إنكار عقيدة البعث(*)
مضمون الشبهة:
ينكر بعض الطاعنين إيمان المسلمين بعقيدة البعث؛ بحجة أنه لا يوجد دليل مادي واحد على صحتها، وينكرون طلاقة قدرة الله - عز وجل - على إحياء الإنسان بعد موته وفناء عظامه، ويستدلون على إنكارهم هذا بعدم وجود دليل مادي يهديهم إلى هذه العقيدة. ويرمون من وراء ذلك إلى التشكيك في ركن أساسي من أركان الإسلام.
وجوه إبطال الشبهة:
1) البعث أمر غيبي، وليس كل ما هو غيبي معدوما؛ ففيالكون بلايين الظواهر والكائنات التي لم تكن معروفة قبل حدوث التقدم العلمي، وبحدوثه علمها الإنسان، فهل كانت هذه الأشياء معدومة، ثم ظهرت؟
2) إن مبدأ العدالة الإنسانية في الإسلام يتنافى مع مبدأ نهاية الإنسان بمجرد موته، بلا ثواب ولا عقاب؛ لأن الحياة الدنيا ليست محلا للعدالة الحقيقية.
3) الموت لا يعدو كونه انتقالا من حياة فانية إلى حياة باقية يخلد فيها المرء، إما في جنة، وإما في نار؛ وذلك أن الحياة الدنيا ليست نهاية المطاف.
التفصيل:
أولا. ليس كل ما هو غيبي معدوما:
في الكون بلايين الأشياء أو الكائنات لم تكن معروفة قبل حدوث التقدم العلمي، وبالتقدم ظهرت للإنسان، فهل هذه الأشياء أو الكائنات كانت معدومة، ثم ظهرت؟ إن الماديين لا يعرفون للوصول إلى الحقيقة غير الحواس والمادة، سواء بتلك الحواس المباشرة، أو بالآلات العلمية المخترعة، والتي يتمكن بواسطتها الإنسان من إدراك الأشياء الدقيقة والبعيدة، مما تعجز الحواس المباشرة عن إدراكها.
ولكننا نقول لهؤلاء: ألم تكن هذه الأشياء الدقيقة، قبل حدوث هذا التقدم العلمي مجهولة بالنسبة للإنسان؟ ألم تكن هذه الأشياء غيبية؟! بلى كانت غيبية، فهل كان عدم العلم بها، أو عدم إدراكها دليلا على عدمها؟ كلا، ولكن عقل الإنسان قاصر، وحواسه بسيطة لا تدرك إلا ما في طاقتها، وهذه الأشياء فوق طاقة العقل، وقدرة الحواس.
وإن كنت لا تؤمن إلا بالمادة، فأين عقلك؟! إن آمنت أنه لا عقل لك؛ لأنك لا تدركه ولا تحسه، فأنت مجنون، وهذا ما يدرؤه كل إنسان عن نفسه.
إذن ليس كل ما هو غيبي معدوما، أو غير موجود؛ فكثير من الميكروبات - مثلا - التي نعرفها الآن بعد حدوث التقدم العلمي، والتكنولوجي، لم تكن معروفة من قبل؟ فهل كانت معدومة؟ إن المنكرين أنفسهم يتكونون من شيئين أساسيين، وهما الجسم والروح، فالجسم محسوس وملموس، ولكن الروح غير مدركة ولا محسوسة، فهل يستطيع هؤلاء المنكرون أن ينكروها؟
إن هؤلاء المشككين دائما ما يحاولون إخضاع الدار الآخرة، وبما فيها البعث، للمقاييس التجريبية، التي يخضع لها هذا الكون المادي، مع أن الدار الآخرة بطبيعتها لا تخضع لهذه المقاييس الدنيوية، وكأنهم في معملهم هذا، أشبه بمن يقيس الضغط الجوي[1] بميزان البقال، أو يزن الكثافة بميزان الحرارة، أو يقيس مقدار الذكاء بمساحة الجمجمة، أو يزن بحور الشعر بالسنتيمترات[2]!!
وحين نمعن النظر في الواقع والحقيقة، نجد أن الملحدين هم الذين يريدون أن يسيطروا على الكون وفق رغباتهم وأهوائهم؛ وذلك لأن الإيمان بالدار الآخرة إيمان بمحكمة العدل الرباني، وما تستتبع من جزاء، وفي هذه المحكمة العظمى يحاكم الناس، ويحاسبون على أعمالهم إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. والرغبات الإنسانية لو تركت وشأنها لحل لها أن تتخلص من قانون الجزاء، حتى تنطلق في تلبية مطالب أهوائها وشهواتها، دون أن تقف في طريقها حدود ولا ضوابط، فقضية الإنكار: هي القضية التي تحاول إخضاع الواقع الكوني للأهواء والعواطف والرغبات، ولا تؤمن باليوم الآخر والحياة الآخرة، وقد كشف القرآن هذه الحقيقة من حقائق نفوس المنكرين، فقال سبحانه وتعالى: )بل يريد الإنسان ليفجر أمامه (5) يسأل أيان يوم القيامة (6)( (القيامة) [3].
ثانيا. إن مبدأ العدالة الإنسانية الحقة ينافي مبدأ نهاية الإنسان بمجرد موته:
وعن انعدام تحقيق العدالة في الحياة الدنيا، يشير الشيخ الغزالي إلى هذا المعنى بقوله[4]: إن العدالة الحقة لا تتحقق في هذه الحياة الدنيا، فهناك سفلة تبوءوا القمم، وعباقرة توسدوا التراب، وقتلى أزهق المجرمون أرواحهم، وعادوا يضحكون أو يسكرون.
إن اثنين وسبعين ألفا من عرب فلسطين ومسلمي لبنان قتلوا في إحدى الحروب، فلنفرض أن الله جعل الدائرة للعرب وستكون إن شاء الله وارتدت الكرة بعد سنين طويلة أو قصيرة، سيكون هؤلاء المعتدون السفاحون قد ماتوا، وقد يعفى عن أبنائهم وأحفادهم - كما فعل صلاح الدين - وإن اقتص فسيقتص ممن لم يقترف جرما!!
إن القوانين الكونية لها منطق فوق ما نعرف، ولها ضحايا في حركتها الدائبة، يقول الشاعر:
وقالوا يعود الماء في النهر بعدما
ذوى بين جنبيه وجفت منابعه
فقلت إلى أن يرجع النهر جاريا
ويعشب جنباه تـموت ضفادعه!!
"إن الوجود الإنساني كله عبر تاريخه الطويل، بهذا التصور المادي، يمسي مسرحية من مسرحيات العبث، ولو أن حياة الإنسان تنتهي كلها في ظروف هذه الحياة الدنيا، ثم لا شيء وراءها، فأين تحقيق قانون العدل الإلهي في ظروف هذه الحياة الدنيا؟
إن المنطق الحق، والضمير النقي ليشعر بداهة - ولو لم تنزل آيات الوعد، والوعيد، وأنباء اليوم الآخر، وما فيه من حساب وجزاء - أن مرحلة حياتية غير هذه المرحلة لا بد منها لتحقيق العدالة، ولا بد أن يلاقي الناس فيها جزاء أعمالهم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. ولئن كنا نشاهد أن بعض تطبيقات العدل الإلهي جارية في ظروف هذه الحياة الدنيا، ضمن سنن الله الثابتة، فإن الصورة الكاملة للعدل غير مستكملة في هذه الحياة، ولذلك كانت الضرورة الأخلاقية والإيمانية تقتضي أن هناك حياة أخرى؛ لإقامة العدل الحقيقي"[5].
إن البعث حق، والآخرة حق؛ لأنهما تصحيح لأوضاع، ورد لاعتبار، وتحقيق لعدل اختبر الله الناس بتأخيره إلى حين، هذا الحين جزء من نظام الدنيا، ومن امتحاناتها الصعبة، ولا بد من مراعاته؛ وذلك جاء في الحديث القدسي، في إجابة دعوة المظلوم: «وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين»[6] [7].
وقد تأمل كثير من أهل الفكر والنظر في ظروف هذه الحياة الدنيا، دون ملاحظة الآخرة، وما فيها من جزاء، فرأوا أن تاريخ الإنسان في هذه الحياة صورة للجرائم، والمصائب، وتهريج لا جدوى منه، وسجل للجرائم والحماقة وخيبة الأمل، وقصة لا تعني شيئا، وقد عبروا عن نتاج فكرهم ونظرهم، بأقوالهم الآتية:
قال فولتير: "إن التاريخ الإنساني ليس إلا صورة للجرائم والمصائب".
قال هربرت سبنسر: "إن التاريخ تهريج، وكلام فارغ لا جدوى منه".
قال واردجين: "إن تاريخ الإنسان لا يعدو أن يكون سجلا للجرائم، والحماقة، وخيبة الأمل".
قال نابليون: "إن التاريخ بأكمله عنوان لقصة لا تعني شيئا".
قال هيكل: "إن الدرس الوحيد الذي تعلمته الحكومة والشعب من مطالعة التاريخ هو أنهم لم يتعلموا من التاريخ شيئا".
هذا وقد علق المفكر الإسلامي وحيد الدين خان، بقوله: "هل قامت مسرحية العالم كله لتنتهي إلى كارثة أليمة؟ إن فطرتنا تقول: لا.. فدواعي العدالة والإنصاف في الضمير الإنساني تقتضي عدم حدوث هذا الإمكان، لا بد من يوم يميز بين الحق والباطل، ولا بد للظالم والمظلوم أن يجنيا ثمارهما، وهذا مطلب لا يمكن إقصاؤه من مقومات التاريخ، كما لا يمكن إبعاده عن فطرة الإنسان"[8].
إن المشاعر، مشاعر الفطرة والنظر، لا تنكر البعث، ومن هذه النظرات نظرات الفلاسفة اليونانيين، الذين سجلوا كلاما واضحا في ذكر اليوم الآخر، وما فيه من حياة أبدية؛ فهذا سقراط يقول: "إن الذين يمضون إلى الآخرة، وقد أفنوا أعمارهم بالطهارة، وسبيل القصد، فإن الملك يقودها إلى أرض مشرقة عجيبة، وما نبت فيها من الأزهار، والأشجار، بخلاف هذه، إذا كانت التربة والأحجار بخلاف تلك الأحجار.. إن الذين عظمت ذنوبهم وجناياتهم، وتركوا واجبات الشريعة، فإنهم يحملون إلى نهر يلتهب بنار عظيمة، ويغلي بماء وطين، فيكونون فيه أبدا، لا يخرجون عنها، وأما الذين برزوا في حسن السيرة، فإنهم يصيرون إلى فوق إلى المسكن النقي فيسكنونه". وقال سقراط عند موته: "إلى الله أبتهل في أن يكون نقلي من هذه الدار إلى دار الآخرة نقلة سعادة"[9].
وعلى الرغم من إنكار كفار قريش للبعث بعد الموت، وسخريتهم من إمكانية عودة الحياة لأجسام بليت، وعظام تفتت، إلا أننا نجد بعضهم ينص على حياة أخرى وحساب وجزاء، كما ورد عن زهير بن أبي سلمى، أنه قال:
فلا تكتمن الله ما في نفوسكم
ليخفى فمهما يكتم الله يعلم
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر
ليوم الحساب أو يعجل فينقم
ثالثا. ليس الموت نهاية المطاف، ولكنه انتقال من حياة إلى حياة:
الحياة في الإسلام تمتد عبر الزمان والمكان والعوالم،فعبر الزمان تشمل الحياة الدنيا والآخرة وعن هذه الحياة يتحدث د. عثمان جمعة فيقول: "إن زمن الحياة الدنيا محدود صغير مهما بدا للناس واسعا شاملا، تستغرق جهودهم بعضه، ولا يستقصونه في حياتهم المحدودة، والحياة كلها طرف صغير من هذا الوجود الهائل، فكيف إذا ضممنا إلى الحياة الدنيا الحياة الآخرة، فكانت هي أيضا حلقة في سلسلة النشأة والمعاد؛ لأن الدنيا والموت ليسا هما نهاية المرحلة بالنسبة للإنسان.
فالآخرة حلقة في سلسلة النشأة، وصفحة من صفحات الوجود الكثيرة. والذين لا يدركون حكمة النشأة، ولا يدركون ناموس الوجود، يغفلون عن الآخرة، ولا يقدرونها حق قدرها، ولا يحسبون حسابها، ولا يعرفون أنها نقطة في خط سير الوجود، لا تتخلف مطلقا ولا تحيد.
والناس في هذه الحياة على أصناف أربعة: فمنهم من همه من الحياة المتعة والأكل:)يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم (12)( (محمد). وقوم آخرون مهتمون بالزينة، والشهوات: )زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب (14)( (آل عمران).
ومنهم من لا هم له إلا إيقاد الفتن، وإظهار الشر وإيجاده: )وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد (205)( (البقرة).
وإذا كانت هذه هي مقاصد الناس في الدنيا، فالله عز وجل قد نزه طائفة من الناس، ليسوا كهؤلاء الناس البهائميين، ولكنهم صنف خصهم الله تعالى، وميزهم عن سائر البشر، هؤلاء هم المسلمون الذين ألقى الله على عاتقهم مهمة الرسالة المحمدية، مهمة هداية البشر وإرشادهم إلى الخير )ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد (207)( (البقرة).
وقد يكون المسلم - مع نبل هدفه ونقاء رسالته - مظلوما ومسلوب الحق وغير ممكن له في الأرض، وقد تكون السيادة والزعامة، لمن لا هم له إلا ملء البطن، وسفك الدم، وترميل النساء، وتشريد الشعوب، وتيتيم الأطفال، فهل يكون ذلك من العدالة في شيء؟ بالطبع لا. ومن ثم كان من الواجب والمفروض حتما أن يكون هناك مرد للإنسان؛ ليكون عزاء لكل من ظلم في هذه الحياة الدنيا.
إن الإنسان لم يخلق لكي تنتهي حياته بموته، وإنما خلق ليخلد، وقد وجدت هذه المفاهيم لدى الفراعنة والإغريق، وفلاسفة اليونان، فقد تصوروا ذلك، وآمنوا بالحياة الأخرى، وآمنوا بالحساب، والجزاء، إما نعيم مقيم، وإما عذاب أليم. وهؤلاء قد عاشوا قبل الميلاد، وقد رسخت هذه المفاهيم في عقولهم.
فكيف بهؤلاء الماديين بعد هذا التقدم العلمي الهائل، الذي كشف عن حقائق علمية أخبر عنها القرآن الكريم منذ أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان، كيف بهم ينكرون بعد ذلك حقيقة البعث التي أخبر بها القرآن؟ ولماذا لم يسلموا بحقيقته، لما رأوه من صدق هذا القرآن؟
أيعجز الله عن أن يحيي الخلائق بعد موتها؟ إن الله سبحانه وتعالى أيد إبراهيم - عليه السلام - بإحياء الموتى: )وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم (260)( (البقرة).
· وأيد موسى - عليه السلام - ببث الروح في العصا، فإذا هي حية تسعى: )قال ألقها يا موسى (19) فألقاها فإذا هي حية تسعى (20)( (طه).
وأيد عيسى - عليه السلام - بإحياء الموتى، وتصوير الطين على هيئة الطير، فينفخ فيه، فيكون طيرا بإذن الله، وكل ذلك ثابت تاريخيا وقرآنيا. أيعجز بعد ذلك عن إحياء الخلائق بعد الموت )فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون (73)( (البقرة) [10].
الخلاصة:
· إن الآخرة لا تخضع للمقاييس التجريبية التي تخضع لها الحياة الدنيا، ومن أراد أن يخضعها لهذه المقاييس، فمثله كمثل من يقيس الضغط الجوي بميزان البقال، أو يزن الكثافة بميزان الحرارة، أو يقيس الذكاء بمساحة الجمجمة، أو يزن بحور الشعر بالسنتيمترات.
· ليست الحياة الدنيا بمسرحية قامت لتنتهي بظلم الأقوياء للضعفاء، ولكنها اختبار أجلت نتيجته ليوم الجزاء الأكبر، ليعلم الله الصابرين من المنافقين، وليحاسب كل على أعماله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
· إن الإنسان لم يخلق، لكي ينتهي وجوده بموته وإنما خلق لكي يحيا في هذه الحياة الدنيا ما شاء الله له أن يحيا، ثم يموت، ثم يبعث، فيحاسب على أعماله، ثم يدخل الجنة، أو النار، فما الموت الذي نراه إلا انتقال من حياة إلى حياة. وهذه الحقيقة آمن بها كل الخلائق إلا الماديين منهم، فالفراعنة آمنوا بها وكذلك الإغريق وفلاسفة اليونان، وقليل من الكفار من قريش، والكثير منهم أنكرها لعناده مع النبي صلى الله عليه وسلم.
(*) قضايا إسلامية: مناقشات وردود، محمد رجب البيومي، الوفاء للطباعة والنشر، مصر، 1984م. شبهات التغريب في غزو الفكر الإسلامي، أنور الجندي، المكتب الإسلامي، بيروت، 1978م. نظرات جديدة في القرآن المعجزة، محمد عادل القلقيلي، دار الجيل، بيروت، 1417هـ/ 1997م.