توهم أن القرآن الكريم أخطأ فجزم الفعل المعطوف على منصوب(*)
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المغالطين أن القرآن الكريم جانب الصواب في عدم المطابقة بين المعطوف والمعطوف عليه في الحالة الإعرابية؛ حيث جزم الفعل المعطوف على المنصوب، ويستدلون بقوله عز وجل: )فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين (10)( (المنافقون)، ويتساءلون: كيف يجزم الفعل "أكن" وهو معطوف على الفعل المنصوب؟! والأولى في ظنهم أن يقال: "وأكون"؛ لأن الفعل معطوف على منصوب. **
وجها إبطال الشبهة:
بعد الاطلاع على مزاعم المفترين حيال هذه الآية الكريمة، يتبين لنا بطلان زعمهم، من وجهين:
1) لجزم الفعل "أكن" في اللغة تأويلان:
· أنه معطوف على محل "فأصدق" فكأنه قيل إن أخرتني أصدق وأكن.
· أنه لم يسبق بفاء السببية - التي تعمل النصب في الفعل المضارع، بل هو جواب للطلب مباشرة.
2) إيثار التمني في الآية على الشرط الصريح من أوجه الإعجاز القرآني البلاغي، وهذا يتفق وحالة قائلها ساعة موته، إذ يتمنى أن يؤخر أجله؛ ليتصدق ويكون من الصالحين، فهو إذن من تبادل الصيغ، وإحلال بعضها محل بعض لداع بلاغي؛ ولذا جزم الفعل "أكن" ولم ينصب.
التفصيل:
أولا. لجزم الفعل "أكن" في اللغة تأويلان:
1. جزم الفعل "أكن"؛ لأنه معطوف على محل "فأصدق"، فكأنه قيل: إن أخرتني أصدق وأكن، وذلك لأن "الفاء" في "فأصدق" عاطفة، و "أكن" فعل مضارع مجزوم بالعطف على محل "فأصدق"[1].
وأنشد سيبويه في الحمل على الموضع أبياتا كثيرة؛ منها:
معاوي إننا بشر فأسجح
فلسنا بالجبال ولا الحديدا
فنصب "الحديد" عطفا على محل خبر ليس المنصوب "الجبال"؛ إذ "الباء" في قوله: "بالجبال" للتأكيد، وليست لمعنى مستقل؛ إذ يجوز حذفها[2]. وكذلك جزم الفعل "أكن" في الآية بالعطف على محل "فأصدق".
2. جزم الفعل "أكن" على اعتباره جوابا للشرط مباشرة؛ لعدم وجود "فاء السببية" فيه، واعتبار "الواو" عاطفة جملة على جملة، وليست عاطفة مفردا على مفرد؛ وذلك لقصد تضمين الكلام معنى الشرط زيادة على معنى التسبب، فيغني الجزم عن فعل الشرط، فتقديره: إن تؤخرني إلى أجل قريب؛ أكن من الصالحين، جمعا بين التسبب المفاد بـ "الفاء"، والتعليق الشرطي المفاد بجزم الفعل، وإذا كان الفعل الأول هو المؤثر في الفعلين الواقع أحدهما بعد "فاء السببية"، والآخر بعد "الواو العاطفة" عليه، فقد أفاد الكلام التسبب والتعليق في كلا الفعلين، وذلك يرجع إلى محسن الاحتباك، فكأنه قيل: لولا أخرتني إلى أجل قريب، فأصدق وأكون من الصالحين. إن تؤخرني إلى أجل قريب أصدق وأكن من الصالحين[3].
ثانيا. إيثار التمني على الشرط الصريح في الآية من أوجه الإعجاز القرآني البلاغي، ومسوغ عبارة التمني تفضيل "لولا أخرتني" على الشرط الصريح "إن أخرتني"، ذلك أن قائل هذه العبارة - ساعة قولها عند حضور الموت - تملكه اليأس من التأخير، والتمني - كما نعلم - يستعمل في طلب المحال أو المتعذر، أما الشرط فيستعمل في الأمر الذي لا استحالة فيه ولا تعذر، فهو إذن من تبادل الصيغ، وإحلال بعضها محل بعض لداع بلاغي، وقرينة إرادة الشرط من عبارة التمني هو جزم الفعل "أكن".
وأفاد التعبير بالتمني معنى زائدا وهو: أن من حضرته الوفاة، وهو مقصر في طاعة الله تدفعه شدة الحاجة التي نزلت به إلى طمع من نوع ما، مما هو مستحيل أو متعذر الوقوع، وعليه فالعبارة القرآنية غاية في الاستقامة، وبعيدة كل البعد عن الخطأ، أو الخلل، وقد أدت المعنى في صحة لغوية وبلاغية عالية، وليس الأمر كما زعم هؤلاء.
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
· في الآية الكريمة "احتباك"؛ فكأنه قيل: لولا أخرتني إلى أجل قريب، فأصدق وأكون من الصالحين، إن تؤخرني إلى أجل قريب أصدق وأكن من الصالحين.
ومن الفوائد البلاغية التي يحققها الاحتباك في الكلام:
1. إحكام النظم وتحقيق فضيلة الإيجاز بحذف فضول الكلام وما يمكن الاستغناء عنه، مع قلة الألفاظ، وكثرة المعاني التي تدل عليها، وهذه غاية البلاغة المتمثلة في استثمار أقل ما يمكن من الألفاظ في التعبير عن أكثر ما يمكن من المعاني.
2. تنبيه المتلقي إلى البحث عن المحذوف: فيجعله يتجاوب مع ما يقرأ، فترسخ المعلومة في نفسه، ويقل نسيانه، وهذا مطلب من مطالب الحذف في القرآن الكريم.
3. تهذيب العبارة وصيانة الكلام من الثقل والترهل: فالمعنى الذي يدركه الفهم إدراكا قويا بوجود قرينة تمنع اللبس مع حذف الألفاظ الدالة عليه، يكون في ذكرها - أي هذه الألفاظ - فضول يتنزه عنه البيان الحكيم.
· ونتساءل: لماذا استعمل القرآن عبارة التمني )لولا أخرتني(، ولم يستعمل الشرط الصريح "إن أخرتني"؟!
والجواب: لأن قائل هذه العبارة يقولها ساعة يأس - ساعة الموت -، والتمني يستعمل في طلب المستحيل، والشرط يستعمل في الأمور التي لا استحالة فيها ولا تعذر. فهو من تبادل الصيغ، وإحلال بعضها محل بعض لداع بلاغي، وسر بلاغته أن من حضرته الوفاة وهو مقصر في طاعة الله؛ تدفعه شدة الحاجة التي نزلت به إلى طمع من نوع ما، مما هو مستحيل أو متعذر الوقوع.
ومما تقدم يظهر لنا استقامة العبارة القرآنية وبعدها عن أي خلل، ووفاؤها بالمعنى المراد نحويا وبيانيا؛ مما يكذب وقوع أي خطأ في هذا الكتاب المعجز، فليس عيبا في الشمس ألا يراها الضرير[4].
(*) عصمة القرآن وجهالات المبشرين، إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، 2004م . رد مفتريات على الإسلام، عبد الجليل شلبي، دار القلم، الكويت، ط1، 1402هـ/ 1982م.