توهم خطأ القرآن الكريم في التعبير عن الماضي بالفعل المضارع(*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المشككين أن القرآن الكريم قد جانب الصواب حين أتى بلفظ الفعل "أرى" الدال على الاستقبال، وهو يريد الماضي؛ وذلك في قوله عز وجل: )إني أرى في المنام أني أذبحك( (الصافات: ١٠2)، وكان الأولى في ظنهم أن يقول: "رأيت"**.
وجها إبطال الشبهة:
الأصل في اللغة أن يختلف نوع الفعل باختلاف زمن حدوثه بين الماضي والمضارع والمستقبل، ومن قرأ قوله تعالى: )إني أرى في المنام أني أذبحك( دون أن يتدبر المعنى، ودون أن يتأمله، يظن أن القرآن الكريم قد جانب الصواب في استخدام الفعل المضارع "أرى"، والذي يفيد المستقبل بدلا من الفعل الماضي "رأيت"، وكذلك "أذبحك"، بدلا من "ذبحتك" مما يعني المخالفة بين الفعل وزمن حدوثه. وكان الصواب في ظنهم أن يقال: "إني رأيت في المنام أني ذبحتك"؛ ليوافق الفعل زمنه. ومن هنا كانت الشبهة. وقد رد علماء اللغة على هذه الشبهة بوجوه منها:
1) استعمال الفعل المضارع أبلغ في الدلالة، وأنسب لمعنى الآية من استعمال الماضي؛ وذلك لأن سيدنا إبراهيم - عليه السلام - رأى هذه الرؤيا أكثر من مرة، وتوقع رؤيتها في المستقبل أمر وارد، وهذا لا يناسبه إلا استعمال المضارع الذي يفيد التجدد والاستمرار.
2) دلالة المضارع - إذا وضع موضع الماضي عند علماء المعاني - فيها بعث للماضي وتصوير له في صورة ما يحدث الآن، وكأن الأبصار تراه.
التفصيل:
أولا. أن استعمال الفعل المضارع أبلغ في الدلالة، وأنسب لمعنى الآية من استعمال الماضي؛ وذلك لأن سيدنا إبراهيم عليه السلام رأى هذه الرؤيا أكثر من مرة، وتوقع رؤيتها في المستقبل أمر وارد، وهذا لا يناسبه إلا استعمال المضارع الذي يفيد التجدد والاستمرار، قال مقاتل: رأى ذلك إبراهيم ثلاث ليال متتابعات، وقال محمد بن كعب: كانت الرسل يأتيهم الوحي من الله تعالى أيقاظا ورقودا، فإن الأنبياء لا تنام قلوبهم[1].
ويقال: إن إبراهيم رأى في ليلة التروية كأن قائلا يقول: إن الله يأمرك بذبح ابنك، فلما أصبح روى في نفسه[2]: أهذا الحلم من الله أم من الشيطان؟ فسمي "التروية"، فلما كانت الليلة الثانية رأى ذلك أيضا، وقيل له: الوعد، فلما أصبح عرف أن ذلك من الله؛ فسمي يوم عرفة. ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهم بالنحر؛ فسمي "يوم النحر"[3].
فتكرار الرؤية لا يناسبه إلا استعمال المضارع؛ لأنه يفيد التجدد والاستمرار، ومثل هذا يقال في الفعل "أذبحك" الذي يعبر به عن المستقبل.
ثانيا. أن دلالة المضارع "أرى" في الآية أن الله عز وجل يصور للمخاطبين ترتيب الأحداث ساعة حدوثها في الزمن الذي أمر الله فيه إبراهيم عليه السلام، وفائدته نقل أذهان المخاطبين إلى تلك اللحظة كأنهم يعاينونها بأبصارهم. وهذه هي دلالة المضارع إذا وضع موضع الماضي عند علماء المعاني، وهي بعث الماضي وتصويره في صورة الذي يحدث في الحال.
ومن أمثلة ذلك عند العرب قول الشاعر يحكي صراعا حدث بينه وبين الضبع:
فأضربها بلا دهش فخرت
صريعا لليدين وللجران [4]
فالشاعر ضرب الضبع في الماضي، فلما حكى صراعه معها للناس عبر عن الماضي "فضربتها" بالمضارع "فأضربها"، والدلالة البلاغية للعدول عن الماضي إلى المضارع استحضار صورة الحدث الذي وقع في الماضي، كأنه يحدث الآن في زمن المتكلم[5]، ولا شك أن استعمال المضارع - بدلالته على التجدد والاستمرارـ يجعل السامع يستحضر المشهد، ويتفاعل معه أكثر من استعمال الماضي.
وعلى هذا يتأكد لنا تماما أن الآية خالية من الخطأ، وإنما هو سوء فهم لقواعد اللغة العربية أو سوء النية وفساد الطوية.
الأسرار البلاغية والجمالية:
إن هذا التعبير )إني أرى( هو الملائم بلاغة وبيانا وإعجازا ونظما، أما لو قيل: "إني رأيت" لخلا هذا التعبير من ثلاثة أرباع الحسن الذي هو فيه؛ وذلك لأن دلالة الماضي الأصل فيها الانقطاع عن الوجود المستمر، ولذلك يعبر عنه النحويون بأنه: ما دل على حدث وقع وانقطع قبل زمن التكلم. وهذا غير مراد في حكاية الله كيفية أمره لإبراهيم؛ لأنه لو قيل: "إني رأيت" لصدق هذا التعبير عن وجوده مرة واحدة في الزمن[6]. ولكن الرؤيا تكررت أكثر من مرة، ثم صار الأمر بالذبح - بعد الفداء بالكبش - سنة حتى الآن، فالآية على ذلك غاية في البلاغة.
(*)