ادعاء أن وقوع الكلام الأعجمي والغريب في القرآن الكريم
ينافي كونه بلسان عربي مبين (*)
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المغالطين أن في وجود كلمات أعجمية وأخرى غريبة في القرآن الكريم يتنافى مع قوله عز وجل: )نزل به الروح الأمين (193) على قلبك لتكون من المنذرين (194) بلسان عربي مبين (195)( (الشعراء) **.
ويمثل بعضهم للأعجمي بكلمات مثل: "القرآن"؛ فهي من أصل سرياني، و "الفرقان"؛ فهي من أصل عبري، وللغريب بمثل كلمة: "أبا".
وجوه إبطال الشبهة:
إن ما في القرآن من ألفاظ أعجمية أو غريبة لا ينافي كونه بلسان عربي مبين، بل يعضده ويثبته، أما ما توهمه بعضهم خلاف ذلك، فهو باطل من وجوه:
1) المقصود باللسان العربي: ما نطقت به العرب؛ لأنه أصبح من لغتهم وصار عربيا، حتى وإن كان من لغات أخرى.
2) إذا تأملنا مفهوم الغريب بالمعنى الذي أراده علماء اللغة والنقاد؛ فإنا لا نجد في القرآن الكريم لفظة واحدة من الغريب.
3) كلمتا "القرآن والفرقان" اللتان ادعى بعضهم عجمتهما ذواتا أصل عربي، وليستا من كلام العجم.
4) القرآن نزل بلسان عربي مبين، وورود بعض الكلمات ذات الأصل غير العربي فيه إنما هو من باب تداخل اللغات وتقارضها، وقد تم في اللغة قبل نزول القرآن.
التفصيل:
أولا. المقصود باللسان العربي: ما نطق به العرب، ودار على ألسنتهم؛ لأنه أصبح من لغتهم وصار عربيا، وإن كان من لغات أخرى، والمراد: أنه لم يأت بكلام جديد لا تعرفه العرب، فقبل أن ينزل القرآن كانت هذه الكلمات شائعة في اللسان العربي، ووجود مفردات غير عربية الأصل في القرآن أمر أقر به علماء المسلمين قديما وحديثا، ومن اليسير علينا أن نذكر كلمات أخرى وردت في القرآن غير عربية الأصل، مثل: "منسأة" بمعنى: "عصا" في سورة سبأ، و "اليم" بمعنى: "النهر" في سورة القصص وغيرهما.
إن كل ما في القرآن من كلمات غير عربية الأصل إنما هو ألفاظ مفردة: أسماء أعلام مثل: "إبراهيم، يعقوب، إسحاق، فرعون"، أو صفات مثل: "طاغوت، حبر"، وذلك إذا سلمنا بأن كلمة "طاغوت" أعجمية، والقرآن يخلو تماما من تراكيب غير عربية، فليس فيه جملة واحدة من غير اللغة العربية.
ووجود مفردات أجنبية في أية لغة؛ سواء أكانت اللغة العربية، أم غير العربية لا يخرج تلك اللغة عن أصالتها، ومن المعروف أن أسماء الأعلام لا تترجم إلى اللغة التي تستعملها حتى الآن؛ فالمتحدث بالإنجليزية إذا احتاج لذكر اسم من لغة غير لغته، يذكره برسمه ونطقه في لغته الأصلية - التي استعاره منها - ومن هذا ما نسمعه الآن في نشرات الأخبار باللغات الأجنبية في مصر، فإنها تنطق الأسماء العربية نطقا عربيا، ولا يقال: إن نشرة الأخبار ليست باللغة الفرنسية أو الإنجليزية مثلا؛ لمجرد أن بعض المفردات فيها نطقت بلغة أخرى.
وكذلك المؤلفات العلمية والأدبية الحديثة التي تكتب باللغة العربية، ويكثر فيها مؤلفوها من ذكر الأسماء الأجنبية، والمصادر التي نقلوا عنها، ويرسمونها بالأحرف الأجنبية والنطق الأجنبي، لا يقال: إنها مؤلفات غير عربية؛ لمجرد أن بعض الكلمات الأجنبية وردت فيها، والعكس صحيح.
وقد أسرف هؤلاء في نسبة بعض هذه المفردات التي ذكروها، وعزوها إلى غير العربية مثل: "الله، الزكاة، السكينة، آدم، الحور، السبت، السورة، مقاليد، عدن"... كل هذه مفردات عربية أصيلة لها جذور لغوية عريقة في اللغة العربية، وقد ورد في المعاجم العربية، وكتب فقه اللغة وغيرها تأصيل عربي لهذه الكلمات، فمثلا: "الزكاة" من زكا يزكو فهو زاك، وأصل هذه المادة بمعنى: الطهر والنماء[1].
وكذلك "السكينة" بمعنى: الثبات والقرار ضد الاضطراب لها جذر لغوي عميق في اللغة العربية، يقال: سكن بمعنى أقام، ويتفرع عنه: يسكن، ساكن، مسكن، أسكن[2].
إن بعض المفردات التي وردت في القرآن وظنها بعضهم أعجمية ليست كما ظنوا، بل إنها وإن لم تكن عربية في أصل الوضع اللغوي، فهي عربية باستعمال العرب لها قبل عصر نزول القرآن، وكانت سائغة ومستعملة بكثرة في اللسان العربي قبيل نزول القرآن، وبهذا الاستعمال فارقت أصلها غير العربي، وغدت عربية: نطقا واستعمالا وخطا.
قال ابن عطية: فحقيقة العبارة عن هذه الألفاظ أنها في الأصل أعجمية، لكن استعملتها العرب وعربتها؛ فهي عربية بهذا الوجه، وقد كان للعرب العاربة - التي نزل القرآن بلسانها - بعض مخالطة لسائر الألسنة الأخرى؛ وذلك عن طريق التجارة، فمن المعروف أنه كان للعرب رحلتان في كل عام؛ رحلة إلى الشام صيفا ورحلة إلى اليمن شتاء، وأيضا السفر، كسفر ابن أبي عمرو إلى الشام، وسفر عمر بن الخطاب، وسفر عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد إلى الحبشة.. وهكذا.
وقد ذهب الطبري إلى أنه قد تتفق لغتان في لفظة.
إذن فورود مثل هذه الألفاظ في القرآن مع قلتها وندرتها إذا ما قيست بعدد كلمات القرآن لا يخرج القرآن عن كونه )بلسان عربي مبين(.
ومن أكذب الادعاءات أن يقال: إن لفظ الجلالة "الله" عبري أو سرياني، وإن القرآن أخذه عن هاتين اللغتين؛ إذ ليس لهذا اللفظ الجليل "الله" وجود في غير العربية؛ فالعبرية مثلا: تطلق على "الله" عدة إطلاقات؛ مثل: "إيل، الوهيم، أدوناي، يهوا، يهوفا"، فأين هذه الألفاظ من لفظ "الله" في اللغة العربية؟ وفي اللغة اليونانية التي ترجمت منها الأناجيل إلى اللغة العربية نجد لفظ الجلالة "الله" فيه" إلوي"، وقد وردت في بعض الأناجيل على لسان عيسى - عليه السلام - مستغيثا بربه هكذا: "إلوي إلوي" وترجمتها: "إلهي إلهي".
ثانيا. لا وجود في القرآن لكلمة واحدة من الغريب حسب تعريف اللغويين والنقاد للغريب، فالغريب - الذي يعد عيبا في الكلام ينافي فصاحته وبلاغته - هو ما ليس له معنى يفهم منه على جهة الاحتمال أو القطع، وما ليس له وجود في المعاجم اللغوية، ولا أصل له في جذورها.
والغريب بهذا المعنى ليس له وجود في القرآن الكريم، ولا يحتج علينا بوجود الألفاظ التي استعملت في القرآن من غير اللغة العربية مثل: "إستبرق، سندس، اليم"؛ لأن هذه الألفاظ كانت مألوفة الاستعمال عند العرب حتى قبل نزول القرآن، وشائعة شيوعا ظاهرا في محادثاتهم اليومية وكتاباتهم الدورية[3].
ثم إن قيل إنها لم تكن عربية الأصل، فهي - بالإجماع - عربية الاستعمال، ومعانيها كانت - وما تزال - معروفة في القرآن، وفي الاستعمال العام، واللغة - كما هو معروف - بنت الاستعمال.
ومنها الكلمات التي ذكروها مما ليس عربيا؛ مثل: "غسلين"، ومعناها: الصديد، أي: صديد أهل النار، وما يسيل من أجسادهم من أثر الحريق، ولما كان يسيل من كل أجسامهم شبه بالماء الذي تغسل به الأدران، أما بناؤه على وزن "فعلين"، وظاهر أنه للمبالغة، ومثل: "قمطرير"، ومعناها: طويلا، أو شديدا، ومثل: "إستبرق"، ومعناها: الديباج، وهكذا كل ما في القرآن من ألفاظ غير عربية الأصل؛ فهي عربية الاستعمال بألفاظها ومعانيها، وكانت العرب تتداولها قبل نزول القرآن.
واستعارة اللغات من بعضها من سنن الاجتماع البشري، ودليل على حيويـة اللغـة، وهـذه الظاهـرة فاشيـة جـدا في اللغــات - حتى في العصر الحديث -، ويعرفها اللغويون بـ "التقارض بين اللغات"، سواء أكانت لغات سامية أم غيرها كالإنجليزية، والفرنسية... إلخ، وفي اللغة الإسبانية كلمات مستعملة حتى الآن من اللغة العربية.
أما ما اقترضته اللغة العربية من غيرها من اللغات القديمة، أو ما له وجود حتى الآن فقد اهتم به العلماء المسلمون ونصوا عليه كلمة كلمة، وأسموه بـ "المعرب" مثل كتاب العلامة الجواليقي، وقد يسمونه "الدخيل".
وحتى لو جارينا هؤلاء الحاقدين، وسلمنا لهم جدلا بأن هذه الكلمات غريبة؛ لأنها غير عربية الأصل، فإنها كلمات من "المعرب" الذي عربه العرب واستعملوه بكثرة؛ فصار عربيا بالاستعمال، ومعانيه معروفة عند العرب قبل نزول القرآن، وما أكثر الكلمات التي دخلت اللغة العربية، وهجرت أصلها وصارت عربية، فهي - إذن - ليست غريبة؛ لأن الغريب هو ما لا يفهم معناه في اللغة المعنية، ولا وجود له في المعاجم اللغوية التي دونت فيها ألفاظ اللغة.
وقد يقال: كيف تنكرون "الغريب" في القرآن، وهو موجود باعتراف العلماء، مثل الإمام محمد بن مسلم بن قتيبة، العالم السني؛ فقد وضع كتابا في "غريب القرآن" وأورده على وفق ما جاء في سور القرآن سورة سورة؟ وكذلك صنع السجستاني وتفسيره لغريب القرآن مشهور، ومثله الراغب الأصفهاني في كتابه "المفردات في شرح غريب القرآن". ثم الإمام جلال الدين السيوطي، فله كتاب يحمل اسم "مبهمات القرآن"!!
ألا يعد ذلك اعترافا صريحا من هؤلاء الأئمة الأفذاذ بورود الغريب في القرآن الكريم؟! ومن العلماء المحدثين الشيخ حسنين مخلوف، مفتي الديار المصرية في النصف الأول من القرن العشرين، وكتابه "كلمات القرآن" لا يجهله أحد.
كما أن جميع مفسري القرآن قاموا بشرح ما رأوه غريبا في القرآن، فكيف يسوغ القول الآن بإنكار وجود الغريب في القرآن أمام هذه الحقائق التي لا تغيب عن أحد؟!
ونجيب فنقول: "إن الغريب الذي نسب في كتب العلماء رضي الله عنهم إلى القرآن، إنما هو غريب نسبي، وليس غريبا مطلقا؛ فالقرآن في عصر الرسالة، وعصر الخلفاء الراشدين كان مفهوما لجميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يرد في رواية صحيحة أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غاب عنهم فهم ألفاظ القرآن من حيث الدلالة اللغوية البحتة، وكل ما وردت به الرواية أن بعضهم سأل عن واحد من بضعة ألفاظ لا غير، وهي روايات مفتقرة إلى توثيق، وقرائن الأحوال ترجح عدم وقوعها، والألفاظ المسئول عنها هي: "غسلين، قسورة، أبا، فاطر، أواه، حنان"، وقد نسبوا الجهل بمعاني هذه الكلمات إما إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإما إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - وكلا الرجلين أكبر من هذه الاتهامات.
ومما يضعف إسناد الجهل بمعنى كلمة "أبا" إلى عمر رضي الله عنه: أن عمر - كما تقول الرواية - سأل عن معناها في خلافته، مع أن سورة "عبس" التي وردت فيها هذه الكلمة من أوائل ما نزل بمكة قبل الهجرة، فهل يعقل أن يظل عمر جاهلا بمعنى "أبا" طوال هذه المدة؟!
أما ابن عباس - رضي الله عنه - فإن صحت الرواية عنه أنه سأل عن معاني "غسلين"، و "فاطر"، فإنه يحتمل أنه سأل عنها في حداثة سنه، ومشهور أن ابن عباس كان معروفا بـ "ترجمان القرآن"، ومعنى هذا أنه كان متمكنا من الفقه بمعاني القرآن، وقد ورد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - دعا له قائلا: "اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل".[4] هذا فيما يتعلق بشأن الروايات الواردة في هذا الصدد.
أما فيما يتعلق بالمؤلفات قديما وحديثا حول ما سمي بـ "غريب القرآن"، فنقول:
إن أول مؤلف وضع في بيان غريب القرآن هو كتاب "غريب القرآن" لابن قتيبة في القرن الثالث الهجري، وهذا يرجح أن ابن قتيبة لم يكتب هذا الكتاب للمسلمين العرب، بل كان القصد منه هو أبناء الشعوب غير العربية التي دخلت في الإسلام، وكانوا يتحدثون لغات غير اللغة العربية، أو للعرب الذين بعد عهدهم بالقرون الأولى للفصاحة والسلامة اللغوية، أو لاختلاطهم بغيرهم من أصحاب اللغات الأخرى؛ حيث دب اللحن وانتشر بينهم.
أما القرنان الأول والثاني الهجريان والنصف الأول من القرن الثالث، فلم يكن فيها - فيما نعلم - كتب حول بيان غريب القرآن، سوى تفسير عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - وكتاب "مجازات القرآن" لأبي عبيدة معمر بن المثنى، وهما ليسا من كتب الغريب، بل هما: محاولتان لتفسير القرآن الكريم: مفردات وتراكيب[5].
ولما تقادم الزمن على نزول القرآن، وضعف المحصول اللغوي عند الأجيال اللاحقة، قام بعض العلماء المتأخرين؛ مثل: الراغب الأصفهاني صاحب كتاب "مفردات القرآن"، و جلال الدين السيوطي صاحب كتاب "مبهمات القرآن" بوضع كتب تقرب كتاب الله إلى الفهم، وتقدم بيان بعض المفردات التي غابت معانيها واستعمالاتها عن الأجيال المتأخرة.
وعليه فإن ما يطلق عليه "غريب القرآن" في بعض المؤلفات التراثية - ومنها كتب علوم القرآن، وما تناوله مفسرو القرآن الكريم في تفاسيرهم - غريب نسبي لا مطلق؛ باعتبار أنه مستعار من لغات أخرى غير اللغة العربية، أو من لهجات عربية غير لهجة قريش التي بها نزل القرآن، وهو غريب نسبي باعتبار البيئات التي دخلها الإسلام، وأبناؤها دخلاء على اللغة العربية؛ لأن لهم لغات يتحدثون بها قبل دخولهم في الإسلام، وظلت تلك اللغات سائدة فيهم بعد دخولهم في الإسلام، وغريب نسبي باعتبار الأزمان، حتى في البيئات العربية؛ لأن الأجيال المتأخرة زمنا ضعفت صلتهم باللغة العربية الفصحى: مفردات وتراكيب، وكل هذه الطوائف - كانت وما تزال - في أمس الحاجة إلى ما يعينهم على فهم القرآن، وتذوق معانيه، والمدخل الرئيس لتذوق معاني القرآن هو فهم مفرداته وأساليبه.
والغريب النسبي بكل الاعتبارات المتقدمة غريب فصيح سائغ، وليس غريبا عديم المعني، أو لا وجود له في معاجم اللغة ومصادرها، وهذا موضع إجماع بين علماء اللغة والبيان في كل عصر ومصر، ولا وزن لقول من يزعم غير هذا من الكارهين لما أنزل الله على خاتم أنبيائه ورسله.
ومن أوائل من تكلم عن الغريب في القرآن ابن الأزرق، ونوجز القول عن قصته هنا إيجازا يكشف عن دورها في الانتصار للحق في مواجهة مثيري هذه الشبهات، و "مسائل ابن الأزرق" مسطورة في كثير من كتب التراث؛ مثل: ابن الأنباري في كتابه "الوقف"، والطبراني في كتابه "المعجم الكبير"، والمبرد في كتابه "الكامل"، والزركشي في كتابه "البرهان في علوم القرآن"، وجلال الدين السيوطي في كتابه "الإتقان في علوم القرآن"... وغيرهم.
ولهذه المسائل قصة ملخصها: أن عبد الله بن عباس كان جالسا بجوار الكعبة يفسر القرآن الكريم، فأبصره رجلان هما: نافع بن الأزرق، ونجدة بن عويمر، فقال نافع لنجدة: "قم بنا إلى هذا الذي يجترئ على القرآن ويفسره بما لا علم له به؛ فقاما إليه، فقالا له: إنا نريد أن نسألك عن أشياء في كتاب الله، فتفسرها لنا، وتأتينا بما يصادقه من كلام العرب، فإن الله أنزل القرآن بلسان عربي مبين، فقال ابن عباس: سلاني عما بدا لكما، ثم أخذا يسألانه وهو يجيب بلا توقف، مستشهدا في إجاباته على كل كلمة قرآنية سألاه عنها بما يحفظه من الشعر العربي المأثور عن شعراء الجاهلية؛ ليبين للسائلين أن القرآن بلسان عربي مبين.
وقد جمع الإمام جلال الدين السيوطي هذه المسائل، وذكر منها مائة وثمان وثمانين كلمة، وقد حرص على ذكر إجابات ابن عباس - رضي الله عنه - عليها، وقال: إنه "أهمل نحو أربع عشرة كلمة من مجموع ما سئل عنه ابن عباس".
وها نحن نورد بعض هذه النماذج:
1. عزين:
قال نافع بن الأزرق لابن عباس - رضي الله عنهما -: أخبرني عن قوله ـ عز وجل ـ: )عن اليميـن وعن الشمـال عزيـن (37)( (المعارج). فقال ابن عباس: عزين: الحلق من الرفاق. فسأله نافع: وهل تعرف العرب ذلك؟ فقال: نعم، أما سمعت قول عبيد بن الأبرص:
فجاءوا يهرعون إليه حتى
يكونوا حول منبـره عزينا
يعني: جماعات يلتفون حول الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو مشتق من الاعتزاء، أي: ينضم بعضهم إلى بعض. قال الراغب في "المفردات": العزين: الجماعة المنتسب بعضها إلى بعض[6].
2. الوسيلة:
قال نافع: أخبرني عن قوله عز وجل: )وابتغوا إليه الوسيلة( (المائدة: ٣٥). قال ابن عباس: الوسيلة: الحاجة، قال نافع: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول عنترة:
إن الرجال لهم إليك وسيلة
إن يأخذوك تكحلي وتخضبي
فالآية تعني: اطلبوا من الله حاجاتكم، واستعمال الوسيلة في معنى الحاجة كما فسرها ابن عباس فيها إلماح أن طريق قضاء الحوائج يكون إلى الله؛ لأن معنى الوسيلة: الطريق الموصل إلى الغايات.
3. شرعة ومنهاجا:
وسأله نافع عن "الشرعة" و "المنهاج" في قوله عز وجل: )لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا( (المائدة: 48)، فقال ابن عباس: "الشرعة": الدين، و "المنهاج": الطريق، واستشهد بقول أبى سفيان الحارث بن عبد المطلب:
لقد نطق المأمون بالصدق والهدى
وبين للإسلام دينا ومنهجا
4. ريشا:
وسأله نافع عن كلمة "ريشا" في قوله عز وجل: )يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون (26)( (الأعراف). ففسره ابن عباس بالمال، واستشهد بقول الشاعر:
فرشني بخير طالما قد بريتني
وخير الموالي من يريش ولا يبري
5. كبد:
وسأله نافع عن كلمة "كبد" في قوله عز وجل: )لقد خلقنا الإنسان في كبد (4)( (البلد). قال ابن عباس: في اعتدال واستقامة، ثم استشهد بقول لبيد بن ربيعة:
يا عين هلا بكيت أربد إذ
قمنا وقام الخصوم في كبد
وهكذا نهج ابن عباس في المسائل التي وجهت إليه كلها؛ يجيب عنها بسرعة مذهلة، وذاكرة حافظة لأشعار العرب، وسرعة بديهة في استحضار الشواهد الموافقة لفظا ومعنى للكلمات القرآنية التي سئل عنها[7].
وهذا يؤكد لنا حقيقتين أمام هذه الشبهات التي أثارها هؤلاء حول القرآن:
الأولى: كذب الادعاءات التي نسبت لابن عباس - رضي الله عنهما - من الجهل ببعض معاني كلمات القرآن، بل إنه كان على درجة عالية من الفهم والحفظ والفصاحة تدرأ عنه مظنة الجهل، وهو ترجمان القرآن.
الثانية: القرآن كله لا غريب فيه بمعنى الغريب الذي يعاب الكلام من أجله، وأن نسبة الغريب إليه في كتابات السلف تعني الغريب النسبي لا الغريب المطلق، وقد تقدم توضيح المراد من الغريب النسبي في هذا المبحث، باعتبار الزمان، وباعتبار البيئة والمكان، وأن ما وضعه القدماء من مؤلفات تشرح غريب القرآن إنما كان المقصود به إما أبناء الشعوب التي دخلت الإسلام من غير العرب. وإما للأجيال الإسلامية المتأخرة زمنا، والتي غابت عنها معاني بعض الألفاظ.
وقد يضاف إلى هذا كله الألفاظ المشتركة المعنى والمترادفة والمتضادة والاحتمالية. أما أن يكون في القرآن غريب لا معنى له فهذا محال[8].
ثالثا. "القرآن" و "الفرقان" كلمتان ذواتا أصل عربي، وليستا من كلام العجم؛ لأن الزعم بأن كلمة "الفرقان" ذات أصل عبري، وأنها تعني: المخلص والمنجي، وأن كلمة القرآن مشتقة من كلمة "قريانا" السريانية والتي معناها: القرأة المقدسة، وأنها عدلت إلى وزن "فعلان"، حتى تناسب الذوق العربي - كلام باطل إذا علمنا أن كلمتي "فرقان"، و "قرآن" أصولهما عربية؛ فأما كلمة "فرقان" فتدور معانيها حول التفرقة والتمييز عن طرق معرفة ما يميز كل عنصر؛ وغالبا ما تستخدم في مقامات التفرقة[9] بين الحق والباطل؛ فتكون حجة وبرهانا؛ ولذلك هي عربية معرقة في أصالتها.
أما كلمة "القرآن"[10]: فهي في الأصل مصدر على وزن "فعلان" بالضم؛ كالغفران والشكران والتكلان، تقول: قرأته قراءة وقرآنا بمعنى واحد أي: تلوته تلاوة، وقد جاء استعمال القرآن بهذا المعنى المصدري في قوله عز وجل: )إن علينا جمعه وقرآنه (17) فإذا قرأنـاه فاتبـع قرآنــه (18) ثـم إن علينـا بيانـه (19)( (القيامة)، ثم صار علما شخصيا لذلك الكتاب الكريم. وهذا هو الاستعمال الأغلب، ومنه قوله عز وجل: )إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم( (الإسراء: ٩)، ويطلق الاشتراك اللفظي على مجموع الكتاب، وعلى قطعة منه، فإذا سمعت من يتلو آية من القرآن صح أن تقول: إنه يقرأ القرآن.
ولو سلمنا - جدلا - بأن الكلمتين "القرآن، الفرقان" عبريتان أو سريانيتان كما يزعمون، فلنا أن نتساءل: أليست العبرية والسريانية منبثقتين من اللغة السامية التي تعد العربية إحدى فصائلها، وعلماء الساميات يقرون كلمات كثيرة مشتركة بين اللغات السامية حتى عصرنا الحاضر أو هي الأصل على ما قد قيل[11]؛ ولذلك فرد الكلمة إلى أصلها السامي واشتراك أكثر من لغة سامية في كلمة من الكلمات لا ينفي أصالة الكلمة في هذه اللغة.
ولا شك أن الهدف من وراء هذا التشكيك في أصالة المصطلحات الرئيسة في القرآن الكريم، وردها إلى أصول عبرية أو فارسية، أو سامية، أو آرامية، إنما هو استدراج للقارئ، وتمهيد لإقناعه بأن القرآن هو من اختراع محمد - صلى الله عليه وسلم - وتأليفه، وأنه قد تعلم هذه الألفاظ من اليهود والنصارى.
ويناقش د. عبد الرحمن بدوي مزاعم المستشرقين - في هذا الصدد - فيقول: ولكي نفترض صحة هذا الزعم فلا بد أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان يعرف العبرية والسريانية واليونانية، ولا بد أنه كان لديه مكتبة عظيمة اشتملت على كل الأدب التلمودي، والأناجيل المسيحية، ومختلف كتب الصلوات، وقرارات المجامع الكنيسية، وكذلك بعض أعمال الآباء اليونانيين وكتب مختلف الكنائس والملل والنحل المسيحية، ثم يعلق على ذلك فيقول: هل يمكن أن يعقل هذا الكلام الشاذ لهؤلاء الكتاب؟ إنه كلام لا برهان عليه.
إن حياة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - قبل ظهور رسالته وبعدها معروفة للجميع، ولا أحد - قديما أو حديثا - يمكنه أن يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعرف غير العربية؛ إذن كيف يمكن أن يستفيد من هذه المصادر كما يدعون؟!
والكل يتفق على أن اللغات: العربية والعبرية والسريانية تنتمي إلى سلالة لغوية واحدة هي سلالة اللغات السامية، ولا بد من أجل هذا أن يكون بينها الكثير من التشابه والتماثل؛ ومن ثم فإن القول: بأن إحدى اللغات قد استعارت ألفاظا بعينها من أخواتها هو ضرب من التعسف، لا دليل عليه.
ويمكن أن تكون هذه الألفاظ قد وجدت في العربية قبل زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - بوقت طويل، واستقرت في اللغة العربية حتى أصبحت جزءا منها، وصارت من مفرداتها التي يروج استخدامها بين العرب.
رابعا. القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين، ووجود بعض الكلمات التي تستعمل في لغات أخرى فيه؛ إنما هو من باب تداخل اللغات، ولا يقدح ذلك في أصالة اللغة إطلاقا، وذلك يتضح من خلال النقاط الآتية:
1. إن التوافق والتداخل والاشتراك بين اللغات في بعض الكلمات أمر شائع ومعروف ومألوف، وهو أمر قد قرره دارسو علم اللغات أنفسهم - قديما وحديثا ـ؛ فاللغة العبرية تشتمل على عدد غير قليل من الكلمات ذات الأصل العربي، ومع ذلك لا يقال عن الناطق بتلك الكلمات: إنه لا يتكلم العبرية.
وكذلك الشأن في اللغة التركية، واللغة السريانية أيضا تعد عند علماء اللسانيات شقيقة اللغة العربية في مجموعة اللغات السامية، وهي تشترك مع العربية في كلمات وعبارات وقواعد واشتقاقات كثيرة، ومثل هذه الكلمات المشتركة والمتداخلة يوجد الكثير منها في لغات العالم، وخصوصا بين الشعوب المتجاورة وذات الأصل الواحد القريب، ومنها: اللغات الكردية، والتركية، والفارسية، فلديها كلمات مشتركة كثيرة، وكذلك بالنسبة للغات ذات الأصل اللاتيني؛ كاللغة الفرنسية، والإسبانية، واللغات التي أصلها جرماني؛ كاللغة الإنجليزية، والألمانية، وعلى الرغم من ذلك فلا يقال في الكلمات المشتركة والمتداخلة بين اللغات: إن لغة ما أخذتها من الأخرى.
والتلاقح بين اللغات والتفاعل بينها عبر العصور والأزمان أمر واقع ومقرر، ومسألة التلاقح والتفاعل بين اللغة العربية واللغات الأخرى ليست وليدة اليوم، وإنما ترجع جذورها إلى العصور الزمنية التي سبقت دعوة الإسلام، وهو أمر مألوف ومشاهد بين لغات الناس اليوم؛ إذ إن ظاهرة التفاعل بين اللغات - كما يقرر علماء اللغات - سنة ثابتة من سنن الاجتماع البشري التي لا تتبدل ولا تتغير بتغير الأحوال والأزمان، وإذا تقرر هذا كان دليلا وشاهدا على ضعف هذه الشبهة وركاكتها، إذا وزنت بميزان العلم، أو قيست بمقياس الواقع.
2. إن ظاهرة التعريب في كلام العرب مقررة عند أهل العربية، والتعريب ليس أخذا للكلمة من اللغات الأخرى كما هي ووضعها في اللغة العربية، بل التعريب: أن تصاغ اللفظة الأعجمية بالوزن العربي؛ فتصبح عربية بعد وضعها على أوزان الألفاظ العربية كما أسلفنا، وإذا لم تكن على أوزان تفعيلاتها، أو لم توافق أي وزن من أوزان العرب عدلوا فيها بزيادة حرف أو بنقصان حرف أو حروف وصاغوها على الوزن العربي؛ فتصبح على وزن تفعيلاتهم، وحينئذ يأخذونها. يقول سيبويه في هذا الصدد: "كل ما أرادوا أن يعربـوه ألحقوه ببناء كلامهم، كما يلحقون الحروف بالحروف العربية"[12].
وإذا كانت ظاهرة التعريب أمرا ثابتا، وضرورة من ضروريات حياة اللغة نفسها، فلا يعول بعد هذا على من ينكر هذه الظاهرة، أو يقول بقول مخالف لما تقرر.
3. ومما يدفع هذه الشبهة من أساسها: واقع الشعر العربي في الجاهلية الذي نزل القرآن بلغته؛ فقد اشتمل هذا الشعر على ألفاظ معربة من قبل أن ينزل القرآن؛ مثل: كلمة "السجنجل"، وهي لغة رومية، ومعناها: المرآة، وقد وردت هذه الكلمة في شعر امرئ القيس في قوله:
مهفهفة[13] بيضاء غير مفاضة[14]
ترائبها[15] مصقولة كالسجنجل
وكذلك كلمة "الجمان" وهي: الدرة المصوغة من الفضة، وأصل هذا اللفظ فارسي، ثم عرب، وقد جاء في قول لبيد بن ربيعة في معلقته:
وتضيء في وجه الظلام[16] منيرة
كجمانة البحري سل نظامها
4. العرب الذين عاصروا نزول القرآن، وعارضوا دعوة الإسلام، لم يعرف عنهم أنهم نفوا عن تلك الألفاظ أن تكون ألفاظا عربية، وهم كانوا أولى من غيرهم في نفي ذلك لو كان، وهم أجدر أن يعلموا ما فيه من كلمات أعجمية لا يفهمونها، أو ليست من نسيج لسانهم العربي المبين، ولو كان شيء من ذلك القبيل موجودا لوجدوا ضالتهم في الرد على دعوة الإسلام، ومدافعة ما جاء به القرآن، أما وأنهم لم يفعلوا ذلك فقد دل هذا على تهافت هذه الدعوى، وسقوطها من أساسها جملة وتفصيلا.
(*) قناة الحياة الفضائية. عصمة القرآن الكريم وجهالات المبشرين، د. إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، 2004م. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م. المستشرقون والقرآن، د. إسماعيل سالم عبد العال، رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة، 1410 هـ/ 1990م.