توهم أن القرآن الكريم اضطرب فرفع المعطوف على المنصوب(*)
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المشككين أن القرآن الكريم خالف قواعد اللغة؛ فعطف المرفوع على المنصوب في قوله عز وجل: )إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (69)( (المائدة)، فكلمة "الصابئون" مرفوعة وهي معطوفة على "الذين" اسم "إن"، وهو اسم موصول مبني في محل نصب، والصواب في زعمهم أن يقال: و"الصابئين"؛ كما ورد في سورتي البقرة والحج**.
وجوه إبطال الشبهة:
الأصل في المعطوف أن يوافق المعطوف عليه في إعرابه، لكن الناظر في قوله تعالى: )إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (69)( (المائدة) يتوهم مخالفة القرآن للصواب بعطفه المرفوع على المنصوب؛ وذلك في رفع كلمة "الصابئون" المعطوفة على اسم إن المنصوب، وكان الأولى في زعمهم أن تنصب، ويمكن الرد على ذلك بما يلي:
1) أن "الصابئون" مرفوعة بالابتداء وخبرها محذوف تقديره: كذلك، والجملة معطوفة - مع نية التأخير - على موضع جملة إن واسمها وخبرها؛ كأنه قيل: إن الذين آمنوا، والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا، والصابئون كذلك.
وقيل: جاز الرفع في )والصابئون( لأن "إن" هنا بمعنى: نعم، وعليه فـ "الصابئون" مرفوعة بالابتداء، وحذف الخبر؛ لدلالة الثاني عليه.
2) أن السر في إيثار لفظة "الصابئون" بالرفع دون ما قبلها وما بعدها، هو الإشعار بمخالفة "الصابئون" لكل المذكورين معها.
3) أن "الواو" عاطفة، و "الصابئون" معطوف على موضع اسم "إن" قبل دخولها على الجملة؛ لأنه قبل دخول إن كان في هذا الموضع موضع رفع، ومن ثم فلا وجود للخطأ اللغوي في الآية الكريمة.
التفصيل:
أولا. ذهب سيبويه وجمهور المفسرين إلى أن "الصابئون" مرفوعة بالابتداء وخبرها محذوف[1]؛ فالرفع في هذه الآية محمول على التقديم والتأخير، والتقدير: إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والصابئون والنصارى كذلك، واستشهد سيبويه بنظير هذا الحذف في قول الشاعر:
وإلا فاعلموا أنا وأنتم
بغاة [2] ما بقينا في شقاق [3]
وقال ضابئ البرجمي:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله
فإني وقيار [4] بها لغريب
وقيل: إن خبر "إن" محذوف، أي: مأجورون أو آمنون أو فرحون، والصابئون مبتدأ وما بعدها خبر[5].
وقيل: "إن" بمعنى: "نعم"، وعليه فـ "الصابئون" مرفوع بالابتداء، وحذف الخبر لدلالة الثاني عليه، فالعطف يكون على هذا التقدير بعد تمام الكلام وانقضاء الاسم والخبر؛ كقول قيس الرقيات[6]:
بكر العواذل في الصبا
ح يلمنني وألومهنه
ويقلن: شيب قد علا
ك، وقد كبرت فقلت: إنه
قال الأخفش: "إنه" بمعنى: نعم، وهذه "الهاء" أدخلت للسكت[7].
ثانيا. إن من بلاغة القرآن في هذا الموضع أنه هنا آثر رفع لفظة "الصابئون"، مع جواز الأمرين: النصب اتباعا على العطف، أو الرفع قطعا دون ما قبلها وما بعدها؛ إشعارا بمخالفة "الصابئون" لكل المذكورين معها.
وهذا من أساليب استعمال العرب في العطف، وإن كان استعمالا غير شائع لكنه من الفصاحة والإيجاز بمكان؛ وذلك أن من الشائع في الكلام أنهم إذا أتوا بكلام مؤكد بحرف "إن"، وأتوا باسم "إن" وخبرها، وأرادوا أن يعطفوا على اسمها معطوفا هو غريب في ذلك الحكم، جيء بالمعطوف الغريب مرفوعا؛ ليدلوا بذلك على أنهم أرادوا عطف الجمل، لا عطف المفردات، فيقدر السامع خبرا بحسب سياق الكلام، ومن ذلك قوله تعالى: )أن الله بريء من المشركين ورسوله( (التوبة: ٣)؛ أي: ورسوله كذلك، وكذلك المعطوف هنا فلما كان الصابئون أبعد عن الهدى من اليهود والنصارى في حال الجاهلية قبل مجيء الإسلام - لأنهم التزموا عبادة الكواكب، وكانوا مع ذلك تحق لهم النجاة إن آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحا - كان الإتيان بلفظهم مرفوعا تنبيها على ذلك[8].
لكن كان الجري على الغالب يقتضي أن لا يؤتى بهذا المعطوف مرفوعا إلا بعد أن تستوفي "إن" خبرها، فالغالب في كلام العرب أن يؤتى بالاسم المقصود به هذا الحكم مؤخرا، فأما تقديمه - كما في هذه الآية - فقد يتوهم أنه ينافي المقصد الذي لأجله خولف حكم إعرابه، ولكن هذا أيضا استعمال عزيز، وهو أن يجمع بين مقتضى حالين، وهما الدلالة على غرابة المخبر عنه في هذا الحكم، والتنبيه على تعجيل الإعلام بهذا الخبر؛ ذلك أن الصابئين يكادون ييأسون من هذا الحكم، أو ييأس منهم من يسمع الحكم على المسلمين واليهود، فنبه الكل على أن عفو الله عظيم لا يضيق عن شمولهم، فهذا موجب التقديم مع الرفع، ولو لم يقدم ما حصل ذلك الاعتبار، كما أنه لو لم يرفع لصار معطوفا على اسم "إن"، فلم يكن عطفه عطف جملة[9]، وإذن فهذه المخالفة في الآية الكريمة ملمح بلاغي وليس خطأ كما توهم بعضهم.
ثالثا. ذهب الكسائي والفراء إلى أن "الواو" هنا عاطفة، و "الصابئون" معطوف على موضع اسم "إن"؛ لأنه قبل دخول "إن" كان في موضع رفع، ومن هنا جاز رفعها[10]، ويؤكد هذا أن اسم "إن" هنا "الذين" لا يتبين فيه الإعراب، فجرى الأمران على جهة واحدة، فجاز رفع "الصابئون" رجوعا إلى أصل الكلام[11].
وهكذا يتبين لنا أن القرآن الكريم كتاب منزه عن أي خطأ لغوي أو غيره.
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
· إن الحكمة من تقديم "الصابئين" هنا على "النصارى"، بالرغم من تقديم "النصارى" عليهم في آية البقرة، أن الترتيب في آية البقرة قد روعي فيه ترتيب نزول الكتب السماوية، ومن ثم قدم "اليهود" على "النصارى"؛ لأن نزول التوراة سابق على نزول الإنجيل؛ ولهذا أيضا أخر ذكر "الصابئين" - الذين لا كتاب لهم - عن الطائفتين، أما الترتيب في آية المائدة، فهو بحسب ترتيب الأزمنة، ومن ثم قدم "الصابئون" على "النصارى" في تلك الآية؛ لأنهم وإن تأخروا عن "النصارى" في كونهم لا كتاب لهم، فإنهم متقدمون عليهم زمانا؛ لأنهم كانوا قبل عيسى عليه السلام.
وبالإضافة إلى هذا فهناك ملمح بلاغي آخر في تقديم "الصابئين" على "النصارى"، هو الإشعار بأن التقدم أو الفوز بالنعيم الأخروي ليس حكرا على طائفة دون أخرى، بل هو لكل من صحت عقيدته، وصلح عمله في الدنيا، تقدم زمانه أو تأخر، كتابيا كان أم غير كتابي[12].
· أما تقديم ذكر "الذين آمنوا" في طالعة المعدودين، فهو تنويه بالمسلمين في هذه المناسبة؛ لأن المسلمين هم المثال الصالح في كمال الإيمان والتحرز من الغرور، لم تتسرب مسارب الشرك إلى عقائدهم، فكانوا هم الأوحدون في الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح؛ الأولون في هذا الفضل.
· وقد يتساءل أحدهم: وما السر في الإخبار عن جميع المذكورين بقوله: )من آمن بالله واليوم الآخر( (البقرة: ٦٢)، إذ المؤمنون من جملة المذكورين؟ وهل الإيمان إلا بالله واليوم الآخر؟ والجواب على ذلك: أنه تعالى يريد بمن آمن: من دام على إيمانه ولم يرتد[13].
· وأما قوله تعالى: )من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا( بدون ذكر "من آمن منهم". التي ذكرت في آية البقرة - فإيماء إلى أن الوعد المذكور في الآيتين ليس مقصورا على من آمن وعمل صالحا من تلك الطوائف فحسب، بل هو وعد عام لكل مؤمن صالح في أي زمان أو مكان[14].
· وجاء "العمل الصالح" بعد "الإيمان" في الآية الكريمة؛ لأن الإيمان إذا لم يقترن بعمل صالح، يكون عرضة للسلب، ولا فائدة فيه، والله سبحانه يريد أن يسيطر الإيمان على حركة الحياة بالعمل الصالح[15].
· عطف سبحانه )ولا هم يحزنون( على )فلا خوف(؛ لأن الخوف هو الذعر ولا يكون إلا من المستقبل، أما الحزن فهو ضد السرور، ولا يكون إلا على ماض، والمعنى في الآية: فلا خوف عليهم فيما بين أيديهم من الآخرة، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا[16].
وهكذا نلاحظ دقة ألفاظ القرآن الكريم ومناسبتها للمعنى، فكيف لهذا النظم المعجز أن يحتوي على خطأ من أي نوع؟!
(*)عصمة القرآن وجهالات المبشرين، إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، 2004م. تأويل مشكل القرآن، ابن قتيبة، شرحه ونشره: السيد أحمد صقر، المكتبة العلمية، بيروت، ط3، 1401هـ/ 1981م. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م.