توهم مخالفة القرآن الكريم بين المبتدأ والخبر في الإفراد والجمع(*)
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المشككين أن القرآن الكريم قد خالف قواعد اللغة العربية بعدم المطابقة بين المبتدأ والخبر في العدد في قوله عز وجل: )هم العدو فاحذرهم( (المنافقون: ٤)؛ حيث جاء الخبر "العدو" مفردا ومبتدؤه "هم" ضمير منفصل للجمع، والصواب في زعمهم أن يقال: "هم الأعداء" **.
وجها إبطال الشبهة:
الأصل في الخبر المفرد أن يطابق المبتدأ في النوع والعدد، لكن الناظر في قوله تعالى: )هم العدو فاحذرهم(، يظن أنه مخالف للقاعدة المشار إليها؛ حيث جاء الخبر مفردا لضمير الجمع "هم"، ومن هنا جاء توهم اضطراب القرآن الكريم في المخالفة بين المبتدأ والخبر في الإفراد والجمع، وهذا الوهم يبطل من وجوه نجملها على النحو الآتي:
1) التعريف في لفظة "العدو" تعريف الجنس الدال على كمال حقيقة العدو فيهم؛ فهي اسم يقع على الواحد والجمع، وما دامت اللفظة دالة بنفسها على الواحد والجمع، فلا مخالفة إذن بينها وبين المبتدأ إن جاء مفردا أو جمعا.
2) الكلام داخل تحت باب المجاز، فقوله عز وجل: )هم العدو(، مجاز مرسل علاقته الخصوص، فاللفظ المذكور العدو خاص، والمراد هو العموم الأعداء، وما كان من قبيل المجاز لا يصح أن نعامله أو نفهمه بالمنطق اللغوي نفسه الذي نعامل به الحقيقي ونفهمه به؛ حتى يستقيم المعنى في أذهاننا، ونفهم السياق القرآني على الوجه الذي ينبغي أن يفهم عليه.
التفصيل:
أولا. إذا جاء خبر المبتدأ الجمع اسم جنس فلا مخالفة بين المبتدأ وخبره في هذه الحالة، فاسم الجنس لا يدل على المفرد وحده، بل يدل على الجمع كذلك، وهذا ما ينطبق على خبر "هم" في الآية التي نحن بصدد الحديث عنها، إذ التعريف في "العدو" تعريف الجنس الدال على كمال حقيقة العدو فيهم؛ لأن أعدى الأعادي: العدو المتظاهر بالموالاة وهو مداح، وتحت ضلوعه الداء الدوي. وعلى هذا المعنى رتب عليه الأمر بالحذر منهم، والعدو: اسم يقع على الواحد والجمع".[1] وما دامت اللفظة دالة بنفسها على الواحد والجمع، فلا مخالفة بينها وبين المبتدأ، واحدا كان أم جمعا.
ثانيا. في الكلام مجاز، ولا يختلف اثنان على أن ما كان في كلامنا من قبيل المجاز لا يصح أن نزنه بنفس ميزان ما كان من قبيل الحقيقة، ولا أن يعامل معاملته، فبينهما بون يدركه أولو النظر في اللغة، فقد اتفق البلغاء على أن المجاز أبلغ من الحقيقة، ولو سقط المجاز من القرآن سقط شطره من الحسن، ولو وجب خلو القرآن من المجاز لوجب خلوه من الحذف والتوكيد وتكرار القصة.
على أن علاقات المجاز المرسل كثيرة يعجز العد عن إحصائها، منها ما علاقته السببية أو المسببية، أو الجزئية أو الكلية، ومنها ما هو باعتبار ما كان أو ما سيكون، أو العموم أو الخصوص، وهذه هي علاقة المجاز الذي نحن بصدده، فالله عز وجل قال: )هم العدو(، أي: هم الأعداء، فعبر بالخاص وأراد العام، ومثله في القرآن كثير منه قوله: )علمت نفس ما أحضرت (14)( (التكوير)، أي: كل نفس، وقوله عز وجل: )يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين( (الأحزاب: 1)، فالخطاب للنبي، والمراد الناس جميعا.
ومثل هذا في القرآن كثير واضح لا يقف عنده أحد، فطالما عبر القرآن بالعام وأراد الخاص، فمعلوم أن الله - عز وجل - حين قال: )والشعراء يتبعهم الغاوون (224)( (الشعراء)، أنه لم يرد كل الشعراء، وإنما أراد بعضهم[2]، وأحرى بهؤلاء أن يتعاملوا مع الألفاظ القرآنية بمنطق الأساليب البلاغية العربية التي راعتها لغة القرآن ألفاظا وتراكيب؛ ليسهل عليهم أن يلتمسوا بلاغته، ويقفوا على إعجازه.
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
· في قوله تعالى: )وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم( (المنافقون: 4) مجاز مرسل علاقته الكلية، إذ هو - صلى الله عليه وسلم - لم ير جملتهم، وإنما رأى وجوههم، وما يبدو منهم غالبا، فعبر بالكل وهو الأجسام، وأراد الجزء وهو ما يبدو منهم[3].
· والآية معطوفة على جملة "فهم لا يفقهون" في الآية قبلها، ولو حذف حرف العطف من "إذا رأيتهم" لصح وقوع الجملتين موقع الاستئناف الابتدائي.
فإن قيل: لماذا عطف ولم يستأنف على الابتداء؟! فالجواب: إنه قد آثر العطف للتنبيه على أن هاتين الصفتين تحسبان كمالا وهما نقيصتان؛ لعدم تناسقهما مع ما من شأنه أن يكون كمالا، فإن جمال النفس كجمال الخلقة، إنما يحصل بالتناسب بين المحاسن، وإلا فربما انقلب الحسن المتوهم موجب نقص".
· قوله عز وجل: )كأنهم خشب مسندة( (المنافقون: 4) تشبيه تمثيلي؛ إذ شبه هؤلاء المنافقين في سوء الرأي وعدم الجدوى بالخشب المسندة، فأفيد به أن أجسامهم المعجب بها، ومقالهم المصغى إليه خاليان من النفع كخلو الخشب المسند من الفائدة، فإذا رأيتموهم حسبتموهم أرباب لب وشجاعة، وعلم ودراية، وإذا اختبرتموهم وجدتموهم على خلاف ذلك، فلا تحتفلوا بهم"،[4] ووجه الشبه: حسن الصورة مع تلاشي الإدراك، وعدم النفع[5].
فإن تساءل أحدهم: ما وجه الدقة في هذه الصورة البيانية؟ نقول إن: "من عادة القرآن في رسم صورة التشبيه أن يذكر فيها من القيود، وأحوال الصياغة ما يجعلها معبرة تعبيرا دقيقا عن الغرض المسوقة لأجله، ولهذه القيود والأحوال شأن في صورة التشبيه لا ينتبه إليها إلا المعنى بإبراز نواحي الجمال وسر البلاغة في الأسلوب"[6]، وتلك هي دقة التشبيه؛ فقد وصف المشبه به وصفا دقيقا دالا على المعنى، إذ شبهوا بالخشب المسندة إلى الحائط؛ لأنهم أجرام خالية من الإيمان والخير، ولأن الخشب إذا انتفع به كان في سقف أو جدار، أو غيرهما من مظان الانتفاع، وما دام متروكا فارغا غير منتفع به أسند إلى الحائط، فشبهوا به في عدم الانتفاع.
· قوله عز وجل: )يحسبون كل صيحة عليهم( (المنافقون: 4) فيها إيجاز بالقصر، ومعلوم أن في الإيجاز بالقصر تحميل العبارات القصيرة المعاني الكثيرة من غير حذف؛ إذ تتآزر الدلالات الثانوية والشحنات النفسية مع الألفاظ في بيان المضمون"[7].
وهذا الضرب من الإيجاز في القرآن كثير مستحسن، وإذا عرفت مراتب الإيجاز، وتأملت ما جاء في القرآن منه عرفت فضيلته على سائر الكلام، وهي علوه على غيره من الكلام، وعلوه على غيره من أنواع البيان"[8]، وظاهر في الآية من المعنى الكثير ما دل عليه اللفظ اليسير.
· وأما قوله تعالى: )قاتلهم الله أنى يؤفكون (4)( (المنافقون) فهو تذييل؛ فإنه جمع على الإجمال ما يغني عن تعداد مذامهم؛ كقوله: )أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم( (النساء: ٦٣)، وهو مسوق للتعجب من حال توغلهم في الضلالة والجهالة بعدولهم عن الحق، وعليه فليس لمدع أن يتهم القرآن ها هنا بالخطأ في المطابقة بين المبتدأ وخبره في العدد.
(*) .