توهم أن القرآن الكريم خالف قواعد اللغة فنصب المعطوف على مرفوع(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المشككين أن في قوله عز وجل: )والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء( (البقرة: ١٧٧)،مخالفة لقواعد اللغة؛ حيث جاء المعطوف "الصابرين" منصوبا، مع أن المعطوف عليه "الموفون" مرفوع، والصواب في زعمهم أن يقال: "والصابرون" بالرفع عطفا على ما قبلها**.
وجها إبطال الشبهة:
الأصل في المعطوف أن يتبع المعطوف عليه في الإعراب، ولكن جاء النظم المعجز على خلاف هذا الظاهر، والمتأمل لكلام ربنا جل وعلا في قوله: )والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين( يجد كلمة "الصابرين" منصوبة، وكان الظاهر أن تكون مرفوعة عطفا على ما قبلها، وللنحاة والمفسرين أقوال في توجيه ذلك، ومنها:
1) أن الظاهر من سياق الكلام أن تكون كلمة "الصابرين" مرفوعة؛ لأنها معطوفة على مرفوع، ولكنها قطعت عن العطف، ونصبت على المدح بفعل محذوف تقديره "أمدح" إشعارا بفضل الصبر، وتنويها بذلك الفضل.
2) أن المخالفة الظاهرة في مثل هذا المقام أبلغ من جريان الكلام على نمط واحد، وهذا أسلوب جار على سنن العربية وطريقة أهلها في الكلام.
التفصيل:
أولا. جاءت كلمة "الصابرين" منصوبة على الاختصاص بالمدح؛ إظهارا لفضل الصبر في الشدائد ومواطن القتال، على سائر الأعمال.
فإن قال قائل: إذا كان السياق القرآني جاء بـ )والموفون بعهدهم( مرفوعة، فلماذا جاء "بالصابرين" منصوبة؟ وماذا يعني اختلاف الإعراب؟ قلنا: إن الأذن العربية اعتادت على النطق السليم الفصيح، فإذا كان الكلام على خلاف قواعد الإعراب، فإن الإعراب لم يختلف إلا لينبهنا إلى أن شيئا يجب أن يفهم.
ومن ثم فكسر الإعراب هنا غرضه تنبيه الآذان إلى أن شيئا جديدا استحق أن يخالف عنده الإعراب؛ لأن الصبر مطية كل هذه الأفعال.
فالذي يستطيع الصبر على نفسه بإقامة الصلاة، وإيتاء المال على حبه، هو الذي فاز وظفر، إذن كل ذلك امتحان للصبر، ومن هنا خص الله "الصابرين" - بما لهم من فضل - بإعراب مخالف حتى نفهم أنه منصوب على المدح، أو على الاختصاص[1][2].
وجاء في تفسير القرطبي أن "الموفون" رفع عطفا على من؛ لأن من في موضع جمع ومحل رفع؛ كأنه قال: ولكن البر المؤمنون والموفون، قاله الفراء والأخفش:و"الصابرين" نصب على المدح، أو بإضمار فعل. والعرب تنصب على المدح وعلى الذم؛ كأنهم يريدون بذلك إفراد الممدوح والمذموم ولا يتبعونه أول الكلام، وينصبونه[3].
فأما المدح فقوله تعالى: )والمقيمين الصلاة( (النساء: ١٦٢)، وأنشد الكسائي:
وكل قوم أطاعوا أمر مرشدهم
إلا نميرا أطاعت أمر غاويها
الظاعنين ولما يظعنــوا أحـدا
والقائلون لـمن دار نخليها
وأنشد أبو عبيدة:
لا يبعدن قومي الذين هم
سم العداة وآفة الجزر[4]
النازلين بكل معتــرك
والطيبون معاقد الأزر
وقال آخر: نحن بني ضبة أصحاب الجمل.
فنصب على المدح كما نصبت العرب على الذم، كما في قوله تعالى: )ملعونين أينما ثقفوا( (الأحزاب: ٦١)، وقال عروة بن الورد:
سقوني الخمر ثم تكنفوني
عداة الله من كذب وزور
وهذا مهيع[5] واضح في النعوت، لا مطعن فيه من جهة الإعراب، موجود في كلام العرب[6].
ثانيا. المخالفة الإعرابية في مثل هذا المقام أبلغ من جريان الكلام على نمط واحد، وهذا أسلوب جار على سنن العربية وطريقة أهلها في الكلام، وبيانه أن العرب تعترض من صفات الواحد إذا تطاولت بالمدح أو الذم، فيرفعون إذا كان الاسم رفعا، وينصبون بعضها على المدح، فكأنهم ينوون إخراج المنصوب بمدح مجدد غير متبع لأول الكلام، ومن ذلك ما ذكرناه، وأنشده أبو عبيدة:
لا يبعدن قومي الذين هم
سم العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معترك
والطيبون معاقد الأزر
فالمخالفة الإعرابية بمجردها هي التي أوحت بإفراد هذه الصفات بمدح مجدد، فعدل بـ "الصابرين" عن نسقه نصبا على المدح أو الاختصاص؛ تنبيها على فضيلة الصبر في الشدائد ومواضع القتال، وإظهارا لمزيته في سائر الأعمال.
والمخالفة الإعرابية - كذلك - في مثل هذا المقام أبلغ من جريان الكلام على نمط واحد؛ يقول أبو علي الفارسي: "إذا ذكرت الصفات الكثيرة في معرض المدح أوالذم، فالأحسن أن يخالف في إعرابها، ولا تجعل كلها جارية على موصوفها؛ لأن هذا الموضع من مواضع الإطناب في الوصف، والإبلاغ في القول، فإذا خولف بإعراب الأوصاف كان المقصود أكمل؛ لأن الكلام عند الاختلاف يصير كأنه أنواع من الكلام، وضروب من البيان، وعند الاتحاد في الإعراب يكون وجها واحدا، وجملة واحدة.
ذلك لأن الموصوف عند تغير سبكه يصير جملة برأسه مما يوحي بتفخيم مقامه، بالإضافة إلى الافتنان في التعبير، وما يشي به تغيير المألوف من دلالة على زيادة ترغيب في استماع المذكور ومزيد اهتمام بشأنه.
ومن هنا يتبين أن دعوى تخطئة نصب "الصابرين" ووجوب رفعه على العطف دعوى لا يصح قبولها؛ لأن الأسلوب ليس عطفا، وإنما هو أسلوب قطع للمدح أو الاختصاص، والتقدير: أمدح الصابرين، أو أخص الصابرين بالمدح، وعليه فكلمة "الصابرين" مفعول به لفعل محذوف تقديره: أمدح أو أخص، وهو ما يسمى "النصب على المدح أو الاختصاص" [7].
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
· قطع التابع عن المتبوع، وضابطه أنه إذا ذكرت صفات المدح، أو الذم خولف في الإعراب تفننا في الكلام واجتلابا للانتباه، بأن ما وصف به الموصوف، أو ما أسند إليه من صفات، جدير بأن يستوجب الاهتمام؛ لأن تغيير المألوف يدل على زيادة ترغيب في استماع المذكور، والآية التي بين أيدينا مثال لقطع التابع عن المتبوع في حال المدح، ومثاله في حال الذم قوله تعالى: )وامرأته حمالة الحطب (4)( (المسد)، فقد نصب "حمالة " على الذم، وهي في الحقيقة وصف لامرأته"[8].
· المخالفة في البناء النحوي للجملة تعد التفاتا، ويستشهد على ذلك بقوله تعالى:)والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس( (البقرة: ١٧٧) [9]، والالتفات له فائدتان - كما حددهما الزمخشري -: عامة وخاصة، فالعامة: هي إمتاع المتلقي، وجذب انتباهه بتلك النتوءات أو التحولات التي لا يتوقعها في نسق التعبير، أما الخاصة فتتمثل فيما تشعه كل صورة من تلك الصور - في موقع من السياق الذي ترد فيه - من إيحاءات خاصة.
· وقد يتساءل، لماذا خص الله الصابرين بالمدح؟ وجوابه: "أن التكليفات كلها تعقب مشقات على النفس، ولا يستطيع تحمل هذه المشقات إلا من يقدر على الصبر، وما دام قد قدر على الصبر، فكل ذلك يهون، ومن هنا خص الله الصبر بهذه الميزة"[10].
(*)عصمة القرآن وجهالات المبشرين، إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، 2004م. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م.