ادعاء أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم لم يعط دليلا على أن ما جاء به وحي إلهي جديد(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن ما جاء به رسول المسلمين صلى الله عليه وسلم ليس فيه ما يثبت أنه وحي إلهي جديد، ذاهبين إلى أن الدين الذي جاء به مصدره اللاشعور، كما أن الوحي الذي يدعيه محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يوافق الشروط التي وضعها (اللاهوتيون) في قبول أي وحي مفترض، وهي أنه:
1. يجب أن يفي برغبة الروح البشرية في الحصول على السعادة الأبدية.
2. يجب أن يتفق مع الضمير، وهو القانون الأخلاقي المكتوب في عقل الإنسان.
3. يجب أن يكشف عن الصفات الحقيقية للإله.
4. يجب أن يؤكد اعتقاد الإنسان بأن الله واحد.
5. يجب أن يجعل طريق الخلاص واضحا جليا.
6. يجب أن يعلن عن نفسه.
وجوه إبطال الشبهة:
1) معنى الوحي لغة: الإعلام، وشرعا: إعلام الله أنبياءه بما يريد وحيا.
2) الوحي الإلهي معصوم؛ لأن الله تعالى هو الذي ضمنه وعصمه، وعصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - في تبليغه إياه ثابتة بالقرآن الكريم، والسنة المطهرة وإجماع الأمة.
3) العلم الحديث يؤيد معنى الوحي وإمكانه.
4) إن أكبر دليل على إلهية الوحي المحمدي اشتماله على وجهين من وجوه الإعجاز الغيبي، والإعجاز العلمي.
5) الوحي الإلهي ثابت في رسالات الأنبياء والرسل جميعا، ومن ثم فالوحي المحمدي لم يكن بدعا من وحي الرسالات السابقة.
6) فكرة الوحي النفسي فكرة باطلة، وهي مما تنكره العقول بداهة، وإن الأدلة على بطلانها كثيرة ومتعددة.
7) الشروط التي وضعها اللاهوتيون لصحة الوحي تحروا فيها أن تتفق مع معتقداتهم، وخاصة الشرط السادس، ومع ذلك فالشروط الخمسة الأولى - إذا اتفقنا على اشتراطها للوحي الصحيح - لا تتحقق في كتابهم المقدس، بينما تتحقق على أتمها في القرآن الكريم.
التفصيل:
أولا. الوحي لغة واصطلاحا:
معنى الوحي لغة: قال الراغب: أصل الوحي: الإشارة السريعة، ولتضمن السرعة قيل: أمر وحي، يعني: سريع، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز، والتعريض، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب، وبإشارة ببعض الجوارح بالكتابة، وقد حمل على ذلك قوله تعالى عن زكريا عليه السلام: )فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا (11)( (مريم)؛ أي: أشار إليهم ولم يتكلم.
ومنه الإلهام الغريزي، كالوحي إلى النحل، قال سبحانه وتعالى: )وأوحى ربك إلى النحل( (النحل: 68)، وإلهام الخواطر بما يلقيه الله في روع الإنسان السليم الفطرة، الطاهر الروح، كالوحي إلى أم موسى، ومنه ضده، وهو وسوسة الشيطان، قال سبحانه وتعالى: )وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم( (الأنعام: 121)، وقال سبحانه وتعالى: )وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا( (الأنعام: 112).
فالخلاصة في معنى الوحي اللغوي: أنه الإعلام الخفي السريع، وهو أعم من أن يكون بإشارة أو كتابة أو رسالة، أو إلهام غريزي، أو غير غريزي، وهو بهذا المعنى لا يختص بالأنبياء، ولا بكونه من عند الله سبحانه وتعالى [1].
وأما في الشرع فالوحي: يطلق ويراد به المعنى المصدري، ويطلق ويراد به المعنى الحاصل بالمصدر، ويطلق ويراد به: الموحى به.
ويعرف من الجهة الأولى (المعنى المصدري): بأنه إعلام الله أنبياءه بما يريد أن يبلغه إليهم من شرع أو كتاب بواسطة أو بغير واسطة، فهو أخص من المعنى اللغوي لخصوص مصدره ومورده، فقد خص المصدر بالله وخص المورد بالأنبياء.
ويعرف من الجهة الثانية (المعنى الحاصل بالمصدر): بأنه عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين بأنه من عند الله، سواء أكان الوحي بواسطة، أم بغير واسطة.
ويعرف من الجهة الثالثة (الموحى به): بأنه ما أنزله الله على أنبيائه، وعرفهم به من أنباء الغيب والشرائع، والحكم، ومنهم من أعطاه كتابا، ومنهم من لم يعطه[2].
ويمكن أن نقدم مفهوما ميسرا للوحي في الاصطلاح الشرعي وهو: أن الوحي صلة بين الرب تعالى ومن يصطفيه من خلقه ليتحمل أمانة التبليغ عن الخالق إلى الخلق، وهذه الصلة يصحبها علم ضروري بمصدرها، ويصاحبها ظواهر نفسية وبدنية للشخص المصطفى، ويتبعها آثار توجيهية يعلنها المصطفى لمن حوله. ولتوضيح هذا المصطلح نقول: إنه يقوم على أسس هي:
1. الاصطفاء من الله تعالى.
2. العلم الضروري بمصدر الوحي.
3. الحالة النفسية والبدنية المناسبة للوحي.
4. الرسالة التي يتحملها المصطفى لقومه.
وهذه الأسس واضحة تماما فيما حكاه القرآن المجيد عن موقف اصطفاء موسى - عز وجل - للنبوة والرسالة،في قوله سبحانه وتعالى: )وهل أتاك حديث موسى (9) إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى (10) فلما أتاها نودي يا موسى (11) إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى (12) وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى (13)( (طه) [3].
ثانيا. عصمة الوحي الإلهي، وعصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - في تبليغه إياه:
الوحي الإلهي معصوم من قبل الله عز وجل:
يوضح ذلك د. محمد سيد المسير فيقول: "إن الملك أو الرئيس إذا بعث مندوبا عنه لا بد أن يتحقق لدى المرسل إليهم شخصية هذا المبعوث؛ حتى يحظى بالقبول، ورب الناس أقدر على ذلك، فهو يؤيد رسله بالمعجزات التي يقف أمامها العقل والجهد الإنساني، عاجزا عن الإتيان بمثلها أو محاكاتها، ويمتنع عقلا وشرعا أن تقع المعجزة على أيدي المتنبئين الكذابين، قال سبحانه وتعالى: )ولو تقول علينا بعض الأقاويل (44) لأخذنا منه باليمين (45) ثم لقطعنا منه الوتين (46) فما منكم من أحد عنه حاجزين (47)( (الحاقة).
فلو أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - ويقاس عليه كل نبي - افترى على الله شيئا من الوحي بالزيادة أو النقص؛ لعاجله الله بعقوبة صارمة لا تبقي ولا تذر.
ومعنى قوله: )لأخذنا منه باليمين( لأخذناه بالبطش الشديد، أو لسحبناه من يمينه إلى حتفه بقطع الوتين، الذي هو شريان بالقلب، إذا قطع انتهت الحياة.
وهذا على فرض التقول ببعض الرسالة، فما بالك بمن يتقول الرسالة كلها؟! فوصول الوحي إلى الأنبياء محوط بضمان إلهي يمنع التزيد على النص، ويحول دون التدخل الشيطاني في التبليغ، قال سبحانه وتعالى: )عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا (26) إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا (27) ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا (28)( (الجن)، فهناك حراسة مشددة من الملائكة تتنزل مع ملك الوحي؛ حتى يصل الوحي إلى الرسول محفوظا من تدخل الشياطين.
فالله - سبحانه وتعالى - يصطفي جبريل - عليه السلام - ويطلعه على غيب الوحي، ويكلفه ببلاغه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - المصطفى من البشر، ويرسل معه حفظة من الملائكة حتى تتم عملية الإيحاء إلى النبي كاملة غير منقوصة.
والضمير في قوله )ليعلم( عائد إلى الله تعالى أو إلى النبي أو إلى البشر، والمعنى: ليعلم الله، أي: ليظهر علم الله بأن الوحي قد وصل إلى النبي مصونا من التبديل والتحريف، أو ليعلم النبي أن الوحي قد وصل إليه مصونا تحفه الملائكة دون تدخل شيطاني، فيؤمن يقينا باصطفاء الله له، أو ليعلم الناس أي المكذبون الذين أشارت إليهم الآيات قبل ذلك في قوله: )إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا (23) حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا (24)( (الجن).
فليعلم هؤلاء أن الله تعالى يحفظ وحيه إلى أنبيائه، وإذا كان الشيطان منع شرعا من التمثل بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في الرؤيا كما جاء عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من رآني في المنام فقد رآني؛ فإن الشيطان لا يتمثل بي»[4]. وإذا كان الرسول قد أخبر أن الشيطان لا يلقى عمر بن الخطاب في طريق واحدة، فقال: «يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده، ما لقيك الشيطان سالكا فجا قط إلا سلك فجا غير فجك»[5]. فهل يتصور أن يوقع الشيطان في وحي الله إلى رسله؟! وهل يعقل أن يتمكن الشيطان من التلبيس على الأنبياء[6]؟!
عصمة النبيـ صلى الله عليه وسلم - ثابتة بالقرآن والسنة والإجماع:
الأدلة التي تثبت عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - في تبليغه الوحي الذي أنزل إليه، والتي تثبت في الوقت نفسه إلهية هذا الوحي - كثيرة ومتنوعة، وهاك تفصيل د. عماد السيد الشربيني عنها:
دلائل عصمته - صلى الله عليه وسلم - في تبليغ الوحي من القرآن الكريم والعقل:
لقد جاءت آيات القرآن الكريم تثبت عصمته - صلى الله عليه وسلم - وصدقه في كل ما يبلغ عن الله سبحانه وتعالى، وهذه الآيات تتضمن أيضا أدلة عقلية على صدقه صلى الله عليه وسلم، ومن هذه الآيات ما يأتي:
قوله سبحانه وتعالى: )وصدق الله ورسوله( (الأحزاب: 22)، وقوله سبحانه وتعالى:)والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون (33)( (الزمر)، والذي جاء بالصدق كما يدل عليه سياق هذه الآية هو نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وقد حكم الله - عز وجل - على ما شهد لما جاء به - صلى الله عليه وسلم - من عنده سبحانه - قرآنا وسنة - سماه صدقا، ويلزم من صدق ما أتى به صدقه هو في نفسه؛ إذ لا يأتي بالصدق إلا كامل الصدق، وذلك مما لا جدال فيه؛ إذ كان صدقه معلوما منذ حداثة سنه.
وقال سبحانه وتعالى: )ولو تقول علينا بعض الأقاويل (44) لأخذنا منه باليمين (45) ثم لقطعنا منه الوتين (46) فما منكم من أحد عنه حاجزين (47)( (الحاقة)، فهذه الآيات دليل صدقه وعصمته في تبليغه الوحي "قرآنا وسنة"، بدليل التمانع؛ فقد امتنع أخذه - سبحانه وتعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بتلك الصفة؛ لامتناع تقوله عليه، وامتناع التقول عليه يعني الصدق والعصمة فيما يقول ويبلغ عن ربه.
وبالجملة: فالآيات من جملة مدحه، ودليل عصمته في البلاغ لوحي الله عز وجل؛ إذ إن فيها القسم على تصديقه بجميع الموجودات، وأنه لا يمكنه الافتراء عليه، قال سبحانه وتعالى: )فلا أقسم بما تبصرون (38) وما لا تبصرون (39) إنه لقول رسول كريم (40) وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون (41) ولا بقول كاهن قليـلا مـا تذكــرون (42) تنزيــل مـن رب العالميــن (43)( (الحاقة).
وقال سبحانه وتعالى: )وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4)( (النجم)، فكلمة )ينطق( في لسان العرب تشمل كل ما يخرج من الشفتين قولا كان أو لفظا، أي: ما يخرج نطقه صلى الله عليه وسلم عن رأيه، إنما هو بوحي من الله عز وجل.
وقال سبحانه وتعالى: )وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا (73) ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا (74) إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا (75)( (الإسراء(.
فهذه الآيات من جملة الآيات المادحة للمصطفى - صلى الله عليه وسلم - والتي تشهد بعصمته في كل ما يبلغ عن ربه عز وجل.
1. دلائل عصمته - صلى الله عليه وسلم - في تبليغ الوحي من خلال السنة المطهرة والسيرة المعطرة:
حاله - صلى الله عليه وسلم - قبل النبوة: فصدقه مع الناس دليل على صدقه فيما يخبر به عن ربه؛ إذ لا يترك إنسان الكذب على الناس، ثم يكذب على الله تعالى، وقد شهد له الأعداء بالصدق فضلا عن الأصدقاء، فمن شهادات الأعداء:
ما جاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «لما نزلت: )وأنذر عشيرتك الأقربين (214)( (الشعراء)، ورهطك منهم المخلصين، خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى صعد الصفا، فهتف: "يا صباحاه"، فقالوا: من هذا؟ فاجتمعوا إليه، فقال: "أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقي"؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد»[7].
سأل الأخنس بن شريك أبا جهل - وقد خلا كل منهما بالآخر يوم بدر - فقال: يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس هاهنا من قريش أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا، فقال أبو جهل: ويحك، والله إن محمدا لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والحجابة[8] والسقاية[9] والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟ فذلك قوله سبحانه وتعالى: )قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون (33)( (الأنعام).
وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم: قد نعلم يا محمد أنك تصل الرحم، وتصدق الحديث ولا نكذبك، ولكن نكذب الذي جئت به، فأنزل الله عز وجل: )قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون (33)(.
شهادة أمية بن خلف عندما قال له سعد بن معاذ: إ«ني سمعت محمدا - صلى الله عليه وسلم - يزعم أنه قاتلك، قال: إياي؟ قال: نعم، قال: والله ما يكذب محمد إذا حدث»[10]، وقد تحقق ذلك يوم بدر، حيث اشترك في الغزوة، فقتله النبي - صلى الله عليه وسلم - شر قتلة.
ومن شهادات الصحابة - صلى الله عليه وسلم - بصدقه ما يلي:
قول خديجة - رضي الله عنها - للنبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة بدء الوحي: «كلا! أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا، فوالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل[11]، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق». فهذه الشهادة من أقرب الناس إليه، تعد من أبلغ الدلائل على صدق دعواه - صلى الله عليه وسلم - وعصمته في بلاغ الوحي.
عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما...»[12].
o ما كان من أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - من التصديق الكامل بكل ما يقوله النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدل عليه قوله يوم الإسراء والمعراج: "إن كان قال فقد صدق".
من دلائل عصمته - صلى الله عليه وسلم - في نقل الوحي: ما ثبت من أخباره وآثاره وسيره، وشمائله المستوفاة تفاصيلها، ولم يرد في شيء منها تداركه - صلى الله عليه وسلم - لخبر صدر عنه؛ رجوعا عن كذبة كذبها، أو اعترافا بخلف في خبر أخبر به، ولو وقع منه شيء من ذلك لنقل إلينا.
ومما يشهد بعصمته في بلاغ الوحي فترة الوحي في قصة الإفك، فقد كانت تنزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - نوازل من شأنها أن تحفزه إلى القول، وكانت حاجته القصوى تلح عليه أن يتكلم بحيث لو كان الأمر إليه لوجد له مقالا ومجالا، ولكنه كانت تمضي الليالي والأيام تتبعها الليالي والأيام، ولا يجد في شأنها وحيا من قرآن أو سنة يقرؤه على الناس.
ولو كان يقول في شيء برأيه لأدلى بدلوه في تبرئة عائشة من تهمتها حال وقوع الحادثة، لكنه كان يقول - فقط -: «إني لا أعلم عنها إلا خيرا، وكان يقول لها: فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله»[13].
ومن أقواله - صلى الله عليه وسلم - التي تدل على عصمته في بلاغ الله - عز وجل - ما ورد في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه؟ ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشر يتكلم في الغضب والرضا؟! قال: فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأومأ بإصبعه إلى فيه فقال: "اكتب، فوالذي نفسي بيـده، مـا يخــرج منـه إلا حــق»[14]، ومن ذلك أيضا حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إني لا أقول إلا حقا، قال بعض أصحابه: فإنك تداعبنا يا رسول الله، قال: "إني لا أقول إلا حقا»[15].
2. من دلائل عصمته - صلى الله عليه وسلم - في تبليغ الوحي إجماع الأمة:
أجمع أهل الملل والشرائع كلها على عصمة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - من أي شيء يخل بالتبليغ، فلا يجوز عليهم التحريف، ولا الكذب: قليله وكثيره، سهوه وعمده، فكل هذا مما ينزه عنه منصب النبوة، وإلا فلم يبق الاعتماد على شيء من الشرائع، واستدلوا على ذلك بأنه لو جاز عليهم التقول والافتراء في ذلك عقلا لأدى إلى إبطال المعجزة القاطعة بصدقهم، وإبطال المعجزة محال، فالكذب في التبليغ وعدم الصحة فيه محال أيضا[16].
مما سبق يتقرر لدينا - ولدى كل منصف - عصمته - صلى الله عليه وسلم - في تبليغ الوحي من خلال القرآن الكريم والسنة المطهرة، والسيرة العطرة، وإجماع الأمة، فضلا عن المعجزات المتواترة المعنوية والحسية الدالة على صدق دعوته.
كما أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يدع أن هذا الوحي هو أرفع منزلة، أو أسمى درجة من وحي الأنبياء السابقين، إلا أنه قد جمع له جميع مراتب الوحي: الرؤيا الصادقة، والنفث في روعه، ورؤية الملك في حالته الملائكية، أو في صورة بشر، أو بدون واسطة.
ثالثا. العلم يؤيد معنى الوحي وإمكانه:
يقول د. محمد أبو شهبة: "وإذا ثبت وجود عالم الروح، لم يبق مجال إذا لإنكار وجود الملائكة، وقد استفاضت الأخبار بوجودهم عن الأنبياء والشرائع السماوية، وقد تمخض العصر الحديث عن علم يسمى "علم التنويم الصناعي" أو "التنويم المغناطيسي"[17]، وقد أثبت هذا العلم وجود قوة خفية وراء هذا الهيكل الإنساني، وهو الروح، وبهذه القوة الخفية أو الروح يتسلط المنوم على المنوم، ويلقي الأول إلى الثاني ما يشاء، ويستجيب الثاني إلى ما يريد الأول، وقد أجريت في هذا تجارب عدة حتى أصبح أمرا مسلما به، وهذا يقرب معنى الوحي إلى حد كبير[18]، وقد أصبح هذا شجى في حلوق الماديين، ولم يجدوا لدفعه سبيلا.
ثم إن بعض المخترعات الحديثة كاللاسلكي، والمذياع، والتليفزيون، ونحوها قد أمكن للإنسان - بوساطتها أن يبلغ كلامه إلى من هو أبعد منه بآلاف الأميال، فإذا توصل الإنسان على عجزه - إلى هذه المخترعات أفنستبعد على خالق القوى، والقدر، العليم الخبير - أن يبلغ رسله ما يريد بوساطة أو بغير وساطة؟ وأن يهيئ للموحى إليهم من الوسائل ما يجعلهم مستعدين لتلقي الوحي[19]؟
رابعا. الإعجاز بنوعيه الغيبي والعلمي يقطع بإلهية الوحي المحمدي:
وقد اشتمل الوحي على وجهين من الإعجاز: الإعجاز الغيبي، والإعجاز العلمي، وهذا يدل على أنه من عند الله تعالى وحده، وعن هذين الوجهين يتحدث د. عبدالرحمن الزنيدي فيقول:
الوجه الأول: الإعجاز الغيبي:
اشتمل الوحي على أخبار غيبية كثيرة، كإخباره - صلى الله عليه وسلم - بأمور غيبية ستقع في المستقبل، ووقعت كما أخبر بشكل مطابق تماما لتحديدات الخبر. وربما قال قائل: إن توقع حدوث أشياء في المستقبل بناء على قياس الماضي والحاضر من قبل عالم بسنن الحياة أمر من الممكن أن تصدقه الأيام، وهذا لا مراء فيه، ولكن أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - يختلف عن هذا اختلافا بينا؛ فكثيرا مما أخبر به من غيبيات، ما كانت الأحوال التي أنبأ الناس بها تؤيده أو تومئ - ولو من بعيد - بحصوله، ثم إنه كان يخبر بما يخبر به جازما غير متردد، واثقا من صدق ما جاء به أتم الثقة، مما لا يكون مشابها لما بني على الفراسة والدراسة والحسبان.
يضاف إلى ذلك أن الغيبيات التي تنبأ بها كثيرة متنوعة، منها ما هو عام، ومنها ما هو خاص محدد، ومنها ما هو خاص به صلى الله عليه وسلم، ومنها ما يتناول أمته، ومنها ما يتناول أعداءه.
ومع هذا كله، فلم يتخلف منها نبوءة واحدة، ولم يمتر الشاهدون لوقوعها في تمام التوافق مع ما أخبر كما أخبر، وفق هذه الأصول جاءت النبوءات الغيبية من قبل الوحي الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وإليك نماذج جلية؛ منها:
قال سبحانه وتعالى: )الم (1) غلبت الروم (2) في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون (3) في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون (4) بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم (5)( (الروم).
ذكر المفسرون أن المشركين كانوا يجادلون المسلمين في مكة قبل الهجرة إلى المدينة يقولون لهم: تزعمون أنكم ستغلبوننا بهذا الكتاب الذي جاء به محمد، وها قد غلبت فارس، وليس لها كتاب، والروم أهل كتاب، فسنغلبكم، كما غلبت المجوس الروم، فأنزل الله هذه الآيات يخبر فيها بأن الروم ستنتصر في أقل من عشر سنين، وبأن ذلك اليوم سيكون فيه نصر للمسلمين على أعدائهم، ولم تكن الأمارات والشواهد العقلية تدل على شيء من هذا، لا بالنسبة للروم، ولا للمسلمين. ولكن وعد الله تحقق، فانتصر الروم على الفرس في أقل من عشر سنين، بإجماع المؤرخين، وهزم المسلمون قريشا في بدر في الوقت نفسه.
وقال سبحانه وتعالى: )يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس( (المائدة: 67). جاء عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحرس حتى نزلت هذه الآية: )والله يعصمك من الناس( (المائدة: ٦٧)، فأخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه من القبة فقال لهم: يا أيها الناس، انصرفوا؛ فقد عصمني الله»[20].
ولقد تحقق ما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - من هذا الضمان الإلهي، فقد حماه الله من كيد أعدائه مرات كثيرة، لم يحل بينهم وبينه إلا عصمة الله وحدها، وبقي محوطا بهذه العصمة حتى أكمل الله به الدين الذي بعثه به، وأنزل عليه.
ومن أعظم هذه النبوءات: إعلانه المصحوب بالتحدي، أن البشر عاجزون وسيظلون كذلك عن معارضة القرآن. قال سبحانه وتعالى: )قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (88)( (الإسراء)، وقال سبحانه وتعالى: )وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين (23) فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين (24)( (البقرة).
ولقد نزل هذا الحكم الصارم، والنفي المؤبد على أناس يتمتعون بأرقى مواصفات المجال الذي وقع فيه التحدي، وهو الأسلوب، أو النظم الكلامي، وفي فترة بلغت فيه الذروة في إتقان هذا الفن. ومع هذا كله لم يستطع أحد منهم أن يفعل شيئا.
لقد كانوا - كما أثبت التاريخ - يشهدون بمقامه العلي، الذي لا يمكن أن تسمو إليه قدرة البشر حتى قال الوليد بن المغيرة، أحد كبار قادة قريش بعدما سمع القرآن: والله لقد عرفت الشعر، والرجز، وأشعار الجن، والله ما يشبه ما يقوله محمد - صلى الله عليه وسلم - شيئا من هذا، وإنه ليعلو ما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته..."، وتتابعت القرون وازدهر الأدب، والصناعة البيانية، ولكن هذا الكتاب ما زال بمنأى عن أن ترتفع إليه قدرات البشر، فتحققت نبوءته وتم حكمه.
بعد هذا لا يبقى ريب في أن هذا العلم جاء من مصدر أعلى من الإنسان يملك العلم المحيط بالماضي، والحاضر، والمستقبل، والقدرة على تصريف الأشياء وفق ما يريد.
الوجه الثاني: الإعجاز العلمي:
استطاعت المصادر البشرية للمعرفة - في عصرها الأخير - نتيجة تطور مناهجها، وترقي وسائلها أن تكشف كثيرا من الحقائق العلمية، خصوصا في ميدان عالم الطبيعة، مما لم يكن ميسورا للناس قبل هذا الزمن، فكان البحث فيه - إذ ذاك - لا يعدو أن يكون ضربا من الاستنتاج، والتأملات العامة، ومن ثم فقد قلب العلم الطبيعي المعاصر كثيرا من المفاهيم السابقة، وبين خطأها، وقد شمل هذا كتب الفلاسفة، والعلماء الطبيعيين والديانات المحرفة.
ولكن كتابا واحدا عرفته البشرية، منذ أربعة عشر قرنا، انفرد من بين ذلك التراث كله بـأمرين:
· أنه لم يتعارض مع أية حقيقة علمية ثابتة.
· انفراده بذكر حقائق علمية جاءت من خلال بيان آيات الله في عالم الشهادة، للدلالة على عظمة خالقها، وجلاله والامتنان على العبد بنعمه الوافرة التي أسداها إليه، وكانت متطابقة تماما مع ما وصل إليه العلم التجريبي المعاصر بعد اعتماده على مناهج ووسائل مكنته من الكشف عن هذه الحقائق.
من ذلك - مثلا - قوله سبحانه وتعالى: )ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين (12) ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (13) ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين (14)( (المؤمنون).
فقد ذكرت هذه الآيات أن الإنسان مخلوق من طين، وكذلك كثير من الآيات الأخرى، وهذا ما تقرر في العلم الحديث، فجميع العناصر المكتشفة في جسم الإنسان الآن - وقد بلغت اثنين وعشرين عنصرا، موجودة في التراب بأكملها.
كما ذكرت الآية التشكيلات التي يكون عليها الجنين ابتداء من قذفه نطفة في الرحم، ثم تطوره إلى العلقة، فالمضغة، فالمرحلة العظمية، فاكتسائها باللحم، ثم نفخ الروح فيه ليصبح إنسانا حيا، هذه المراحل هي التي حددها العلم التشريحي الحديث، لدى من لا يعرفون القرآن ولا تلقوا مفاهيمه.
الذي جاء بهذه الحقائق في ذلك العصر هو شخص أمي لم يتلق العلم، وعاش في بيئة أمية، ولم يكن لدى العرب قبل بعثته ونزول الوحي عليه أي اهتمام بالمعارف الطبيعية.
فإذا جمعت بين هاتين الحقيقتين: العلمية والتاريخية، فإنك لن تستطيع أن ترد هذا الوحي إلى أي مصدر من مصادر المعرفة البشرية، ولم يبق أمام الباحث سوى ردها إلى مصدر أعلى من الإنسان يتجاوز علمه حدود الزمان والمكان، ويستغني عن الوسائل المعينة على الوصول إلى الحقائق، وهو علم الله - عز وجل - وهذا ما وصل بباحثين أحرار إلى هذه الغاية من خلال هذا الوجه الإعجازي.
فها هو العالم الفرنسي المعاصر موريس بوكاي يصرح أن حقائق القرآن العلمية. تدل جميعها على أن نصوص القرآن نصوص لا دخل ليد البشر فيها، وأنها وحي لا شك فيه.
وهكذا - من خلال وجهي الإعجاز اللذين ذكرا - ينتهي طالب الحق إلى أن الوحي الإسلامي جزء من علم الله ـ عز وجل - أنزله على الإنسان ليستضيء بنوره عن طريق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم [21].
إن ظاهرة الوحي كما حددها الإسلام، وحقيقة النبوة كما صححها، وما تضمنته النبوة والوحي من علوم ومعارف، وما قامت عليه من أدلة عجز العقلاء جميعا عن الوصول إليها، كل ذلك يثبت أن مصدر الدين الحق علوي لا أرضي.
خامسا. الوحي الإلهي ثابت في الرسالات السابقة للأنبياء والرسل السابقين:
1. الوحي في العهد القديم:
إن موضوع الوحي كما تبينه دراسة أسفار العهد القديم تعلمنا أن "رجال الله" الذين عاشوا على الأرض قبل أن يوجد إسرائيل وذريته، وكذلك الذين ظهروا في الشعب الإسرائيلي من أنبياء ومرسلين قد تلقوا وحي الله تعالى بطرق مختلفة يمكن اعتبارها مرجعا مقارنا لدراسة حالات الوحي، ويمكن تلخيصها فيما يأتي:
· الوحي بالكلام شبه المباشر بين الله والإنسان، أو بتعبير أدق: بكلام من وراء حجاب، وقد تعرض لذلك آدم وموسى - عليهما السلام -.
كان أول الوحي إلى البشر ما كان من كلام الله إلى آدم - عليه السلام - وتعليمه من الوصايا ما يميز به بين ما ينفعه وما يضره "وأخذ الرب الإله آدم ووضعه في جنة عدن ليعلمها ويحفظها، وأوصى الرب الإله آدم قائلا: من جميع شجر الجنة تأكل أكلا، وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها؛ لأنك يوم تأكل منها موتا تموت". (التكوين 2: 15 - 17).
الوحي بالرؤيا المنامية كما حدث لإبراهيم، ويعقوب، وسليمان عليهم السلام وغيرهم، وكان وحي الله إلى خلقه عن طريق الرؤيا التي يراها النائم حتى إذا ما استيقظ من نومه شعر أن رؤياه قد ملكت عليه كل نفسه، واطمأن بها قلبه، وعلم أن ذلك وحي من الله عز وجل.
فلقد كان هذا هو الحال مع إبراهيم أبي الأنبياء وخليل الرحمن عليه السلام و"بعد هذه الأمور صار كلام الرب إلى إبرام في الرؤيا قائلا: لا تخف يا إبرام، أنا ترس لك، أجرك كثيرا جدا، فقال إبرام: أيها السيد الرب، ماذا تعطيني وأنا ماض عقيما"؟ (التكوين 15: 1 - 2).
وكانت الرؤيا هي سبيل الوحي لأغلب الأنبياء: "وفي تلك الليلة كان كلام الرب إلى ناثان قائلا: "اذهب وقل لعبدي داود: هكذا قال الرب: أأنت تبني لي بيتا لسكناي؟ لأني لم أسكن في بيت منذ يوم أصعدت بني إسرائيل من مصر إلى هذا اليوم، بل كنت أسير في خيمة وفي مسكن. في كل ما سرت مع جميع بني إسرائيل، هل تكلمت بكلمة إلى أحد قضاة إسرائيل الذين أمرتهم أن يرعوا شعبي إسرائيل قائلا: لماذا لم تبنوا لي بيتا من الأرز؟ والآن فهكذا تقول لعبدي داود: هكذا قال رب الجنود: أنا أخذتك من المربض[22] من وراء الغنم لتكون رئيسا على شعبي إسرائيل. وكنت معك حيثما توجهت، وقرضت جميع أعدائك من أمامك، وعملت لك اسما عظيما كاسم العظماء الذين في الأرض. وعينت مكانا لشعبي إسرائيل وغرسته، فسكن في مكانه، ولا يضطرب بعد، ولا يعود بنو الإثم يذللونه كما في الأول، ومنذ يوم أقمت فيه قضاة على شعبي إسرائيل. وقد أرحتك من جميع أعدائك. والرب يخبرك أن الرب يصنع لك بيتا. متى كملت أيامك واضطجعت مع آبائك، أقيم بعدك نسلك الذي يخرج من أحشائك وأثبت مملكته. هو يبني بيتا لاسمي، وأنا أثبت كرسي مملكته إلى الأبد. أنا أكون له أبا وهو يكون لي ابنا. إن تعوج أؤدبه بقضيب الناس وبضربات بني آدم. ولكن رحمتي لا تنزع منه كما نزعتها من شاول الذي أزلته من أمامك. ويأمن بيتك ومملكتك إلى الأبد أمامك. كرسيك يكون ثابتا إلى الأبد". فحسب جميع هذا الكلام وحسب كل هذه الرؤيا كذلك كلم ناثان داود". (صموئيل الثاني 7: 4 - 17).
ظهور الملائكة في صورة بشرية تعلم الناس بلغاتهم وحي الله، وتلك إحدى الطرق الشائعة التي تعلم بها إبراهيم، ولوط، ويعقوب، وإيليا، ودانيال الذي علمه جبريل، وكذلك الحال مع غيرهم من الأنبياء. ومن ذلك: "كان في سنة الثلاثين، في الشهر الرابع، في الخامس من الشهر، وأنا بين المسبيين عند نهر خابور، أن السماوات انفتحت، فرأيت رؤى الله. في الخامس من الشهر، وهي السنة الخامسة من سبي يوياكين الملك، صار كلام الرب إلى حزقيال الكاهن ابن بوزي في أرض الكلدانيين عند نهر خابور. وكانت عليه هناك يد الرب. فنظرت وإذا بريح عاصفة جاءت من الشمال. سحابة عظيمة ونار متواصلة وحولها لمعان، ومن وسطها كمنظر النحاس اللامع من وسط النار. ومن وسطها شبه أربعة حيوانات. وهذا منظرها: لها شبه إنسان. ولكل واحد أربعة أوجه، ولكل واحد أربعة أجنحة. وأرجلها أرجل قائمة، وأقدام أرجلها كقدم رجل العجل، وبارقة كمنظر النحاس المصقول. وأيدي إنسان تحت أجنحتها على جوانبها الأربعة. ووجوهها وأجنحتها لجوانبها الأربعة. وأجنحتها متصلة الواحد بأخيه. لم تدر عند سيرها. كل واحد يسير إلى جهة وجهه. أما شبه وجوهها فوجه إنسان ووجه أسد لليمين لأربعتها، ووجه ثور من الشمال لأربعتها، ووجه نسر لأربعتها. فهذه أوجهها. أما أجنحتها فمبسوطة من فوق... هكذا منظر اللمعان من حوله. هذا منظر شبه مجد الرب. ولما رأيته خررت على وجهي، وسمعت صوت متكلم. فقال لي: "يا ابن آدم، قم على قدميك فأتكلم معك". فدخل في روح لما تكلم معي، وأقامني على قدمي فسمعت المتكلم معي. وقال لي: "يا ابن آدم، أنا مرسلك إلى بني إسرائيل، إلى أمة متمردة قد تمردت علي. هم وآباؤهم عصوا على إلى ذات هذا اليوم. والبنون القساة الوجوه والصلاب القلوب، أنا مرسلك إليهم. فتقول لهم: هكذا قال السيد الرب. وهم إن سمعوا وإن امتنعوا، لأنهم بيت متمرد، فإنهم يعلمون أن نبيا كان بينهم. أما أنت يا ابن آدم فلا تخف منهم... وأنت يا ابن آدم، فاسمع ما أنا مكلمك به. لا تكن متمردا كالبيت المتمرد. افتح فمك وكل ما أنا معطيكه". فنظرت وإذا بيد ممدودة إلي، وإذا بدرج سفر فيها. فنشره أمامي وهو مكتوب من داخل ومن قفاه، وكتب فيه مراث ونحيب وويل". (حزقيال 1، 2).
وقد ينظر العبد الصالح إلى السماء فيرى ظلا من النور، أو النار تشد نفسه إليها، وتستولي على مشاعرها، وعندئذ يسمع وحي الله، فذلك كان أول الوحي إلى موسى عليه السلام "وأما موسى فكان يرعى غنم يثرون حميه كاهن مديان، فساق الغنم إلى وراء البرية وجاء إلى جبل الله حوريب. وظهر له ملاك الرب بلهيب نار من وسط عليقة. فنظر وإذا العليقة تتوقد بالنار، والعليقة لم تكن تحترق. فقال موسى: "أميل الآن لأنظر هذا المنظر العظيم. لماذا لا تحترق العليقة؟". فلما رأي الرب أنه مال لينظر، ناداه الله من وسط العليقة وقال: "موسى، موسى!" فقال: "هأنذا". فقال: "لا تقترب إلى ههنا. اخلع حذاءك من رجليك، لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة". ثم قال: "أنا إله أبيك، إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب". فغطى موسى وجهه لأنه خاف أن ينظر إلى الله". (الخروج 3: 1 - 6)، "فكلم الرب موسى قائلا: سمعت تذمر بني إسرائيل"؟ (الخروج 16: 11، 12).
· وقد تسمع أصوات الملائكة من بعد، وفي خفاء وهي تلقي بالوحي إلى العبد الصالح، كما كان الحال مع صموئيل وغيره.
· وقد يرى العبد الصالح مناظر عجيبة في السماء تصاحبها عواصف وزوابع، ثم يجيئه صوت الوحي يعلمه كما كان الأمر مع إيليا وحزقيال "وأنت يا ابن آدم، فاسمع ما أنا مكلمك به، لا تكن متمردا كالبيت المتمرد". (حزقيال 2: 8).
· كذلك قد تنفعل نفس العبد الصالح بما يفيض على لسانه كلاما يشتهر بين الناس بأنه وحي الله، ونجد ذلك ما كان من أمر الأنبياء: إشعياء، وأرميا، وصموئيل، وعاموس، وبقية الأنبياء الاثني عشر.
ونجد الكثير من أسفار العهد القديم قد كتب على أساس أنه كان وحيا نطق به عبد صالح: "رؤيا إشعياء بن آموص التي رآها على يهوذا وأورشليم، في أيام عزيا ويوثام وآحاز وحزقيا ملوك يهوذا: اسمعي أيتها السماوات وأصغي أيتها الأرض، لأن الرب يتكلم: "ربيت بنين ونشأتهم، أما هم فعصوا علي. الثور يعرف قانيه، والحمار معلف صاحبه، أما إسرائيل فلا يعرف. شعبي لا يفهم". ويل للأمة الخاطئة، الشعب الثقيل الإثم، نسل فاعلي الشر، أولاد مفسدين! تركوا الرب، استهانوا بقدوس إسرائيل، ارتدوا إلى وراء. علام تضربون بعد؟ تزدادون زيغانا! كل الرأس مريض، وكل القلب سقيم". (إشعياء 1: 1 - 5).
هذا هو الوحي في العهد القديم، فهل لأحد أن ينكره بعد، وقد ثبت في الرسالات السابقة لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم؟ ومن رحمة الله بخلقه أن اصطفى من الناس أنبياءه ورسله، ممن عطرت سيرتهم، وطابت ذكراهم، وكانوا فوق مستوى الشبهات[23].
2. الوحي في العهد الجديد:
تقرر أسفار العهد الجديد أن طرق الوحي إلى أنبياء الله كثيرة ومتنوعة، وأنها جميعا تهدف إلى تعليم الناس دين الله عن طريق رسله الذين جعلوا أئمة للبشر: "الله بعدما كلم الآباء بالأنبياء قديما بأنواع وطرق كثيرة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه". (الرسالة إلى العبرانيين 1: 1، 2). وبذلك تعترف المسيحية بجميع طرق الوحي، وبجانب ذلك فإنا نجد في أسفار العهد الجديد تفصيلا لحالات الوحي ووسائله، منها:
ظهور الملائكة للبشر في صورة جسمية، تخاطبهم بلغاتهم، وتبلغهم وحي الله، كما فعل جبريل مع زكريا حين بشره بابنه يحيى: "فقال زكريا للملاك: كيف أعلم هذا؛ لأني أنا شيخ وامرأتي متقدمة في أيامها؟ فأجاب الملاك وقال له: أنا جبرائيل الواقف قدام الله، وأرسلت لأكلمك وأبشرك بهذا". (لوقا 1: 18، 19).
وجاء الملاك جبريل على هيئة رجل من البشر رسولا من الله إلى مريم يبشرها بمولد المسيح: "وفي الشهر السادس أرسل جبرائيل الملاك من الله إلى مدينة من الجليل اسمها ناصرة، إلى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف. واسم العذراء مريم. فدخل إليها الملاك وقال: سلام لك أيتها المنعم عليها! الرب معك. مباركة أنت في النساء. فلما رأته اضطربت من كلامه، وفكرت: ما عسى أن تكون هذه التحية! فقال لها الملاك: لا تخافي يا مريم، لأنك قد وجدت نعمة عند الله. وها أنت ستحبلين وتلدين ابنا وتسمينه يسوع". (لوقا 1: 26ـ 31).
وقد يظهر الملك للبشر في طبيعته النورانية، وعندها تكون في هيئة وضاءة مشرقة: "ملاك الرب نزل من السماء، وجاء ودحرج الحجر عن الباب وجلس عليه. وكان منظره كالبرق، ولباسه أبيض كالثلج". (متى 28: 2، 3).
ويكون الوحي برؤيا يراها العبد الصالح في نومه، ويوقن أنها تعليم من السماء، فيتصرف على هذا الأساس، ولقد تعرض المجوس الذين زاروا مريم وابنها إلى وحي في الرؤيا المنامية أبعدهم عن طريق هيرودوس الملك الذي كان يطلب قتل الصبي المبارك: "أتوا إلى البيت، ورأوا الصبي مع أمه مريم، فخروا وسجدوا له. ثم فتحوا كنوزهم وقدموا له هدايا: ذهبا ولبانا ومرا.. ثم إذ أوحي إليهم في حلم ألا يرجعوا إلى هيرودوس انصرفوا في طريق أخرى إلى كورتهم". (متى 2: 11، 12).
والخلاصة: أن حالات الوحي ووسائله في المسيحية لا تخرج عما رأيناه في اليهودية[24].
سادسا. بطلان فكرة الوحي النفسي:
فلماذا لم يظهره الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل بلوغ سن الأربعين أي قبل البعثة؟
وإن ثمة أدلة كثيرة تتكفل بالرد على فكرة الوحي النفسي المدعاة، وهاك تفصيلها:
إن صورة الوحي النفسي - كما صوروه - مبنية على وجود معلومات وأفكار مدخرة في العقل الباطن، وأنها تظهر في صورة رؤى، ثم تقوى فيخيل لصاحبها أنها حقائق خارجية، وإننا نتساءل: هل كان الدين الذي جاء به خاتم الأنبياء - صلى الله عليه وسلم - بعقائده وتشريعاته في العبادات والمعاملات، والحدود، والجنايات، والاقتصاد، والسياسة، والأخلاق، والآداب، وأحوال السلم والحرب، مركوزا أو مدخرا في نفسه صلى الله عليه وسلم؟!
هذا ما تنكره العقول بداهة؛ لأن ما جاء به صلى الله عليه وسلم وما بلغه من وحي الله في العقائد يعتبر مناقضا لكل ما كان سائدا في العالم حينئذ من عقائد، كالوثنية، والمجوسية، والتأليه، والتثليث، والصلب، وإنكار البعث واليوم الآخر، وكذلك جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بتشريعات ما تعرف في الشرائع السابقة سماوية، وغير سماوية.
واشتمل الوحي الإلهي الذي بلغه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - سواء أكان قرآنا أم سنة على أسرار في الكون، والأنفس، والآفاق، ما كانت لتخطر على بال بشر قط، ولم يظهر تأويلها إلا بعد تقدم العلوم، والمعارف في العصر الأخير، فكيف تكون هذه الأسرار من داخل نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي لم تخطر له على بال؟!
وإذا كان الوحي بعد نزول صدر سورة "اقرأ" على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتعبد في غار حراء قد انقطع مدة من الزمان لم ينزل فيها قرآن، فلم سكت النبي طوال هذه المدة وهو صاحب العقل الباطن المملوء بالمعارف، والوجدان الملتهب والنفس المتوثبة للإصلاح؟
1. إن العقل الباطن - على ما يقول علماء النفس - إنما يفيض بما فيه في غفلة من العقل الظاهر، ولذلك لا يظهر ما فيه إلا عن طريق الرؤى والأحلام، والأمراض كالحمى مثلا، وفي الظروف غير العادية.
والقرآن الكريم نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في اليقظة وفي اكتمال من عقله وبدنه، ولم ينزل منه شيء في الرؤى والأحلام، وهكذا نرى أن ما استندوا إليه من فكرة العقل الباطن لا تساعدهم، بل ترد عليهم[25].
2. ليس كل ما في الوحي الإلهي - قرآنا وسنة - مما يستنبطه العقل والتفكير، ومما يدركه الوجدان والشعور، ففيالوحي جانب كبير من المعاني النقلية البحتة التي لا مجال فيها للذكاء والاستنباط، ولا سبيل إلى علمها لمن غاب عنها إلا بالدراسة والتلقي والتعليم.
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا أميا نشأ بين قوم أميين أربعين سنة من عمره، لم تظهر عليه أمارات من علوم ومعارف تقارب ما جاء به القرآن والسنة، ثم يطلع علينا بين عشية وضحاها، فيكلمنا بما لا عهد له به، ويبدي لنا من أخبار تلك القرون الأولى ما أخفاه أهل العلم في كتبهم، وحجبوه عن الناس، أفي مثل هذا يقول الجاهلون: إنه استوحى عقله واستلهم ضميره[26]؟
لقد بين الله - عز وجل - أن الوحي أمر خارج عن نفس النبي صلى الله عليه وسلم وليس نابعا من داخلها، بما حمله جبريل عليه السلام من عند الله إليه، كما قال سبحانه وتعالى: )وإنه لتنزيل رب العالمين (192) نزل به الروح الأمين (193) على قلبك لتكون من المنذرين (194) بلسان عربي مبين (195)( (الشعراء)، فحال الوحي ملك منفصل عن ذات محمد - صلى الله عليه وسلم - ليس فيه خيال، وله من الصفات ما بينها الله في قوله: )إنه لقول رسول كريم (19) ذي قوة عند ذي العرش مكين (20) مطاع ثم أمين (21) وما صاحبكم بمجنون (22) ولقد رآه بالأفق المبين (23) وما هو على الغيب بضنين (24) وما هو بقول شيطان رجيم (25)( (التكوير).
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يستشرف النبوة، وما كان يرجوها، ولم يطمع في حصولها لنفسه، بل لم يرد في الأخبار الصحيحة أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يرجو أن يكون هو النبي المنتظر، الذي يتحدث عنه علماء اليهود والنصارى قبل البعثة، ولو ثبت ذلك عنه لما ترك المحدثون تدوينه، وقد دونوا ذلك عن أمية بن الصلت لما كان يتوقع أن يكون نبيا، وقد جاء في القرآن نفي ذلك عنه - صلى الله عليه وسلم - في قوله سبحانه وتعالى: )وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك( (القصص: 86). فما كان - صلى الله عليه وسلم - يظن أن الوحي قبل إنزاله عليه ينزل عليه، وإنما أنزله الله رحمة به، وبالعباد، فهو نعمة من الله وفضل[27].
إن الوحي الذي حدث للنبي - صلى الله عليه وسلم - هو حدث إلزامي فجائي طارئ، لا يمكن إحضاره واجتلابه، ومن ثم لا يمكن دفعه. ومن أوضح الأدلة على ذلك:
ما يعتريه - صلى الله عليه وسلم - من أعراض جسدية لا سيطرة له عليها.
ما انتابه من أحوال نفسية تمثلت في خوفه من ملك الوحي في بداية أمره كما جاء في قوله: «لقد خشيت على نفسي»[28].
· أن هذه الأعراض والشدائد كانت لا تعتريه إلا في لحظات وجيزة، وبرهات متقطعة، وذلك عند نزول الوحي عليه.
· أنه لا قدرة له - صلى الله عليه وسلم - على إحضار الوحي وجلبه، بدليل فتور الوحي، وانقطاعه عنه مدة من الزمن حتى شق ذلك عليه وأحزنه، وأقض مضجعه، ثم جاءه جبريل بعد ذلك بقوله سبحانه وتعالى: )والضحى (1) والليل إذا سجى (2) ما ودعك ربك وما قلى (3)( (الضحى).
النبوة ليست أمرا كسبيا يناله المرء بسعيه وكسبه، ولا تخضع لجهد فكري، أو ترق روحي وأخلاقي، ولا تنال بالقيم الدنيوية، ولا الاعتبارات المادية، فليست بابا مفتوحا يلج من خلاله من سمت نفسه، أو عظم إشراقه، بل هي اصطفاء إلهي يختص به الله من يشاء من عباده، قال سبحانه وتعالى: )الله أعلم حيث يجعل رسالته( (الأنعام: 124).
وهكذا نرى أن ما زعموه من فرية الوحي النفسي، ما هو إلا اختلاق كان مبعثه الحقد على الإسلام والمسلمين، وإرادة إبطال عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغ من الوحي[29]، قال سبحانه وتعالى: )يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون (32)( (التوبة).
سابعا. مناقشة شروط الوحي التي ذكرها مثيرو الشبهة:
إن الشروط التي ذكرها مثيرو الشبهة، لقبول وصحة الوحي أي وحي إذا اتفقنا على اشتراطها للوحي الصحيح - لا تتوفر في كتابهم المقدس، بل تتحقق على أتمها في القرآن الكريم، وهذه الشروط هي:
الشرط الأول: الوفاء برغبة البشر في الحصول على السعادة الأبدية:
وهذا لا يتوفر في الكتاب المقدس، فهو لا يفي برغبة البشر في الحصول على السعادة الأبدية، وما يلقاه الإنسان فيها، والعهد القديم يكاد يخلو من ذكر الآخرة خلوا تاما، وهو مشغول ببناء مجد بني إسرائيل الزائل في هذه الدنيا، فنجد الكتاب المقدس يقول في هذا الشرط: "وهذه هي الحياة الأبدية: أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته". (يوحنا 17: 3).
إن هذا القول يحمل الدعوة إلى الشهادتين، شهادة وحدانية الذات، وشهادة صدق الرسول، وهو ما جاء القرآن الكريم يثبته ويؤكده، وأن الله تعالى واحد أحد: )إنما هو إله واحد( (النحل: 51)، والشهادة بصدق أنبيائه ورسله: )قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (136)( (البقرة).
فهل آمن أصحاب تلك النظرة اللاهوتية بهذا الاعتبار الذي وضعوه؟! أو آمنوا بغيره من تحريف النص عن معناه، من وجوب توحيد ذات الله تعالى وتنزيهه لتحقيق السعادة الأبدية إلى التثليث والتجسيد والحلول والاتحاد[30]، كي يتفق مع نظرتهم اللاهوتية؟!
الشرط الثاني: الاتفاق مع القانون الأخلاقي:
فليسأل هؤلاء أنفسهم أولا هل يتفق ما جاء في كتابهم المقدس مع القانون الأخلاقي، في أن الإنسان يرث خطيئة غيره، وأن غيره يطهره ويخلصه من الخطيئة؟ أو أن الذي يتفق مع القانون الأخلاقي الذي يقره العقل هو ما قرره القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالى: )ولا تزر وازرة وزر أخرى( (الإسراء: 15)، وقوله سبحانه وتعالى: )وأن ليس للإنسان إلا ما سعى (39) وأن سعيه سوف يرى (40)( (النجم).
الشرطان الثالث والرابع: الكشف الحقيقي عن الصفات الإلهية وتأكيد اعتقاد الإنسان بأن الله واحد:
فهل يتفق هذان الشرطان مع ما جاء في كتابهم المقدس من الخلط بين صفات الخالق وصفات المخلوقين، فالخالق يوصف بصفات المخلوقين، والمخلوقون يوصفون بصفات الخالق؟
إن ما جاء في القرآن الكريم من الوضوح التام في صفات المولى سبحانه وتعالى: )قل هو الله أحد (1) الله الصمد (2) لم يلد ولم يولد (3) ولم يكن له كفوا أحد (4)( (الإخلاص). فلينظروا في كتابهم الذي يقرر الشرك والتعدد أكثر منه تقريرا للتوحيد، ولينظروا في القرآن إن كانوا منصفين.
الشرط الخامس: الوحي هو طريق الخلاص والنجاة الواضح:
لا نجد لهذا الشرط مصداقية في الكتب السابقة كما هو موجود في القرآن الكريم، فطريق الخلاص والنجاة فيه واضح كل الوضوح؛ فالإنسان بإيمانه وعمله الصالح يسعى لخلاصه ونجاته: )لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر (37)( (المدثر)، )ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا (19)( (الإسراء).
الشرط السادس: أن يعلن الوحي عن نفسه:
لقد وضع أهل الكتاب هذا الشرط - بالذات - لكي يتفق مع معتقداتهم التي حرفوها عن أصلها الصحيح، فحسب الوحي السماوي - عندهم - أن يعلن عن نفسه بكل الحجج والدلائل التي لا تبقي ريبة[31].
الخلاصة:
· الوحي لغة هو الإعلام، وشرعا إعلام الله أنبياءه بما يريد وحيا. وهو معصوم بعصمة الله - عز وجل - له، ودليل عصمته ثابت بالقرآن والسنة، ويؤيد الواقع، كما يؤيده الإعجاز العلمي والغيبي.
· لقد ثبت الوحي في الرسالات السابقة في التوراة والإنجيل، فلم يدعي هؤلاء الطاعنون عدم أصالة الوحي المحمدي.
· إن فكرة الوحي النفسي فكرة اجتمعت الأدلة على بطلانها، ولو كانت صادقة لادعى النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الوحي قبل بلوغ الأربعين من عمره، وما الذي كان يمنعه أن يظهر شيئا من الوحي في شبابه؟ ولماذا لم تظهر عليه أمارات من علوم ومعارف تقارب ما جاء به القرآن والسنة، فهل يعقل أن يطلع علينا بين عشية وضحاها، فيكلمنا بما لا عهد له به، ويبدي لنا من أخبار تلك القرون الأولى ما أخفاه أهل العلم في كتبهم وحجبوه عن الناس؟
· أما عن الاشتراطات الستة التي اشترطوها في قبول أي وحي مفترض فمن أين استاقوا تلك الشروط، وعلى أي أساس تم وضعها وأين سيد الاعتبارات وإمامها، وهو ألا يكون في الكتب الموحى بها أي تناقض أو تعارض أو اختلاف؟!
· إن الشروط الخمسة الأولى - إذا اتفقنا معهم على اشتراطها للوحي الصحيح - لا تتوفر في كتابهم المقدس، بينما تتحقق على أتمها وأوضحها في القرآن الكريم. أما الشرط السادس فهو لا يوافق العقيدة الإسلامية السمحة.
(*) مع القرآن الكريم: رؤية مستنيرة لحقائق الإيمان والحياة، المقاولون العرب، القاهرة، ط1، 1398هـ/ 1978م.