الزعم أن الخطاب بالمحسوسات في أمر الجنة والنار مقصور على العقيدة الإسلامية (*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المغالطين أن ما ورد في وصف ما يرفل فيه أهل الجنة من صور النعيم؛ كالمآكل والمشارب والقصور والرياحين والحور العين، وما يتضور منه أهل النار؛ من جحيم وغسلين[1] وزقوم[2] - أوصاف حسية تندرج تحت الخطاب الحسي المادي؛ لترغيب المتدينين من ذوي الحاجة والعاهة والمساكين، وترويع العصاة أو غير المسلمين من أفعالهم وخروجهم عن الدين. ويتعجبون من اقتصار هذا الخطاب على العقيدة الإسلامية فقط.
وجوه إبطال الشبهة:
1) الجزاء الأخروي ليس حسيا فقط، ولكنه حسي وروحي، وهذا مما تميزت به العقيدة الإسلامية، وإن كان ما ذكر في وصفه لا تستطيع الأذهان الإحاطة بكنهه.
2) إن الاقتصار على الجانب الروحي في وصف الجزاء الأخروي فيه تضييق لسعة النعيم الذي أعده الله - عز وجل - للمؤمنين، ولشمولية العذاب الذي أعده - عز وجل - للكفار العصاة.
3) لا يلزمنا إلا ما جاء في القرآن الكريم؛ لأنه الكتاب السماوي الوحيد المحفوظ والمعصوم من أي تحريف أو تبديل؛ حيث نص على إقرار الأشقياء (أهل النار) بأن رسلهم أنذرتهم باليوم الآخر، كما حكى أن أتباع الرسل يبشرون بالجنة ويحذرون من النار.
4) الوصف الحسي للجنة والنار موجود في جميع الأديان السابقة، ومن ثم فلا حجة لمن يقصر هذا الوصف على العقيدة الإسلامية.
التفصيل:
أولا. الجزاء الأخروي ليس حسيا فقط، ولكنه حسي وروحي:
وهذا من مزايا العقيدة الإسلامية لأنه:
جزاء شامل يتلائم مع طبيعة الإسلام والروح والجسد؛ فلم يهتم بجانب ويهمل الآخر، ولقد جاء وصف الجنة والنار، ووصف النعيم والعذاب في مواضع كثيرة جدا من القرآن الكريم.
وأول ما يلاحظ على وصف النعيم والعذاب في القرآن الكريم كونه وصفا حسيا ومعنويا لأن هذا هو الذي يتلاءم مع طبيعة الإنسان؛ فالإنسان الذي يعيش في الدنيا مزيج من الجسد والروح، وهو الذي يكرم في الآخرة أو يهان، فإذا كرم فإنما يكرم كله بجسده وروحه، وإذا عذب فإنما يعذب كله، بجسده وروحه سواء.
مغاير لما عليه الناس في الدنيا؛ فلقد وصف الله عز وجل الجنة والنار، وصفا دقيقا شاملا، ولكن خيالنا قاصر عن الإحاطة بهما؛ فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال عن الجنة: «فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»[3].
فنحن نتصور النعيم - سواء الحسي منه أو المعنوي - في حدود خبرتنا وتجاربنا في الحياة الدنيا، ولكنه في حقيقته أجمل من كل ما نستطيع أن نتخيل، فليس الشجر كالشجر، وليست الثمار كالثمار، وليست الحور العين كأي جمال نستطيع أن نتصوره في الأرض، وكذلك الرضوان، قال سبحانه وتعالى: )ورضوان من الله أكبر( (التوبة: 72)، إن أي تصور لهذا الرضوان ومدى الراحة النفسية له والفرحة الروحية به، لا يمكن أن يصل إلى شيء من الحقيقة، ولكن هذه طبيعة البشر مع اللغة، لا يستطيعون أن يدركوا من معانيها إلا ما يدخل في دائرة تجربتهم وتصورهم!
والأمر مع العذاب كذلك.. إننا لا نستطيع أن نتصور من أمر النار إلا ما شاهدناه في حياتنا الدنيا، وقد نضاعف القدر في خيالنا مرات ومرات، ولكنا مع ذلك لا نصل إلى حقيقة عذاب الحريق الذي ينتظر الكفار في جهنم، وكذلك الأمر بالنسبة للعذاب النفسي؛ من خزي وحسرة وهوان.
وفيما يلي نعرض مقتطفات من الآيات الكريمة التي تشتمل على أوصاف الجنة وأهلها، وأوصاف النار وأهلها: يقول سبحانه وتعالى في أوصاف الجنـة وأهلها: )ولمن خاف مقام ربـه جنتـان (46) فبأي آلاء ربكما تكذبان (47) ذواتا أفنان (48) فبأي آلاء ربكما تكذبان (49) فيهما عينان تجريان (50) فبأي آلاء ربكما تكذبان (51) فيهما من كل فاكهة زوجان (52) فبأي آلاء ربكما تكذبان (53) متكئين على فرش بطائنها من إستبرق وجنى الجنتين دان (54) فبأي آلاء ربكما تكذبان (55) فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان (56) فبأي آلاء ربكما تكذبان (57) كأنهن الياقوت والمرجان (58) فبأي آلاء ربكما تكذبان (59) هل جزاء الإحسان إلا الإحسان (60)( (الرحمن). ويقول ـ سبحانـه وتعالـى ـ:)إن المتقين في جنات ونعيم (17) فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم (18) كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون (19) متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين (20) والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين (21) وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون (22) يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم (23) ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون (24) وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون (25) قالـوا إنـا كنـا قبـل في أهلنـا مشفقيــن (26) فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم (27) إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم (28)( (الطور).
ويقول ـ سبحانـه وتعالـى ـ: )وجزاهم بما صبروا جنـة وحريـرا (12) متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا (13) ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا (14) ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا (15) قوارير من فضة قدروها تقديرا (16) ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا (17) عينا فيها تسمى سلسبيلا (18) ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا (19) وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا (20) عاليهم ثياب سندس خضر وإستبـرق وحلـوا أسـاور مـن فضـة وسقاهـم ربهـم شرابـا طهـورا (21) إن هــذا كــان لكــم جــزاء وكــان سعيكـم مشكـورا (22)( (الإنسان).
وفي أوصاف "النار وأهلها" يقول سبحانه وتعالى: )إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب( (النساء: 56).
ويقول سبحانه وتعالى: )وبرزت الجحيم للغاوين (91) وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون (92) من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون (93) فكبكبوا فيها هم والغاوون (94) وجنود إبليس أجمعون (95) قالوا وهم فيها يختصمون (96) تالله إن كنا لفي ضلال مبين (97) إذ نسويكم برب العالمين (98) وما أضلنا إلا المجرمون (99) فمـا لنـا مـن شافعيـن (100) ولا صديـق حميـم (101) فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين (102)( (الشعراء).
ويقول ـ سبحانـه وتعالـى ـ: )ثم إنكم أيها الضالـون المكذبــون (51) لآكلـون من شجر من زقـوم (52) فمالئـون منهـا البطــون (53) فشاربون عليه من الحميم (54) فشاربون شرب الهيم (55) هذا نزلهم يوم الدين (56)( (الواقعة).
وهكذا نجد المقابلة تامة بين الجنة وأهلها، والنار وأهلها، فبينما الأولى تحوي كل ما يتخيله الإنسان من ألوان النعيم، بل فوق ما يستطيع تخيله، وأهلها في سمر ورضا، ضاحكة وجوههم، ناعمة مشاعرهم، يتجلى عليهم ربهم برضوانه - نجد على الجانب الآخر النار في الآخرة، تحوي كل ما يتخيله الإنسان من ألوان العذاب الحسي، وفوق ما يستطيع تخيله كذلك، والخزي والندم والحسرة تمثل عذابهم النفسي الدائم، ويجيئهم مع العذاب التبكيت والتوبيخ والتقريع[4].
وقد بين القرآن الكريم أيضا سر أفضلية نعيم الآخرة على متاع الدنيا من وجوه متعددة، يوضحها د. عمر سليمان الأشقر على النحو الآتي:
أن متاع الدنيا قليل، قال سبحانه وتعالى: )قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا (77)( (النساء). وقد صور لنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - قلة متاع الدنيا بالنسبة إلى نعيم الآخرة، بمثال ضربه، فقال: «والله، ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه - وأشار بالسبابة - في اليم، فلينظر بما يرجع»[5].
ما الذي تأخذه الإصبع إذا غمست في البحر الخضم؟! إنها لا تأخذ منه قطرة، وهذه هي نسبة الدنيا ونعميها، إلى الآخرة ونعيمها، ولما كان متاع الدنيا قليلا، فقد عاتب الله المؤثرين لمتاعها على نعيم الآخرة، قال سبحانه وتعالى: )ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل (38)( (التوبة).
نعيم الجنة - إلى جانب كثرته - نعيم دائم غير منقطع، وهو الأفضل من حيث النوع، فثياب أهل الجنة، وطعامهم وشرابهم، وحليهم، وقصورهم - أفضل مما في الدنيا، بل لا وجه للمقارنة، قال صلى الله عليه وسلم: «موضع سوط في الجنة خير من الدنيا، وما فيها»[6].
الجنة خالية من شوائب الدنيا وكدرها، فطعام أهل الدنيا وشرابهم يلزم منه الغائط[7] والبول، والروائح الكريهة، ونساء الدنيا يحضن ويلدن، والمحيض أذى، والجنة خالية من ذلك كله؛ فأهلها لا يبولون ولا يتغوطون، ولا يبصقون ولا يتفلون.
وماء الجنة لا يأسن[8]، ولبنها لا يتغير طعمه: )فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه( (محمد: 15)، ونساء أهل الجنة مطهرات من الحيض والنفاس قال سبحانه وتعالى: )ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون (25)( (البقرة).
ونعيم الدنيا زائل، ونعيم الآخرة باق دائم، ولذلك سمى الحق - عز وجل - ما زين للناس من زهرة الدنيا متاعا؛ لأنه يتمتع به ثم يزول.
أما نعيم الآخرة فهو باق ليس له نفاد، قال سبحانه وتعالى: )ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون (96)( (النحل)، وقال سبحانه وتعالى: )إن هذا لرزقنا ما له من نفاد (54)( (ص)، وقال سبحانه وتعالى: )مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلهــا دائــم وظلهــا تلك عقبــى الذيــن اتقـوا وعقبى الكافرين النار (35)( (الرعد).
والعمل لمتاع الدنيا ونسيان الآخرة تعقبه الحسرة والندامة ودخول النيران، قال سبحانه وتعالى: )كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور (185)( (آل عمران).
ومن الشراب الذي يتفضل الله تعالى به على أهل الجنة - الخمر، وخمر الجنة خالية من العيوب والآفات التي تتصف بها خمر الدنيا، بل هي جميلة صافية كما قال سبحانه وتعالى: )يطاف عليهم بكأس من معين (45) بيضاء لذة للشاربين (46) لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون (47)( (الصافات).
لقد وصف الله جمال لونها )بيضاء(، ثم بين أنها تلذ شاربها من غير اغتيال لعقله، كما قال سبحانه وتعالى: )وأنهار من خمر لذة للشاربين( (محمد: 15)، ثم إن شاربها لا يمل شربها: )ولا هم عنها ينزفون (47)( (الصافات).
وروى الضحاك عن ابن مسعود أنه قال: "في الخمر أربع خصال: السكر، والصداع، والقيء، والبول، فذكر الله خمر الجنة، ونزهها عن هذه الخصال".
وقال - سبحانه وتعالى - في موضع آخر: )يسقون من رحيق مختوم (25) ختامـه مسـك وفي ذلك فليتنافـس المتنافســون (26)( (المطففين)، والرحيق الخمر، ووصف هذا الخمر بوصفين:
الأول: أنه مختوم، أي موضوع عليه الخاتم.
الأمر الثاني: أنهم إذا شربوه وجدوا في ختام شربهم له رائحة المسك.
· وطعام أهل الجنة وشرابهم لا دنس معه، ويتحول الطعام والشراب إلى رشح كرشح المسك يفيض من أجسادهم، روائح طيبة عبقة عطرة.
ونعيم أهل الجنة وكسوتهم، ليس عن دفع ألم اعتراهم، فليس أكلهم عن جوع، ولا شربهم عن ظمأ، ولا تطيبهم عن نتن، وإنما هي لذات متوالية، ونعم متتابعة، ألا ترى قوله - سبحانه وتعالى - لآدم: )إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى (118) وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى (119)( (طه). وحكمة ذلك أن الله تعالى عرفهم في الجنة بنوع ما كانوا يتنعمون به في الدنيا، وزادهم على ذلك ما لا يعلمه إلا هو عز وجل.
وإنا - في نهاية هذا الوجه - نتوجه إلى من أثار هذه الشبهة بسؤال مؤداه: إلام استنتدتم في زعمكم أن العقيدة الإسلامية اقتصرت في وصفها للجنة والنار على الجانب الحسي والمادي فحسب، وأنه لا مكان فيها للجانب المعنوي الروحي[9]؟!
ثانيا. الاقتصار على الجانب الروحي فقط تضييق لسعة النعيم:
لقد ادعى مثيرو هذه الشبهة أن الأوصاف الحسية المادية للجنة والنار، والنعيم والعذاب لم ترد إلا في العقيدة الإسلامية فحسب، دون غيرها من العقائد التي اقتصرت على الجانب الروحي وركزت عليه.
ولو افترضنا جدلا صحة ادعائهم هذا، فإن القول بالاقتصار على النعيم الروحاني فيه تقصير شديد من قائله في سعة النعمة، وتمام الكرامة.
إن ما رسخ في عقيدة المسلمين من اشتمال الجنة والنار على الجوانب الحسية المادية - بالإضافة إلى الجوانب الروحية والمعنوية - يجزم العقل الشريف، بأن مثله لا تعرى عنه دار، أريدت لغاية الإكرام أو الإهانة، بل لو فرض عدم هذه الملاذ البديعة منها، لقال العقل الوافر: لو كان فيها هذه الملاذ لكانت أتم وأكمل.
وهي أولى بقول الشاعر:
ليس فيها ما يقال له
كملت، لوأن ذا كملا
فظهر إصابة المسلمين للصواب ببيان الجواب، واندفع السؤال.
إن النعيم الجسماني الذي يثبته المسلمون، ليس مفسرا بما ذكرتموه - أيها الطاعنون - من التشنيع، بل إنه آن على وفق الكرامة الربانية والسعادة الأبدية، وتقريره: أنا نجد في هذه الدار الملاذ الجسمانية تترتب على أسباب عادية، فالملاذ، إما علوم خاصة حسية كإدراك الحلاوة، وأنواع الطعوم الملائمة، وإدراك الأراييح المناسبة لجواهر النفس البشرية، وإدراك السلامة للأجسام الموافقة لجواهر الطباع، وإدراك المبصرات من الألوان والأضواء وتفاصيل أنواع الحسن والجمال، وغيرها من المبصرات السارة للنفس.
وإما إدراك الأحوال النفسانية؛ كاشتهاء النفس حصول الشراب والغذاء عند حاجتها للاغتذاء والإرواء ونحو ذلك، ويقترن بذلك قاذورات تصاحب المباشرات، والمسلمون يثبتون اللذات وأسبابها في الجنة، مجردة عن القاذورات وأنواع الحاجات، فيقولون: الأكل والشرب والنكاح في الجنة من غير جوع ولا عطش، ولا بصاق ولا مخاط ولا دمع، ولا بول ولا غائط، ولا ريح، ولا حيض[10]، ولا مني[11]، ولا رطوبات مستقذرة، ولا إبداء عورة منقصة، ولا زوال أبهة، ولا شيء مما يعاب بنوع من النقيصة، بل يجد المؤمن غاية ما يكون من لذة الأكل بمباشرة نفس المأكل من غير بصاق ولا تلويث، ولا ألم جوع سابق ولا شيء لاحق، وكذلك يحصل أعظم ما يكون من لذة الشراب عند مباشرة أشرف المشروبات من غير عطش، ولا حاجة سابقة ولا تلويث لاحق، ولا شيء يعاب، وكذلك يحصل الجماع بمباشرة أجمل النساء من الحوريات، والآدميات التي كل واحدة منهن لو ظهرت لأهل الأرض لهاموا أجمعين بجمالها، وتحيرت عقولهم بكمالها وبديع حسنها، والمسلم مع هذا كله يقضي وطره من غير إنزال فضلات، ولا رطوبات مستقذارت منزه عن جميع الدناءات، بل كل حالة منها في غاية الرتب العليات، وكل جزء من أجزاء حسنها في غاية الشرف والجلالة، فلا عورة لها، ولا للمؤمن، ولا سوءة فيها ولا فيه؛ لأن العورة إنما تبدت في هذه الدار لكونها مخرج النجاسات، والنتن والرطوبات، فإذا ذهبت هذه المعيبات المنقصات ذهبت بذهابها العورات وبقيت المحال شريفة علية، لا ينسب إليها خصلة دنية.
ونخلص من هذا كله إلى أن الاقتصار في أمر الجنة والنار والنعيم والعذاب على الجانب الروحي المعنوي فيه تضييق لسعة النعيم الذي أعده الله - عز وجل - للمتقين في الجنة، وفيه كذلك تضييق لشمولية أنواع العذاب التي أعدها الله - عز وجل - للعصاة في النار.
ثالثا. لا يلزمنا إلا ما جاء في القرآن الكريم لأنه المصدر الوحيد الذي لم يحرف، أما الكتب السابقة فقد تم تحريفها:
إن القرآن الكريم - وهو كتاب الله المحفوظ الذي لم يبدل ولم يحرف - يدل دلالة قاطعة على أن الأنبياء جميعا عرفوا أممهم بالقيامة وبشروهم بالجنة، وأنذروهم بالنار، ويدل على ذلك أمور، منها:
أن القرآن ذكر إقرار الكفرة والأشقياء - أهل النار - أن رسلهم أنذروهم باليوم الآخر، قال سبحانه وتعالى: )تكاد تميز من الغيظ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير (8) قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير (9) وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير (10)( (الملك). فالكفار جميعا عندما يسألون عند ورودهم النار يقرون بأن رسلهم خوفتهم لقاء ذلك اليوم، ولكنهم كفروا وكذبوا.
وأبو الأنبياء خليل الرحمن إبراهيم - عليه السلام - ذكر اليوم الآخر كثيرا، ففيدعائه ربه لمكة وأهلها قال: )وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير (126)( (البقرة).
وجاء في مناجاة الله - عز وجل - لموسى عليه السلام: )إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري (14) إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى (15) فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى (16)( (طه).
وقد حكى القرآن الكريم أن بعض أتباع الرسل يعرفون البعث ويبشرون بالجنة، ويحذرون من النار، مثل ذو القرنين عندما بلغ مغرب الشمس ووجدها تغرب في عين حمئة، ووجد عندها قوما، يقول الله: )حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا (86) قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا (87) وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا (88)( (الكهف).
وقد حكى القرآن الكريم أيضا كلام رجل مؤمن من آل فرعون كان موقنا بالبعث عارفا به، قال - سبحانه وتعالى - على لسان مؤمن آل فرعون: )يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار (39) من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب (40) ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار (41)( (غافر)، وقال مؤمن آل فرعون أيضا: )لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار (43)( (غافر).
وذكر القرآن أيضا قصة سحرة فرعون، عندما رأوا الآية الباهرة التي جاء بها موسى - عليه السلام - خروا ساجدين، وأصبحوا مؤمنين، فتهددهم فرعون بالعذاب الأليم، فاعتصموا بالله ربهم، ولم يلتفتوا إلى تهديد أو وعيد، وأجابوا - كما حكى القرآن الكريم عنهم - قائلين: )إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى (73) إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى (74) ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى (75) جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى (76)( (طه).
رابعا. ورود الوصف الحسي للجنة والنار في الأديان السابقة جميعها:
لم تكن الدعوة الإسلامية بدعا في وصفها للجنة والنار فقد سبقتها الأديان الأخرى في ذلك وعن هذا يتحدث الأستاذ العقاد فيقول: إن الأنبياء والقديسيين[12] في جميع الأديان الكتابية قد تمثلوا النعيم المحسوس في رضوان الله ووصفوه على هذه الصفة في كتب العهد القديم[13]، والعهد الجديد[14]، وفي كتب التراتيل[15] والدعوات.
ففي العهد القديم وصف إشعياء يوم الرضوان في الإصحاح الخامس والعشرين من سفره، وقد جاء وصف النعيم المحسوس في العهد الجديد في مواضع؛ منها وصف يوحنا اللاهوتي في الإصحاح الرابع من رؤياه، وكذلك في الإصحاح العشرين، والواحد والعشرين، كما جاء وصف النعيم المحسوس في تراتيل القديس أفرايم، وكذلك اتفق أحبار[16] الغرب والشرق في وصف النعيم بهذه الصفة المحسوسة، ولم يقتصر الأمر في الإسلام على مجرد اللذة الحسية العابرة، ولكنه يقرن بين متطلبات الجسد والروح معا في الدنيا، فضلا عن الآخرة، وينهى المسلم أن يقيس نعيم الرضوان على نعيم الدنيا: )فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون (17)( (السجدة).
أو كما جاء في الحديث الشريف: «فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»[17].
وفي الإنجيل: قال المسيح - عليه السلام - لتلاميذه: "طوبى للجياع العطاش إلى البر؛ لأنهم يشبعون". (متى 5: 6).
أما اليهود فقد ورد في نبوءة أشعياء عليه السلام: يا معاشر العطاش والجياع، توجهوا إلى الماء المورد، ومن ليس له فضة، فليذهب يستقي ويأكل ويتزود من الخمر واللبن، موافقة لقول الله الكريم: )فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات( (محمد: ١٥).
فقد تضافرت كتب اليهود والنصارى على النعيم الجسماني، وهو كثير في كتبهم، ولكنهم لا ينظرون[18].
إن جمهور علماء العقيدة المسيحية يرون أن الحياة الأخرى ستكون مثل الحياة الدنيا، فيها أكل وشرب ونكاح... إلخ.
وهذه هي القاعدة العامة لدى الكنيسة، إذ يعلم آباء الكنيسة وفقهاؤها أتباعهم عقيدة بعث الجسد، وعقيدة اشتراكه مع الروح في الجزاء، وهما عقيدتان قائمتان على أساس متين من تعاليم السيد المسيح، والدعاة، فقد قال يسوع لحوارييه: "ولا تخافوا من الذين يقتلون الجسد، ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها، بل خافوا بالحري من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنم". (متى 10: 28).
ومع أن الإشارة إلى الجنة، كانت أقل ترديدا في العهد الجديد من موضوع النار، فإنها تحمل كثيرا طابع السعادة الحسية، بجانب السعادة الروحية... فقد قرر يسوع في أكثر العبارات صراحة وعموما: "وأنا أجعل لكم كما جعل لي أبي ملكوتا لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي، وتجلسوا على كراسي تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر". (لوقا 22: 29، 30).
وأكثر من ذلك تحديدا قوله في آخر اجتماع مع حوارييه: "وأقول لكم: إني من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديدا في ملكوت أبي". (متى 26: 29).
بيد أن الجانب الحسي من نعيم الجنة أكثر ظهورا في رؤيا القديس يوحنا: "من يغلب فسأعطيه أن يأكل من شجرة الحياة التي في وسط فردوس الله". (رؤيا يوحنا اللاهوتي 2: 7)، "من يغلب فذلك سيلبس ثيابا بيضا". (رؤيا يوحنا اللاهوتي 3: 5).
وبهذا يتبين خطأ ما ذهب إليه بعضهم من أن المسيحية تنكر النعيم المادي في الحياة الأخرى.
"ومما لا شك فيه أن النفوس هي المتلذذة بالمطاعم والمشارب وسائراللذات، من الروائح الطيبة، والمناظر الحسنة... إلخ. كذلك هي المتألمة أيضا بضد ذلك من المكاره.
ومما لا يشك فيه أحد، أن الحواس الجسدية هي المنافذ لوصول هذه اللذات إلى النفوس[19].
فإذا اتفقنا على أن الله سيجمع يوم القيامة في عالم الجزاء أنفسنا والأجساد المركبة لها، ويعيدها كما كان الحال أول مرة، يلزمنا أن نصدق أنها ستذوق هنالك من اللذات والآلام بما تستدعيه طبائعها التي لم توجد إلا كذلك".
الخلاصة:
· ورد ذكر الجنة والنار بالصفات الحسية لهما في جميع الأديان السابقة للإسلام؛ لأن مصدر الديانات واحد، وهو الله عز وجل الذي خلق الإنسان مركبا من جسد وروح، يتنعمان معا أو يعذبان معا، حسب إيمان الإنسان أو كفره وعصيانه.
· إن الجزاء الآخروي في عقيدة الإسلام ليس حسيا فقط، ولكنه حسي وروحي، والقرآن الكريم مليء بالآيات الكريمات التي تصف الجنة ونعميها، والنار وعذابها - وصفا حسيا ومعنويا.
· لقد أراد مثيرو هذه الشبهة أن يفضلوا العقائد المختلفة على عقيدة الإسلام، فراحوا يدعون أن الجزاء الأخروي في هذه العقائد اقتصر على الجانب الروحي، ولم يعن بالجانب الحسي الذي طعن على عقيدة المسلمين فأصبح قاصرا عليها دون غيرها من العقائد المختلفة، ولقد وصم هؤلاء هذه العقائد بمنقصه، من حيث أرادوا مدحها؛ وذلك أن قصر الجزاء الأخروي على الجانب الروحي فقط فيه تضييق لسعة النعيم من ناحية، وتضييق لشمولية العذاب من ناحية أخرى.
(*) الأجوبة الفاخرة على الأسئلة الفاجرة، القرافي، تحقيق د. بكر زكي عوض، دار ابن الجوزي، القاهرة، 2004م. حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، محمود عباس العقاد، مطبعة مصر، القاهرة، 1376هـ/ 1957م.