وبوراثته، وبحياته السياسية والاجتماعية والاقتصادية على الخصوص، وهنا يبقى شعار الماركسية التطور الحر لكل فرد، الذي هو - أي الفرد - التطور للجميع.
3. واستخدمت مبدأ "التفويض في الدين"، الذي اتجه إليه فيرباخ في فلسفته الإنسانية الطبيعية، وعلى نحو ما دعا فيرباخ إلى جعل علم الإنسان بدل الدين، وإلى جعل الإنسانية معبود الإنسان، وإلهه الأكبر، جعلت الماركسية الجماعة والدولة معبود الإنسان، وجعلت العلم المادي مصدر التوجيه له في حياته بدلا من الوحي، أو بدلا من العقل كمصدر للمعرفة، وإذ تجعل الدولة معبود الإنسان؛ فالآخرة ليست وراء هذه الحياة التي نعيش فيها، والجزاء ليس في دار أخرى بل هو في هذه الدار وحدها، والقربى التي يتقرب بها عابد الله إليه هي هنا إنكار الفرد والعمل من أجل الدولة.
4. وإذ تختار الماركسية التفسير المادي التاريخي في التدليل على صحة مبدأ النقيض كمبدأ ضروري - في تحول الجماعة وانقلابها، إلى دولة ذات طبقة واحدة عمالية، رد توافق نيتشه على أن التاريخ يكونه عظماء الفكر والسياسة، وإنما يقر عكس ذلك: يقر قوة واحدة مادية فيه - كقوة مكونة له وموجهة لسيره - هي القوة الاقتصادية، فهي القوة الخالقة المحددة للتجمع ولعظماء الفكر والسياسة، واستخدمت فكرة "العقل المجرد" التي عرفت لهيجل على نحو نفسي لا فكري؛ وذلك كي تشرح نمو الإنسان وتطوره في تفكيره واتجاهه في حياته، متأثرة في ذلك بتصوير شتين تال، وهي ترتب على ذلك وجوب العناية بكل ما هو شعبي من لغة عامية وفن وعادات تبالغ في تقديرها وتفضيلها[8].
وهكذا بدأت أفكار ماركس مجموعة من أفكار سابقيه، لكن أفكاره الاشتراكية كانت أكثر إقناعا من أفكار سابقيه من الفلاسفة الاشتراكيين، لما له من كم وفير من المعرفة، وأهداف هي أهداف رجل ثوري، وأدوات ووسائل هي أدوات عالم.
ثانيا. علاقة الشيوعية باليهودية:
يتحدث د. القرضاوي عن علاقة الشيوعية باليهودية فيقول: الشيوعية هي بنت اليهودية، ولا تنكر هذه العلاقة في روسيا أو في غيرها من البلاد، ومن أدلة هذه العلاقة ما يأتي:
1. أن كارل ماركس مؤسس الشيوعية نفسه من أسرة يهودية عريقة؛ فقد كان جده حاخاما معروفا، وكذلك كان والده، وإن اضطر إلى اعتناق البروتستانتية[9] في منتصف عمره؛ لكي يستطيع أن يمارس مهنته في بيئة ألمانية تكره اليهود، ولا تثق بمعاملاتهم، وتقيد عليهم ممارسة بعض المهن والحرف، ولقد ظلت العقيدة اليهودية تعمل عملها في نفس ماركس، وأخذت المشكلة اليهودية قدرا كبيرا من كتاباته وتفكيره، وقد ألقى اللوم في اضطهاد اليهود على الظروف الاقتصادية التي تكتنف الجماعات التي تعيش بينها اليهود، لا على العناد اليهودي نفسه الذي يريد أن يفرض منزلته - كشعب الله المختار - على الجماعات الأخرى، بكل الوسائل - ومنها الربا - مما يدفع هذه الجماعات إلى المقاومة والاستنكار والانتقام من اليهود.
ولقد كان ماركس وثيق الصلة بل التلمذة على مؤسس النظرية الصهيونية وفيلسوفها الأول موثه هيس الذي وضع أسس الحركة الصهيونية نظريا وتطبيقيا في كتابه العميق "الدولة اليهودية"، وفي بحثه الآخر "روما والقدس" اللذين استوحى منهما هيرتزل الزاد الفكري للترويج للحركة الصهيونية، وقد وصف ماركس صديقه موثه هيس، فقال: "إنني قد اتخذت هذا العبقري قدوة لي ومثالا، لما يتحلى به من دقة في التفكير وتوارد في الخواطر، وتوافق في الآراء مع عقيدتي وما أومن به".
وكثير من أقطاب الفكر الصهيوني المعاصر يؤكدون صلة ماركس بالصهيونية وإخلاصه لها، مثل الحاخام لويزرونس في كتابه "أغرب من الخيال" الذي يقول فيه: "إن كارل ماركس حفيد الحاخام مردخان ماركس كان في روحه واجتهاده وعمله ونشاطه، وكل ما قام به وأعد له من فكر وأسلوب أشد إخلاصا لإسرائيل من الكثيرين ممن يتشدقون اليوم بأدوارهم في مولد الدولة اليهودية".
2. لقد انتهى كارل ماركس في دراسته للمشكلة اليهودية إلى أنها لا تحل نهائيا إلا بالتحويل الاشتراكي للعالم بأسره، وإذابة الأديان والقوميات كلها في بوتقة الماركسية، وما دامت الماركسية فكرة وحركة تتوخى إخضاع المجتمع إلى "طليعة ثورية" تجمع في يدها كل مقدرات الأمة؛ فقد وجد اليهود في هذه الفكرة ما يتفق واعتقادهم بأنهم "شعب الله المختار"، لذلك جاهدوا أن يكونوا هم هذه "الطليعة القيادية" المختارة، لكل الحركات الماركسية في العالم.
ولا غرو أن وجدت تعاليم ماركس في روسيا يهوديا خارق الذكاء، حديدي العزم، استطاع أن يحول الماركسية من فكرة وحركة إلى ثورة ودولة تتسلم زمام الحكم في روسيا، ذلك هو لينين الذي لولا أساليبه الماكرة ما كان هناك احتمال لوصول الماركسيين في أي مكان إلى سدة الحكم، كما هو رأي أكثر المؤرخين.
كان لينين يهودي الأصل، وكانت زوجته ورفيقة حياته في العمل الماركسي يهودية أيضا، وكذلك الأغلبية الساحقة من زملائه، وأعوانه في الحركة الماركسية خارج الاتحاد السوفيتي وداخله، في سدنة الحكم البلشفي، وفي أيام منفاه، أمثال تروتسكي ورادك وروزا لوكسمبورج.. وعشرات غيرهم من أقطاب الحركة الماركسية كلهم من اليهود من مختلف الجنسيات؛ ولهذا لا نعجب إذا كان أكثر زعماء الحكم الشيوعي الجديد من اليهود، بعضهم روس، وبعضهم بولنديون، وبعضهم من ألمانيا، ومن غيرها من البلاد والتبعيات.
3. وفي الأيام الأولى من تسلم البلشفيك - الشيوعيين - الحكم في روسيا، وفي الأسبوع الأول بالضبط من حكم لينين سنة 1917م، أصدرت الحكومة السوفيتية قرارين رئيسيين:
· أحدهما: اعتبار العداء لليهود جريمة يعاقب عليها القانون.
· وثانيهما: إعلان الحكومة السوفيتية برياسة لينين التأمين الكامل لحق اليهود في وطن قوي لهم في فلسطين، وليس شيء أدل على هذا القرار من تغلغل النفوذ اليهودي في الدولة الاشتراكية الأم - منذ بدء قيامها - حتى إنها لتصدر في الأسبوع الأول من حكمها مثل هذا القرار الخطير، في نفس الوقت الذي صدر فيه أيضا "وعد بلفور" المشهور، وإن هذا الوعد الإنجليزي وذاك القرار الروسي ليدلان على مدى المكر اليهودي، ومبلغ سيطرته على القوى السياسية الكبرى في العالم، وإن كان الناس يعرفون "وعد بلفور" ويذكرونه، ولكنهم يجهلون قرار لينين الذي ظهر أثره جليا فيما بعد في محافل هيئة الأمم، ودور الاتحاد السوفيتي، والدول الشيوعية قاطبة، في إيجاد إسرائيل وإبقائها.
4. وفي معبد الماركسية الرئيسي في موسكو ظل خبراء الشئون العربية السوفييت مقصورين على المثقفين من الثوريين اليهود، من مختلف الجنسيات؛ فأكبر خبير في أول سنوات الحكم البلشفي سنة 1917: 1927م في الشئون العربية والإسلامية كان المدعو ميخائيل بافلوفيتش واسمه الحقيقي لازار فالثمان، وهو يهودي عينه البلشفيك رئيسا للجمعية العلمية للدراسات الشرقية، وتولى هذا اليهودي تحرير مجلة "الشرق الجديد" التي أصبحت مصنفا ومرجعا رئيسيا لأي تخطيط عقائدي أو سياسي، أوتنفيذي، بالسياسة السوفيتية، والماركسية العالمية في "الكومنترن" بشأن قضايا العرب والإسلام. وتكفل الاجتهاد اليهودي بإعادة كتابة التاريخ العربي الإسلامي من الزاوية الماركسية؛ ليفهم أهل الحل والربط في السياسة السوفيتية، وفي "الكومنترن" مواطن الضعف والقوة في دنيا العرب والإسلام.
5. ولا عجب أن رأينا دعاة الماركسية الثورية الأوائل في العالم العربي من اليهود؛ فأول حزب شيوعي في مصر سنة 1921م كان على يد اليهودي روزنبرغ، وهو صاحب مخزن لبيع الجواهر في الإسكندرية، ثم تطورت الماركسية على يد جماعة من اليهود في مصر رمز لها باسم "حدتو" أي: الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني، والذي أسس هذه الحركة ومولها ودعاها يهودي أجنبي إيطالي الأصل ادعى أنه مصري الجنسية اسمه هنري كوريل صاحب بنك كوريل بالقاهرة، وكل المنظمات اليسارية في مصر كان يقوم عليها اليهود: حركة "دال شين" يرأسها يوسف درويش، وريمون دويك وهما يهوديان، وحركة "اسكرا" يرأسها إيلي شوارتز، وهو يهودي، وحركة "م ش م" ترأسها أوديت وسلامون زوجها وهما يهوديان، وهذه هي التنظيمات الشيوعية الرئيسية في مصر قبيل الحرب الفلسطينية وخلالها، وهي التي اندمجت وانقسمت بعد ذلك حتى وصلت إلى حوالي ثلاثين منظمة، لم تخرج عن سيطرة اليهود، وتاريخ اليسار الماركسي الثوري في العراق مدين أيضا لليهود في التنظيم، والحضارة والتمويل، وكذلك اللجنة المركزية الأولى للحزب الشيوعي السوري اللبناني، كان سكرتيرها العام هو جاكوب تيبر، وكان يهوديا روسيا.
6. كشفت اليهودية عن عملها ومخططها في نجاح الثورة، فصرح جاكوب شيف المليونير اليهودي بأن الثورة الروسية نجحت بفضل دعمه المالي، وقال: "إنه عمل على التحضير لها مع رفيقه تروتسكي"، وفي استكهولهم كان اليهودي واربورغ ينفق بسخاء على هدم النظام القيصري، ثم انضم إلى هذه المجموعة من أصحاب الملايين اليهوديان: والف اشبورغ وجيفولوفسكي، وتقول إحدى الصحف الفرنسية القديمة في عددها رقم 115، الصادر عام 1919: "المعروف أن الحركة البلشفية ليست سوى حركة يهودية سرية، ويوجهها التمويل اليهودي فضلا عن القيادات اليهودية فكرا وتنظيما"، وتقول أيضا: "إن الهدف من تمويل الثورة الشيوعية من قبل الرأسماليين اليهود هو إقامة دولة إسرائيل في فلسطين".
لقد عبر ماركس بالصراع الطبقي عن الحقد اليهودي ضد الآخرين، ولم ير بين العامل ورب العمل سوى الكراهية والبغضاء والسرقة والاستغلال، متجاوزا كل أشكال ومعاني العلاقات الإنسانية الأخرى ومتمردا عليها، فرب العمل ضد العامل. والعامل ضد رب العمل، والعمال طبقة اجتماعية متميزة، وأرباب العمل طبقة أخرى، والطبقة هنا في تفكير ماركس نوع من "الفيتو" من الحي اليهودي الخاص، بمعنى أوضح: اليهودية في مواجهة غيرها، أي الحقد اليهودي في مواجهة الاضطهاد.
وعن حاجة اليهودية إلى الاندماج في المجتمعات البشرية، أي: إلى كسر الطوق من حولها، عبر ماركس بالأممية[10]، أي: بالإخاء الإنساني، وهكذا وفق ماركس شيوعيا بين نظرة اليهودية الحاقدة، وحاجتها إلى الخروج من العزلة، لقد كان الصراع الطبقي[11] هو التعبير عن الحقد اليهودي والكراهية المتأصلة، كما كانت الأممية هي التعبير عن الحاجة إلى كسر أطواق الحصار، والخروج من "الفيتو" الإجباري مع البقاء فيها اختيارا.
فإذا علمنا أن لليهود فكرا سريا متوارثا وعقيدة باطنية قلما يفصحون عنها، جاز لنا أن نعتقد أن شيوعية ماركس كانت تعبيرا عن المسألة اليهودية وحلا لها. وحياة الشيوعية التي تنتهي بها مراحل الصراع بين الطبقات والتي يعيش العمال فيها في نعيم مقيم، هي الفكرة المعروفة في الديانة اليهودية من حياة اليهود آخر الزمن في أرض الميعاد التي تفيض شهدا ولبنا، وتكون الحياة لليهود وحدهم والآخرون خدم لهم، فقد صورها ماركس ببعض التحوير ولكن الفكرة واحدة[12].
ثالثا. معاداة الشيوعية للأديان كلها، ولا سيما الإسلام.
لقد شارك ماركس في موجات الإلحاد العارمة التي تتابعت على البشرية في القرن التاسع عشر؛ لتقتلع الإيمان من قلوب معتنقيه، فأخرج في عام 1814م، مع صديقه أنجلز "المانفستو The Manefest" الذي أصبح فيما بعد دستور الحزب الشيوعي، وفي هذا الدستور أعلن ماركس عن موقف الشيوعيين من الديانات جملة فقال: "إنه - أي الدين - الأفيون الذي يخدر الشعب لتسهل سرقته، وإنه كان وسيلة الإخضاع الروحي، كما كانت الدولة وسيلة الإخضاع الاقتصادي".
ولا تخرج هذه الخزعبلات في مضمونها وحقيقتها الباطلة عما كان يردده الأقدمون أو الدهريون[13] الذين حكى القرآن الكريم مقولاتهم بقوله: )وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون (24)( (الجاثية)، ثم يأتي الابن البكر للماركسية لينين وفي خطابه الذي ألقاه في المؤتمر الثالث لمنظمة الشباب الشيوعي، والذي عقد في أكتوبر عام 1920 يقول: "إننا لا نؤمن بالإله، ونحن نعرف كل المعرفة أن أرباب الكنيسة والإقطاعيين والبرجوازيين لا يخاطبوننا باسم الإله إلا استغلالا، ومحافظة على مصالحهم، إننا ننكر بشدة جميع هذه الأسس الأخلاقية التي صدرت عن طاقات وراء الطبيعة - غير الإنسان - والتي لا تتفق مع أفكارنا الطبقية، وتؤكد أن كل هذا مكر وخداع، وهو ستار على عقول الفلاحين، والعمال لصالح الاستعمار والإقطاع، ونعلم أن نظامنا لا يتبع إلا ثمرة النضال البروليتاري؛ فمبدأ جميع نظمنا الأخلاقية هو الحفاظ على الجهود لطبقة البروليتاريا"[14].
وكتب لينين يقول: "إن البحث عن الله لا فائدة منه، ومن العبث البحث عن شيء لم يخبأ، وبدون أن تزرع لا تستطيع أن تحصد، وليس لك إله؛ لأنك لم تخلقه بعد، والآلهة لا يبحث عنها، وإنما تخلق".
إن هؤلاء الأفاك الإقطاعىين ينكرون الله؛ لأنهم لا يرونه ولا يشاهدونه أمامهم، إنهم لا يؤمنون إلا بالحسي، ولا يصدقون إلا ما تقع عليه أبعادهم أو تلمسه أيديهم، لقد كان الإلحاد في القديم إلحادا متخفيا مستترا، لا يعلن عن نفسه، ولا يحاول أن يكشف عن ذاته، أما في العصر الحديث فهو إلحاد متنمر له بنود وأعلام، وصحف، وأبواق، وإذاعات ومرئيات.
لقد هاجمت بعض الصحف العالمية موجة الإلحاد في الاتحاد السوفيتي، وقالت: هذا شيء مخالف لطبيعة النفس البشرية،،كيف يتسنى للإنسان أن يعيش دون حقيقة يؤمن بها ويعمل من أجلها؟
فخرجت "صحيفة برافدا" الناطقة بلسان الشيوعية، والمعبرة عن سياسة الهيئة الحاكمة هناك فقالت: ومن قال إننا لا نؤمن بشيء؟ إن من يقول بذلك يتجنى علينا ولا يذكر حقيقة وضعنا، نحن نؤمن بثلاثة أشياء: كارل ماركس ولينين وستالين، ولا نؤمن بثلاثة أشياء: الله والدين والملكية الخاصة[15].
ويوضح د. يوسف القرضاوي حملة الشيوعية على الإسلام فيقول: وقد حملت الشيوعية على الإسلام، وبرزت سافرة مكشوفة القناع منذ سيطرة الشيوعيين على الحكم في روسيا، فقد عقد أعضاء "الكومنترن" وهو الهيئة الدولية للشيوعية مؤتمرا في مدينة باكو بالقوقاز من 19/ 7 إلى 7/ 8 سنة 1920م، كان رئيسه كارل راديك اليهودي الماركسي العتيد، وكان اللحن الرئيسي لهذا المؤتمر هو خلق شعار "حركة التحرير الوطني" للشعوب العربية والإسلامية.
وقد تمخض مؤتمر باكو عن بيان موجه إلى الشعوب الإسلامية، اشتمل هذا البيان على عبارات ونداءات - بشأن القضية الفلسطينية - لا زالت دستورا للماركسية الدولية والعربية إلى اليوم، مثل: "انظروا ما فعل الاستعمار البريطاني في فلسطين، لقد ساعدوا اليهود الأبرياء، فإذا استمر هذا العداء ستضعف قوى الطرفين: العربي واليهودي؛ ليسود الاستعمار البريطاني والرجعية العربية عليهما معا، وتتمزق صفوف الجماهير العربية واليهودية معا"..
وللشيوعية أساليب متنوعة في حرب الإسلام، ومقاومة الاتجاه الإسلامي، من بينها: الدراسات الخبيثة المضللة التي يقوم بها كتاب الشيوعية ومستشرقوها، فكما أن للمسيحية مبشريها الذين يلبسون مسوح الدين، وهم يستحلون الكذب على الإسلام ونبيه، وتاريخه، نرى للشيوعية مبشريها الذين يتزيون بزي أهل العلم والبحث وما هم من العلم والبحث في شيء، إنما هم ناشرو أكاذيب، ومروجو أباطيل.
ومن وسائل الشيوعية كذلك التخريب من الداخل، وذلك بالتسلل إلى داخل المجتمع الإسلامي، واصطياد السطحيين المخدوعين الذين تضللهم الشعارات البراقة، فيركضون وراء سرابها مصدقين، والمحرومين الذين أجج النظام الاجتماعي في صدورهم نار الحقد على كل الأوضاع القائمة، فلم يعودوا يفكرون إلا في الهدم والتدمير، والعملاء الذين يتسترون بالثورية والماركسية؛ لينفذوا منها لضرب الإسلام في عقر داره وعدائه أهله أنفسهم. ومن أساليب الشيوعية في محاربة الإسلام تحريض الحكومات الموالية على الإسلام والحل الإسلامي، ومقاومة الاتجاه الإسلامي الصحيح، والإيعاز إلى الحكومات العلمانية الموالية لها، والتي تمدها أو تكبلها بالقروض والمساعدات، والسلاح والخبراء، والإيحاء إليها بضرب الحركات الإسلامية الواعية بعنف وقسوة، وتشريد رجالها في غير رحمة ولا هوادة، وشن حملات التضليل الجبار لتلويث سمعتها، وتحريف أهدافها، وتشويه أساليبها، وتنفير العامة والخاصة من دعوتها.
إن الماركسية لا تعرف عن الإسلام سوى أنه السد المنيع الذي يقف في طريق انتشارها، ويحول بين الناس وبين اعتناقها.. من أجل ذلك حاربت الشيوعية الإسلام حربا لا هوادة فيها، وأطلقت على منهجه الشائعات الباطلة، والأقوال المضللة، واتهمت أصحابه بالرجعية والتخلف، ولم تقتصر المعركة بين الشيوعية و الإسلام على مجرد الاتهامات والأباطيل. بل قام جيشها الأحمر بحملات متتابعة على المسلمين، ولكنه لم يحرز نصرا، ولم يعد بغنيمة الأمر الذي جعل مولتوتوف أحد زعماء الشيوعية يقول: "لن تنتشر الشيوعية في الشرق إلا إذا أبعدنا أهله عن تلك الحجارة التي يعبدونها في الحجاز، وإلا إذا قضينا على الإسلام".
رابعا. بين الإسلام والشيوعية:
إن الإسلام لم يكن أبدا أفيونا يخدر الشعوب، ويشغلها عن المطالبة بحقوقها، بل على العكس من ذلك، فإن الإسلام هو الذي أسقط طغيان الطبقية الظالمة في مكة فدافع عن المظلومين ضد ظالميهم، فحرر العبيد، وقضى على العنصرية، وسوى بين الناس وأعاد الأمور إلى نصابها، وظل الإسلام هو العامل الفعال والعنصر الأقوى في تحرير الأمم المقهورة والشعوب المسلوبة، التي قهرت تحت اضطهاد المستعمر الأجنبي ردحا طويلا من الدهر، بل إن التاريخ يثبت أن الإسلام قد وظف فريضة الجهاد لتحرير الشعوب من الاضطهاد الديني والعرقي، كما حدث مع أقباط مصر، حيث كانت تحت تسلط الإمبراطورية الرومانية، ومع الأمم التي كان يحكمها الفرس.
إن الإيمان بإله الكون وخالقه ومدبره يعني انتظام الكون والحياة، وأن كل شيء يسير لهدف وغاية يعمل لها، وما دامت الحياة هادفة فهي حياة بحق، أما حياة بلا هدف، فهي والموت سواء، والإلحاد قرين الفوضى والعبثية؛ لأنه لا يقيم للحياة وزنا، ولا يجعل لها هدفا أسمى سوى هذه الحياة الفانية، كما يقولون: إن هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع وما يهلكنا إلا الدهر.
فإذا كانت الشيوعية أو الماركسية ترفض الإسلام، وتتخذه عدوا لها، فإننا - نحن المسلمين - نرفضها كذلك، بل نقاومها ونحاربها، لعوامل وأسباب منها:
1. الشيوعية مذهب مادي ضد العقيدة:
إن الشيوعية مذهب مادي ينكر كل ما وراء الحس وما بعد الطبيعة، فلا يؤمن أن للكون إلها، ولا أن للإنسان روحا، ولا يؤمن بأن بعد الدنيا آخرة، ولا أن لله تعالى رسلا وأنبياء أرسلهم لهداية الناس، وكل ما يقال في هذا المجال، إنما هو أباطيل اخترعها الأغنياء لإلهاء الفقراء والأقوياء لابتزاز الضعفاء والحكام والمحكومين؛ فالماركسية، أو الشيوعية تتبنى هنا ما قاله بعض الفلاسة الماديين: إن الله لم يخلق الإنسان، بل الإنسان هو الذي يخلق الله، والدستور الروسي الشيوعي يقول: لا إله والحياة مادة.
يقول أنجلز في كتابه "ضد دوهرنج": "ليس الدين سوى انعكاس خيالي وهمي في أذهان الناس عن القوى الخارجية على حياتهم اليومية، وهو انعكاس تتخذ فيه قوى العالم شكل قوى فوق الطبيعة".
إن الشيوعية ليست ضد العقيدة الإسلامية وحدها، ولكنها ضد المسيحية، وضد كل الأديان والرسالات الإلهية؛ لأن أساس الدين الوحي، وهو شيء غير مادي، ولكن لو كان الدين مجرد انعكاس للظروف الاقتصادية ولأسلوب الإنتاج خاصة، فلماذا عاش دين كالمسيحية ألفي عام، رغم تطور أساليب الإنتاج؟! بل لماذا عاشت اليهودية أكثر من ذلك؟ ولماذا تعددت الأديان في البيئة الواحدة رغم وحدة الوضع الاقتصادي، وأسلوب الإنتاج؟ ولماذا كان في الهند مسلمون وهندوس، وكان في الشرق العربي مسلمون ونصارى؟
إن الإنسان - بناء على فلسفة ماركس - ليس مسئولا عن تصرفاته وسلوكه؛ لأنه مجبر عليها لا محالة، يقهره عليها الوضع الاقتصادي، وأسلوب الإنتاج الذي يعيش فيه، ومقتضى هذا التفسير أن كل أنواع الظلم والاستغلال والفجور والشرور لها ما يسوغها ويبررها، فقد كانت في وقتها أمورا لا مفر منها، تفرضها أساليب الإنتاج، ومظالم عصر الرق الروماني، ومظالم عصر الإقطاع، ومظالم الرأسمالية الغربية، وكلها لم تكن في الحقيقة مظالم، إنها أثر حتمي للوضع الاقتصادي، أو لأسلوب الإنتاج الذي ساد في المجتمع.
وكأن ماركس بهذه الفلسفة البائسة يعتذر عن ظلم الظالمين، أو يحامي عما اقترفت أيديهم، من موبقات في حق المستضعفين والمسحوقين، ثم إن الشرف، والصدق، والعدل، والشهامة، وغيرها مما نعتبره فضائل - لا مكان لها في قاموس الماركسية، فليس عندها قيمة ثابتة، ولا فضائل دائمة، فكل هدف الماركسيين أن يدحروا خصومهم، ويبنوا مجدهم ولو فوق أشلائهم.
2. الشيوعية ضد الشريعة:
إن الشيوعية لا تعترف بشريعة الإسلام، ولا تعترف بالله تعالى آمرا أو ناهيا، محللا أو محرما، فلا تقبل أحكامه في العبادات من صلاة، وصيام، وزكاة، وحج، وعمرة، ولا أحكامه في شئون الأسرة من الزواج وما يتعلق به، والطلاق وتوابعه، وحقوقه الزوجية، وحق الميراث، وغير ذلك فهي ترفض تعدد الزوجات، وكذلك الطلاق، والميراث بضوابطه الشرعية، وهي ترفض أحكام الشريعة في الملكية وحقوقها، وواجباتها، وفي طرائق تملك المال، وتنميته، وفي سائر أجزاء النظام الاقتصادي في الإسلام، وهي ترفض أحكام العقوبات الإسلامية مثل حد الزنى، وحد السرقة، وحد الحرابة، وحد القذف، وحد الشرب، وحد الردة، وغيرها من العقوبات النصية والتقديرية والتعزيرية.
3. الشيوعية ضد الأخلاق:
إن الشيوعية تنكر أن في الحياة قيما أخلاقية ثابتة، وفضائل عامة مطلقة، إنما تؤمن بالأساس بأساليب الإنتاج، فالنظام الرأسمالي الذي يقر الملكية الفردية يقتضي تحريم السرقة حتى تصان الملكية، فإذا انتفت الملكية الفردية بدأ تحريم السرقة غير ذي موضوع! وهكذا الحرية الفردية، والعفة الجنسية، وغيرها من الفضائل، إنما كانت فضائل في مرحلة معينة، وليس من الضروري أن تبقى فضائل أبدا.
4. الشيوعية ضد الحرية:
إن الشيوعية في كل بلاد الدنيا عدو لحرية البشر، وفلسفتها قائمة على وأد الحريات السياسية، واتخاذ الديكتاتورية سبيلا لها؛ فما تكاد تقبض العصبة الاشتراكية على زمام الحكم، حتى تنصب المشانق لقصف رقاب المعارضين، وحتى تسل سيف الإرهاب على المواطنين، وتفتح السجون والمعتقلات، والمنافي، وتصادر الأموال، والملكيات، وتعمل على تبرير الوسيلة، والأخلاق والأديان التي تحرم القسوة والاضطهاد والتعذيب ونحوها، إنما هي صناعة برجوازية.
5. الشيوعية مذهب متناقض:
إن الشيوعية الماركسية لا ترى في الوجود قيمة مطلقة، كل المبادئ والقيم والأفكار هي نسبية متغيرة؛ لأنها انعكاس للظروف الاقتصادية، أو لأسلوب الإنتاج، فإذا تغير، تغيرت تلك القيم والأفكار. وكان يجب أن ينطبق هذا على الماركسية نفسها وفكرتها عن التاريخ، فإنها ليست إلا انعكاسا للعصر الذي عاش فيه ماركس وأحواله الاقتصادية؛ وعلى هذا لا تعود الماركسية صحيحة مطلقا في كل زمان ومكان، ربما كانت لزمان ماركس وبيئته، ولا تصلح للأزمنة التي تليه، والبيئات التي لم تعشها، فالمفروض مع تغير الزمن أن تتغير النظرة والتفسير، ولكن الماركسيين لا يقبلون هذا أبدا فوقعوا بهذا في تناقض لا مخلص لهم منه بحال، ولم يستطع أحد من تلامذة ماركس أن يحل هذا الإشكال.
ويبدو تناقض الماركسية الفكري في صورة أخرى؛ ذلك أن ماركس يرى الصراع بين الطبقات أمرا حتميا، حتى إذا نجحت الشيوعية انتهى هذا القانون الحتمي، ومن تناقض الماركسية أنها ترفض الغيبيات التي يجيء بها الدين؛ لأنها لا تؤمن إلا بما هو محسوس وواقع، ثم تفحصها فإذا هي مشحونة بالتنبؤات التي لا يسندها حس ولا يؤيدها واقع، ومن تناقض الماركسية أنها رفضت الدين الذي ورثته الإنسانية عن طريق النبوات الهادية، والكتب السماوية، ثم اصطنعت هي عقيدة - في رأي أتباعها - لها كل ما للدين من خصائص.
6. الشيوعية ضد وحدة الأمة:
إننا نؤمن بأن المسلمين أمة واحدة، تجمعهم وحدة العقيدة، ووحدة العبادة، ووحدة الآداب، ووحدة القبلة، ووحدة المشاعر، ووحدة التشريع: )إنما المؤمنون إخوة( (الحجرات: 10)، والشيوعية ترفض الدين - كما ترفض القومية - رابطة بين الناس، فهي تعمل على تقسيم المجتمع الواحد، فتؤجج صراع الطبقات؛ لتستفيد منه في النهاية، وتنادي العمال أن يتحدوا ضد الطبقات الأخرى، والإسلام يؤاخي بين الطبقات جميعها، ويوجب إقامة العدل بينها، ولا ينحاز لطبقة ضد أخرى.
7. الشيوعية أداة الصليبية في حربنا:
إن الشيوعية هي أداة الصليبية الغربية في حربنا، إنها يئست أن تدخلنا في دينها، فاكتفت بأن تخرجنا من ديننا، لم تستطع أن تجعلنا نصارى، فلتحاول أن تجعلنا شيوعيين؛ لتفسح المجال للمبشرين الماركسيين بعد فشل المبشرين المسيحيين. إن المهم هو هدمنا، ولا بأس أن يكون بمعاول حمراء، المهم أن نتخلى عن مصدر قوتنا ووحدتنا "الإسلام"، وإن أصبحنا بغير دين قط.
8. الشيوعية دعوة رجعية:
إنها دعوة رجعية دعوة إلى الانتكاس بالبشرية، وليس إلى تقدم الإنسانية، هي رجوع بالإنسان إلى العبودية، ورجوع بالفكر والإيمان إلى الجبرية، ورجوع بالإنسانية إلى الوثنية، ورجوع بالأخلاق والقيم إلى الحيوانية، كما أنها انحطاط بالإنسان من أفق الرشد الذي يؤمن بالغيب إلى حضيض الطفولة الإنسانية، فالطفل هو الذي لا يؤمن إلا بالحس، فإذا رشد ونضج بدأ يدرك المعنويات، ولا يزال يرتقي حتى يؤمن بالغيبيات.
9. الشيوعية مذهب لا حاجة لنا به:
إن الشيوعية مذهب لا يعالج مشاكلنا، ولا يلبي مطالبنا، وليس لنا به حاجة، لقد قامت الشيوعية؛ لتعالج مشكلات الرأسمالية المتجبرة، المصاصة للدماء، التي تأكل عرق العمال، ولا تعطيهم من الأجر ما يكفيهم.
ومن يدري لعله لو اطلع على نظام الإسلام الذي يقر الملكية الخاصة ويحميها، ولكنه لا يتدخل لحمايتها إلا إذا جاءت من طرق مشروعة، ثم هو يضع قيودا على المالك في تنميته لما يملك، واستثماره له، وفي تصرفه واستهلاكه وإنفاقه، كما يلزمه بواجبات اجتماعية مالية، بعضها موكول لضميره، وبعضها تقوم الدولة على تنفيذه، وأبرز هذه الواجبات هو الزكاة التي بها يزكي المالك نفسه ويطهر ماله.
لقد جاء الإسلام؛ ليحد من طغيان الأغنياء، وليرفع من مستوى الفقراء، وليقيم التوازن الاقتصادي، ويحقق العدل الاجتماعي، ويربط بين الاقتصاد والإيمان، وبين الاقتصاد والأخلاق، ويجعل الأمة كلها كالأسرة الواحدة، بل كالجسد الواحد لو اطلع ماركس على محاسن هذا النظام، وقواعد هذا المنهج، لربما وجد فيه ضالته، وأغناه عن منهجه الذي شط فيه عن الصواب وحاد عن الصراط المستقيم[16].
إن الملكية الخاصة ليست من وجهة نظر الإسلام حقا مطلقا أو مقدسا، ولكنها وظيفة اجتماعية قبل أن تكون أي شيء آخر، فالله - عز وجل - هو المالك المطلق لكل شيء، وما البشر إلا خلائف الله، ومسئولون أمامه عن كل ما يملكون: )وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم (165)( (الأنعام).
ولا يجوز أن تنفصل الملكية عن العمل؛ لأن العمل فريضة وواجب يمليه حق الحياة، فإذا ما تخلت الملكية عن العمل وصارت إلى التحكم والتجبر باستغلال عمل الغير قهرا؛ فقد فقدت صفة الملكية الحلال، ووجبت مصادرتها لذلك؛ لمنع الضرر عن المؤمنين، وتحويلها شرعا لصالح الجميع، وهكذا تعد الملكية العامة في نظر الإسلام وسيلة، وليست غاية في حد ذاتها، وهذه الوسيلة ترجع إليها الدولة كلما اقتضت الضرورة ذلك، أي في حدود مقتضيات الصالح العام، وليس لمجرد التضييق على التملك المشروع.
إن الإسلام قد أقام نظاما اقتصاديا يحقق المساواة، وتكافؤ الفرص، ولا يسمح بالاستغلال، أو بالسيطرة الطبقية، قبل أن تظهر الماركسية، والنظريات الاشتراكية الأخرى بمئات السنين.
وهذا النظام يتخذ من العمل قيمته الأساسية، فيجازي كل فرد بقدر عمله، ولما كانت قدرات واستعدادات الأفراد غير متساوية؛ فإنه لا مفر من وجود مستويات مختلفة من الأعمال والمسئوليات والدخول، وهذه المستويات المختلفة هي ما يصطلح على تسميته بالدرجات الاقتصادية، ومثل هذه الدرجات لا غنى عنها أيضا لتدرج مراتب المسئولية التي لا يحسن بدونها سير الجماعة الإنسانية، يقول الله سبحانه وتعالى: )ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون (19)( (الأحقاف)، ويقول: )نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون (32)( (الزخرف).
وما من مجتمع يسير على مبدأ تقسيم العمل والتخصص إلا وتوجد فيه مثل هذه الدرجات المتصاعدة في الدخل والمسئولية، بحكم الضرورة، والتفاوت المسموح به في مستويات الدخل والمسئولية، إنما يكون بمستوى درجات اقتصادية متقاربة، وليس على صورة طبقات اجتماعية متنافرة.
هذا، ولحماية المجتمع الإنساني من النكسات وإساءة استخدام المال، أو إساءة استعمال السلطة، فرض الإسلام حدا أعلى للدخل تركه مرنا، وخاضعا لتقدير الحاكم في ضوء الظروف الاقتصادية والاجتماعية المتغيرة. ولئن لم يحدد الإسلام قدر هذا الحد الأعلى؛ لأنه حد نسبي بطبيعته، إلا أنه قرر المبادئ، أو الأبعاد التي يجب أن تؤخذ دائما في الاعتبار عند تحديده من وقت لآخر، طبقا لما يتمشى مع الظروف الموضوعية السائدة، هذه المبادئ والأبعاد التي يمكن تلخيصها فيما يلي:
· ألا تترك الأموال تتجمع في أيدي قلة متميزة من الأغنياء إلى الحد الذي يمكنها من ممارسة السيطرة على الآخرين واستغلالهم، يقول سبحانه وتعالى: )ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض( (الشورى: 27).
· ألا تتجمع الأموال لدى مثل هذه القلة المتميزة على نحو يؤدي إلى الترف والتبذير والانغماس في الملذات وميوعة الحياة اللينة. فمثل هذه السلبيات أو الأمراض الاجتماعية لا تلبث أن تؤدي إلى تدهور وانهيار المجتمع، وهذه حقيقة تاريخية أكدها القرآن الكريم بقوله: )وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا (16)( (الإسراء).
· أن اكتناز الأموال المتجمعة لدى الأغنياء - حتى إذا لم يستخدموها أداة للسيطرة أو ينغمسوا في الترف والملذات - يعوق دورة الإنفاق ومن ثم يلحق أضرارا بالغة بالجماعة.
· ألا تتجمع الأموال لدى بعض الأفراد عن طريق بخس حقوق الآخرين وسوء استغلالهم، كأن تفرض أسعار احتكارية باهظة على المستهلك قال سبحانه وتعالى: )ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها( (الأعراف: 85).
وما كان فرض الإسلام لهذا الحد الأعلى بأبعاده الأربعة سالفة الذكر إلا وسيلة لإعادة توزيع الدخل القومي بين الأفراد على النحو الذي يحقق العدالة، حيث يأخذ من هؤلاء الذين يكسبون ويحوزون أكثر مما يكفي؛ ليعطي هؤلاء الذين يكسبون ويحوزون أقل مما يكفي، وما التوسع في نظم الضرائب المباشرة التصاعدية، التي تركز على فئات الدخل الأعلى بوجه خاص، جنبا لجنب مع التوسع في برامج الخدمات المجانية العامة إلا تطبيقا مستحدثا لهذا المبدأ القديم، الذي نجده واضحا كل الوضوح في قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل لما وجهه واليا على أهل اليمن: «فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقراءهم»[17].
وفي قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "إن الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلا بما منع به غني، والله سائلهم عن ذلك"، كما أكد عمر بن الخطاب نفس المعنى بقوله البليغ: "كل ترف بإزائه حق مضيع".
ولعل أفضل تسمية للنظام الاقتصادي الاجتماعي الإسلامي أنه: "نظام المقاسمة الطوعية والإلزامية في مال الله المتوفر من العمل في خيرات الأرض، بين المتساويين والمتكافلين بأخوة الإيمان، وشريعة القرآن".
على مثل هذه المقاسمة والسواسية يقوم المجتمع الذي يتضافر أفراده على دعم طاقته الإنتاجية، وزيادة كفاية إنتاجه، جنبا لجنب مع العمل على تحقيق عدالة التوزيع المثلي لناتجه القومي، وبهذا الربط بين الكفاية التي يوفرها العمل وبين العدالة التي يوفرها الإسلام للأخوة في المجتمع المؤمن، تؤدي زيادة الإنتاج التي يزيد بها الدخل القومي إلى اطراد التحسن في مستويات الحياة لجميع المواطنين؛ ذلك لأن الزيادة التي تتحقق في الإنتاج والدخل القومي لا تذهب إلى فئات الدخل الأعلى، كما هو الأغلب في النظام الرأسمالي الحر، ولكنها تذهب إلى فئات الدخل الأدنى، وترفعها تدريجيا، عاملة بذلك على تضييق الفجوة بينها وبين الفئات الأعلى، وعلى هذا النحو تسير عملية تذويب الفوارق بين الطبقات؛ بهدف إزالة النظام الطبقي بالأسلوب العلمي، واستنادا إلى مبدأ التكافل الاجتماعي النامي والنشط في إطار الإخاء الصادق والعملي بين المؤمنين.
بهذا السلام الاجتماعي يتميز الاقتصاد الإسلامي، ويتحدد الخلاف بين المسلمين والماركسيين حول مفهوم وتطبيق العدالة الاجتماعية، هذا الخلاف الذي لا يدور حول أسلوب التطبيق بقدر ما يدور حول مفهوم "الصراع الطبقي"، وهو يرجع أساسا إلى التباين الواضح بين المفهوم الإنساني والمفهوم الحيواني للصراع والتنازع من أجل البقاء، فالمفهوم الإنساني في ضوء الإسلام يعني التصدي لعوامل النكسة والقوى المضادة والمعوقة التي تعترض طريق التقدم الحتمي، ولا يلجأ إلى العنف إلا في حدود مقتضيات الضرورة، وبدون مغالاة، بينما المفهوم الحيواني للصراع في النظرية الماركسية، يفترض العداء غريزيا بين البشر، وينزع دائما إلى العنف، ويفتعل عمليات التصفية إظهارا لدموية الصراع!
المتاهة الماركسية:
ونقطة خلاف هامة أخرى بين المسلمين والماركسيين، تتمثل في: أن دعائم السواسية والمقاسمة والعدل الاجتماعي كما يقيم بها الإسلام مجتمع المؤمنين، تلغي بتطبيقاتها الموحدة فكرة الشيوعيين في وجود مرحلتين للتطبيق الاشتراكي، وهما في نظرهم مرحلة الاشتراكية ومرحلة الشيوعية، وذلك لسبب بسيط واضح، وهو استحالة تصور وجود حد أعلى لوفرة الإنتاج والسلع، وكذلك حد أعلى للعدل في المقاسمة.
وإذا كان الشيوعيون يصفون المرحلة الشيوعية بأنها هي المرحلة التي يحصل فيها الفرد على حاجته الكاملة أيا كان عمله، رافعين شعار "لكل بقدر حاجته على أن يؤدي من العمل بقدر طاقته"، بينما يصفون المرحلة الاشتراكية السابقة لها بأنها المرحلة التي يجزى فيها كل فرد بقدر عمله.
إذا كان هذا وصف الشيوعيين للمرحلتين، وتمييزهم لكل منهما عن الأخرى، فإنه لا يعدو كونه مجرد خداع لفظي، أو متاهة نظرية في منطق الماركسية؛ إذ إنه يستحيل - عمليا - مهما حققنا من زيادة للإنتاج، ومهما زعمنا أن إنتاجنا وصل إلى مرحلة الوفرة، أن نترك كل فرد يقدر حاجته بنفسه، ويحصل على حاجته طبقا لتقديره الخاص، سواء أكان باتجاه الإسراف، أم كان تدليلا واستجابة للأمزجة المتقلبة في رغباتها وأهوائها!
إنه لا يمكن أن يكون المقصود بتعبير "لكل بقدر حاجته" أكثر من تقدير نمطي لما يمكن أن يتعارف عليه المجتمع كتصور يحصل فيه الفرد على حاجته الكاملة لحاجة الفرد إجمالا، وهذا التقدير النمطي لحاجة المواطن لا بد منه حتى يمكننا حساب الأهداف الإنتاجية المقرر تحقيقها في إطار الخطة، ولكي نستطيع الإفادة من نظام الإنتاج الكبير القائم أساسا على التنميط، أي التوحيد النمطي للاحتياجات والمنتجات وحصر تنوعها في حدود الضرورة التي تحكمها الفائدة المستهدفة. ولقد برئ الاقتصاد الإسلامي بكل مبادئه من مثل هذه النزعات[18].
الخلاصة:
· الشيوعية عقيدة وفكرة ومذهب، أسسه اليهودي كارل ماركس، وهي عقيدة تعادي الأديان كلها، وتخص الإسلام بمزيد من العداوة، وهي لا تعترف بالله، ولا بالوحي ولا بالرسل؛ لأنها لا ترى وجودا إلا للمادة ولا تؤمن بما وراءها، والعوامل الاقتصادية عندها هي المحرك الأساسي للأفراد والجماعات، وهي تعتبر الدين خدعة للسيطرة على عقول الفقراء والمستضعفين، وقد ساعد على انتشارها ظلم الكنيسة، وفساد العقيدة النصرانية المنافية للعقول، والطفرة التي حدثت في العلوم الكونية والصناعية آنذاك.
· أفكار ماركس هي خلاصة الإلحاد الذي نادى به أصحاب الفكر الفلسفي الأوربي في عصر النهضة، لكن أفكاره الاشتراكية كانت أكثر إقناعا من أفكار سابقيه؛ لما له من كم وفير من المعرفة، وأيضا لأهدافه الثورية، وأدواته المعرفية.
· وتعد الشيوعية بنتا لليهودية، والعلاقة بينهما علاقة وثيقة أسسها ماركس اليهودي لتحقيق أهداف اليهود البعيدة، وإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين بعد إذابة الأديان والقوميات كلها في بوتقة الشيوعية.
· والشيوعية عقيدة ومذهب يعادي كل الأديان وينكرها، ويخص الإسلام بمزيد من الحقد، وله أساليب شتى في محاربته ومحاولة القضاء عليه ومنها: التخريب من الداخل،باصطياد السطحيين وتضليلهم بالشعارات البراقة والخادعة، ومقاومة الاتجاه.
· وقد وقف الإسلام من الشيوعية موقف العداء؛ لأنها مذهب مادي ينكر وجود الله، وما وراء الحس، والإسلام يقر بوجود الله الخالق المدبر، وكما أنه لا يعد أفيونا مخدرا للشعوب كما زعم الماركسيون؛ فهو لم يشغل الشعوب عن المطالبة بحقوقها، بل سارع وقضى على العنصرية، وأزال طغيان الطبقات الظالمة، كما أنه لا يحتاج إلى الماركسية في شيء، وله نظمه الاقتصادية التي - إذا تحققت في مجتمعاتنا - أخذت بزمامها نحو التقدم والقيادة، ولقد رأينا كيف ضاعت الماركسية، وقضي عليها قبل أن تحقق الإصلاح والنفع الاقتصادي اللذين وعدت بهما.
(*) تعالوا نعيد النظر فيما نعتقد، حسن يوسف، دار الشعب، القاهرة، د. ت.
[1]. أعداء الحل الإسلامي، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م، ص105 وما بعدها.
[2]. الاشتراكية: مذهب سياسي واقتصادي يقوم على سيطرة الدولة على وسائل الإنتاج وعدالة التوزيع والتخطيط الشامل.
[3]. المذاهب المعاصرة وموقف الإسلام منها، د. عبد الرحمن عميرة، دار الجيل، بيروت، ط4، د. ت، ص115، 116.
[4]. الرأسمالي: نظام اقتصادي تكون فيه رؤوس الأموال مملوكة لأصحاب الأموال الموظفة، وغير مملوكة للعمال.
[5]. البرجوازية: طبقة اجتماعية وسطى نشأت في عصر النهضة الأوربية بين الأغنياء والزراع، وأصبحت دعامة النظام النيابي، ثم صارت في القرن التاسع عشر الطبقة التي تمتلك وسائل الإنتاج.
[6]. العقيدة الإسلامية والأيدلوجيات المعاصرة، د. عبد الغني عبود، دار الفكر العربي، القاهرة، ط2، 1980م، ص86: 88.
[7]. انظر: ركائز الإيمان، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط1، 1422هـ/ 2001م، ص156 ومابعدها.
[8]. انظر: المذاهب المعاصرة وموقف الإسلام منها، د. عبد الرحمن عميرة، دار الجيل، بيروت، ط4، د. ت، ص121 وما بعدها.
[9]. البروتستانتية: مذهب ديني مسيحي، نشأ عن حركة الإصلاح الديني التي قام بها مارتن لوثر، وتدعو إلى تحرر الفرد من سلطان الكنيسة وتجعله مسئولا أمام الله تعالى وحده، وتتبعه عدد من الكنائس؛ كالإنجيلية والمعمدانية وغيرهما، وتقابلها الكاثوليكية الرومانية، والأرثوذكسية الشرقية.
[10]. الأممية: تكتل أو تحالف بين مجموعة دول أو اتجاهات لها شرعية عالمية.
[11]. الصراع الطبقي: صراع طبقة اجتماعية مستغلة لنيل حقوقها من طبقة اجتماعية مستغلة.
[12]. أعداء الحل الإسلامي، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م، ص109 وما بعدها.
[13]. الدهريون: نسبة إلى الدهرية، وهي فرقة مادية ظهرت في العهد العباسي، جحدت الصانع المدبر وقالت بقدم الدهر، وبأن العالم لم يزل موجودا كذلك بنفسه، كما أنكرت أي شيء لا يمكن إدراكه بالحواس.
[14]. البروليتاريا: طبقة العمال الكادحين المستغلة التي تكونت مع بداية العصر الرأسمالي في إنجلترا أولا ثم في أوربا، وهي تعمل دون أن تملك شيئا.
[15]. انظر: المذاهب المعاصرة وموقف الإسلام منها، د. عبد الرحمن عميرة، دار الجيل، بيروت، ط4، د. ت، ص144 وما بعدها.
[16]. أعداء الحل الإسلامي، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م، ص115 وما بعدها.
[17]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا (1425)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام (132).
[18]. انظر: مع القرآن الكريم: رؤية مستنيرة لحقائق الإيمان والحياة، المقاولون العرب، القاهرة، ط1، 1398هـ/ 1978م.
why do men have affairs
redirect why men cheat on beautiful women
wives that cheat
link read here
why do wife cheat on husband
website reasons why married men cheat
why do wife cheat on husband
website reasons why married men cheat