توهم اضطراب القرآن الكريم في ذكر اسم مكة (*)
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المشككين أن القرآن الكريم مضطرب في ذكر اسم "مكة"؛ حيث يقول عز وجل: )وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة( (الفتح: 24)، ويقول أيضا: )إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين (96)( (آل عمران)، فهل هي "مكة" أم "بكة" **؟!
وجها إبطال الشبهة:
الأصل في الاسم العلم أن يدل على محدد - شخصا كان أم مكانا، أو ما شابه ذلك - ولا يتغير الاسم العلم؛ لأن مدلوله واحد لا يتغير. والقارئ غير المتأمل لقوله عز وجل: )وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة( (الفتح: 24)، وقوله عز وجل: )إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا( (آل عمران: ٩٦) قد يتوهم أن القرآن به اضطراب؛ حيث دل على المكان نفسه مرة بـ "مكة"، وأخرى بـ "بكة"، ولكن هذا التوهم مردود بما يأتي:
1) إن ما جاء في قوله عز وجل: )ببطن مكة( مقصود به "مكة"؛ وذلك لمجيء كلمة "بطن"؛ فالبطن هي وسط البلد، كما يقال: بطن الوادي؛ أي: وسطه، وقيل: هي الحديبية.
2) إن ما جاء في قوله عز وجل: )للذي ببكة( يراد به: هو مكان الطواف. وقيل: إن "مكة " و "بكة" اسمان لمسمى واحد بقلب الميم باء.
التفصيل:
إن القرآن الكريم نزل بلغة الفصاحة والبيان المليئة بالأساليب التي تحتاج إلى تدبر وتعمق وإعمال فكر، ولكن هؤلاء عاجزون عن التدبر؛ كما قال عز وجل: )أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها (24)( (محمد)؛ فالقرآن الكريم جاء بألفاظ العرب ولغتهم، وفيها من الإطناب والإيجاز بنوعيهما، وفي تسمية الشيء بأكثر من اسم ما يبطل هذا الزعم.
وفيما يلي نفصل الأدلة للرد عليهم:
أولا. إن ما جاء في قوله عز وجل: )ببطن مكة( (الفتح: ٢٤) مقصود به "مكة"؛ وذلك لمجيء كلمة )ببطن(، فالبطن: وسط البلد؛ كما يقال: "بطن الوادي"؛ أي: وسطه. وقيل المراد: الحديبية.
قال الطاهر ابن عاشور في تفسير قوله تعالى: )ببطن مكة(: حقيقة البطن: جوف الإنسان والحيوان، ويستعمل في معاني المنخفض من الشيء أو المتوسط منه مجازا. قال الراغب: ويقال للجهة السفلى: بطن، وللعليا: ظهر. ويقال: بطن الوادي لوسطه. والمعروف من إطلاق لفظ البطن إذا أضيف إلى المكان أن يراد به: وسط المكان؛ كما في قول كعب بن زهير:
في فتية من قريش قال قائلهم
ببطن مكة لما أسلموا: زولوا
أي: في وسط البلد الحرام.
لكن ما وقع - مما قد يفضي إلى القتال - إنما وقع يوم الحديبية؛ ولهذا فقد حمل جمهور المفسرين قوله: )ببطن مكة( على الحديبية من إطلاق البطن على المكان، والحديبية قريبة من مكة، وهي من الحل وبعض أرضها من الحرم، وهي على الطريق بين مكة وجدة، وتعرف اليوم باسم الشميسي[1].
ثانيا. إن ما جاء في قوله عز وجل: )للذي ببكة( المراد منه: مكان الطواف، كما أن كلمتا "مكة" و " بكة" اسمان لمسمى واحد؛ حيث قلبت الميم باء، ونفصل ذلك الوجه على النحو التالي:
في قوله عز وجل: )إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا( (آل عمران: ٩٦) المراد من "بكة": المكان الذي فيه الطواف والكعبة، أي: هي اسم مكان البيت الحرام، واشتقاق "بكة" مأخوذ من "بك المكان"، أي: ازدحم؛ ومن هنا فالمقصود من قوله عز وجل: )إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة( أي: أنه مكان الازدحام الذي يأتي إليه كل الناس، وكل الوفود ليزوروا بيت الله الحرام.
وقيل: إن "بكة" اسم آخر لـ "مكة"؛ حيث يقول بعض العلماء: إن "الميم" و "الباء" يتعاوران؛ ونلحظ ذلك في الإنسان الأخنف أو المصاب بزكام، فهو ينطق الميم كأنها باء، فهما حرفان قريبان في النطق، والألفاظ منهما تأتي قريبة المعنى من بعضها[2]. فكلاهما حرف شفوي، وبينها علاقة صوتية تظهر بوضوح في أحكام تلاوة القرءان الكريم مثلا.
وبهذا البيان يتضح أنه لا يوجد أي اضطراب في القرآن الكريم حول اسم مكة.
الأسرار البلاغية في الآيتين الكريمتين:
· إن قوله عز وجل: )إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين (96)( (آل عمران) واقع موقع التعليل للأمر في قوله عز وجل: )قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (95)( (آل عمران)؛ لأن البيت المنوه بشأنه كان مقاما لإبراهيم، ففضائل هذا البيت تحقق فضيلة شرع بانيه في متعارف الناس، فهذا الاستدلال خطابي، وهو أيضا إخبار بفضيلة الكعبة وحرمتها فيما مضى من الزمان، وقد آذن بكون الكلام تعليلا موقع "إن" في أوله، فإن التأكيد بـ "إن" هنا لمجرد الاهتمام وليس لرد إنكار منكر، ومن خصائص "إن" إذا وردت في الكلام لمجرد الاهتمام، أن تغني غناء "فاء التفريع"، وتفيد التعليل والربط.
لقد عبر القرآن الكريم عن الكعبة بالموصولية: )للذي ببكة(؛ لأن هذه الصلة، صارت أشهر في تعيينه عند السامعين؛ إذ ليس في مكة يومئذ بيت للعبادة غيره، بخلاف اسم الكعبة: فقد أطلق اسم "الكعبة" على "القليس" الذي بناه أهل الحبشة في صنعاء لدين النصرانية، ولقبوه بـ "الكعبة اليمانية".
· في قوله: )وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكـة مـن بعـد أن أظفركـم عليهـم وكـان الله بمـا تعملـون بصيـرا (24)( (الفتح)، أطلق الكف مجازا على الصرف، أي: قدر الله كف أيدي الناس عنكم؛ بأن أوجد أسباب صرفهم عن أن يتناولوكم بضر أو سوء، نووه أو لم ينووه، وهو حاصل مقدر للطرفين.
و "الكف": مشتق من اسم الكف التي هي اليد؛ لأن أصل المنع أن يكون دفعا باليد، ويقال: كف يده عن كذا: إذا امتنع من تناوله بيده، وفي قوله عز وجل: )كف أيديهم ( مجاز مرسل علاقته الجزئية؛ حيث عبر بكف اليد وأراد صرفهم كلية لا أيديهم فحسب. وأفاد هنا: أنه لم يترك أحد من الفريقين الاعتداء على الفريق الآخر من تلقاء نفسه، ولكن ذلك كان بأسباب أوجدها الله تعالى لإرادته عدم القتال بينهم.
· في قوله عز وجل: )وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا (24)( (الفتح)، تقدم المسند إليه على الخبر الفعلي؛ لإفادة التخصيص؛ أي: القصر، والمعنى: لم يكفهم عنكم، ولا كفكم عنهم إلا الله تعالى، مع توفر أسباب الاشتباك للطرفين، إلا أن الله قدر موانع لهم ولكم؛ فكف أيديهم عنكم بأن نبهكم إليهم قبل أن يفاجئوكم، وكف أيديكم عنهم حين أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن يعفو عنهم ويطلقهم[3].
ولكن لـم ذكر الله - عز وجل - كف الأيدي ولم يذكر جل شأنه: منع القتال؟! وفي ذلك يقول د. عبد الفتاح لاشين: وكف الأيدي أبلغ من منع القتال؛ لأن كف الأيدي يستلزم منع القتال بالدليل"[4].
إن الآية الكريمة فيها مراعاة الفواصل - كما جاء في جميع آيات السورة الكريمة - وهو من المحسنات البديعية[5]. فقد قال الإمام الطاهر ابن عاشور: وجملة )وكان الله بما تعملون بصيرا( تذييل للتي قبلها، والبصير بمعنى: العليم بالمرئيات، أي: عليم بعملكم حين أحطتم بهم، وسقتموهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تظنون أنكم قاتلوهم وآسروهم[6].
وبذلك يتضح من خلال ما سردنا من أدلة الرد ومن أسرار بلاغية في كلتا الآيتين أن القرآن هو المعجزة الخالدة التي لا اضطراب فيها، فهو من لدن حكيم عليم، وعلى هذا يبطل وهم المتوهمين.
(*)