توهم اضطراب القرآن الكريم في الإتيان باسم الموصول مكان المصدر(*)
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المدعين أن في القرآن الكريم اضطرابا؛ حيث جاء بالموصول مكان المصدر وذلك في قوله عز وجل: )ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين( (البقرة: 177)؛ إذ الصواب في ظنهم أن يقال: "ولكن البر أن تؤمنوا بالله"؛ لأن البر هو الإيمان لا المؤمن**.
وجها إبطال الشبهة:
الأصل أنه لا يخبر عن المعنى باسم ذات، وقد زعم المشككون أن القرآن قد خالف ذلك فأتى بخبر يدل على ذات ليخبر به عن معنى، وهذا تحقق في قوله تعالى: )ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين(، فقد أخبر عن اسم المعنى البر باسم ذات وهو اسم الموصول "من"، وهذا في زعمهم مخالف لأصول اللغة، وكان الصواب في زعمهم أن يقال: "ولكن البر أن تؤمنوا"؛ ليكون الإخبار عن اسم المعنى "البر" وهو مصدر باسم معنى مثله وهو المصدر المؤول "أن تؤمنوا".
وللعلماء توجيهات في وقوع )من آمن( خبرا عن )البر( وهو خلاف الأصل؛ لأن )البر( معنى ذهني، و )من آمن( ذات، والذوات لا يخبر بها عن المعاني الذهنية، ومؤدى هذه التوجيهات وأهمها:
1) أن في الكلام مضافا محذوفا، إما أنه واقع بعد "البر" وتقديره: ولكن البر بر من آمن، أو واقع قبل "البر" وتقديره: ولكن ذا "البر" من آمن.
2) أن المصدر "البر " موضوع موضع اسم الفاعل للمبالغة، والتقدير: ولكن البار.
التفصيل:
في الآية الكريمة وقعت )من آمن( خبرا عن )البر( وهو خلاف الأصل؛ لأن "البر" معنى ذهني "ومن آمن" ذات، والذوات لا يخبر بها عن المعاني الذهنية، وللعلماء في هذه المسألة ستة توجيهات، نذكر منها ثلاثة هي الأقوى والأظهر، وقد أوردها الإمام الزمخشري[1]:
1. أن في الكلام مضافا محذوفا، والتقدير "ولكن البر بر من آمن"، وهذا التوجيه اشتهر بين جمهور العلماء، وردده كثير منهم وهذا المضاف خبر "لكن".
2. تأويل )البر( بـ "ذو البر"، وهذا يعني أن في الكلام حذف مضاف، موضعه قبل "البر"، أما التوجيه الأول فكان تقدير المضاف المحذوف قبل )من آمن(.
3. أن يكون المصدر وهو "البر" موضوع موضع اسم الفاعل للمبالغة، كما في قول الخنساء، تصف جزعها لموت أخيها صخر:
ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت
فإنما هي إقبال وإدبار[2]
فإقبال وإدبار: مصدران حلا محل اسم الفاعل، والتأويل: هي مقبلة مدبرة، وقد سبق الزمخشري إلى الرأي الأول شيخ النحاة سيبويه.
وقد اختار سيبويه هذا الرأي ورجحه؛ لاعتبار قوي فحواه: أن السابق عليه هو نفي كون البر تولية وجوه المخاطبين نحو المشرق والمغرب، ثم قال: "والذي يستدرك ينبغي أن يكون من جنس ما وقع عليه النفي"، وهو هنا يريد أن يقول: إن "لكن" أداة استدراك في المعنى، وإن طرفي الاستدراك ينبغي أن يكونا متجانسين، والاستدراك، إما إثبات بعد نفي، أو نفي بعد إثبات، فمثلا قوله تعالى: )ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون (96)( (الأعراف).
فما قبل أداة الاستدراك "لكن" هو الإيمان والتقوى، وما بعدها هو التكذيب، فبين ما قبلها وما بعدها تجانس ظاهر؛ لأنهما سلوكيات قلبية وخلقية، وكذلك ما قبل "لكن" في الآية التي معنا هو البر الظاهري المنفي، وما بعدها ينبغي أن يكون هو البر الحقيقي المثبت، وهذه لمحة طيبة من شيخ النحاة، ولها صلة وثيقة بالتوجيه البلاغي لهذه المسألة[3].
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
· قوله تعالى: )ولكن البر من آمن بالله( فيه إيجاز بحذف المضاف، إذ المعنى: "ولكن البر بر من آمن" والإيجاز بالحذف هنا من البلاغة القرآنية والدقة في أي القرآن الكريم"[4].
· قوله تعالى: )ولكن البر( من الآراء التي طرحت فيه أن )البر( هنا مصدر وقع موقع اسم الفاعل لإرادة المبالغة على مثال قول العرب "رجل عدل"؛ حيث عدلوا عن "رجل عادل" إلى الإخبار عنه بالمصدر، على اعتبار أن هذا الرجل لما كان كثير العدل صار كأنه العدل نفسه لا فرق بينهما، وهذا رأي نحاة الكوفة[5].
أو لعل المراد تمكن الإيمان من القلوب، فلو قيل: ولكن البر أن تؤمنوا، لكان الإيمان المدعو إليه مجرد فكرة، ولكن لما أخبر عن هذا المعنى - الإيمان - بالذوات التي تحمله - من - التحم الإيمان بالمؤمن والمؤمن بالإيمان، فصار إيمانا عمليا متمكنا من القلوب.
· قوله تعالى: )وفي الرقاب( فيه "مجاز مرسل[6]علاقته الجزئية، فذكر الجزء، وأراد الكل" [7].
· قوله تعالى: )وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى( فيه من النكت البلاغية ما يسمى بـ "التتميم"، فقوله تعالى: )على حبه( تتميم؛ لأن المعنى قد تم قبلها، ولكن ليس هذا من باب الزيادة التي بلا فائدة، ولكن )على حبه( تفيد التأكيد وزيادة تمام المعنى"[8]، وهذا يدل على أن المال لا بد أن ينفق عن طيب نفس ورضا خاطر، مما يوحي إلى سماحة المؤمن ومسارعته لفعل أوامر ربه طيبة بذلك نفسه.
· قوله تعالى: )والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء( فيه من البلاغة ما يبرزه ما فيه من العدول النحوي، فقد عدل بالصابرين عن نسقه - نصبا على المدح أو الاختصاص ـ؛ تنبيها على فضيلة الصبر في الشدائد ومواضع القتال، وإظهارا لمزيته على سائر الأعمال.
· جعل بعض البلاغيين قوله تعالى: )والموفون بعهدهم( ثم قوله: )والصابرين في البأساء والضراء( من الالتفات، وقد عدوه من الالتفات بسبب المخالفة في البناء النحوي للجملة، وهو رأي بعض البلاغيين"[9].
(*) عصمة القرآن وجهالات المبشرين، إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، 2004م. الأخطاء اللغوية في القرآن، إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، د. ت.