ادعاء اضطراب القرآن الكريم في استخدام الضمائر(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المشككين أن في القرآن الكريم اضطرابا في استخدام الضمائر، ويستدلون على ذلك بقوله عز وجل: )إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا (8) لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا (9)( (الفتح)؛ حيث يرون أن في الآية اضطرابا في استخدام الضمير من وجهين: الأول: في قوله: "أرسلناك" الذي خاطب فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم عدل إلى مخاطبة المؤمنين في قوله: "لتؤمنوا". الثاني: أن الضمير المنصوب في "تعزروه" و "توقروه" عائد على الرسول المذكور آخرا، وفي "تسبحوه" عائد على لفظ الجلالة المذكور أولا رغم تأخره. ويقولون: فإن كان القول: "تعزروه وتوقروه وتسبحوه" عائدا على النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا يعد كفرا؛ لأن التسبيح لا يكون إلا لله فقط، وإن كان عائدا على الله، فإن هذا يعد كفرا أيضا؛ لأن الله - عز وجل - لا يحتاج لمن يعزره ويقويه**.
وجوه إبطال الشبهة:
الأصل في اللغة أن يعود الضمير على اسم قبله متقدم عليه لفظا ورتبة، وإن تعددت الأسماء، وتعددت الضمائر العائدة عليها، ويجب أن تعود الضمائر مرتبة حسب ترتيب الأسماء، وقد خالفت الآية في وهم بعضهم ذلك الترتيب في قوله تعالى: )لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا (9)( (الفتح)؛ وذلك في العدول عن مخاطبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في "أرسلناك" إلى مخاطبة المؤمنين في "لتؤمنوا"، ثم في عدم مراعاة الترتيب بين الضمائر، بحسب الترتيب بين الأسماء وتقدم الضمير في "تعزروه"، و "توقروه" على الضمير في "تسبحوه" يخالف ترتيب بين لفظ الجلالة "الله" و "رسوله".
وهذا التوهم مدفوع ومردود عليه من وجوه:
1) العدول عن مخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: )أرسلناك( إلى مخاطبة المؤمنين في قوله: )لتؤمنوا( من أساليب الالتفات في الخطاب، وهو أسلوب معروف في لغة العرب، وأشعارهم، ولم يبتدعه القرآن الكريم.
2) لا حرج في عود الضمائر في )وتعزروه وتوقروه وتسبحوه( جميعا على الله؛ لأن من معاني التعزير والتوقير: النصرة والتعظيم، ومن ثم فلا اضطراب في عود الضمائر في هذه الآية الكريمة على لفظ الجلالة.
3) إن بعض الضمائر في الآية يعود على النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضها يعود على الله عز وجل، ولا يوجد في ذلك أي اضطراب؛ لأن السياق يوضح مرجعية كل ضمير على صاحبه.
التفصيل:
أولا. إن العدول عن مخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - والتي جاءت في قوله: )أرسلناك( إلى مخاطبة المؤمنين في قوله: )لتؤمنوا( من أساليب الالتفات في الخطاب، وأسلوب الالتفات من الأساليب المعروفة في كلام العرب، و الالتفات فن عريق من فنون البلاغة العربية، طرقه الشعراء في الجاهلية، وشاع في كلامهم، ووردت منه نماذج كثيرة في القرآن الكريم، وفي أحاديث خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، وأسراره لا تحصر، ودلالته لا تنضب، وكفاه فضلا أنه يروح عن مشاعر السامعين، وينتقل بهم من لون إلى لون في معرض جذاب لا يقدره حق قدره، إلا من رزق حسن الفهم، والقدرة على التذوق لمرامي الكلام[1].
والالتفات في رأى الزمخشري يحقق فائدتين:
فائدة عامة: وهي إمتاع المتلقي وجذب انتباهه بتلك التحولات التي لا يتوقعها في نسق التعبير.
فائدة خاصة: تتمثل فيما تشعه كل صورة من تلك الصور في موقعها من السياق الذي ترد فيه، من إيحاءات، ودلالات خاصة[2]. وقد كثر ورود هذا الفن في أشعار العرب، مثل قول النابغة الذبياني:
يا دار مية بالعلياء فالسند
أقوت وطال عليها سالف الأمد
فقد عدل من "الخطاب" إلى "الغيبة" في هذا البيت، وهو جائز في اللغة، بل هو من مظاهر البلاغة العربية، والشواهد كثيرة في أشعار العرب على ذلك، ومن ثم فإن العدول عن ضمير الخطاب المفرد في "أرسلناك" إلى ضمير الخطاب الجمع في قوله "لتؤمنوا بالله"، هو من أسلوب الالتفات المعروف لدى العرب.
ومن ثم فلا يوجد أي اضطراب في استخدام الضمائر في الآيتين كما يتوهمون؛ لأن أسلوب الالتفات هو الأنسب لمعنى الآيتين ولأن الإرسال خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، بينما التكليف بالإيمان له ولسائر المخاطبين ممن يبلغهم القرآن الكريم. فأين هذا الاضطراب المزعوم في استخدام الضمائر في هاتين الآيتين؟!
ثانيا. إن المتأمل في استخدام الضمائر في قوله: )وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا( لا يجد أي مانع لغوي أو شرعي في عودة الضمائر كلها على الله عز وجل، بل إن ظاهر الآية - والذي قال به كثير من المفسرين - يفيد ذلك؛ لأن التعزير في اللغة هو التعظيم والتفخيم، يقول القرطبي: "وتعزروه"، أي: تعظموه وتفخموه، قاله الحسن والكلبي. وقال قتادة: تنصروه، وقال بعض أهل اللغة: تطيعوه[3]، أما قوله: "وتوقروه" فهو التعظيــم. ومنــه قــول نـوح لقومـه: )مـا لكـم لا ترجــون لله وقارا (13)( (نوح)، أي: تعظيما له، وذكر الطبري في تفسيره أن قوله: )وتعزروه وتوقروه( بمعنى: تجلوه وتعظموه، وعن ابن عباس: "وتعزروه" يعني: الإجلال، "وتوقروه" يعني: التعظيم، وروى ابن وهب: قال ابن زيد في قوله: )وتعزروه وتوقروه( قال: الطاعة لله، وهذه الأقوال متقاربة المعنى، وإن اختلفت ألفاظ أهلها بها، ومعنى "التعزير" في هذا الموضع: التقوية بالنصرة والمعونة، ولا يكون ذلك إلا بالطاعة والتعظيم والإجلال.
ومن ثم فلا نرى أي غضاضة في عودة الضمائر في قوله: )وتعزروه وتوقروه( على الله عز وجل، فلا يعد هذا كفرا - كما يزعم هؤلاء - ولا منقصة في حق الله تعالى؛ لأن معناهما هو الإجلال والتعظيم، كما ذكرنا.
ولا شك أن الضمير في قوله: )وتسبحوه( عائد على الله عز وجل؛ لأن التسبيح معناه: تنزيهه سبحانه من كل قبيح، أو هو الصلاة التي فيها التسبيح، ولا يكون ذلك إلا لله عز وجل، ومن ثم فإن القول بأن في القرآن اضطرابا في استخدام الضمائر، هو قول أبعد ما يكون عن الصحة؛ لأن كل الضمائر في هذه الآية يجوز أن تكون عائدة على
الله عز وجل.
ثالثا. إن القول بعودة بعض الضمائر على النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضها على الله - عز وجل - في قوله: )وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا( ليس فيه أي اضطراب في استخدام الضمائر كما يدعي هؤلاء؛ لأن السياق في الآية الكريمة يوضح مرجعية كل ضمير على صاحبه، ولا شك أن السياق يسهم إسهاما هاما في نصوص العربية، فلا بد من مراعاته من جانب المتلقي؛ للوصول إلى الفهم الصحيح للنص، والمتأمل في هذه الآية الكريمة تتضح له أهمية مراعاة السياق في تحديد عودة الضمائر؛ فلا شك أن الضمائر في )وتعزروه وتوقروه( عائدة على النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان المعنى التقوية والنصرة، أو كما قال القرطبي: أي: تدعوه بالرسالة والنبوة، لا بالاسم والكنية، أو ما قاله ابن عباس وعكرمة: تقاتلون معه بالسيف[4]، أما الضمير في "وتسبحوه" فلا شك أنه عائد على الله عز وجل؛ لأن التسبيح لا يكون إلا لله، وهذا معلوم بالبديهة، وعلى هذا فلا يوجد لبس ولا اضطراب في معنى هذه الآية الكريمة، ولا في استخدام الضمائر فيها لدلالة السياق عليها.
الأسرار البلاغية:
· إن قوله: )إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا (8)( (الفتح)، استئناف ابتدائي، وتأكيده بحرف التأكيد "إن" للاهتمام بما سيخبر عنه، وهو إرسال محمد - صلى الله عليه وسلم - وكونه شاهدا ومبشرا ونذيرا.
أما السر من تقدم البشارة على النذارة؛ فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - غلب عليه التبشير؛ لأنه رحمة للعالمين؛ ولكثرة عدد المؤمنين في أمته.
أما قوله: "نذيرا" ولم يقل: "منذرا"؛ فلأن الإنذار هو إخبار بحلول حادث مسيء، أو قرب حلوله، فناسب ذلك أن يأتي بلفظ يدل على المبالغة في التحذير والإنذار، وللإيماء إلى تحقيق ما أنذرهم حتى كأنه قد حل بهم، وكأن المخبر عنه مخبر عن أمر قد وقع، وهذا لا يؤديه إلا اسم النذير[5]، هذا وقد شمل اسم النذير جوامع ما في الشريعة من النواهي والعقوبات.
· أما قوله: )إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا (8)( (الفتح) فنجد أنه قد التفت من خطاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى خطاب المؤمنين، والالتفات - كما ذكرنا - من الأساليب البلاغية عند العرب، وفائدته هي الترويح عن مشاعر السامعين، والانتقال بهم من لون إلى لون في معرض جذاب.
· أما قوله: )بكرة وأصيلا( فهما كناية عن استيعاب الأوقات بالتسبيح، والإكثار منه، كما يقال: شرقا وغربا؛ لاستيعاب الجهات، وقيل: التسبيح هنا: كناية عن الصلوات الواجبة[6].
(*) عصمة القرآن وجهالات المبشرين، إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، 2004م. الأخطاء اللغوية في القرآن، إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، د. ت.