ادعاء اضطراب القرآن الكريم في المطابقة بين المبتدأ والخبر في النوع(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المشككين أن القرآن الكريم لم يراع المطابقة بين المبتدأ وخبره؛ فأخبر بالمذكر عن المؤنث، وهذا يخالف قواعد اللغة التي توجب المطابقة بين المبتدأ والخبر في التذكير والتأنيث، ويستدلون على ذلك بقوله عز وجل: )إن رحمت الله قريب من المحسنين (56)( (الأعراف)، وقوله عز وجل: )وما يدريك لعل الساعة قريب (17)( (الشورى)، فكلمة "قريب" في الآيتين خبر لـ "إن" و "لعل" على الترتيب، وقد جاءت مذكرة مع أنها خبر لمبتدأ مؤنث، والصواب في ظنهم أن يقال: "إن رحمة الله قريبة"، ويقال: "لعل الساعة قريبة" بتأنيث الخبر**.
وجوه إبطال الشبهة:
الأصل في الخبر المفرد أن يوافق المبتدأ ويطابقه في النوع - التذكير أو التأنيث - والعدد - الإفراد أو التثنية أو الجمع - كما في: "إن الشجرة مثمرة"، فقد توافق الخبر "مثمرة" مع المبتدأ اسم إن "الشجرة" في أمرين هما: النوع والعدد، وبتطبيق هذه القاعدة على الآيتين الكريمتين قد يتصور بالنظرة العجلى أن بالآيتين مخالفة للقاعدة اللغوية المشروحة؛ حيث يظن أن الخبر فيهما - وهو كلمة قريب - قد خالف المبتدأ - اسم إن "رحمة" في الآية الأولى، واسم لعل "الساعة" في الآية الثانية - في النوع، والأولى في زعمهم أن يقال: "إن رحمت الله قريبة"، و "لعل الساعة قريبة"؛ حتى يتم الاتفاق في النوع، ومن هنا توهم بعض المغالطين أن القرآن الكريم به أخطاء لغوية، ومثلوا بهاتين الآيتين, وللغويين والبلاغيين وجوه في توجيه هذه المخالفة وإزالة هذا اللبس؛ منها:
1) أن لفظة "قريب" تأتي للدلالة على قرابة النسب، أو قرب المسافة. فـإن وردت بمعنى قرابة النسب تؤنث بلاخلاف، أما إن دلت على قرب المسافة - كما في الآيتين - فيجوز فيها التذكير والتأنيث.
2) أن "قريب" صيغة مبالغة على وزن "فعيل" وهي تأتي على ضربين:
أحدهما: بمعنى فاعل؛ كقدير، وسميع، وعليم.
والآخر: بمعنى مفعول؛ كقتيل، وجريح، وكحيل.
فإذا أتت بمعنى "فاعل"، فحقها إلحاق تاء التأنيث مع المؤنث دون المذكر؛ كجميل وجميلة، وشريف وشريفة، وصبيح وصبيحة، وصبي وصبية، ومليح ومليحة، وطويل وطويلة.. ونحو ذلك.
وإذا أتت بمعنى "مفعول" فلا تخرج عن حالين:
· إما أن تكون الصفة مصاحبة للموصوف، أو منفردة عنها؛ فإن كانت الصفة مصاحبة للموصوف استوى فيها المذكر والمؤنث؛ تقول: رجل قتيل، وامرأة قتيل، ورجل جريح، وامرأة جريح.
· وإن لم تكن الصفة مصاحبة للموصوف فإنها تؤنث إذا جرت على المؤنث؛ نحو قتيلة بني فلان. وهذا المسلك هو أقوى مسالك النحاة في توجيه الآية.
3) أننا لو تتبعنا المبتدأ وخبره في الآيتين لوجدنا أن كلا منهما يجوز فيه التذكير والتأنيث:
· فالمبتدأ اسم إن "رحمة"، واسم لعل "الساعة" من قبيل المؤنث المجازي لا الحقيقي، ومعلوم في الاستعمال اللغوي أن المؤنث المجازي يجوز تأنيث خبره وصفته على حد سواء.
· أما الخبر "قريب" فهو من الألفاظ التي يستوي فيها التذكير والتأنيث، ومهما يكن فالمطابقة بين المبتدأ وخبره في الآيتين جائزة.
4) أننا لو أمعنا النظر في تأويل المبتدأ وخبره، لتبين لنا مطابقة أحدهما للآخر بما ينفي توهم المخالفة بينهما:
· فقد يكون المبتدأ في الآية الأولى "رحمة": على تأويل الترحم، وفي الآية الثانية "الساعة": على تأويل البعث؛ وكلاهما يصح الإخبار عنه بالمذكر "قريب".
· وقد يكون خبر المبتدأ مذكرا محذوفا تقديره "شيء" أو "أمر"، و "قريب" صفته، والتقدير: "إن رحمة الله شيء أو أمر قريب"، و "لعل الساعة أمر أو شيء قريب".
5) أن من الوجوه التي أثبتها أهل العلم: أن هذا من باب الاستغناء بأحد المذكورين عن الآخر؛ لكونه تبعا له، ومعنى من معانيه؛ فإذا ذكر أغنى عن ذكره، لأنه يفهم منه. والاستغناء عادة عربية.
وقريب من هذا ما ذكره ابن القيم، قال: "إن الرحمة صفة من صفات الرب تبارك وتعالى، والصفة قائمة بالموصوف لا تفارقه؛ فالرب تبارك وتعالى قريب من المحسنين، ورحمته قريبة منهم، وقربه يستلزم قرب رحمته. ففي حذف التاء ههنا تنبيه على هذه الفائدة العظيمة الجليلة. ولو قال: إن رحمة الله قريبة من المحسنين، لم يدل على قربه تعالى منهم؛ لأن قربه تعالى أخص من قرب رحمته، والأعم لا يستلزم الأخص. فلا تستهن بهذا المسلك، فإن له شأنا، وهو متضمن لسر بديع من أسرار الكتاب".
التفصيل:
قبل أن نجيب عن هذه الشبهة، من المفيد أن نقول في البداية: إن كلمة "رحمت" في الآية التي بين أيدينا، قد كتبت بالتاء المفتوحة في المصحف الشريف، لا بالتاء المربوطة، كما هي في الكتابة الإملائية المعتادة؛ وتعليل ذلك: أنها هكذا رسمت في المصحف العثماني.
إذا تبين هذا، نشرع في الإجابة عن هذه الشبهة، فنقول: إن للعلماء توجيهات عديدة في الإجابة عن هذه الشبهة، بيد أننا نقتصر هنا على أقوى التوجيهات، وأقومها رشدا، وأقصدها سبيلا، فمن تلك التوجيهات قولهم:
أولا. تأتي لفظة "قريب" للدلالة على قرابة النسب، أو قرب المسافة. فإن وردت بمعنى قرابة النسب تؤنث بلا خلاف، أما إن دلت على قرب المسافة ماديا أو معنويا - كما في الآيتين - فيجوز فيها التذكير والتأنيث.
فالعرب تفرق بين كلمة "قريب" إذا كان المراد بها قرابة النسب، أو المراد بها قرب المسافة، فتؤنث إذا كانت تدل على قرابة النسب أو أخبرت عن مؤنث حقيقي التأنيث. أما إذا كانت بمعنى المسافة المكانية أو الزمانية، فإنه يجوز فيها الوجهان: التذكير والتأنيث؛ لأنها قائمة مقام المكان والزمان، فنقول: فلانة قريبة وقريب، والتقدير هي في مكان قريب، ودليل ذلك من لغة العرب قول الشاعر عروة بن حزام:
عشية لا عفراء منك قريبة
فتدنو ولا عفراء منك بعيد
فقد جمع الشاعر بين الوجهين؛ التأنيث والتذكير، مع أن الموصوف مؤنث؛ لأن قريب و بعيد أريد بهما قرب المكان وبعده[1].
ولو نظرنا للآيتين الكريمتين: )إن رحمت الله قريب من المحسنين (56)( (الأعراف: ٥٦)، )وما يدريك لعل الساعة قريب (17)( (الشورى)، نجد أن المراد قرب الزمان، والعرب - كما أسلفنا - تجيز فيه الوجهين: التأنيث والتذكير. ولامرئ القيس - وهو من شعراء الجاهلية، وشعره حجة في إثبات اللغة - بيت نحا فيه هذا المنحى، يقول:
له الويل إن أمسى ولا أم هاشم
قريب ولا البسباسة ابنة يشكرا
والشاهد من البيت تذكير "قريب" مع جريانه على مؤنث هو: أم هاشم وهو نظير قريب[2]، في الآيتين؛ وعليه فليس ثمة مخالفة بين المبتدأ وخبره في التذكير والتأنيث كما يتوهمون.
ثانيا. إن "قريب" على وزن "فعيل" وهي تأتي على ضربين:
أحدهما: أن تأتي بمعنى فاعل؛ كقدير، وسميع، وعليم.
والآخر: أن تأتي بمعنى مفعول؛ كقتيل، وجريح، وكحيل.
فإذا أتت بمعنى "فاعل" فحقها إلحاق تاء التأنيث مع المؤنث دون المذكر؛ كجميل وجميلة، وشريف وشريفة، وصبيح وصبيحة، وصبي وصبية، ومليح ومليحة، وطويل وطويلة.. ونحو ذلك.
وإذا أتت بمعنى "مفعول" فلا تخرج عن حالين: إما أن تكون الصفة مصاحبة للموصوف، أو منفردة عنها؛ فإن كانت الصفة مصاحبة للموصوف، استوى فيها المذكر والمؤنث؛ تقول: رجل قتيل، وامرأة قتيل، ورجل جريح، وامرأة جريح؛ وإن لم تكن الصفة مصاحبة للموصوف، فإنها تؤنث إذا جرت على المؤنث؛ نحو قتيلة بني فلان. وهذا المسلك هو من أقوى مسالك النحاة في توجيه الآية. وقد تكون على وزن "فعيل": بمعنى المصدر، والمصدر على هذا الوزن يلتزم فيه التذكير، وإن جاء خبرا لمؤنث.
وقال النضر بن شميل: الرحمة مصدر، وحق المصدر التذكير؛ كقوله: )فمن جاءه موعظة( (البقرة: ٢٧٥). وهذا قريب من قول الزجاج؛ لأن الموعظة بمعنى الوعظ.
ومن ثم فإن كلمة "قريب" في الآيتين، مصدر استعمل استعمال الأسماء مثل: النقيق، وهو صوت الضفدع، والضغيب، وهو صوت الأرنب، لهذا جاز أن يأتي مذكرا بالرغم من أنه خبر لمؤنث[3]، وأيا ما كان معنى صيغة اللفظة فقد ثبت فيها لزوم التذكير: إن كانت بمعنى المصدر أو كانت بمعنى المفعول، وعليه فكلمة "قريب" التي في سورة الأعراف ليس المراد منها أن رحمة الله هي التي تقرب من المحسنين؛ فإن الرحمة هي المقروبة، والإحسان هو الذي يقرب إليها"[4].
ثالثا. إننا لو تتبعنا حكم المبتدأ وخبره في الآيتين لوجدنا أنه مما يجوز فيه التذكير والتأنيث: فالمبتدأ أو اسم إن "رحمة"، واسم لعل "الساعة" من قبيل المؤنث المجازي لا الحقيقي، ومعلوم في الاستعمال اللغوي أن المؤنث المجازي يجوز تأنيث خبره وصفته على حد سواء.
ويرى بعض العلماء أن السر في تذكير كلمة "قريب" في الآيتين، أنها تخبر عن مؤنث مجازي لا حقيقي، فكلمة "رحمة" في سورة الأعراف، وكذلك كلمة "الساعة " في سورة الشورى مؤنثتان تأنيثا مجازيا لا حقيقيا؛ وعليه فهما مما يجيز فيهما الاستعمال اللغوي تأنيث الخبر والصفة، وتذكيرهما على حد سواء، وهذا - كما يقول الحلبي تلميذ أبي حيان، وهما من الأئمة الأعلام في النحو - يجيء على مذهب ابن كيسان في الشعر، وفي النثر كذلك[5].
أما الخبر "قريب" فهو من الألفاظ التي يستوي فيها التذكير والتأنيث.
ولقد نزل القرآن بلغة العرب، وعند العرب ألفاظ يستوي فيها التذكير والتأنيث؛ فقد جاء استخدام القرآن للألفاظ على غرار استخدام العرب لها، ومن الألفاظ التي تستخدم للمذكر والمؤنث: صبور، معطاء، فنقول: رجل صبور، وامرأة صبور، ولا نقول: صبورة، ونقول: رجل معطار؛ أي يكثر من استخدام العطر، وكذلك امرأة معطار؛ للدلالة على المعنى ذاته، ولا نقول: امرأة معطارة.
وقد سمحت اللغة بذلك لحكم وعلة؛ فنحن حين نقول: رجل صبور، أو امرأة صبور: نذكرها لأن الصبر يقتضي الجلد والعزم والشدة، فالتذكير أبلغ وأقوى في الدلالة؛ لذلك لا نقول: امرأة صبورة.
وكذلك حينما نتأمل كلمة "قريب" في الآيتين نجدها جاءت على صيغة "فعيل" التي يستوي فيها المذكر والمؤنث، ومنها قوله تعالى: )والملائكة بعد ذلك ظهير (4)( (التحريم)، فالملائكة لفظها: مؤنث، ولم يقل الحق عز وجل: ظهيرة؛ لأن ظهير يعني: معين، والمعونة تتطلب القوة، والعزم، والمدد[6].
رابعا. هناك احتمالات وتأويلات قائمة في الآيتين تنفي عنهما توهم المخالفة، منها:
أنه يجوز تذكير كلمة "قريب" في قوله تعالى: )إن رحمت الله قريب من المحسنين (56)( (الأعراف)، على تأويل الرحمة بالرحم، أو الترحم كما ذكر الزمخشري، وأولها آخرون على الإحسان أو الغفران، وقال الأخفش: الرحمة هنا المطر.
أمـا في سـورة الشـورى: )وما يدريـك لعـل الساعـة قريـب (17)( (الشورى) فقد أولوا الساعة بالبعث أو الحشر، وكلاهما مذكر؛ ومن ثم فلا وجه للخطأ في تذكير كلمة "قريب" في الآيتين.
وقد ذكر بعض العلماء أن كلمة "قريب" في الآيتين صفة لخبر مذكر محذوف، تقديره في آية الأعراف: "إن رحمة الله شيء - أو أمر - قريب"، وفي سورة الشورى تقديره: "لعل الساعة أمر - أو وقت أو واقع - قريب"، ودليل تقدير هذا المحذوف في الآيتين هو تذكير "قريب"[7].
خامسا. ثمة توجيه آخر للآية حاصله: أن هذا من باب الاستغناء بأحد المذكورين عن الآخر لكونه تبعا له، ومعنى من معانيه؛ فإذا ذكر أغنى عن ذكره؛ لأنه يفهم منه. ومنه على أحد الوجوه قوله تعالى: )إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين (4)( (الشعراء)، فاستغنى عن خبر "الأعناق" بالخبر عن أصحابها. ومنه أيضا قوله تعالى: )والله ورسوله أحق أن يرضوه( (التوبة: ٦٢)، فالمعنى عليه: والله أحق أن يرضوه، ورسوله كذلك. فاستغنى بإعادة الضمير إلى الله؛ إذ إرضاؤه هو إرضاء لرسوله صلى الله عليه وسلم، فلم يقل: يرضوهما. فعلى هذا يكون الأصل في الآية: "إن الله قريب من المحسنين"، و "إن رحمة الله قريبة من المحسنين"، فاستغني بخبر المحذوف عن خبر الموجود، وسوغ ذلك ظهور المعنى.
وقريب من هذا ما ذكره ابن القيم - رحمه الله - في "بدائع الفوائد" بعد كلام نقله عن بعض العلماء في قوله تعالى: )إن رحمت الله قريب من المحسنين (56)( (الأعراف)؛ فعلى هذا يكون الأصل في الآية: "إن الله قريب من المحسنين"، "وإن رحمة الله قريبة من المحسنين"، قلت: ففي الآية ما يشبه الاحتباك [8]، فاستغني بخبر المحذوف عن خبر الموجود وسوغ ذلك ظهور المعنى.
والذي ينبغي أن يعبر عنه به: أن الرحمة صفة من صفات الرب تبارك وتعالى، والصفة قائمة بالموصوف لا تفارقه؛ لأن الصفة لا تفارق موصوفها، فإذا كانت"قريبة" من المحسنين فالموصوف تبارك وتعالى أولى بالقرب منه، بل قرب رحمته تبع لقربه - هو تبارك وتعالى - من المحسنين.
فالرب عز وجل "قريب" من المحسنين ورحمته "قريبة" منهم، وقربه يستلزم قرب رحمته؛ ففي حذف التاء ههنا تنبيه على هذه الفائدة العظيمة الجليلة، وأن الله تعالى قريب من المحسنين، وذلك يستلزم القربين؛ قربه وقرب رحمته، ولو قال: إن رحمة الله "قريبة" من المحسنين؛ لم يدل على قربه تعالى منهم؛ لأن قربه تعالى أخص من قرب رحمته، والأعم لا يسلتزم الأخص بخلاف قربه، فإنه لما كان أخص استلزم الأعم، وهو قرب رحمته.
قال ابن القيم: فلا تستهن بهذا المسلك فإن له شأنا وهو متضمن لسر بديع من أسرار الكتاب.
وإذا كان المعنيان متلازمين صح إيراد كل واحد منهما، فكان في بيان قربه سبحانه من المحسنين من التحريض على الإحسان، واستدعائه من النفوس، وترغيبها فيه غاية حظ.
فكان في العدول عن "قريبة" إلى "قريب" من استدعاء الإحسان، وترغيب النفوس فيه ما لا يتخلف بعده إلا من غلبت عليه شقاوته، ولا قوة إلا بالله تعالى.
وبعد هذه المطارحة، فلا وجه لما توهم في الآيتين من خطأ.
الأسرار البلاغية في الآيتين الكريمتين:
· في قولـه ـ عز وجل ـ: )ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها( (الأعراف: ٥6) مجاز مرسل علاقته الكلية؛ حيث ذكر الكل - الأرض - وأراد الجزء الذي هو مكان إفسادهم، والسر في ذلك تفظيع الفساد؛ لأنه وإن كان في جزء معين من الأرض، إلا أنه بمنزلة الإفساد في الأرض كلها؛ لأنه تشويه لمجموعها[9].
· قوله عز وجل: )بعد إصلاحها( دليل على أن الله - عز وجل - قد خلق الأرض من أول أمرها على صلاح، وهذا يبين إكرام الله للإنسان، فقد أصلح له الأرض، ثم استخلفه فيها، وكذلك التصريح بالبعدية هنا )بعد إصلاحها( تسجيل لفظاعة الإفساد؛ لأنه إفساد لما هو نافع، فلا معذرة لفاعله، ولا مسوغ لفعله عند أهل الأرض.
· وقوله )إن رحمت الله قريب من المحسنين (56)( (الأعراف): جملة واقعة موقع التفريع عن جملة "وادعوه"؛ فلذلك قرنت بـ "إن" الدالة على التوكيد؛ وهو لمجرد الاهتمام بالخبر، إذ ليس المخاطبون بمترددين في مضمون الخبر، ومن شأن "إن" إذا جاءت على هذا الوجه أن تفيد التعليل، وربط مضمون جملتها بمضمون الجملة التي قبلها؛ فتغني عن فاء التفريع؛ ولذلك فصلت الجملة عن التي قبلها، فلم تعطف؛ لإغناء "إن" عن العاطف.
· دل قوله عز وجل: )قريب من المحسنين( على مقدر في الكلام، أي: وأحسنوا؛ لأنهم إذا دعوا خوفا وطمعا، فقد تهيئوا لنبذ ما يوجب الخوف، واكتساب ما يوجب الطمع، ويتحقق ذلك بالإحسان في العمل، ويلزم من الإحسان ترك السيئات، فلا جرم أن تكون رحمة الله قريبا منهم، وسكت عن ضد المحسنين رفقا بالمؤمنين، وتعريضا بأنهم لا يظن بهم أن يسيئوا فتبعد الرحمة عنهم[10].
· أما قوله - عز وجل - في سورة الشورى: )الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب (17)( (الشورى) ففيه الكثير من الوجوه والأسرار البيانية، منها:
· قوله عز وجل: )الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان(: تمهيد لقوله: )وما يدريك لعل الساعة قريب(، وهو يؤذن بمقدر يقتضيه المعنى، تقديره: فجعل الجزاء للسائرين على الحق، والناكبين عنه في يوم الساعة، فلا محيص للعباد عن لقاء الجزاء )وما يدريك لعل الساعة قريب(، وهذه الجملة موقعها من الآية السابقة لها: )والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيـب لـه حجتهـم داحضـة عنـد ربهـم وعليهـم غضـب ولهـم عـذاب شديـد (16)( (الشورى)، موقع الدليل، والدليل من ضروب البيان؛ ولذلك فصلت الجملة عن التي قبلها؛ لشدة اتصال معناها بمعنى الأخرى.
· "الميزان" هنا مستعار للعدل والهدى، بقرينة قوله: "أنزل"، فإن الدين هو المنزل، والدين يدعو إلى العدل والإنصاف، فشبه الدين بالميزان في تساوي رجحان كفتيه.
· كلمة "وما يدريك" جارية مجري المثل، والكاف منها خطاب لغير معين بمعنى: قد تدري، أي: قد يدري الداري، وسر استعمال "ما" الاستفهامية: التنبيه والتهيئة، و "يدريك" من الدراية بمعني العلم، وقد علق الفعل "يدري" عن العمل بحرف الترجي "لعل".
فإن قيل: لكن لـم قال تعالي: "وما يدريك" ولم يقل: "وما أدراك"؟! كان الجواب كما قال ابن عباس: لأن كل ما يأتي من الكلام بعد الفعل "ما أدراك" فقد أعلمه الله به، أي: بينه له نحو: )وما أدراك ما هيه (10) نار حامية (11)( (القارعة)، وكل ما جاء فيه وما يدريك لم يعلمه به، أي: لم يعقبه بما يبين إبهامه، نحو: )وما يدريك لعل الساعة قريب(، ولعل معنى هذا الكلام: أن الاستعمال خص كل صيغة من هاتين الصيغتين بهذا الاستعمال[11].
وبعد هذا البيان الشافي، وهذا العرض لبعض الأسرار البلاغية في الآيتين الكريمتين، يتبين لنا مدى دقة القرآن الكريم في استخدام التراكيب والألفاظ، مما يبطل حجة من يتوهم أي خطأ في لغة القرآن الكريم.
(*) عصمة القرآن وجهالات المبشرين، إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، 2004م. الرد على كتاب "أخطاء إلهية في القرآن الكريم"، مجمع البحوث الإسلامية، دار السعادة للطباعة، مصر، 2003م. رد مفتريات على الإسلام، عبد الجليل شلبي، دار القلم، الكويت، ط1، 1402هـ/ 1982م.