ادعاء كون إبليس من الملائكة يتعارض مع عصيانه لربه(*)
مضمون الشبهة:
يستند بعض المشككين إلى رأي من ذهب من المفسرين إلى أن إبليس من الملائكة - في القول بالتعارض بين ما ذهبوا إليه وبين عصيانه لربه؛ إذ لم يسجد لآدم، متسائلين: كيف يعصي إبليس ربه، وهو من الملائكة الذين وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله: )يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون (6)( (التحريم).
وجوه إبطال الشبهة:
1) اختلف المفسرون في حقيقة إبليس: هل هو من الملائكة، أو من الجن؟ فانقسموا فريقين: أحدهما ذهب إلى عده من الملائكة، والآخر صنفه ضمن الجن.
2) ليس ثمة تعارض بين كون إبليس من الملائكة - على رأي من عده منهم - وبين عصيانه لربه، وذلك أن طبيعته تختلف عن طبيعتهم.
3) لقد عصى إبليس ربه ولم يسجد لآدم كما أمره؛ لظنه أنه أفضل منه؛ إذ خلق من نار، وخلق آدم من طين.
التفصيل:
أولا. حقيقة إبليس:
اختلف العلماء والمفسرون قديما وحديثا حول طبيعة إبليس وحقيقته: هل هو من الملائكة أو من الجن؟ وذلك على قولين:
القول الأول: إبليس من الملائكة:
وهذا رأي الجمهور: ابن عباس وابن مسعود وابن جريج وابن المسيب وقتادة وغيرهم، وهو اختيار أبي الحسن، ورجحه الطبري، قال ابن عباس، وكان اسمه عزازيل، وكان من أشراف الملائكة - وكان من الأجنحة الأربعة ثم أبلس بعد. وقال ابن عباس كذلك: كان إبليس من الملائكة فلما عصى الله غضب عليه فلعنه فصار شيطانا. وحكى الماوردي عن قتادة: أنه كان من أفضل صنف الملائكة يقال لهم الجنة. وقال سعيد بن جبير: إن الجن سبط من الملائكة خلقوا من نار وإبليس منهم، وخلق سائر الملائكة من نور[1].
القول الثاني: إبليس من الجن:
وأصحاب هذا القول يذهبون إلى أن إبليس من الجن، واسمه الحارث، وخلق من نار السموم، يؤيد هذا قوله سبحانه وتعالى: )وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا (50)( (الكهف)، وقوله: )وخلق الجان من مارج من نار (15)( (الرحمن)، وقوله: )والجان خلقناه من قبل من نار السموم (27)( (الحجر)[2].
فقبل أن يخلق الله - سبحانه وتعالى - الإنس على الأرض خلق الجن من مارج من نار، ومنهم إبليس، وأمرهم أن يطيعوه، ويعبدوه حق عبادته، ونهاهم عن أن يعيثوا في الأرض فسادا، وعن إظهار المعصية فيما بينهم، ولكنهم لم يستجيبوا لأمر الله، ولم ينتهوا عما نهوا عنه، فأفسدوا وبغى بعضهم على بعض، فأرسلـ عز وجل - إليهم قبيلا من الملائكة طردوهم إلى جزائر البحار وأطراف الجبال، وقتلوا من شاء منهم، وكان إبليس طائعا في أول أمره، فلم يلحقه الأذى الذي أصاب قومه، وكان قد طلب من ربه أن يرفعه من بين هؤلاء العصاة الذين لم يستجيبوا لنصح، ولم يسترشدوا برشد، فرفعه الله إلى السماء، وصار مع الملائكة يعبد الله وحده ويقدسه ونزل مع الملائكة الذين حاربوا المفسدين.
فأول من سكن الأرض هم الجن، فأفسدوا فيها، وقتل بعضهم بعضا؛ فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة، فقتلهم إبليس ومن معه، وقد أصاب إبليس الغرور والزهو بنفسه، لأنه ارتفع عن طائفته، وصار مع الملائكة الذين خلقهم الله من نور واصطفاهم لعبادته، واعتقد أنه أفضل من غيره؛ إذ إنه صنع شيئا لم يصنعه أحد من جنسه[3].
وقد كان أمر السجود لآدم - عليه السلام - للملائكة خاصة، لكنه شمل إبليس أيضا؛ لأنه كان في صحبتهم وكان يعبد الله - سبحانه وتعالى - كعبادتهم، فلما أمروا بالسجود لآدم والتواضع له؛ كرامة له، كان الجن الذي معهم إبليس أجدر بأن يتواضع، فإذا وجه أمر للأعلى - وهم الملائكة المخلوقون من نور - فإنه يشمل الأدنى وهم الجن المخلوقون من نار من باب أولى، ولم يشمل الأمر بالسجود لآدم سائر الجن؛ لأنهم لم يرتقوا بعبادتهم إلى صفوف الملائكة مثله[4].
ولقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الملائكة خلقوا من نور، وأن الجن خلقوا من نار، ففرق النبي صلى الله عليه وسلم بين الأصلين للدلالة على أنهما من عالمين، لا من عالم واحد، ولو أن إبليس كان من الملائكة - وهم مجبولون على الطاعة - كان لا بد أن يطيع أمر الله ويسجد، ولكن كونه من الجن الذين لهم اختيار في أن يطيعوا أو يعصوا مكنه من أن يعصي أمر السجود.
ولقد استثناه الله - عز وجل - من الملائكة برغم أنه من الجن في الآية: )فسجدوا إلا إبليس( لأنه لما دخل معهم في الأمر بأن يسجد لآدم، أريد منه ذلك بهذا القول، فصح الاستثناء؛ لأن الاستثناء من جهة المعنى لا يكون إلا كذلك، وكان كفر إبليس وخلوده في النار لأنه عصى الأمر، ولم يكتف بذلك، وإنما رد الأمر على الآمرعز وجل. ويقول سبحانه وتعالى: وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا (61)( (الإسراء).
ثانيا. عدم التعارض بين كون إبليس من الملائكة، وبين عصيانه لربه:
لقد استند مثيرو هذه الشبهة إلى رأي بعض المفسرين الذين ذهبوا إلى أن إبليس من الملائكة في الخلوص إلى تعارض رأيهم هذا مع معصيته لربه، متسائلين: كيف يعصي ربه، وهو من الملائكة؟!
وقد تجاهل هؤلاء الأقوال التي ذكرها أصحاب هذا الرأي في دفعهم ما يتوهم من تعارض بين كون إبليس من الملائكة، وبين عصيانه لربه.
فلقد ذهب هؤلاء المفسرون إلى أنه "لا يمتنع أن يخرج إبليس من جملة الملائكة لما سبق في علم الله بشقائه عدلا منه، لا يسأل عما يفعل، وليس في خلقه من نار ولا في تركيب الشهوة حين غضب عليه ما يدفع أنه من الملائكة "[5].
والذي حققه ابن تيمية: "أن الشيطان كان من الملائكة باعتبار صورته، وليس منهم باعتبار أصله، ولا باعتبار مثاله"[6].
ونخلص من هذا كله إلى أن إبليس وإن كان من الملائكة على رأي بعض المفسرين، إلا أن له طبيعة تختلف عن طبيعة الملائكة المجبولين على الطاعة.
ثالثا. معصية إبليس لله عز وجل:
إبليس اسم عربي مشتق من الإبلاس، وهو اليأس من رحمة الله أو الإبعاد عن الخير، وهو أصل الشياطين الأول؛ وطبيعة أعمال الشياطين تتجه دائما إلى التمرد على الله، وإلى التفريق والتمزيق والتخريب والتدمير، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، ووصل ما أمر الله به أن يقطع، فما من شر في الأرض ولا فساد في الوجود إلا لهم به صلة، فمعصيته إذن راجعه إلى طبيعته الشيطانية المتمردة، فلا تناقض بين ذلك، وبين قوله - سبحانه وتعالى - في وصف الملائكة: )يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون (6)( (التحريم) [7].
ومن الجدير بالذكر أن عصيان إبليس بني على ظن منه بأنه أفضل من آدم؛ لأنه خلق من نار، وآدم من طين، فاعتقد أن النار أشرف من الطين وخير منه، ولربما كان الطين أكثر فائدة في أصله من النار، وهو لا يدري، وكان قياس إبليس قياسا خاطئا؛ لأنه نظر إلى عنصره وإلى عنصر آدم؛ ورأى أن عنصره خير من عنصر آدم، ولم ينظر إلى تشريف الله تعالى لآدم حين خلقه بيديه، ولا إلى تشريفه له حين أمر الملائكة بالسجود له تشريفا وتعظيما.
وإبليس كان قادرا على طاعة الله - عز وجل - والسجود لآدم، ولكنه اختار العصيان بكبره وصلفه، وذلك لأنه من عالم الجن المخيرين الذين منهم المطيع والعاصي، فاستحق الطرد من رحمة الله تعالى، أما الملائكة فهم من خلق الله، وهم مجبولون على عبادته وطاعته - عز وجل - وعندما سجدوا لآدم كان سجودهم طاعة لأمر الله، فهو سجود طاعة لأمر الله، وهو موافق لطبيعتهم التي جبلوا عليها.
الخلاصة:
· انقسم المفسرون في حقيقة إبليس إلى فريقين: فريق عده من الملائكة، وفريق عده من الجن، وقال الفريق الأول: كان إبليس من الملائكة، فلما عصى الله غضب عليه فلعنه فصار شيطانا. وقال أصحاب الفريق الثاني: إنه قبل أن يخلق الله الإنس على الأرض خلق الجن من مارج من نار ومنهم إبليس.
· تجاهل مثيرو هذه الشبهة الأقوال التي رويت عمن عد إبليس من الملائكة، محاولة منهم - من المفسرين - دفع التعارض بين كونه من الملائكة وبين عصيانه لربه.
· لقد عصى إبليس ربه ظنا منه أنه أفضل منه؛ إذ إنه خلق من نار، وخلق آدم من طين، وكان قياس إبليس قياسا خاطئا؛ لأنه نظر إلى عنصره وإلى عنصر آدم، ورأى أن عنصره خير من عنصر آدم، ولم ينظر إلى تشريف الله - عز وجل - لآدم حين خلقه بيديه، ولا إلى تشريفه له حين أمر الملائكة بالسجود له تشريفا وتعظيما.
(*) قصة الحضارة، ول ديورانت، ترجمة: محمد بدران، دار الجيل، بيروت، 1418هـ/ 1998م. عقيدة المسلمين والعقائد الباطلة، د. عبدالمنعم القيعي، مجلة رسالة الإمام، العدد 9، 1986م. البيان في تحليل الإشكالات التي تثار حول قصص القرآن، د. عاطف المليجي، مكتبة اقرأ، القاهرة، 2004م. موجز دائرة المعارف، فريق من المستشرقين، مركز الشارقة للإبداع الفكري، 1418هـ/ 1998م..