توهم مخالفة القرآن الكريم قواعد العربية في عود الضمير جمعا على المفرد(*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المدعين أن القرآن الكريم لم يراع المطابقة بين الضمير والعائد عليه في العدد؛ فقد أعاد ضمير الجمع على المفرد، وذلك في قوله عز وجل: )مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون (17)( (البقرة)؛ حيث عاد الضمير في قوله "بنورهم" جمعا على المفرد وهو لفظ "الذي"، والصواب في ظنهم أن يقال: "ذهب الله بنوره"، أو يقال: "مثلهم كمثل الذين استوقدوا نارا" **.
وجوه إبطال الشبهة:
الأصل في الضمير أن يطابق الاسم الذي يعود عليه في نوعه: التذكير أو التأنيث، وعدده: الإفراد أو التثنية أو الجمع.
ومن لا يتأمل قوله عز وجل: عز وجل: )مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون (17)( (البقرة) يتوهم أن في الآية مخالفة بين الضمير والاسم الموصول الذي يعود عليه؛ وذلك في قوله: "بنورهم" و "تركهم"؛ حيث جاء الضمير جمعا مع عودته على مفرد، والصواب في زعمهم أن يقال: "مثلهم كمثل الذي استوقد نارا، فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنوره، وتركه في ظلمات لا يبصر"؛ ليطابق الضمير الاسم الذي يعود عليه في عدده، ولكن النظم المعجز في الآية الكريمة جاء على خلاف هذا الظاهر، ويمكن الرد على ذلك التوهم بما يلي:
1) إن لفظ "الذي" هنا جاء مفردا في اللفظ، ومعناه على الجمع؛ ولذلك قال تعالى: )ذهب الله بنورهم(، فحمل أول الكلام على الواحد، وآخره على الجمع؛ لذلك فهو اسم يعبر به عن المفرد والجمع؛ كما يقول أهل اللغة.
2) وقيل: إنما وحد "الذي" وما بعده (أي جاء على لفظ المفرد)؛ لأن المستوقد كان واحدا - من جماعة - تولى الإيقاد لهم، فلما ذهب الضوء، رجع الظلام عليهم جميعا.
3) ووجه آخر ذكره ابن عاشور مؤداه أن جمع الضمير في قوله عز وجل: )بنورهم( إنما كان "مراعاة للحال" المشبهة - وهي حال المنافقين - لا للحال المشبه بها - وهي حال المستوقد للنار - على وجه بديع في الرجوع إلى الغرض الأصلي، وهو انطماس نور الإيمان منهم؛ فالضمير في الآية عائد إلى المنافقين، لا إلى اسم الموصول "الذي"[1].
4) ويجوز أن نقول: إن المقصود بـ "بالذي" في الآية ليس شخصا، وإنما المقصود: "الفريق"، ولهذا يقال: الفريق الذي فعل كذا، ولا يقال: الفريق الذين.
5) إن الضمير قد يكون عائدا على محذوف يفهم من سياق الآية، والمعنى: مثل أولئك المنافقين كمثل الذي استوقد نارا لرفاقه، فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم، فيكون الضمير عائدا على محذوف دل عليه سياق الآية، وهم الرفاق، وهو مثل يضرب لإعراض المنافقين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي جاء بالنور والهداية من الله. وبهذا يتبين أنه لا وجه لما تعلق به أصحاب هذه الشبهة، سوى الزعم الواهي وهي بيت العنكبوت.
التفصيل:
أولا. إن "الذي" في الآية مفرد في اللفظ، ومعناه على الجمع؛ ولذلك قال تعالى: )ذهب الله بنورهم( فحمل أول الكلام على الواحد، وآخره على الجمع. والتقدير: مثلهم كمثل الذين استوقدوا نارا، فلما أضاءت ما حولهم، ذهب الله بنورهم.
فلفظة "الذي" مفرد، ومعناها عام لكل ما تشمله صلتها، وقد تقرر في علم الأصول أن الأسماء الموصولة كلها من صيغ العموم، فإذا حققت ذلك فاعلم أن إفراد الضمير باعتبار لفظة "الذي"، وجمعه باعتبار معناها، ولهذا المعنى جرى على ألسنة العلماء أن "الذي" تأتي بمعنى "الذين"؛ ومن أمثلة ذلك في القرآن هذه الآية الكريمة، فقوله: )كمثل الذي استوقد نارا(؛ أي: كمثل الذين استوقدوا: بدليل قوله: )ذهب الله بنورهم وتركهم( (البقرة: 17)، وقوله:)والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون (33)( (الزمر)، وقوله: )وخضتم كالذي خاضوا( (التوبة: ٦٩) بناء على الصحيح من أن "الذي" فيها موصولة لا مصدرية، ونظير هذا من كلام العرب قول الراجز:
يا رب عبس لا تبارك في أحد
في قائم منهم ولا فيمن قعد
إلا الذي قاموا بأطراف المسد
يقصد: الذين قاموا بأطراف المسد.
فاسم الموصول "الذي" في الآية )مثلهم كمثل الذي استوقد نارا( اسم يعبر به عن المفرد والجمع، وهذا الذي أقره أهل اللغة والبيان، ومنه قول الشاعر:
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم
هم القوم كل القوم يا أم خالد
ووجه الدلالة في البيت، عود ضمير الجمع في قوله: "دماؤهم" على اسم الموصول "الذي"، فدل ذلك على أن اسم الموصول "الذي" يعبر به في الاستعمال اللغوي عن المفرد والجمع.
وقال ابن جرير الطبري في تفسيره[2]: وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد، كما قال تعالى: )رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت( (الأحزاب: ١٩)؛ فمثل حال المنافقين، وما هم فيه من خوف وفزع، بحال الذي يعاني سكرات الموت وشدائده.
جاء في البحر المحيط: ونقل عن أبي علي أنه مبهم يجري مـجرى من الموصولة في الوقوع على الواحد والجمع، وقال الأخفش: وهو مفرد ويكون في معنى الجمع[3].
ثانيا. وقيل: إنما وحد "الذي"، وما بعده؛ لأن المستوقد كان واحدا من جماعة، تولى الإيقاد لهم، فلما ذهب الضوء، رجع عليهم جميعا، فقال: "بنورهم" فقد وحد الضمير في "استوقد" ثم حول بعدها؛ نظرا لجانب اللفظ؛ لأن المنافقين كلهم على قول واحد وعلى فعل واحد، وجمع نظرا إلى جانب المعنى وذلك في "بنورهم"، و "تركهم"؛ لكون المقام تقبيحا لأحوالهم، وبيانا لعمههم وضلالهم، فإثبات الحكم لكل فرد منهم واقع، وقد روعي في "استوقد" لفظه، وفي "ذهب الله بنورهم" معناه، والفصيح فيه مراعاة اللفظ أولا ومراعاة المعنى آخرا، كما أن استيقاد النار - أي طلب وقودها - لفعله أو فعل غيره.
ثالثا. جمع الضمير في قوله عز وجل: "بنورهم" إنما كان مراعاة للحال المشبهة، وهي حال المنافقين، لا للحال المشبه بها، وهي حال المستوقد للنار، على وجه بديع في الرجوع إلى الغرض الأصلي، وهو انطماس نور الإيمان منهم؛ فالضمير في الآية عائد إلى المنافقين، لا إلى اسم الموصول "الذي"[4].
ويؤيد هذا، ما قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - في معنى الآية، قال: "نزلت هذه الآية في المنافقين، يقول: مثلهم في نفاقهم، كمثل رجل أوقد نارا في ليلة مظلمة في مفازة، فاستدفأ ورأى ما حوله فاتقى مما يخاف، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره، فبقي في ظلمة حائرا متخوفا؛ فكذلك حال المنافقين، أظهروا كلمة الإيمان وأمنوا بها على أنفسهم وأموالهم وأولادهم، فإذا ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف".
ويقوي هذا أن التمثيل في الآية جمع بين ذكر المشبه وذكر المشبه به، فالمتكلم بالخيار في مراعاة أي الأمرين شاء؛ لأن الوصف لهما، فيكون ذلك الوضع نوعا واحدا في المشبه والمشبه به.
وبناء على ما تقدم، يكون ما في هذه الآية، موافقا لما في الآية بعدها، من قوله تعالى: )يجعلون أصابعهم في آذانهم( (البقرة: ١٩).
رابعا. ولنا أن نقول: إن لفظة "الذي" في الآية ليس المقصود بها الشخص، وإنما تدل على "الفريق"؛ ولهذا يقال: الفريق الذي فعل كذا، ولا يقال: الفريق الذين.
فالأولى أن يقال: إن لفظة "الذي" وقعت وصفا لشيء يفهم الجمع، ثم حذف ذلك الموصوف للدلالة عليه، والتقدير: ومثلهم كمثل الفريق الذي استوقد، أو الجمع الذي استوقد؛ فيكون قد روعي الوصف مرة؛ فعاد الضمير عليه مفردا في قوله: )استوقد نارا( و )حوله(، والموصوف مرة أخرى؛ فعاد الضمير عليه مجموعا في قوله: )بنورهم( و )وتركهم(.
وقيل: إن المنافقين ذاتهم لم يشبهوا بذات المستوقد، وإنما شبهت قصتهم بقصة المستوقد، ومثله قوله: )مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار( (الجمعة: ٥) )ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت( (محمد: ٢٠). وقيل المعنى: ومثل كل واحد منهم، كقوله: )يخرجكم طفلا( (غافر: ٦٧)؛ أي: يخرج كل واحد منكم.
خامسا. وآخر الوجوه التي تبطل بها هذه الشبهة، هو أن يكون الضمير عائدا على محذوف يفهم من سياق الآية، والمعنى: مثل أولئك المنافقين كمثل الذي استوقد نارا لرفاقه، فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنور أولئك الرفاق، فيكون الضمير عائدا على محذوف دل عليه سياق الآية، وهم الرفاق، وهو مثل يضرب لإعراض المنافقين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الذي جاء بالنور والهداية من الله.
ويؤيد هذا الوجه ما ذهب إليه بعض العلماء من تأويل هذا "الذي استوقد نارا": أنه كان واحدا في جماعة معه، استدعي لاستيقاد النار. أي: طلبه، وسعى في تحصيله، فلما أوقدت له النار، وأضاءت ما حوله، واجتمع القوم على ضوئها، ذهب الله بنورهم.
كذلك كان شأن المنافقين وحالهم - مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - كذبا ونفاقا وخداعا، وإفسادا، واستهزاء، فكان أن وقعوا في ضلالتهم التي اشتروها بالهدى، وتخبطوا في مستنقع الحيرة التي أدهشتهم، ولهذا كذبهم الله تعالى بادعائهم الإيمان، وذمهم بأنهم دخلوا في الإيمان، ثم خرجوا منه بقول الله تعالى: )إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون (1) اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون (2) ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون (3)( (المنافقون).
وبذلك يكون الغرض من هذا التمثيل: تشبيه مثل المنافقين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل القوم مع الذي استوقد نارا، وما حصل لهم من إذهاب نورهم؛ لأنهم آثروا الظلمة على النور.
وتقدير الكلام: مثل المنافقين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كمثل قوم اجتمعوا مع غيرهم على ضوء نار، استوقدها رجل منهم، فلما أضاءت ما حوله وحصل لهم نور من ضوء هذه النار، ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون. فحذف من المشبه ما أثبت نظيره في المشبه به، وحذف من المشبه به ما أثبت نظيره في المشبه. وقد طوي ذكر كل منهما اعتمادا على أن الأفهام الصحيحة تستخرج ما بين المشبه والمشبه به من المطابقة برد الكلام إلى أصله على أيسر وجه وأتمه. وهذا من ألطف أنواع البديع.
وبهذا الفهم لمعنى الآية الكريمة يكون قوله تعالى: )الذى استوقد نارا( مثلا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويكون قوله تعالى: )ذهب الله بنورهم وتركهم( مثلا للمنافقين، ويدل على ذلك ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قوله: «إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارا، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، فجعل ينزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم[5] عن النار وأنتم تقحمون[6] فيها»[7]، فمثل - صلى الله عليه وسلم - نفسه برجل استوقد نارا، ومثل الناس الذين لم ينتفعوا بضوء النار بالفراش والدواب التي تقع في النار.
فليس بعد هذا البيان لمدع أن يدعي أن الذي استوقد نارا مثل للمنافق، وأن ناره التي استوقدها خمدت، وكيف يكون منافقا من أضاء بناره الوجود من حوله، ثم يؤخذ بجرم المنافقين؟ وكيف يحكم على ناره، التي استوقدها لهداية الناس بالخمود والانطفاء.. هذه النار التي أوقدها الله تعالى، ليهتدي بنور ضوئها كل موجود في هذا الوجود؟!
وعليه فلا نجد عذرا لمن يدعي هذا الادعاء على القرآن، إلا أنه لا لوم على ضرير في تهمته لضوء الشمس، ولا ضير على الشمس من تهمته، وصدق القائل:
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد
وينكر الفم طعم الماء من سقم
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
· روعة الإعجاز البياني في القرآن الكريم في جمع الضمير في قوله: )بنورهم( مع كونه مفردا في قوله: )ما حوله(، وذلك مراعاة للحال المشبهة - وهي حال المنافقين - لا للحال المشبه بها - وهي حال المستوقد الواحد - على وجه بديع، في الرجوع إلى الغرض الأصلي، فهذا إيجاز بديع. وكأنه قال: فلما أضاءت ذهب الله بناره، فكذلك يذهب الله بنورهم؛ أي: ببصرهم وهي أسلوب لا عهد للعرب بمثله، فهو من أساليب الإعجاز[8].
يقول الطبري: فأما تمثيل الجماعة من المنافقين بالمستوقد الواحد، فإنما جاز لأن المراد من الخبر عن مثل المنافقين الخبر عن مثل استضاءتهم بما أظهروا بألسنتهم من الإقرار بالإيمان الظاهر، وهم لغيره مستبطنون من اعتقاداتهم الرديئة، وخلطهم نفاقهم الباطن بالإقرار بالإيمان الظاهر.
والاستضاءة - وإن اختلفت أشخاص أهلها - معنى واحد، لا معان مختلفة. فالمثل لها في معنى المثل للشخص الواحد، من الأشياء المختلفة الأشخاص، وتأويل ذلك: مثل استضاءة المنافقين - بما أظهروا من الإقرار بالله تعالى وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء به قولا، وهم به مكذبون اعتقاداـ كمثل استضاءة الموقد نارا، ثم أسقط ذكر الاستضاءة، وأضيف المثل إليهم، كما قال نابغة بني جعدة:
وكيف تواصل من أصبحت
خلالته [9] كأبي مرحب
يريد: كخلالة أبي مرحب، فأسقط خلالة؛ إذ كان فيما أظهر من الكلام دلالة لسامعيه على ما حذف منه، فكذلك القول في قوله: )مثلهم كمثل الذي استوقد نارا( لما كان معلوما عند سامعيه بما أظهر من الكلام أن المثل إنما ضرب لاستضاءة القوم بالإقرار دون أعيان أجسامهم حسن حذف ذكر الاستضاءة، وإضافة المثل إلى أهله.
والمقصود بالمثل ما ذكرنا، فلما وصفنا جاز وحسن قوله تعالى: )مثلهم كمثل الذي استوقد نارا(، ويشبه مثل الجماعة في اللفظ بالواحد؛ إذ كان المراد بالمثل الواحد في المعنى.
وأما المراد من الفعل "استوقد" فنتبين فيه حال رجل، قد أحاطت به حلكة الظلام، فهو يطلب جاهدا نارا تضيء له مسالك السبيل، والهمزة والسين والتاء تدل على هذا البحث القوي، والطلب الجاد.
وفي كلمة "أضاءت" ما يدل على أنه قد أوتي أكثر مما يطمح إليه، فلقد كان يبحث عن نار، أياما كانت، فأوتي نارا قوية أضاءت ما حوله، غير أن ذلك لم يلبث أن مضى وزال.
واستخدام "ذهب بالنور" أقوى من "ذهب النور"؛ لأن في التعبير الأول دلالة على أن آخذا أخذ النور ومضى به، فكيف إذا كان الذاهب به هو الله - عز وجل - وفي إضافة النور إليهم ما يشعر بأنهم كانوا قد اطمأنوا إلى النور، وفرحوا به، فيكون الذهاب به أشد إيلاما وأنكى.
وأتى - عز وجل - بكلمة"ظلمات" جمعا؛ ليشير إلى هذا الظلام المتكاثف، والحلكة المتراكمة بعضها فوق بعض، وتأمل بعدئذ هذه الصفات التي خرجوا بها عن أن يكونوا من البشر، بل عن أن يكونوا من الحيوان، ما داموا قد عطلوا مواهبهم، ولم ينتفعوا بها، وكان لنسق هذه الصفات على وزن واحد أثر موسيقى مؤثر[10].
· السر البياني في أنه تعالى قال: )ذهب الله بنورهم( ولم يقل (أذهب الله نورهم)، أو (ذهب نورهم): وهنا تشرق علينا لمحة أخرى من لمحات الإعجاز البياني؛ حيث كان الظاهر أن يقال: أذهب الله نورهم، أو يقال: ذهب الله بنارهم، أو بضوئهم. ولكن الله تعالى، لم يقل هذا ولا ذاك؛ وإنما قال: )ذهب الله بنورهم( فأسند سبحانه الذهاب إليه حقيقة، لا مجازا، واختار النور على النار وضوئها.
أما إسناد الذهاب إليه سبحانه فللدلالة على المبالغة؛ ولذلك عدي الفعل بالباء، دون الهمزة؛ لما فيها من معنى الاستصحاب والاستمساك، وبيان ذلك: أنه إذا قيل: ذهب الشيء، فمعناه: مضى إلى رجعة، أو إلى غير رجعة؛ كقوله تعالى: )وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين (99)( (الصافات). وكقوله تعالى: )فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط (74)( (هود). وإذا قيل: أذهب فلان الشيء، فمعناه: أزاله من الوجود، وجعله ذاهبا، ومنه قوله تعالى: )إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد (19)( (إبراهيم)، فإذا قيل: ذهب فلان بالشيء، يفهم منه: أنه استصحبه معه، وأمسكه عن الرجوع إلى الحالة الأولى التي كان عليها، وكأنه التصق به التصاقا، وليس كذلك: أذهبه، ومنه قوله تعالى عن يوسف عليه السلام: )فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب( (يوسف: ١٥).
فثبت بذلك: أن "ذهب بالشيء" أبلغ من "أذهب الشيء"؛ لأن في التعبير الأول دلالة على أن آخذا أخذ النور، ومضى به، فكيف إذا كان الذاهب به هو الله، وأصلهما جميعا الذهاب الذي هو المضي، وكلاهما متعد إلى المفعول الأول بنفسه، والثاني بوساطة الباء؛ ولهذا لا يجوز القول بزيادة هذه الباء، أو أن المعنى معها وبدونها سواء.
· وأما السر في أنه تعالى قال: )ذهب الله بنورهم(، ولم يقل: "بضوئهم"، أو "بنارهم": فلقد اختار النور على النار وضوئها؛ لأنه المراد من استيقاد النار؛ إذ هو أعظم منافعها، ولكونه الأنسب بحال المنافقين، الذين حرموا الانتفاع والإضاءة، بما جاء من عند الله.
فقد استخدم "أضاءت" ثم "نورهم" ولم يقل بضوئهم؛ لأن هذا من مراعاة النظير، أو من التناسب والائتلاف، مع اقتضاء السياق للفظة ضوئهم: فإن السر في ذكر النور أن الضوء فيه دلالة على الزيادة، ولو قال بضوئهم لأوهم الذهاب بالزيادة، وبقاء ما يسمى نورا، والغرض هو إزالة النور عنهم رأسا وطمسه أصلا.
وعطف: )وتركهم في ظلمات لا يبصرون(على: )ذهب الله بنورهم( فاستفيد من هذا العطف التأكيد والتقرير لانتفاء النور عنهم بالكلية، نظرا لما فيه من ذكر الظلمة المنافية للنور، ثم إيراد ما يدل على أنها ظلمة، لا يتراءى فيها شبحان. والقصد من هذا التأكيد والتقرير زيادة إيضاح الحالة التي صاروا إليها.
أما قوله تعالى: )وتركهم( فهو للإشارة إلى تحقيرهم وعدم المبالاة بهم، لما فيه من معنى الطرح للمتروك.
· ومن اللطائف البديعة أن "الظلمة " حيثما وقعت في القرآن وقعت مجموعة، وأن النور حيثما وقع وقع مفردا، ولعل السبب هو أن الظلمةـ وإن قلت - تستكثر، وأن النورـ وإن كثرـ يستقل ما لم يضر. وأيضا فكثيرا ما يشار بهما إلى نحو الكفر والإيمان. والقليل من الكفر كثير، والكثير من الإيمان قليل، فلا ينبغي الركون إلى قليل من ذاك، ولا الاكتفاء بكثير من هذا.
وفي ذلك تأكيد على أن الظلمات المذكورة هي ظلمة واحدة لا متعددة، ولكنها لشدتها استعير لها صيغة الجمع مبالغة.
وبهذا يتبين أنه لا وجه لما تعلق به أصحاب هذه الشبهة، وأن الكلام مستقيم من أوله إلى آخره، ويأخذ بعضه برقاب بعض؛ فليس بعد هذا البيان لمدع أن يدعي، أو لمتوهم أن يتوهم خطأ في القرآن.
(*)