استنكار التكرار في القرآن الكريم (*)
مضمون الشبهة:
يستنكر بعض المشككين من التكرار في القرآن الكريم؛ كما في سورة الرحمن، وسورة التكاثر، وكذلك قصص الأنبياء في كثير من السور: مثل: قصة آدم،وقصة موسى، وقصة عيسى عليهم السلام ويزعم هؤلاء أنه لو تخفف من التكرار في القرآن، فلن يتبقى منه الكثير، وأن ثروة القرآن المعجمية ضئيلة؛ مما أدى إلى ضعف بناء الجملة، واللجوء إلى الحشو، ومزج الخيال بالواقع خاصة في قصة موسى عليه السلام، وهذا مخالف للعقل والمنطق.
وجها إبطال الشبهة:
القرآن الكريم هو كلام الله المعجز للخلق في أسلوبه ونظمه، وفي علومه وحكمه، وفي تأثير هدايته، وفي كشفه الحجب عن الغيوب الماضية والمستقبلة، وفي كل باب من هذه الأبواب للإعجاز فصول، وفي كل فصل منها فروع ترجع إلى أصول، وقد تحدى محمد - صلى الله عليه وسلم - رسول الله النبي العربي الأمي - العرب بإعجازه، وحكى لهم عن ربه القطع بعجزهم عن الإتيان بسورة من مثله، فظهر عجزهم على شدة حرص بلغائهم على إبطال دعوته، واجتثاث نبتته، ونقل جميع المسلمين هذا التحدي إلى جميع الأمم فظهر عجزها أيضا، وقد نقل بعض أهل التصانيف عن بعض الموصوفين بالبلاغة في القول أنهم تصدروا لمعارضة القرآن في بلاغته ومحاكاته في الفصاحة دون هدايته، ولكنهم على ضعف رواية الناقلين عنهم لم يأتوا بشيء تقر به أعين الملاحدة والزنادقة فيحفظوه عنهم ويحتجوا به لإلحادهم وزندقتهم، وصدق الله العظيم إذ يقول: )قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (88)( (الإسراء).
وقد زعم المشككون في القرآن الكريم أن فيه تكرارا وحشوا، واستدلوا على ذلك ببعض سور القرآن وآياته؛ ظنا منهم أن ذلك يدعم شبهتهم.
وهذا الزعم مردود بما يلي:
1) التكرار في القرآن جاء ليؤدي وظيفتين: دينية، وأدبية.
2) التكرار في القرآن أتى بصور متعددة، وكل صورة منها تؤدي وظيفة في المعنى من ناحية محددة، ومن هذه الصور:
· تكرار أداة تؤدي وظيفة في الجملة بعد أن تستوفي الجملة ركنيها.
· تكرار كلمة مع أختها لداع؛ بحيث تفيد معنى لا يمكن حصوله بدونها.
· تكرار فاصلة في سورة واحدة على نمط واحد.
· تكرار قصة في مواضع متعددة مع اختلاف في طرق الصياغة وعرض الفكرة.
التفصيل:
إن الذي دفع هؤلاء المشككين إلى إثارة هذا الزعم هو جهلهم باللغة العربية وأسرار البيان، فهو السبب الحق الذي أضلهم وجعلهم يرون القرآن كلاما من الكلام يجرون عليه الحكم الذي يجري على غيره؛ كما يظن الجاهل الذي ليس في نظره معان عقلية كل صورة ككل صورة وكل حصاة ككل جوهرة، ويذهب يقيم البرهان على صحة نظره من الخطوط والتقاسيم والألوان والأوصاف.
أما علم هؤلاء أن أرباب الفصاحة وعلماء البلاغة قد حاروا في كشف البيان عن وجوه إعجاز القرآن بعد أن ثبت عندهم بالوجدان والبرهان... فالقرآن في البيان والهداية كالروح في الجسد، والأثير في المادة، والكهرباء في الكون: تعرف هذه الأشياء بمظاهرها وآثارها، ويعجز العارفون عن بيان كنهها وحقيقتها، وفي وصف ما عرف منها أو عنها لذة عقلية لا يستغنى عنها، كذلك ما عرف من أسباب عجز العلماء والبلغاء عن الإتيان بسورة مثل سور القرآن في الهداية والأسلوب، أو حسن البيان، فيه لذات عقلية وروحية، وطمأنينة ذوقية وجدانية، تتضاءل دونها شبهات الملحدين، وتنهزم من طريقها تشكيكات الزنادقة والمرتابين.
ويذكر الشيخ محمد عبده أن لكلام الله أسلوبا خاصا يعرفه أهله ومن امتزج بلحمه ودمه، أما الذين لا يعرفون منه إلا مفردات الألفاظ وصور الجمل فأولئك عنه مبعدون.. ويقول أيضا: فهم كتاب الله - عز وجل - يأتي بمعرفة ذوق اللغة، وذلك بممارسة الكلام البليغ[1].
أما ما ادعاه بعض هؤلاء عن ظاهرة التكرار في القرآن فمردود عليه من الوجوه التالية:
أولا. التكرار في القرآن جاء ليؤدي وظيفتين:
1. دينية: فإن من أهم ما يؤديه التكرار هو تقرير المكرر وتوكيده، وإظهار العناية به؛ ليكون في السلوك أمثل وللاعتقاد أبين.
2. أدبية: فإن الهدف من التكرار في جميع مواضعه هو تأكيد المعنى، وإبرازه في معرض الموضوع وبيانه.
ثانيا. التكرار في القرآن أتى بصور سياقية متعددة؛ منها:
الموضع الأول: تكرار الأداة:
ونضرب لذلك مثالا بقوله عز وجل: )ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم (110)( (النحل).
وقد تكررت "إن" في الآية، وكان يمكن - في الظاهر - أن يستغنى عنها في نهاية الآية فيقال: "لغفور رحيم" وهو خبر "إن" الأولى، فما سبب التكرار؟!
السبب هو طول الفصل بين "إن" الأولى وخبرها، وهذا أمر يشعر بتنافيه مع الغرض الذي سيقت من أجله "إن" وهو التوكيد؛ لهذا اقتضت البلاغة إعادتها، لنلحظ النسبة بين الركنين على نحو ما ينبغي أن تكون عليه من التوكيد، هذا علاوة على أن حذفها سيؤدي إلي الاضطراب وعدم التناسق، ومثال ذلك من الشعر:
وإن امرأ طالت مواثيق عهده
على مثل هذا إنه لكريم
الموضع الثاني: تكرار الكلمة مع أختها:
ومثاله قوله عز وجل: )أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (5)( (الرعد)؛ حيث تكررت كلمة "أولئك" في الآية ثلاث مرات، فما السر وراء هذا التكرار؟
في هذا التكرار نجد حسنا وروعة؛ "فالأولي والثانية" تسجلان حكما عاما على منكري البعث وهو: كفرهم بربهم وكون الأغلال في أعناقهم، و "الثالثة" بيان لمصيرهم المهين ودخولهم النار ومصاحبتهم لها على وجه الخلود الذي لا يعقبه خروج منها، ولو أسقطت "أولئك" في الموضعين الثاني والثالث لاضطرب المعنى، فتصبح "الواو" الداخلة على )الأغلال في أعناقهم( واو حال، وتصبح الداخلة على )أصحاب النار هم فيها خالدون( عاطفة عطفا يضطرب معه المعنى؛ لذا حسن التكرار في الآية لما فيه من صحة المعنى وتقويته.
الموضع الثالث: تكرار الفاصلة:
وسنكتفي هنا بإيراد موضع واحد تكررت فيه الفاصلة؛ لنرى ماذا يمثله ذلك التكرار، وهل هو غير مقيد - كما زعموا - أم هو على العكس من ذلك؟!
التكرار في سورة الرحمن:
لقد تكررت فيها عبارة )فبأي آلاء ربكما تكذبان(13)( (الرحمن) إحدى وثلاثين مرة، ويمكن أن نسجل عدة ملاحظات حول هذا التكرار منها:
1. أن هذا التكرار هو أكثر صور التكرار الواردة في القرآن على الإطلاق.
2. أنه قد مهد له تمهيدا رائعا، حيث جاء بعد اثنتي عشرة آية متحدة الفواصل، وقد تكررت في هذا التمهيد كلمة "الميزان" ثلاث مرات متتابعة دون نبو أو ملل، وهذا التمهيد قد أتاح مساحة كبيرة حتى كان بمثابة مقدمة طبيعية؛ لتألف النفس التكرار الذي سيرد بعد ذلك.
3. إن الطابع الغالب على هذه السورة هو طابع تعداد النعم على الثقلين: "الإنس والجن"، وبعد كل نعمة يعددها تأتي عبارة: )فبأي آلاء ربكما تكذبان(، وعلى هذا يمكن فهم التكرار في هذه السورة: على أنه تذكير وتقرير للنعمة، وأنها بمكان فلا يمكن إنكارها.
الموضع الرابع: التكرار في القصص القرآني:
ومن الملاحظ أن القصص القرآني يغلب عليه التكرار إلا في قصة واحدة، وهي قصة يوسف عليه السلام؛ وذلك لأنها تتحدث عن جريمة خلقية، وهي محاولة امرأة العزيز إغراءه، وفي سبيل صيانة الأعراض اكتفى القرآن بسوقها مرة واحدة، والقصص القرآني في جملته مسوق لغرضين:
أولهما: تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتثبيت فؤاده، وأنه لم يكن بدعا من الرسل، فهم خولفوا مثلما خولف، وحق على المخالفين العذاب ونصر الله رسله وجنده.
ثانيهما: تهديد المخالفين وزجرهم، وبيان مصير أمثالهم؛ لعلهم يقلعون عن غيهم.
وهذه الدواعي محققة في كل مرة ورد فيها التكرار، على أنه يمكن أن يلاحظ على تكرار القصص القرآني ما يلي:
1. عدم توحد الصياغة في كل موضع كررت فيه القصة؛ وفي هذا إيحاء بأنها جديدة متجددة دائما، وليس فيها سآمة أو ملل، بل ترويح وطرافة.
2. كذلك فإن المعاني التي تتحدث عنها القصة القرآنية لم تكن لمجرد التهديد أو التسلية، بل إن التكرار يحول المكرر إلى معتقد.
3. ومن عادة العرب إذا اهتمت بشيء أرادت تحقيقه: كررته، وكأنها تقيم التكرار مقام المقسم عليه، أو الاجتهاد في الدعاء بحيث تقصد الدعاء.
4. إن في التكرار تقريرا للمعاني في الأنفس، وتثبيتا لها في الصدور، ألا ترى أنه لا سبيل لحفظ العلوم إلا بترداد ما يراد حفظه منها، وكلما زاد ترداده كان أمكن له في القلوب، وأوسع له في الفهم، وأثبت للذكر، وأبعد من النسيان.
5. وهناك حقيقة مهمة، وهي أن الإشادة بجمال التكرار في القرآن لم يقتصر على العلماء العرب؛ بل إن كثيرا من المستشرقين قد شهدوا بذلك منهم: جردنبيادم كما نقل عنه عبد الكريم الخطيب في كتاب "الإعجاز القرآني"، ولا شك أن الفضل ما شهدت به الأعداء.
ولنأخذ مثالا على ذلك، ولتكن قصة آدم - عليه السلام - لنلحظ فوائد التكرار فيها:
هذه القصة وردت في سبع سور، في سبع مرات، وترتيب السور التي وردت فيها القصة حسب نزولها هي "في المكي": (ص، الأعراف، طه، الإسراء، الحجر، الكهف). و "في المدني": (البقرة).
ومن الواضح أن نصيب العهد المكي من القصة كان وفيرا بالقياس إلى العهد المدني، ولنأخذ موضعا واحدا لنلحظ أثر التكرار فيه: قال عز وجل: )وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين (35)( (البقرة). وفي موضع آخر يقول: )فكلا( (الأعراف: 19).
لقد جاءت الآيتان بنسق واحد إلا في:
1. قوله - عز وجل - في البقرة: )وكلا( وفي الأعراف: )فكلا(.
2. قوله - عز وجل - في البقرة: )حيث شئتما(، وعدم وجودها في الأعراف.
ويمكن توجيه الاختلاف أن "السكن" في البقرة للإقامة، وفي الأعراف لاتخاذ المسكن، فلما نسب القول إليه عز وجل: )وقلنا يا آدم(؛ ناسب زيادة الإكرام بـ "الواو" الدالة على الجمع بين السكنـى والأكـل؛ ولذلك قـال فيـه: )رغـدا(، وقــال: )حيث شئتما(؛ لأنه أعم، أما في الأعراف فقد قال عز وجل: )يا آدم(؛ فأتى بـ "الفاء" الدالة على الترتيب، فالأكل يأتي بعد المسكن الذي أمر باتخاذه، وقوله: )حيث(، لا يعطي عموم "فكلا من حيث شئتما".
ونلاحظ من خلال الشاهد الذي أوردناه:
1. أن المواضع التي كررت فيها القصة لا تكون غالبا بنسق واحد في الصياغة.
2. أن كل موضع منها يفيد معنى جديدا لا يستفاد من غيره من المواضع.
ولو ذهبنا نتتبع كل المواضع التي ورد فيها التكرار في القرآن الكريم، لوجدنا أنه يأتي لإفادة معان عظيمة في كل مرة، فضلا عما فيه من التوكيد، فأين موضع التشكيك الذي يتوهمه المتوهمون؟!
ومن البلاغة التي وردت في هذه الآية الكريمة: قوله عز وجل: )ولا تقربا هذه الشجرة(، فالمنهي عنه هو الأكل من ثمار الشجرة، وتعليق النهي بالقرب منها "ولا تقربا" القصد منه المبالغة في النهي عن الأكل؛ إذ النهي عن القرب نهي عن الفعل بطريق أبلغ؛ كقوله تعالى: )ولا تقربوا الزنا( (الإسراء: ٣٢)؛ فنهى عن القرب من الزنا؛ ليقطع الوسيلة إلى ارتكابه1.
وتكرار القصص في القرآن له حكم عديدة؛ منها:
1. بيان بلاغة القرآن في أعلى مراتبها: فمن خصائص البلاغة إبراز المعنى الواحد في صور مختلفة، والقصة المتكررة ترد في كل موضع بأسلوب يتمايز عن الآخر، وتصاغ في قالب غير القالب التي وردت فيه في موضع آخر، ولا يمل الإنسان من تكرارها، بل تتجدد في نفسه معان لا تحصل له بقراءتها في المواضع الأخرى.
2. قوة الإعجاز: فإيراد المعنى الواحد في صور متعددة مع عجز العرب عن الإتيان بصورة منها أبلغ في التحدي.
3. الاهتمام بشأن القصة لتمكين عبرها في النفس: إذ التكرار من طرق التأكيد وأمارات الاهتمام؛ كما هو الحال في قصة موسى مع فرعون؛ لأنها تمثل الصراع بين الحق والباطل أتم تمثيل، فضلا عن أن القصة لا تكرر في السورة الواحدة مهما كثر تكرارها.
4. اختلاف الغاية التي تساق من أجلها القصة: فتذكر بعض معانيها الوافية بالغرض في مقام، وتبرز معاني أخرى في سائر المقامات، حسب اختلاف مقتضيات الأحوال.
(*) الاستشراق والقرآن العظيم، د. محمد خليفة، دار الاعتصام، القاهرة، ط1، 1414هـ/ 1994م. مناقشات وردود، محمد فريد وجدي، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ط1، 1415 هـ/ 1995م. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م. حقائق القرآن وأباطيل خصومه: شبهات وردود، عبد العظيم المطعني، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، مصر، 1423هـ/ 2002م.