توهم مخالفة القرآن الكريم قواعد العربية في مجيء الوصف الدال على الكثرة موضع جمع القلة(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المشككين أن في قوله عز وجل: )وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة( (البقرة: ٨٠) مخالفة لقواعد اللغة العربية؛ حيث استخدم الوصف المفرد الدال على الكثرة "معدودة" في موضع جمع القلة، والصواب في زعمهم أن يقال: "أياما معدودات" **.
وجوه إبطال الشبهة:
1) إن صفة جمع التكسير المذكر الذي لا يعقل تكون كصفة الاسم المؤنث المفرد تارة، وكصفة الجمع المؤنث السالم تارة أخرى؛ فيقال: جبال راسية، وجبال راسيات.
2) ذكر المفسرون أن كلتا الصيغتين فصيحة، ولا يوجد فارق دلالي بينهما. وإنما تعرف القلة أو الكثرة من دلالة الموصوف وصيغته.
3) هذه الصفة المفردة التي يعترضون على استعمالها هنا، استعملها كتابهم المقدس دالة على القلة، على الرغم من أن هذه كانت هي المرة الوحيدة الذي ذكر فيها هذه المفردة.
التفصيل:
أولا. صفة جمع التكسير المذكر الذي لا يعقل يجوز جعلها كصفة الاسم المؤنث المفرد تارة، وكصفة جمع المؤنث السالم تارة أخرى؛ فيقال: جبال راسية، وجبال راسيات؛ وعلى هذا حتى لو سلمنا جدلا بأن "معدودة" وصف للكثرة، فإن جمع الكثرة وما في معناه يستعمل مكان جمع القلة، وهو أمر معروف في العربية قرره علماؤها[1].
وكان الأولى بهؤلاء بدلا من التشكيك في التعبير القرآني أن يقفوا على جانب بليغ ليس في وسعهم إدراكه، وهو: "معاملة غير العاقل معاملة العاقل أو عدم معاملته"، ووصف الأيام بــ "معدودة" فيما حكاه الله عن اليهود هو وصف لها بما هو لائق بها؛ لأن الأيام لا تعقل فأجرى عليها الوصف الذي لغير العقلاء، وما جاء على الأصل فلا يسأل عن علته.
أما معاملة غير العاقل معاملة العاقل - وهي في النظم القرآني من الكثرة بمكان - فلها دواع بلاغية، ولا يعامل غير العاقل معاملة العاقل إلا بتنزيله منزلة العاقل؛ لداع بلاغي يقتضيه ذلك التنزيل.
وإذا كان القرآن قد عبر في وصف "أياما" في آية البقرة هذه بـ "معدودة" - وهو وصف لغير العاقل - جاريا به على الأصل، فإنه عبر عن وصفها بــ "معدودات" في موضع آخر هو قوله عز وجل: )ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون (24)( (آل عمران).
وإذا دققنا النظر في الآيتين وجدنا آية البقرة مبنية على الإيجاز، )وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة( (البقرة: 80)، ووجدنا آية آل عمران مبنية على الإطناب، )ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات(.
ثانيا. معظم المفسرين يذكرون أن كلتا الصيغتين فصيحة، وأنه لا يوجد فارق دلالي بينهما، وإنما تعرف القلة أو الكثرة من دلالة الموصوف وصيغته.
فلم تتعرض كتب التفسير المشهورة للتفريق في الاستخدام بين الصيغتين، ولم يشر أي منها إلى أن الوصف "معدودة" يعني قلة هذه الأيام، بل إن الروايات التي ينقلها المفسرون تختلف في تقدير هذه الأيام، فبعضها يذكر أنها سبعة، بينما تبلغ بها بعض الروايات الأربعين[2].
وعلى هذين القولين علل ابن جماعة مجيء الوصف تارة بالمفرد "معدودة"، وبالجمع "معدودات"؛ حيث قال: جوابه أن قائلي ذلك من اليهود فرقتان: إحداهما قالت: إنما نعذب بالنار سبعة أيام، وهي عدد أيام الدنيا، وقالت فرقة: إنما نعذب أربعين يوما، وهي أيام عبادتهم العجل، فآية البقرة تحتمل قصد الفرقة الثانية، وآية آل عمران تحتمل قصد الفرقة الأولى[3].
وتنقل هذه الروايات عن اليهود قولهم: "أياما معدودة" فكأن القرآن يحكي ألفاظهم، بل إن إحدى هذه الروايات نقلت بلفظ "معدودة" مرة، وبلفظ معدودات مرة أخرى، مما يشير إلى الترادف التام بين الصيغتين.
ثالثا. هذه الصفة المفردة التي يعترضون على استعاملها هنا، استعملها كتابهم المقدس دالة على القلة.
أما كلمة "معدودات" فلم ترد فيه مطلقا، بينما وردت كلمة "معدودة" مرة واحدة، على لسان أليفاز التيماني مخاطبا النبي أيوب عليه السلام: "الشرير هو يتلوى كل أيامه، وكل عدد السنين المعدودة للعاتي". (أيوب 15: 20)، وواضح أن السياق هنا يحمل دلالة على قصر الفترة التي يقتضيها الظالم في هذه الدنيا.
فإذا كان لهؤلاء طعن على استعمال القرآن لهذه الصيغة في سياقها، فليرجعوا بهذا الطعن أولا إلى كتابهم المقدس الذي استعمل هذا الوصف للدلالة على القلة في الموضع الوحيد الذي ذكر فيه النص العربي.
وإذا وازنت بين صدر آية البقرة: "وقالوا"، وبين صدر آية آل عمران: "ذلك بأنهم قالوا"، تجد أن عبارة "ذلك بأنهم" اشتملت على اسم الإشارة الموضوع للبعيد، الرابط بين الكلامين: السابق عليه، واللاحق به، ثم تجد "الباء" الداخلة على "أن" في "بأنهم"، ثم "إن" التي تفيد التوكيد، ثم ضمير الجماعة "هم".
هذه الأدوات لم يقابلها في آية البقرة إلا واو العطف:"وقالوا"؛ ومن ثم فالمقامان مختلفان؛ أحدهما: إيجاز، والثاني: إطناب. وهذا يبين بكل قوة ووضوح لماذا كانت "معدودة" في آية البقرة؟! و "معدودات" في آية آل عمران؟!
ومن ثم يظهر بجلاء عدم وجود الخطأ اللغوي في القرآن الكريم؛ فهو الكتاب المعجز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
· وهنا نتساءل: لـم عبر القرآن الكريم بلفظ المس، دون غيره مما قد يؤدي معناه كاللمس مثلا؟! وهنا تتجلى روعة التعبير القرآني، وجلال النظم الإلهي المعجز؛ فالمس: اتصال أحد الشيئين بالآخر على وجه الإحساس والإصابة، وذكر الراغب أنه كاللمس، لكن اللمس قد يقال لطلب الشيء، وإن لم يوجد، كقول الشاعر: وألمسه فلا أجده[4].
يقول الشيخ الشعراوي: هنا يكشف الله - عز وجل - فكر هؤلاء الناس، فلقد زين لهم الشيطان الباطل، فجعلهم يعتقدون أنهم كسبوا فعلا، وأنهم أخذوا المال والجاه الدنيوي وفازوا به؛ لأنهم لن يعذبوا في الآخرة إلا عذابا خفيفا قصيرا )وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة( (البقرة: ٨٠).
فالمس: يعني اللمس الخفيف أو اقتراب شيء من شيء، ولكن لا يحس أحدهما بالآخر إلا إحساسا خفيفا، فإذا أتيت إلى إنسان ووضعت أناملك على يده يقال مسسته، ولكنك بهذا المس لم تستطع أن تحس بحرارة يده، أو نعومة جلده، ولكـن اللمـس يعطيـك إحساسـا بمــا تلمـس: )وقالوا لن تمسنا النار إلا أيامـا معـدودة(، وهكذا أخذوا أقل الأقل في العذاب، ثم أقل الأقل في الزمن فقالوا: أياما معدودة، فالشيء إذا قيل عنه معدود فهو قليل، أما الشيء الذي لا يحصى فهو الكثير، ولذلك حين يتحدث الله عن نعمه يقول عز وجل: )وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها( (النحل: ١٨)، فمجرد الإقبال على العد معناه أن الشيء يمكن إحصاؤه، فإن لم يكن ممكنا لا يقبل أحد على عده، فلم نر - مثلا - من حاول عد حبات الرمال أو ذرات الماء، فنعم الله عز وجل ظاهرة وخفية لا يمكن أن تحصى؛ ولذلك لا يقبل أحد على إحصائها، وإذا سمعت عبارة "أياما معدودة" فاعلم أنها أيام قليلة، ولذلك نرى في سورة يوسف قول الله عز وجل: )وشروه بثمن بخس دراهم معدودة( (يوسف: ٢٠).
· لكن، أليس قولهم: )وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة( مما ينافي مقتضى اللمس، فهو لا يتجاوز اللحظة؟! والجواب: أنها أدل على غبائهم، وأبلغ في التعبير عن مطامعهم وأمانيهم التي وضعها الشيطان في عقولهم، ليأتي الرد من الله في قوله عز وجل: )قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده(،أي: إذا كان ذلك وعدا من الله، فالله لا يخلف وعده، والله يأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لهم: لستم أنتم الذين تحكمون وتقررون ماذا سيفعل الله - عز وجل - بكم؟ بل هو - عز وجل - الذي يحكم، فإن كان قد أعطاكم عهدا فالله لا يخلف وعده[5].
· أما قوله تعالى: )أياما معدودة( ففيه لمحة بلاغية أخرى تبرز إعجاز النص القرآني، على عكس ما يتوهم هؤلاء الذين ضعفت سليقتهم اللغوية عن استيعابه، فالمعدودة؛ أي: المحصورة القليلة، وأراد بالمعدودة القليلة؛ لأن العرب - الذين خاطبهم القرآن - لعدم علمهم بالحساب وقوانينه، يتصورون القليل متيسر العدد والكثير متعسر، فقالوا: شيء معدود أي: قليل، وغير معدود؛ أي: كثير، والقول بأن القلة تستفاد من الزمان، ذلك أنه إذا كثر لا يعد بالأيام بل بالشهور، والسنين والقرون.
وبذا يتضح لنا - ولهم إن فطنوا - فساد ما ذهبوا إليه، واشتملت عقولهم عليه من حسبانهم أن القرآن قد أخطأ في أمر بدهي كهذا.
(*) عصمة القرآن وجهالات المبشرين، إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، 2004م. الأخطاء اللغوية في القرآن، إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، د. ت.