توهم اضطراب القرآن الكريم في إسناد المضارع للضمائر (*)
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المدعين أن بالقرآن الكريم اضطرابا في إسناد المضارع للضمائر، ويستدلون على ذلك بقراءتهم الخاطئة للفعل "اشهد" بهمزة وصل على أنه مضارع وهذا في قوله عز وجل: )وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون (111)( (المائدة) **؛ إذ قرءوه "أشهد" بهمزة قطع، ومن ثم كان الصواب في ظنهم أن يقال: "ونشهد" بإسناد الفعل المضارع لضمير الجمع، بدلا من "وأشهد" بإسناده للمفرد.
وجها إبطال الشبهة:
الأصل أن يطابق الفعل المضارع فاعله المسند إليه في نوعه: تذكيرا وتأنيثا، وعدده: إفرادا وتثنية وجمعا، وهذا ما يلتزمه القرآن، أما ما توهمه بعضهم من اضطراب القرآن في إسناد المضارع للضمائر في هذه الآية، فهو زعم باطل من وجوه:
1) أنهم أخطئوا في قراءة الفعل "اشهد" فقالوا: "وأشهد" بهمزة القطع، وعليه اعتبروه فعلا مضارعا مسندا إلى المتكلم، والصواب أنه "واشهد" بهمزة الوصل؛ لأنه فعل طلب - أمر - مسند إلى المخاطب وهو لفظ الجلالة "الله"؛ حيث المقصود من الآية "واشهد يا رب".
2) أن الفعل "اشهد" فاعله ضمير مستتر تقديره "أنت"، عائد على لفظ الجلالة "الله" عز وجل؛ ولذلك قال: "واشهد"، وليس فاعله "الحواريين" كما توهموا، ولا الضمير العائد عليهم، وإلا قالوا: "واشهدوا".
التفصيل:
أولا. لقد أخطأ هؤلاء القوم في قراءة الفعل "واشهد"؛ فقرءوه: "وأشهد"، بهمزة القطع؛ وعليه اعتبروه فعلا مضارعا مسندا إلى المتكلم، والصواب أنه: "واشهد " بهمزة الوصل؛ لأنه فعل أمر - طلب - مسند إلى المخاطب، وهو لفظ الجلالة "الله"، والمقصود من الآية، كما في تفسير القرطبي[1]: "واشهد يا رب - وقيل: يا عيسى - بأننا مسلمون"، وجاء في "صفوة التفاسير" المعنى ذاته: أنهم قالوا: "صدقنا يا رب بما أمرتنا، واشهد بأننا مخلصون في هذا الإيمان، خاضعون لأمر الوحي"[2]، فالفعل "واشهد" مسند إلى مخاطب مفرد، وهو إما "الله" عز وجل، وإما "عيسى" عليه السلام، وعلى كل فهو لمفرد لا لجمع كما توهم هؤلاء.
ثانيا. فاعل الفعل الأمر ليس "الحواريين"، وإلا قالوا: "واشهدوا"، وإنما فاعله ضمير مستتر تقديره "أنت"، عائد على الله عز وجل؛ لذلك قالوا: "واشهد"، وهذه من "النعم التي آتاها الله عيسى ابن مريم؛ لتكون له شهادة وبينة، فإذا كثرة من أتباعه تتخذ منها مادة للزيغ، وتصوغ حولها الأضاليل، فها هو ذا عيسى يواجه بها قومه؛ ليسمعوا قوله ويروا؛ وليكون الخزي أوجع وأفضح على مشهد من العالمين"[3].
والخطاب في قولهم: "واشهد" لله عز وجل؛ وإنما قالوا ذلك بكلام من لغتهم، فحكى الله معناه بما يؤديه[4].
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
السياق مركب من دلالتين:
· إعلانهم الإيمان بالله ورسوله.
· طلبهم من الله - عز وجل - أن يشهد على إسلامهم الذي أعلنوه.
ونحن متفقون في إدراك معنى النصف الأول من الآية، ولكننا سنوضح دلالة النصف الثاني لمن غفل عنها؛ إذ الآية تتحدث عن إيحاء الله - عز وجل - إلى أصحاب المسيح - عليه السلام - بالإيمان بالله ورسوله، فقالوا: آمنا واشهد يا رب لنا بهذا الإيمان؛ حتى تكون شهادتك هي الدليل على رضاك عنا، والطريق إلى نجاتنا وسلامتنا من أهوال يوم القيامة، وبهذا يستقيم السياق، ويظهر إعجاز القرآن وبيانه، ومن ثم فلا داعي لتكرار القول؛ إذ إن قولهم: "آمنا" شهادة منهم على صدقهم، فلو قال: "نشهد" لكان تكرارا لا فائدة منه؛ وحاشا للقرآن أن يفعل ذلك.
ولو أخذنا بفهم الذين توهموا هذا الخطأ لصار السياق: "قالوا آمنا ونشهد بأنا مسلمون"، وبهذا يفقد السياق النصف الثاني منه؛ لأن المعنى: إعلانهم للإيمان بالله ورسوله، ثم إشهاد الله على إسلامهم هذا.
(*) الرد على كتاب "أخطاء إلهية في القرآن الكريم"، مجمع البحوث الإسلامية، دار السعادة للطباعة، مصر، 2003م.