توهم عدم مطابقة القرآن الكريم بين الحال وصاحبها في النوع(*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض الواهمين أن القرآن الكريم جانب الصواب في قوله عز وجل: )وأرسلنا السماء عليهم مدرارا( (الأنعام: ٦) **؛ حيث جاءت كلمة "مدرارا" مذكرة - وهي الحال - رغم أن صاحبها مؤنث وهو "السماء"، والصواب في ظنهم أن يقال: "مدرارة".
وجوه إبطال الشبهة:
الأصل في الحال المفردة أن تطابق صاحبها، وتوافقه في التذكير أو التأنيث، ومن لا يحسن اللغة وقواعدها إذا قرأ قوله تعالى: )وأرسلنا السماء عليهم مدرارا( يظن أن في الآية مخالفة بين الحال وصاحبها في النوع: التذكير أو التأنيث؛ حيث أتى بقوله: "مدرارا" حالا مذكرة لـ "السماء" وهي مؤنث، وكان الصواب في زعمهم أن يأتي بحال مؤنثة للاسم المؤنث؛ فيقال: "وأرسلنا السماء عليهم مدرارة"؛ لتتحقق المطابقة بين الحال وصاحبها في التأنيث.
وهذا الزعم مردود من وجوه:
1) أن كلمة "السماء" اسم من أسماء المطر، أو هي مجاز مرسل أريد به المطر الكثير، وعلاقته المحلية، وعلى هذا فقد جاءت الحال مذكرة؛ مراعاة لمعنى المطر، وهو مذكر.
2) أن كلمة "مدرارا" - على وزن مفعال - صيغة مبالغة تدل على الكثرة يستوي فيها المذكر والمؤنث.
3) أن الآية على حذف مضاف، والتقدير: "وأرسلنا مطر السماء عليهم مدرارا"، وعليه فإن الحال وصفت الاسم المذكر المحذوف.
التفصيل:
أولا. إن المتأمل في قوله تعالى: )وأرسلنا السماء عليهم مدرارا( (الأنعام: ٦) يجد أنه اشتمل على مجاز لغوي، أو مجاز مرسل أريد به المطر الكثير، فقد اشتهر عند علماء البيان أن "السماء" بمعنى المطر مجاز مرسل علاقته المحلية.
فقد قال ابن عاشور: و "السماء" من أسماء المطر، كما في قول زيد بن خالد: «صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إثر سماء[1]،»، أي: عقب مطر وهو المراد هنا؛ لأنه المناسب لقوله: )وأرسلنا( بخلافه في نحو قوله: )وأنزلنا من السماء ماء( (المؤمنون: ١٨).[2]
فالآية قد احتوت على مجاز مرسل علاقته المحلية، أعطى معنى المطر، وعبر عنه بالسماء؛ لأنه ينزل منها، وقد رمق هذا المجاز الشاعر بقوله:
إذا نزل السماء بأرض قوم
رعيناه وإن كانوا غضابا [3]
وتقول العرب: ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم، يريدون المطر[4]. وقد ذكر هذا جل المفسرين، وعليه فالسماء ما دامت بمعنى المطر فقد عبرت عن مذكر، فجاز أن تأتي الحال معها مذكرة، ولا خطأ في ذلك.
ثانيا. إن كلمة "مدرارا" على وزن مفعال، وهي صيغة مبالغة تدل على الكثرة ويستوي فيها المذكر والمؤنث. يقول القرطبي في تفسيره: "مدرارا" بناء دال على التكثير؛ كمذكار للمرأة التي كثرت ولادتها للذكور، ومئناث للمرأة التي تلد الإناث، يقال: در اللبن يدر إذا أقبل على الحالب بكثرة. وانتصب "مدرارا" على الحال[5].
يقول الرازي: "و "المدرار" الكثير الدر، وأصله من قولهم: در اللبن، إذا أقبل على الحالب منه شيء كثير، فـ "المدرار" يصلح أن يكون من نعت السحاب، ويجوز أن يكون من نعت المطر، يقال: سحاب مدرار: إذا تتابعت أمطاره. ومفعال يجيء في نعت يراد المبالغة فيه. قال مقاتل: "مدرارا"؛ أي: متتابعا مرة بعد أخرى، ويستوي في المدرار المذكر والمؤنث"[6].
وقد جاء في البحر المحيط: و "مدرارا" على هذا حال من نفس السماء، وقيل: "السماء" هنا السحاب ويوصف بـ "المدرار"، فـ "مدرارا" حال منه. و "مدرارا" يوصف به المذكر والمؤنث، وهو للمبالغة في اتصال المطر ودوامه وقت الحاجة؛ ولأن هذه الأوصاف إنما ذكرت لتعديد النعم عليهم ومقابلتها بالعصيان"،[7]وعليه فلا خطأ في وصف السماء بحال مذكرة.
ثالثا. ذكر بعض العلماء أن الآية على حذف مضاف، والتقدير: وأرسلنا مطر السماء عليهم مدرارا، والداعي إلى الحذف هنا هو ما استقر في الأذهان من أن السماء لا ترسل، وعليه فإن الحال وصفت الاسم المذكر المحذوف.
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
· قوله تعالى: )وأرسلنا السماء( أي: المطر، واستعمالها في ذلك مجاز مرسل، وقيل: هي على حقيقتها بمعنى المظلة، والمجاز في إسناد الإرسال إليها؛ لأن المرسل ماء المطر، وهي مبدأ له، وفيه من المبالغة ما لا يخفى، والإرسال والإنزال متقاربان في المعنى؛ لأن اشتقاقه من رسل اللبن وهو ما ينزل من الضرع متتابعا.
· قوله تعالى: )عليهم مدرارا( أي: غزيرا كثير الصب، وهو صيغة مبالغة يستوي فيه المذكر والمؤنث، وهو حال من "السماء"، والظرف متعلق بـ "أرسلنا"[8].
(*)