توهم اضطراب القرآن الكريم في تذكير العدد وتأنيثه(*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المتوهمين أن القرآن الكريم اضطرب في تذكير العدد وتأنيثه، ويستدلون على ذلك بقوله عز وجل: )تلك عشرة كاملة( (البقرة:١٩٦) **، والصواب في ظنهم أن يقال: "تلك عشر كاملة".
وجه إبطال الشبهة:
الأصل في العدد أن له أحكاما تختلف باختلاف حالاته؛ فالعدد المفرد (من ثلاثة إلى عشرة) يخالف معدوده في نوعه: التذكير أو التأنيث.
ومن يقرأ قوله عز وجل:)تلك عشرة كاملة( دون تأمل يظن أن فيه مخالفة لأحكام العدد، وليس الأمر كذلك؛ فقد خرج النحويون ذلك بما يلي:
· أن العدد "عشرة" جاء مؤنثا؛ لأن تمييزه المحذوف مذكر وهو "أيام"، وليس في هذا مخالفة لقواعد النحو، وعليه فلفظة "كاملة" ليست تمييزا، وإنما هي نعت لعشرة، وأما تمييز "عشرة" فهو محذوف تقديره "أيام" دل عليه أول الآية.
التفصيل:
إن المتأمل في قوله عز وجل: )تلك عشرة كاملة( إن كانت له أدنى صلة بلغة العرب؛ يتبين له من أول وهلة أن الصورة التي جاء عليها العدد في الآية الكريمة هي الموافقة لقواعد النحو العربي، التي استخلصها النحاة من لغة العرب؛ إذ تقول هذه القواعد بوجوب مخالفة العدد "عشرة" المفرد لمعدوده في التذكير والتأنيث، وعلى هذا جاء العدد في هذه الآية الكريمة "مؤنثا"؛ لأن معدوده مذكر؛ إذ إن تقدير الكلام: تلك عشرة أيام كاملة، وقد حذف المعدود "أيام" لدلالة السياق عليه؛ حيث سبق ذكره في الكلام السابق في قوله تعالى: )فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم( هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى؛ لدلالة المعنى عليه؛ حيث لا يصام إلا الأيام، وهذا من بليغ أساليب العرب في الكلام؛ إذ يحذفون من الكلام ما هو معلوم بالضرورة، ومن ثم فلا وجود لهذا الخطأ الذي توهمه بعضهم.
· ولعل السبب في توهمهم هذا: أنهم ظنوا أن كلمة "كاملة" هي تمييز العدد "عشرة"، وهذا خطأ كبير منهم؛ لأن كلمة "كاملة" لو كانت تمييزا للعدد عشرة لكان ينبغي أن تأتي جمعا مضافا فتكون: "كاملات"، وليس مفردا مرفوعا: "كاملة"، فمجيئها مفردة مرفوعة؛ دل على أنها نعت لـ "عشرة"، وليس تمييزا لها كما توهموا، وعليه فتمييز "عشرة" هو كلمة "أيام" المحذوفة - كما سبق أن قلنا - وبهذا لا يوجد اضطراب في صوغ العدد في هذه الآية الكريمة، ولا في غيرها من آيات القرآن الكريم، الكتاب المعصوم الذي )لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد (42)( (فصلت).
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
· عبر بقوله عز وجل: )وأتموا(، ولم يعبر بـ "وأكملوا" لما في هذا الفعل من معنى دقيق؛ حيث إن التمام هو إكمال الشيء، والإتيان على بقايا ما بقي منه؛ حتى يستوعب جميعه، وهذا أنسب للحج والعمرة من ألفاظ أخرى مثل: "أدوا"، أو خلافها.
· وفي قوله عز وجل: )الحج والعمرة لله( تخصيص للكلام، والسر في جعل الحج والعمرة )لله( دون ذكر ذلك في سائر العبادات؛ لتجديد النية، مما كان يخامر نوايا الناس في الجاهلية من التقرب إلى الأصنام، فإن المشركين كانوا يحجون إلى الأصنام التي كانت حول الكعبة.
· أما مجيء الشرط بحرف "إن" في قوله: )فإن أحصرتم(؛ فلأن مضمون الشرط كريه لهم، فألقى إليهم الكلام إلقاء الخبر الذي يشك في وقوعه، والمقصود إشعارهم بأن المشركين سيمنعونهم من العمرة [1]، ويزيد هذا الجمال وضوحا، إذا تأملنا الشرط في قوله: )فإذا أمنتم( حيث جاء بـ "إذا" التي تفيد التحقيق؛ لأن فعل الشرط مرغوب فيه، والأمن ضد الخوف.
· وقوله: )استيسر( فيه معنى دقيق؛ حيث جاء بصيغة "استفعل" للدلالة على حثهم على طلب الأيسر لهم، وعدم تكلفهم المشقة.
· أما قوله "كاملة" بعد "عشرة"؛ فقد أفادت التحريض على الإتيان بصيام الأيام كلها لا ينقص منها شيء، مع التنويه بذلك الصوم، وأنه طريق كمال لصائمه، فالكمال هنا مستعمل في حقيقته ومجازه.
كما أن الوصف بها يدفع توهم أن "الواو" في قوله: )وسبعة إذا رجعتم( (البقرة:١٩٦) معنى "أو التخييرية"، وأن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلا، فيحاط به من وجهين فيتأكد العلم، وأن يعلم بالسبعة العدد المعين لا الكثرة "إذ السبعة تستعمل في لغة العرب بمعنى: العدد المحدد، كما تستعمل أيضا لإفادة الكثرة دون تعيين"[2].
· أما السر في ختم الآية بقوله: )واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب (196)( (البقرة) فهو مناسبة الأمر بالتقوى بعد بيان الأحكام التي لا تخلو من مشقة؛ وذلك للتحذير من التهاون بها، أما قوله: )واعلموا( فقد افتتح به الكلام اهتماما بالخبر؛ لأن العلم يحصل من الخبر )أن الله شديد العقاب (196)(، ولكن أراد تحقيق الخبر؛ فافتتح الأمر بالعلم[3].
وبعد هذا العرض المختصر لبعض الأسرار البيانية في هذه الآية الكريمة، فإننا لم نكن نقصد بذلك استقصاء كل الأسرار بها؛ لأن هذا الكتاب الكريم لا يبلى جديده، ولا ينضب معينه، ولا تنتهي عجائبه، ولكننا فقط أردنا التمثيل على دقة ألفاظه وبلاغة تراكيبه، مما ينزهه عن الوقوع في أي خطأ لغوي قد يتوهمه المدعون نتيجة النظرة العجلى والحكم - غير المنصف - على كتاب الله الذي عجز الإنس والجن عن أن يأتوا بمثله أو حتى بسورة من مثله.
(*)