ادعاء عدم مطابقة القرآن الكريم بين الفعل والفاعل في النوع(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المشككين أن القرآن الكريم لم يطابق في النوع (التذكير والتأنيث) بين الفعل وفاعله، واستدلوا على ذلك بقوله عز وجل: )فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله( (البقرة: ٢٧٥)، والصواب في ظنهم أن يقال: جاءته موعظة" بتأنيث الفعل جاء ليوافق فاعله المؤنث**.
وجه إبطال الشبهة:
الأصل في اللغة أن يطابق الفعل فاعله في النوع: التذكير والتأنيث، فيأتي مذكرا مع الفاعل المذكر، ومؤنثا مع الفاعل المؤنث.
وغير المتدبر لقوله تعالى: )فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله( يظن أن في الآية مخالفة لقاعدة مطابقة الفعل للفاعل في التذكير والتأنيث، وكان الصواب في زعم هؤلاء المشككين أن يقال: "فمن جاءته موعظة".
ويمكن الرد على هذه الشبهة بأن نقول: إن كلمة "موعظة" مؤنث مجازي[1]، وما كان مؤنثا مجازيا في اللغة العربية جاز تأنيث فعله أوتذكيره على حد سواء، ومن ثم فلا إشكال في الآية.
التفصيل:
إن كلمة "موعظة" مؤنث مجازي، وما كان مؤنثا مجازيا في اللغة العربية، جاز تأنيث فعله أوتذكيره على حد سواء.
فمن المسلم به في اللغة العربية جواز تذكير الفعل، أوتأنيثه مع فاعله المؤنث في حالات ثلاث:
1. أن يكون الفاعل مجازي التأنيث ظاهرا، مثل: طلعت الشمس، ويجوز طلع الشمس.
2. أن يكون الفاعل جمع تكسير، مثل: حضر جيوش الإسلام إلى ميدان المعركة، ويجوز حضرت جيوش.
3. إذا فصل بين الفعل وفاعله بفاصل، مثل: ذهبت إلى المدرسة هند، ويجوز ذهب إلى المدرسة هند؛ وعلى هذا فلا إشكال في قوله تعالى: )فمن جاءه موعظة(.
هذا وقد أوجب النحاة مطابقة الفعل لفاعله في التأنيث في حالتين هما:
الأولى: إذا كان الفاعل ضميرا مستترا منفصلا، سواء أكان عائدا على مؤنث حقيقي[2]، مثل: هند قامت، أم على مؤنث مجازي التأنيث، مثل: الشمس طلعت.
الثانية: إذا كان الفاعل اسما ظاهرا، حقيقي التأنيث، متصلا بالفعل، مثل: قامت امرأة[3].
فإن فقد أحد هذه الشروط جاز في الفعل التأنيث والتذكير، كما هو الحال في الآية )فمن جاءه موعظة من ربه(، وبهذا يتضح موافقة ما ذكره القرآن الكريم لقواعد اللغة؛ حيث جاء الفاعل مؤنثا مجازيا، وأيضا فصل بينه وبين الفعل بالضمير "الهاء"، ومن ثم فإنه يجوز فيه الأمران؛ التأنيث وعدمه ومن ثم فلا إشكال في الآية.
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
· التشبيه التمثيلي[4] في تشبيه آكلي الربا عند خروجهم من أجداثهم بمن أصابه مس فاختل طبعه، وانتكست حاله، وصار يتهافت في مشيته ويتكاوس في خطواته، ويترنح ترنح الشارب السكران، ثم يهوي مكبا على وجهه من سوء الطالع، وقبح المنقلب، وشناعة المصير، والجزاء - عادة وعقلا - من جنس العمل[5]، وذلك في قوله: )الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس( (البقرة: ٢٧٥).
· والتشبيه المقلوب [6] في قوله: )إنما البيع مثل الربا( غرضه عكس الكلام للمبالغة، وهم يريدون القول بأن الربا مثل البيع - الذي هو الأصل - ليصلوا إلى غرضهم وهو تحليل ما حرمه الله، فعكسوا الكلام للمبالغة، وهو في البلاغة مرتبة عليا يصبح فيها المشبه به قائما بالمشبه وتابعا له، ومنه في الشعر قول البحتري:
كأنها حين لجت في تدفقها
يد الخليفة لما سال واديها
والأصل تشبيه يد الخليفة بالبركة، فقلب الكلام للمبالغة[7].
ومن هنا فقد عدلوا عن الأصل للمبالغة "فقلبوا التشبيه - مبالغة فيه - زعما أن الربا أولى بالحل من البيع، قال الفخر الرازي في تفسيره: إنه لما تساوى عندهم البيع والربا، كان البيع مثل الربا، وعكسه سواء[8].
(*)