دعوى تفرد القرآن بالنسخ دون غيره من الكتب السماوية الأخرى(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المغرضين أن حكم النسخ جرى فقط على القرآن الكريم دون سواه من الكتب السماوية، ويستدلون على هذا بقوله سبحانه وتعالى: )ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير (106)( (البقرة)، ويتوهمون أن النسخ لا يجوز في كلام الله الحق؛ لأنه يتعارض مع حكمته تعالى وصدقه وعلمه، ويعللون ما في القرآن من ناسخ ومنسوخ بأنه من فعل محمد - صلى الله عليه وسلم - وفقا لهواه وأطماعه الشخصية.
وجوه إبطال الشبهة:
1) النسخ ليس قاصرا على القرآن الكريم وحده، وإنما وقع في الكتب الدينية السابقة، فقد جاء في التوراة بين أحكامها، ووقع في الإنجيل بين أحكامه.
2) ليس في النسخ منافاة لحكمة الله - عز وجل - وصدقه وعلمه، بل فيه تحقيق لكل ذلك، فهو بيان بالنسبة لله - عز وجل - ورفع بالنسبة لنا لأنه تعالى سبق علمه بأن هذا الحكم مؤقت لا مؤبد.
3) إذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ثبت صدقه قبل أن تنزل عليه الأحكام، ثم ثبت صدقه فيما بلغ من الوحي، فهل ينتفي عنه الصدق في النسخ؟! أي إذا صدق في الأصل فهل يكذب في الفرع؟!
4) اللوح المحفوظ جامع لكل من الناسخ والمنسوخ، فلا يهمل اللوح المحفوظ شيئا ولا يزول منه شيء.
5) إن الآيات التي تضمنت النسخ، سواء أكانت متضمنة الحكم الناسخ أم المنسوخ، فهي قرآن يأخذ خصائص القرآن كلها من إعجاز وتعبد بتلاوته.
6) الله - عز وجل - يقلب الأحكام على المكلفين بوجوه النسخ الثلاثة؛ ليختبرهم في إيمانهم به وعبوديتهم وامتثالهم له، كما يبتلي الله عباده بالمحن والمنح، والرخاء والشدة.
7) الأمثلة التي ذكروها للنسخ لا تمت للنسخ بصلة، وما ذلك إلا نوع من التشويش على القرآن الكريم.
التفصيل:
أولا. وقوع النسخ في الشرائع السماوية السابقة للإسلام:
وأمثلة ذلك كثيرة، نقتصر منها هنا على بعض ما ورد في العهد القديم (التوراة) والعهد الجديد (الإنجيل)؛ حتى يكون ذلك حجة على ما نقوله.
أمثلة ما وقع من النسخ في العهد القديم (التوراة):
· تزوج الإخوة بالأخوات في عهد آدم عليه السلام، وسارة زوجة إبراهيم - عليه السلام - كانت أختا علانية له كما يفهم من قوله في حقها، يقول سفر التكوين: "وبالحقيقة أيضا هي أختي ابنة أبي، غير أنها ليست ابنة أمي، فصارت لي زوجة". (التكوين 20: 12)، والنكاح بالأخت حرام مطلقا في الشريعة الموسوية، سواء كانت الأخت أو علانية، أو خفية، ومساو للزنا، والناكح ملعون، وقتل الزوجين واجب، ففي سفر اللاويين: "عورة أختك بنت أبيك أو بنت أمك، المولودة في البيت أو المولودة خارجا، لا تكشف عورتها". (اللاويين 18: 9)، وفي تفسير دوالي ورجرد مينت في ذيل شرح هذه الفقرة: "مثل هذا النكاح مساو للزنا". وفي سفر اللاويين أيضا: "وإذا أخذ رجل أخته بنت أبيه أو بنت أمه، ورأى عورتها ورأت هي عورته، فذلك عار. يقطعان أمام أعين بني شعبهما. قد كشف عورة أخته. يحمل ذنبه". (اللاويين 20: 17)، وفي سفر التثنية: "ملعون من يضطجع مع أخته بنت أبيه أو بنت أمه. ويقول جميع الشعب: آمين". (التثنية 27: 22).
فلو لم يكن هذا النكاح جائزا في شريعة آدم، وإبراهيم - عليهما السلام - للزم أن يكون الناس كلهم أولاد الزنا، والناكحون زانين، وواجبي القتل وملعونين، فكيف يظن هذا في حق الأنبياء - عليهم السلام - فلا بد من الاعتراف بأنه كان جائزا في شريعتهما ثم نسخ.
· خطاب نوح وأولاده في سفر التكوين: "كل دابة حية تكون لكم طعاما. كالعشب الأخضر دفعت إليكم الجميع". (التكوين 9: 3)؛ فكان جميع الحيوانات حلالا في شريعة نوح كالبقولات، وحرمت في شريعة موسى الحيوانات الكثيرة، منها الخنزير أيضا، كما هو مصرح في سفر التثنية الذي جاء فيه: "لا تأكل رجسا ما. هذه هي البهائم التي تأكلونها: البقر والضأن والمعز والإيل والظبي واليحمور والوعل والرئم والثيتل والمهاة. وكل بهيمة من البهائم تشق ظلفا وتقسمه ظلفين وتجتر فإياها تأكلون. إلا هذه فلا تأكلوها، مما يجتر ومما يشق الظلف المنقسم: الجمل والأرنب والوبر، لأنها تجتر لكنها لا تشق ظلفا، فهي نجسة لكم. والخنزير لأنه يشق الظلف لكنه لا يجتر فهو نجس لكم. فمن لحمها لا تأكلوا وجثثها لا تلمسوا. وهذا تأكلونه من كل ما في المياه: كل ما له زعانف وحرشف تأكلونه. لكن كل ما ليس له زعانف وحرشف لا تأكلوه. إنه نجس لكم. كل طير طاهر تأكلون. وهذا ما لا تأكلون منه: النسر والأنوق والعقاب والحدأة والباشق والشاهين على أجناسه، وكل غراب على أجناسه، والنعامة والظليم والسأف والباز على أجناسه، والبوم والكركي والبجع والقوق والرخم والغواص واللقلق والببغاء على أجناسه، والهدهد والخفاش. وكل دبيب الطير نجس لكم. لا يؤكل. كل طير طاهر تأكلون".
· جمع يعقوب بين الأختين ليئة وراحيل ابنتي خالة كما هو مصرح به في سفر التكوين: "ثم قال لابان ليعقوب: «ألأنك أخي تخدمني مجانا؟ أخبرني ما أجرتك». وكان للابان ابنتان، اسم الكبرى ليئة واسم الصغرى راحيل. وكانت عينا ليئة ضعيفتين، وأما راحيل فكانت حسنة الصورة وحسنة المنظر. وأحب يعقوب راحيل، فقال: «أخدمك سبع سنين براحيل ابنتك الصغرى». فقال لابان: «أن أعطيك إياها أحسن من أن أعطيها لرجل آخر. أقم عندي». فخدم يعقوب براحيل سبع سنين، وكانت في عينيه كأيام قليلة بسبب محبته لها. ثم قال يعقوب للابان: «أعطني امرأتي لأن أيامي قد كملت، فأدخل عليها». فجمع لابان جميع أهل المكان وصنع وليمة. وكان في المساء أنه أخذ ليئة ابنته وأتى بها إليه، فدخل عليها. وأعطى لابان زلفة جاريته لليئة ابنته جارية. وفي الصباح إذا هي ليئة، فقال للابان: «ما هذا الذي صنعت بي؟ أليس براحيل خدمت عندك؟ فلماذا خدعتني؟». فقال لابان: «لا يفعل هكذا في مكاننا أن تعطي الصغيرة قبل البكر. أكمل أسبوع هذه، فنعطيك تلك أيضا بالخدمة التي تخدمني أيضا سبع سنين أخر». ففعل يعقوب هكذا. فأكمل أسبوع هذه، فأعطاه راحيل ابنته زوجة له. وأعطى لابان راحيل ابنته بلهة جاريته جارية لها. فدخل على راحيل أيضا، وأحب أيضا راحيل أكثر من ليئة. وعاد فخدم عنده سبع سنين أخر". (التكوين 29: 15 - 30)، وهذا الجمع حرام في شريعة موسى عليه السلام؛ ففي سفر اللاويين: "ولا تأخذ امرأة على أختها للضر لتكشف عورتها معها في حياتها". (اللاويين 18: 18)، فلو لم يكن الجمع بين الأختين جائزا في شريعة يعقوب للزم أن يكون أولادهما أولاد زنا.
· جاء في الكتاب المقدس أن زوجة عمران كانت عمته: "وأخذ عمرام يوكابد عمته زوجة له. فولدت له هارون وموسى". (الخروج 6: 20)، وقد حرف المترجمون للترجمة العربية تحريفا قصديا لإخفاء العيب، وهذا النكاح حرام في شريعة موسى عليه السلام؛ ففي سفر اللاويين: "عورة أخت أبيك لا تكشف. إنها قريبة أبيك". (اللاويين 18: 12)، وجاء فىه أيضا: "عورة أخت أمك، أو أخت أبيك لا تكشف. إنه قد عرى قريبته. يحملان ذنبهما". (اللاويين 20: 19)، فلو لم يكن هذا النكاح جائزا قبل شريعة موسى، لزم أن يكون موسى وهارون ومريم أختهما من أولاد الزنا، ولزم ألا يدخلوا جماعة الرب إلى عشرة أحقاب، كما هو مصرح به في سفرالتثنية: "لا يدخل ابن زنا في جماعة الرب حتى الجيل العاشر". (التثنية 23: 2)، ولو كانوا هم قابلين للإخراج عن جماعة الرب فمن يكون صالحا لدخولها.
· في سفر إرميا: "ها أيام تأتي، يقول الرب، وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهدا جديدا. ليس كالعهد الذي قطعته مع آبائهم يوم أمسكتهم بيدهم لأخرجهم من أرض مصر، حين نقضوا عهدي فرفضتهم، يقول الرب". (إرميا 31: 31، 32). والمراد من العهد الجديد الشريعة الجديدة. فيفهم أن هذه الشريعة الجديدة تكون ناسخة للشريعة الموسوية. وادعى بولس في رسالته إلى العبرانيين أن هذه الشريعة شريعة عيسى، فعلى اعترافه هذا تكون شريعة عيسى - عليه السلام - ناسخة لشريعة موسى عليه السلام.
وهذه الأمثلة الخمسة لإلزام اليهود والمسيحيين جميعا، ولإلزام المسيحيين أمثلة أخرى منها:
· يجوز في الشريعة الموسوية أن يطلق الرجل امرأته بكل علة، وأن يتزوج رجل آخر بتلك المطلقة بعد ما خرجت من بيت الأول، كما هو مصرح به في سفر التثنية: "إذا أخذ رجل امرأة وتزوج بها، فإن لم تجد نعمة في عينيه لأنه وجد فيها عيب شيء، وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته، ومتى خرجت من بيته ذهبت وصارت لرجل آخر، فإن أبغضها الرجل الأخير وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته، أو إذا مات الرجل الأخير الذي اتخذها له زوجة، لا يقدر زوجها الأول الذي طلقها أن يعود يأخذها لتصير له زوجة بعد أن تنجست. لأن ذلك رجس لدى الرب. فلا تجلب خطية على الأرض التي يعطيك الرب إلهك نصيبا". (التثنية 24: 1 - 4)، ولا يجوز الطلاق في الشريعة العيسوية إلا بعلة الزنا، هكذا لا يجوز لرجل آخر نكاح المطلقة، بل هو بمنزلة الزنا، كما جاء في إنجيل متى، ولما اعترض الفريسيون على عيسى - عليه السلام - في هذه المسألة قال في جوابهم: "قد سمعتم أنه قيل للقدماء: لا تزن. وأما أنا فأقول لكم: إن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها، فقد زنى بها في قلبه. فإن كانت عينك اليمنى تعثرك فاقلعها وألقها عنك، لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يلقى جسدك كله في جهنم. وإن كانت يدك اليمنى تعثرك فاقطعها وألقها عنك، لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يلقى جسدك كله في جهنم. وقيل: من طلق امرأته فليعطها كتاب طلاق. وأما أنا فأقول لكم: إن من طلق امرأته إلا لعلة الزنا يجعلها تزني، ومن يتزوج مطلقة فإنه يزني". (متى 5: 27 - 32، متى 19: 7 - 9)؛ نعلم من جوابه أنه ثبت النسخ في هذا الحكم مرتين، مرة في الشريعة الموسوية ومرة في شريعته، وأنه قد ينزل الحكم تارة موافقا لحال المكلفين وإن لم يكن حسنا في نفس الأمر.
· كانت الحيوانات الكثيرة محرمة في الشريعة الموسوية، ونسخت حرمتها في الشريعة العيسوية وثبتت الإباحة العامة بفتوى بولس؛ ففي رسالة بولس إلى أهل الرومية: "إني عالم ومتيقن في الرب يسوع أن ليس شيء نجسا بذاته، إلا من يحسب شيئا نجسا، فله هو نجس". (رسالة بولس إلى أهل رومية 14: 14)، وفي رسالته إلى تيطس هكذا: "كل شيء طاهر للطاهرين، وأما للنجسين وغير المؤمنين فليس شيء طاهرا، بل قد تنجس ذهنهم أيضا وضميرهم". (رسالة بولس إلى أهل تيطس 1: 15).
إن كل شيء نجس لم يحسبه نجسا، وجميع الأشياء طاهرة للطاهرين، عجيبتان في الظاهرة، لعل بني إسرائيل لم يكونوا طاهرين فلم تحصل لهم هذه الإباحة العامة، ولما كان المسيحيون طاهرين حصل لهم الإباحة العامة، وصار كل شيء طاهرا لهم، وكان مقدسهم جاهدا في إشاعة حكم الإباحة العامة، ولذلك كتب إلى تيموثاوس في الإصحاح الرابع من رسالته الأولى: "لأن كل خليقة الله جيدة، ولا يرفض شيء إذا أخذ مع الشكر، لأنه يقدس بكلمة الله والصلاة. إن فكرت الإخوة بهذا، تكون خادما صالحا ليسوع المسيح، متربيا بكلام الإيمان والتعليم الحسن الذي تتبعته". (رسالة بولس الأولى إلى أهل تيموثاوس 4: 4 - 6).
· كان تعظيم السبت حكما أبديا في الشريعة الموسوية، وما كان لأحد أن يعمل فيه أدنى عمل، وكان من عمل فيه عملا ومن لم يحافظه واجبي القتل، وقد تكرر بيان هذا الحكم والتأكيد عليه في كتب العهد القديم في مواضع كثيرة، منها: "بارك الله اليوم السابع وقدسه، لأنه فيه استراح من جميع عمله الذي عمل الله خالقا". (التكوين 2: 3)، "اذكر يوم السبت لتقدسه. ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك، وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك. لا تصنع عملا ما أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك. لأن في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل ما فيها، واستراح في اليوم السابع. لذلك بارك الرب يوم السبت وقدسه". (الخروج 20: 8 - 11)، وكذا في: (الخروج 23: 2، الخروج 34: 21، إشعياء 58: 13).
وفي سفر الخروج هكذا: "وكلم الرب موسى قائلا: وأنت تكلم بني إسرائيل قائلا: سبوتي تحفظونها، لأنه علامة بيني وبينكم في أجيالكم لتعلموا أني أنا الرب الذي يقدسكم، فتحفظون السبت لأنه مقدس لكم. من دنسه يقتل قتلا. إن كل من صنع فيه عملا تقطع تلك النفس من بين شعبها. ستة أيام يصنع عمل، وأما اليوم السابع ففيه سبت عطلة مقدس للرب. كل من صنع عملا في يوم السبت يقتل قتلا. فيحفظ بنو إسرائيل السبت ليصنعوا السبت في أجيالهم عهدا أبديا. هو بيني وبين بني إسرائيل علامة إلى الأبد. لأنه في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض، وفي اليوم السابع استراح وتنفس". (الخروج 31: 12ـ 17).
وفي سفر الخروج: "ستة أيام يعمل عمل، وأما اليوم السابع ففيه يكون لكم سبت عطلة مقدس للرب. كل من يعمل فيه عملا يقتل. لا تشعلوا نارا في جميع مساكنكم يوم السبت ". (الخروج 35: 2، 3)، وفي سفر العدد: "ولما كان بنو إسرائيل في البرية وجدوا رجلا يحتطب حطبا في يوم السبت. فقدمه الذين وجدوه يحتطب حطبا إلى موسى وهارون وكل الجماعة. فوضعوه في المحرس لأنه لم يعلن ماذا يفعل به. فقال الرب لموسى: «قتلا يقتل الرجل. يرجمه بحجارة كل الجماعة خارج المحلة». فأخرجه كل الجماعة إلى خارج المحلة ورجموه بحجارة، فمات كما أمر الرب موسى". (العدد 15: 32 - 36).
وكان اليهود المعاصرون للمسيح - عليه السلام - يؤذونه ويريدون قتله لأجل عدم تعظيم السبت، ففي إنجيل يوحنا: "فقال قوم من الفريسيين: هذا الإنسان ليس من الله، لأنه لا يحفظ السبت". (يوحنا 9: 16). وإذا علمت هذا أقول: إن مقدسهم بولس نسخ هذه الأحكام، وبين أن هذه الأشياء كلها كانت إضلالا، وذلك في رسالته إلى أهل كولوسي: "فلا يحكم عليكم أحد في أكل أو شرب، أو من جهة عيد أو هلال أو سبت، التي هي ظل الأمور العتيدة، وأما الجسد فللمسيح". (رسالة بولس إلى أهل كولوسي 2: 16، 17). وفي تفسير دوالي ورجرد مينت ذيل شرح الفقرة السادسة عشرة هكذا: "قال بركت وداكتروت بي" كانت - أي الأعياد - في اليهود على ثلاثة أقسام في كل سنة، وفي كل شهر شهر وفي كل أسبوع أسبوع، فنسخت هذه كلها، بل يوم السبت أيضا، وأقيم سبت المسيحيين مقامه.
وقال بشب هارسلي ذيل شرح الفقرة المذكورة: "زال سبت كنيسة اليهود وما مشي المسيحيون في عمل سبتهم على رسوم طفولية الفريسيين". وفي تفسير هنري واسكات: "إذ نسخ عيسى شريعة الرسومات، ليس لأحد أن يلزم الأقوال الأجنبية بسبب عدم لحاظها". قال ياسونر وليا: "فإنه لو كانت محافظة يوم السبت واجبة على جميع الناس، وعلى جميع أقوام الدنيا، لما أمكن نسخها قط، كما نسخت الآن حقيقة، ولكان يلزم على المسيحيين أن يحافظوه طبقة بعد طبقة، كما فعلوا في الابتداء لأجل تعظيم اليهود ورضاهم"، وما ادعى مقدسهم بولس من كون الأشياء المذكورة إضلالا لا يناسب عبادة التوراة؛ لأن الله بين علة حرمة الحيوانات: "لا تدنسوا نفوسكم بالبهائم والطيور، ولا بكل ما يدب على الأرض مما ميزته لكم ليكون نجسا. وتكونون لي قديسين لأني قدوس أنا الرب، وقد ميزتكم من الشعوب لتكونوا لي". (اللاويين 20: 25، 26)، وبين علة عيد الفطير "بأني أخرج جيوشكم من أرض مصر فاحفظوا هذا اليوم إلى أجيالكم سنة إلى الدهر" كما هو مصرح به في الإصحاح الثاني عشر من سفر الخروج، وبين علة عيد الخيام هكذا: "لتعلم أجيالكم أني أجلست بني إسرائيل في الخيام إذ أخرجتهم من أرض مصر" كما هو مصرح به في الإصحاح الثالث والعشرين من سفر الأخبار، وبين في مواضع متعددة علة تعظيم السبت: "فأكملت السماوات والأرض وكل جندها. وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل. فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل. وبارك الله اليوم السابع وقدسه، لأنه فيه استراح من جميع عمله الذي عمل الله خالق". (التكوين 2: 1 - 3).
· حكم الختان كان أبديا في شريعة إبراهيم - عليه السلام - كما هو مصرح به في سفر التكوين: "وقال الله لإبراهيم: «وأما أنت فتحفظ عهدي، أنت ونسلك من بعدك في أجيالهم. هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم، وبين نسلك من بعدك: يختن منكم كل ذكر، فتختنون في لحم غرلتكم، فيكون علامة عهد بيني وبينكم. ابن ثمانية أيام يختن منكم كل ذكر في أجيالكم: وليد البيت، والمبتاع بفضة من كل ابن غريب ليس من نسلك. يختن ختانا وليد بيتك والمبتاع بفضتك، فيكون عهدي في لحمكم عهدا أبديا. وأما الذكر الأغلف الذي لا يختن في لحم غرلته فتقطع تلك النفس من شعبها. إنه قد نكث عهدي»". (التكوين 17: 9 - 14)، ولذلك بقي هذا الحكم في أولاد إسماعيل وإسحاق - عليهما السلام - وبقي في شريعة موسى عليه السلام؛ ففي سفر اللاويين: "وكلم الرب موسى قائلا: كلم بني إسرائيل قائلا: إذا حبلت امرأة وولدت ذكرا، تكون نجسة سبعة أيام. كما في أيام طمث علتها تكون نجسة. وفي اليوم الثامن يختن لحم غرلته". (اللاويين 12: 1ـ 3)، وختن عيسى - عليه السلام - أيضا كما هو مصرح به في إنجيل لوقا: "ولما تمت ثمانية أيام ليختنوا الصبي سمي يسوع، كما تسمى من الملاك قبل أن حبل به في البطن". (لوقا 2: 21). وفي المسيحيين إلى هذا الحين صلاة معينة يؤدونها في يوم ختان عيسى - عليه السلام - تذكرة لهذا اليوم، وكان هذا الحكم باقيا إلى عروج عيسى - عليه السلام - وما نسخ، بل نسخه الحواريون في عهدهم كما هو مشروح في الإصحاح الخامس عشر من أعمال الحواريين، ويشدد مقدسهم بولس في نسخ هذا الحكم تشديدا بليغا في رسالته إلى أهل غلاطية هكذا: "ها أنا بولس أقول لكم: إنه إن اختتنتم لا ينفعكم المسيح شيئا! لكن أشهد أيضا لكل إنسان مختتن أنه ملتزم أن يعمل بكل الناموس. قد تبطلتم عن المسيح أيها الذين تتبررون بالناموس. سقطتم من النعمة. فإننا بالروح من الإيمان نتوقع رجاء بر. لأنه في المسيح يسوع لا الختان ينفع شيئا ولا الغرلة[1]، بل الإيمان العامل بالمحبة". (رسالة بولس إلى أهل غلاطية 5: 2 - 6)، وفيها أيضا: "لأنه في المسيح يسوع ليس الختان ينفع شيئا ولا الغرلة، بل الخليقة الجديدة". (رسالة بولس إلى أهل غلاطية 6: 15).
· أحكام الذبائح كانت كثيرة وأبدية في شريعة موسى، وقد نسخت كلها في الشريعة العيسوية.
· الأحكام الكثيرة المختصة بآل هارون من الكهانة واللباس وقت الحضور للخدمة، وغيرها كانت أبدية، وقد نسخت كلها في الشريعة العيسوية.
· نسخ الحواريون بعد المشاورة التامة جميع الأحكام العملية للتوراة إلا أربعة: ذبيحة الصنم والدم والمخنوق والزنا فأبقوا حرمتها وأرسلوا كتابا إلى الكنائس، وهو منقول في أعمال الرسل هكذا: "إذ قد سمعنا أن أناسا خارجين من عندنا أزعجوكم بأقوال، مقلبين أنفسكم، وقائلين أن تختتنوا وتحفظوا الناموس، الذين نحن لم نأمرهم. رأينا وقد صرنا بنفس واحدة أن نختار رجلين ونرسلهما إليكم مع حبيبينا برنابا وبولس، رجلين قد بذلا نفسيهما لأجل اسم ربنا يسوع المسيح. فقد أرسلنا يهوذا وسيلا، وهما يخبرانكم بنفس الأمور شفاها. لأنه قد رأى الروح القدس ونحن، أن لا نضع عليكم ثقلا أكثر، غير هذه الأشياء الواجبة: أن تمتنعوا عما ذبح للأصنام، وعن الدم، والمخنوق، والزنا، التي إن حفظتم أنفسكم منها فنعما تفعلون. كونوا معافين". (أعمال الرسل 15: 24ـ 29). وإنما أبقوا حرمة هذه الأربعة لئلا يتنفر اليهود الذين دخلوا في الملة المسيحية عن قريب - وكانوا يحبون أحكام التوراة ورسومها - تنفرا تاما، ثم لما رأى مقدسهم بولس بعد هذا الزمان أن هذه الرعاية ليست بضرورية نسخ حرمة الثلاثة الأولى بفتوى الإباحة العامة، وعليه اتفاق جمهور البروتستانت، فما بقي من أحكام التوراة العملية إلا الزنا، ولما لم يكن فيه حد في الشريعة العيسوية، فهو منسوخ من هذا الوجه أيضا، فقد حصل الفراغ من هذه الشريعة من نسخ جميع الأحكام العملية التي كانت في الشريعة الموسوية أبدية كانت أو غير أبدية.
· في رسالة بولس إلى أهل غلاطية: "مع المسيح صلبت، فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا في. فما أحياه الآن في الجسد، فإنما أحياه في الإيمان، إيمان ابن الله، الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي. لست أبطل نعمة الله. لأنه إن كان بالناموس بر، فالمسيح إذا مات بلا سبب!". (رسالة بولس إلى أهل غلاطية 2: 20، 21). قال داكتر همند في ذيل شرح الفقرة العشرين: "خلصني ببذل روحه لأجلي عن شريعة موسى"، وقال في شرح الفقرة الحادية والعشرين: "استعمل هذا العتق لأجل ذلك، ولا أعتمد في النجاة على شريعة موسى، ولا أفهم أن أحكام موسى ضرورية؛ لأنه يجعل إنجيل المسيح كأنه بلا فائدة"، وقال داكتروت بي في ذيل شرح الفقرة الحادية والعشرين: "ولو كان كذا فاشترى النجاة بموته ما كان ضروريا، وما كان في موته حس ما"، وقال يايل: "لو كان شريعة اليهود تعصمنا وتنجينا فأية ضرورة كانت لموت المسيح، ولو كانت الشريعة جزاء لنجاتنا فلا يكون موت المسيح لها كافيا"، فهذه الأقوال كلها ناطقة بحصول الفراغ من شريعة موسى ونسخها.
· في رسالة بولس إلى أهل غلاطية: "لأن جميع الذين هم من أعمال الناموس هم تحت لعنة، لأنه مكتوب: «ملعون كل من لا يثبت في جميع ما هو مكتوب في كتاب الناموس ليعمل به». ولكن أن ليس أحد يتبرر بالناموس عند الله فظاهر، لأن «البار بالإيمان يحيا». ولكن الناموس ليس من الإيمان، بل «الإنسان الذي يفعلها سيحيا بها». المسيح افتدانا من لعنة الناموس، إذ صار لعنة لأجلنا، لأنه مكتوب: «ملعون كل من علق على خشبة»". (رسالة بولس إلى أهل غلاطية 3: 10ـ 13)، وقد قال لارد معلقا على هذه الفقرات: "الظن أن مراد الحواري ههنا المعنى الذي يعلمه كثير، يعني: نسخت الشريعة أو صارت بلا فائدة بموت المسيح وصلبه"، ثم قال أيضا: "بين الحواري صراحة في هذه المواضع أن منسوخية أحكام الشريعة الرسومية نتيجة موت عيسى".
وجاء في هذه الرسالة أيضا: "ولكن قبلما جاء الإيمان كنا محروسين تحت الناموس، مغلقا علينا إلى الإيمان العتيد أن يعلن. إذا قد كان الناموس مؤدبنا إلى المسيح، لكي نتبرر بالإيمان. ولكن بعد ما جاء الإيمان، لسنا بعد تحت مؤدب". (رسالة بولس إلى أهل غلاطية 3: 23ـ 25)، فصرح مقدسهم "أنه لا طاعة لأحكام التوراة بعد الإيمان بعيسى عليه السلام". وفي تفسير دوالي ورجرد مينت قول دين استان هوب هكذا: "نسخ رسومات الشريعة بموت عيسى وشيوع إنجيله".
· في رسالة بولس إلى أهل أفسس: "أي العداوة. مبطلا بجسده ناموس الوصايا في فرائض، لكي يخلق الاثنين في نفسه إنسانا واحدا جديدا، صانعا سلاما". (رسالة بولس إلى أهل أفسس 2: 15).
· جاء في الرسالة إلى العبرانيين: "لأنه إن تغير الكهنوت، فبالضرورة يصير تغيرا للناموس أيضا". (الرسالة إلى العبرانيين 7: 12)، ففي هذه الفقرة إثبات التلازم بين تبدل الإمامة وتبدل الشريعة، فإن قال المسلمون أيضا - نظرا إلى هذا التلازم - بنسخ الشريعة العيسوية فهم مصيبون في قولهم لا مخطئون، في تفسير دوالي ورجرد مينت ذيل شرح هذه الفقرة قول داكتر سيكنائت هكذا: "بدلت الشريعة قطعا بالنسبة إلى أحكام الذبائح والطهارة وغيرها"؛ أي: رفعت.
· جاء في الرسالة السابقة أيضا: "فإنه يصير إبطال الوصية السابقة من أجل ضعفها وعدم نفعها". (الرسالة إلى العبرانيين 7: 18)، فهذه الفقرة تصرح بأن نسخ أحكام التورة لأجل أنها كانت ضعيفة بلا فائدة في تفسير هنري واسكات: "رفعت الشريعة والكهانة اللتان لا يحصل منها التكميل، وقام كاهن وعفو جديد يكمل منهما المصدقون الصادقون".
· وجاء فىها أيضا: "لأني أكون صفوحا عن آثامهم، ولا أذكر خطاياهم وتعدياتهم في ما بعد». فإذ قال «جديدا» عتق الأول. وأما ما عتق وشاخ فهو قريب من الاضمحلال". (الرسالة إلى العبرانيين 8: 12، 13)، ففي هذا القول تصريح بأن أحكام التوراة كانت معيبة، وقابلة للنسخ لكونها عتيقة بالية، في تفسير دوالي ورجرد مينت في ذيل شرح الفقرة الثالثة عشرة قول يايل هكذا: "هذا ظاهر جدا أن الله - عز وجل - يريد أن ينسخ العتيق الأقصر بالرسالة الجديدة الحسنى، فلذلك يرفع المذهب الرسومي اليهودي ويقوم المذهب المسيحي مقامه".
· وجاء فىها أيضا: "ثم قال: «هنذا أجيء لأفعل مشيئتك يا الله». ينزع الأول لكي يثبت الثاني". (الرسالة إلى العبرانيين 10: 9). وفي تفسير دوالي ورجرد مينت في شرح الفقرة الثامنة والتاسعة قول يايل هكذا: "استدل الحواري في هاتين الفقرتين وفيهما إشعار بكون ذبائح اليهود غير كافية؛ ولذا تحمل المسيح على نفسه الموت ليجبر نقصانها، ونسخ بفعل أحدهما استعمال الآخر".
فظهر للبيب من الأمثلة المذكورة أمور هي:
1. نسخ بعض الأحكام في الشريعة اللاحقة ليس مختصا بشريعتنا، بل وجد في الشرائع السابقة أيضا.
2. أن الأحكام العملية للتوراة كلها، أبدية كانت أو غير أبدية - نسخت في الشريعة العيسوية.
3. أن لفظ النسخ أيضا موجود في كلام مقدسهم بالنسبة إلى التوراة وأحكامها.
4. أن مقدسهم أثبت الملازمة بين تبدل الإمامة وتبدل الشريعة.
5. أن مقدسهم يدعي أن الشيء العتيق البالي قريب من الفناء، فأقول لما كانت الشريعة العيسوية بالنسبة إلى الشريعة المحمدية عتيقة فلا استبعاد في نسخها، بل هو ضروري على وفق الأمر الرابع.
وقد عرفت في الأمثلة السابقة أن مقدسهم ومفسريهم استعملوا ألفاظا غير ملائمة بالنسبة إلى التوراة بالمعنى المصطلح عندنا، إلا في الأحكام التي صرح فيها أنها أبدية، أو يجب رعايتها دائما طبقة بعد طبقة، لكن هذا الإشكال لا يرد علينا؛ لأنا لا نسلم أولا أن هذه التوراة هي التوراة المنزلة أو تصنيف موسى، ولا نسلم ثانيا أنها غير مصونة عن التحريف، ونقول ثالثا إلزاما بأن الله قد يظهر له بدءا وندامة عما أمر أو فعل فيرجع عنه، كذلك يعد وعدا دائما ثم يخلف وعده، وهذا الأمر الثالث نقوله إلزاما فقط؛ لأنه يفهم من كتب العهد العتيق هكذا من مواضع كما ستعرف عن قرب.
ونحن وجميع علماء أهل السنة بريئون ومتبرئون من هذه العقيدة الفاسدة، نعم يرد هذا الإشكال عن المسيحيين الذين يعترفون بأن هذه التوراة كلام الله، ومن تصنيف موسى ولم تحرف، والندامة والبدء محالان في حق الله، والتأويل الذي يذكرونه في الألفاظ المذكورة بعيد عن الإنصاف وركيك جدا؛ لأن المراد بهذه الألفاظ في كل شيء يكون بالمعنى الذي يناسبه، مثلا: إذا قيل لشخص معين إنه دائما يكون كذا، فلا يكون المراد بالدوام ههنا، إلا المدة الممتدة إلى آخر عمره؛ لأنا نعلم بديهة أنه لا يبقى إلى فناء العالم وقيام القيامة، وإذا قيل لقوم عظيم يبقى إلى فناء العالم، ولو تبدلت أشخاصه، في كل طبقة بعد طبقة، أنهم لا بد أن يفعلوا كذا دائما طبقة بعد طبقة أو إلى الأبد، أو إلى آخر الدهر، فيفهم منه الدوام إلى فناء العالم بلا شبهة، وقياس أحدهما على الآخر مستبعد جدا، ولذلك علماء اليهود يستبعدون تأويلهم سلفا وخلفا، وينسبون الاعتساف والغواية إليهم.
ما جاء من النسخ في العهد الجديد (الإنجيل):
· أن الله أمر إبراهيم - عليه السلام - بذبح إسحاق عليه السلام، ثم نسخ هذا الحكم قبل العمل، كما هو مصرح به في سفر التكوين: " وحدث بعد هذه الأمور أن الله امتحن إبراهيم، فقال له: «يا إبراهيم!». فقال: «هأنذا». فقال: «خذ ابنك وحيدك، الذي تحبه، إسحاق، واذهب إلى أرض المريا، وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك». فبكر إبراهيم صباحا وشد على حماره، وأخذ اثنين من غلمانه معه، وإسحاق ابنه، وشقق حطبا لمحرقة، وقام وذهب إلى الموضع الذي قال له الله. وفي اليوم الثالث رفع إبراهيم عينيه وأبصر الموضع من بعيد، فقال إبراهيم لغلاميه: «اجلسا أنتما ههنا مع الحمار، وأما أنا والغلام فنذهب إلى هناك ونسجد، ثم نرجع إليكما». فأخذ إبراهيم حطب المحرقة ووضعه على إسحاق ابنه، وأخذ بيده النار والسكين. فذهبا كلاهما معا. وكلم إسحاق إبراهيم أباه وقال: «يا أبي!» فقال: «هأنذا يا ابني». فقال: «هوذا النار والحطب، ولكن أين الخروف للمحرقة؟» فقال إبراهيم: «الله يرى له الخروف للمحرقة يا ابني». فذهبا كلاهما معا. فلما أتيا إلى الموضع الذي قال له الله، بني هناك إبراهيم المذبح ورتب الحطب وربط إسحاق ابنه ووضعه على المذبح فوق الحطب. ثم مد إبراهيم يده وأخذ السكين ليذبح ابنه. فناداه ملاك الرب من السماء وقال: «إبراهيم! إبراهيم!». فقال: «هأنذا» فقال: «لا تمد يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئا، لأني الآن علمت أنك خائف الله، فلم تمسك ابنك وحيدك عني». فرفع إبراهيم عينيه ونظر وإذا كبش وراءه ممسكا في الغابة بقرنيه، فذهب إبراهيم وأخذ الكبش وأصعده محرقة عوضا عن ابنه. فدعا إبراهيم اسم ذلك الموضع «يهوه يرأه». حتى إنه يقال اليوم: في جبل الرب يرى". (التكرين 1 - 14).
· أنه نقل قول نبي من الأنبياء في حق عالي الكاهن في سفر صموئيل الأول: "لذلك يقول الرب إله إسرائيل: إني قلت إن بيتك وبيت أبيك يسيرون أمامي إلى الأبد. والآن يقول الرب: حاشا لي! فإني أكرم الذين يكرمونني، والذين يحتقرونني يصغرون. هوذا تأتي أيام أقطع فيها ذراعك وذراع بيت أبيك حتى لا يكون شيخ في بيتك. وترى ضيق المسكن في كل ما يحسن به إلى إسرائيل، ولا يكون شيخ في بيتك كل الأيام. ورجل لك لا أقطعه من أمام مذبحي يكون لإكلال عينيك وتذويب نفسك. وجميع ذرية بيتك يموتون شبانا. وهذه لك علامة تأتي على ابنيك حفني وفينحاس: في يوم واحد يموتان كلاهما".
فكان وعد الله أن منصب الكهانة يبقى في بيت عالي الكاهن وبيت ابنه، ثم أخلف وعده ونسخه، وأقام كاهنا آخر، في تفسير دوالي ورجرد مينت قول الفاضل باترك هكذا: "ينسخ الله ههنا حكما كان وعده وأقر به بأن رئيس الكهنة يكون منكم إلى الأبد، أعطى هذا المنصب لعازار الولد الأكبر لهارون: ثم أعطى تامار الولد الأصغر لهارون، ثم انتقل الآن بسبب ذنب أولاد عالي الكاهن إلى أولاد العازار، فوقع الخلف في وعد الله مرتين إلى زمان بقاء الشريعة الموسوية، وأما الخلف الذي وقع في هذا الباب عند ظهور الشريعة العيسوية مرة ثالثة، فهذا لم يبق أثرا ما لهذا المنصب، لا في أولاد العازار، ولا في أولاد تامارا، الوعد الذي كان للعازار، وهو مصرح به في سفر العدد هكذا: "لذلك قل: هأنذا أعطيه ميثاقي ميثاق السلام، فيكون له ولنسله من بعده ميثاق كهنوت أبدي، لأجل أنه غار لله وكفر عن بني إسرائيل". (العدد 25: 12، 13). ولا يتحير الناظر من خلف وعد الله على مذاق أهل الكتاب؛ لأن كتب العهد العتيق ناطقة به، وبأن الله يفعل أمرا ثم يندم، فقد جاء في المزمور التاسع والثمانين قول داود - عليه السلام - في خطاب الله - عز وجل - هكذا: "نقضت عهد عبدك نجست تاجه في التراب". (المزمور 89: 39)، فيقول داود عليه السلام: "نقضت عهد عبدك".
وفي سفر التكوين هكذا: "فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض، وتأسف في قلبه. فقال الرب: «أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته، الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء، لأني حزنت أني عملتهم»". (التكوين 6: 6، 7)، وفي المزمور الخامس بعد المائة هكذا: "فأخرج شعبه بابتهاج، ومختاريه بترنم. وأعطاهم أراضي الأمم، وتعب الشعوب ورثوه، لكي يحفظوا فرائضه ويطيعوا شرائعه". (المزمور 105: 43 - 45). وفي سفر صموئيل الأول قول الله هكذا: "ندمت على أني قد جعلت شاول ملكا، لأنه رجع من ورائي ولم يقم كلامي». فاغتاظ صموئيل وصرخ إلى الرب الليل كله". (صموئيل الأول 15: 11)، وفىه أيضا: "ولم يعد صموئيل لرؤية شاول إلى يوم موته، لأن صموئيل ناح على شاول. والرب ندم لأنه ملك شاول على إسرائيل". (صوئيل الأول 15: 35).
وههنا خدشة يجوز لنا أن نوردها إلزاما فقط: وهي أنه لما ثبتت الندامة في حق الله، وثبت أنه ندم على خلق الإنسان، وعلى جعل شاول ملكا، فيجوز أن يكون قد ندم على إرسال المسيح - عليه السلام - بعد ما أظهر دعوى الألوهية، على ما هو زعم أهل التثليث؛ لأن هذه الدعوى من البشر الحادث أعظم جرما من عدم إطاعة شاول أمر الرب، وكما لم يكن الله واقفا على أن شاول يعصي أمره، فكذا يجوز أن يكون واقفا على أن المسيح - عليه السلام - يدعي الألوهية، وإنما قلت هذا إلزاما فقط؛ لأنا لا نعتقد بفضل الله ندامة الله ولا ادعاء المسيح - عليه السلام - الألوهية، بل عندنا ساحة الألوهية، وكذا ساحة نبوة المسيح - عليه السلام - صافيتان عن قمامة هذه الكدورات والمنكرات.
· جاء في حزقيال: "وطعامك الذي تأكله يكون بالوزن. كل يوم عشرين شاقلا. من وقت إلى وقت تأكله. وتشرب الماء بالكيل، سدس الهين، من وقت إلى وقت تشربه. وتأكل كعكا من الشعير. على الخرء الذي يخرج من الإنسان تخبزه أمام عيونهم». وقال الرب: «هكذا يأكل بنو إسرائيل خبزهم النجس بين الأمم الذين أطردهم إليهم». فقلت: «آه، يا سيد الرب، ها نفسي لم تتنجس. ومن صباي إلى الآن لم آكل ميتة أو فريسة، ولا دخل فمي لحم نجس». فقال لي: «انظر. قد جعلت لك خثي البقر بدل خرء الإنسان، فتصنع خبزك عليه»". (حزقيال 4: 10 - 15)، أمر الله أولا بأن "تلطخه بزبل[2] يخرج من الإنسان"، ثم لما استغاث حزقيال - عليه السلام - نسخ هذا الحكم قبل العمل، فقال: "أعطيتك زبل البقر عوض رجيع الناس".
· في سفر اللاويين: "وكلم الرب موسى قائلا: «كلم هارون وبنيه وجميع بني إسرائيل وقل لهم: هذا هو الأمر الذي يوصي به الرب قائلا: كل إنسان من بيت إسرائيل يذبح بقرا أو غنما أو معزى في المحلة، أو يذبح خارج المحلة، وإلى باب خيمة الاجتماع لا يأتي به ليقرب قربانا للرب أمام مسكن الرب، يحسب على ذلك الإنسان دم. قد سفك دما. فيقطع ذلك الإنسان من شعبه". (اللاويين 17: 1 - 4)، وفي سفر التثنية: "فأما إن شئت أن تأكل وتستلذ بأكل اللحم فاذبح وكل بالبركة التي أعطاك الرب إلهاك في قراك... إلخ، وإذا أوسع الرب إلهك تخومك مثل ما قال لك وأردت أن تأكل اللحم ما تشتهيه نفسك، وكان بعيد المكان الذي اصطفاك الرب إلهك ليكون اسمه هناك فاذبح من البقر والغنم الذي لك كما أمرتك وكل في قراك، كما تريد كما يؤكل من الظبي والإبل هكذا فتأكلون منها جميعا طاهرا كان أو غير طاهر"؛ فنسخ حكم سفر اللاويين بحكم سفر التثنية، وقد علق هورن على هذه الفقرات قائلا: "في هذين الموضعين تناقض من الظاهر، لكن إذا لوحظ أن الشريعة الموسوية كانت تزداد وتنقص على وقف حال بني إسرائيل، وما كانت بحيث لا يمكن تبديلها فالتوجيه في غاية السهولة".
ثم قال: "نسخ موسى في السنة الأربعين من هجرتهم قبل دخول فلسطين ذلك الحكم - أي حكم سفر اللاويين - بحكم سفر الاستثناء نسخا صريحا، وأمر أنه يجوز لهم بعد دخول فلسطين، أن يذبحوا البقر والغنم في أي موضع شاءوا ويأكلوا.
فاعترف بنسخ الحكم المذكور، وأن الشريعة الموسوية كانت تزاد وتنقص على وفق حال بني إسرائيل، فالعجب من أهل الكتاب أنهم يعترضون على مثل هذه الزيادة والنقصان في شريعة أخرى، ويقولون إنه مستلزم لجهل الله.
· ينص سفر العدد على أن خدام قبة العهد لا بد ألا يكونوا أنقص من ثلاثين، وأزيد من خمسين: "من ابن ثلاثين سنة فصاعدا إلى ابن خمسين سنة، كل داخل في الجند ليعمل عملا في خيمة الاجتماع... من ابن ثلاثين سنة فصاعدا إلى ابن خمسين سنة، كل الداخلين ليعملوا عمل الخدمة وعمل الحمل في خيمة الاجتماع". (العدد 4: 3 - 47)، وجاء في هذا السفر أيضا ألا يكونوا أنقص من خمس وعشرين وأزيد من خمسين: "هذا ما للاويين: من ابن خمس وعشرين سنة فصاعدا يأتون ليتجندوا أجنادا في خدمة خيمة الاجتماع. ومن ابن خمسين سنة يرجعون من جند الخدمة ولا يخدمون بعد". (العدد 8: 24، 25).
· في سفر اللاويين أن فداء خطأ الجماعة ثور واحد: "وكلم الرب موسى قائلا: «كلم بني إسرائيل قائلا: إذا أخطأت نفس سهوا في شيء من جميع مناهي الرب التي لا ينبغي عملها، وعملت واحدة منها، إن كان الكاهن الممسوح يخطئ لإثم الشعب، يقرب عن خطيته التي أخطأ ثورا ابن بقر صحيحا للرب، ذبيحة خطية. يقدم الثور إلى باب خيمة الاجتماع أمام الرب، ويضع يده على رأس الثور، ويذبح الثور أمام الرب". (اللاويين 4: 1 - 4)، وفي سفر العدد أنه لا بد أن يكون ثورا مع لوازمه وجديا: "وفي رؤوس شهوركم تقربون محرقة للرب: ثورين ابني بقر، وكبشا واحدا، وسبعة خراف حولية صحيحة، وثلاثة أعشار من دقيق ملتوت بزيت تقدمة لكل ثور. وعشرين من دقيق ملتوت بزيت تقدمة للكبش الواحد. وعشرا واحدا من دقيق ملتوت بزيت تقدمة لكل خروف. محرقة رائحة سرور وقودا للرب. وسكائبهن تكون نصف الهين للثور، وثلث الهين للكبش، وربع الهين للخروف من خمر. هذه محرقة كل شهر من أشهر السنة. وتيسا واحدا من المعز ذبيحة خطية للرب. فضلا عن المحرقة الدائمة يقرب مع سكيبه. (العدد 28: 11 - 15)، فنسخ سفر العدد سفر اللاويين.
· أمر الله - عز وجل - في سفر التكوين أن يدخل في الفلك اثنان اثنان من كل جنس الحيوانات طيرا كان أو بهيمة مع نوح عليه السلام: "ولما كان نوح ابن ستمائة سنة صار طوفان الماء على الأرض، فدخل نوح وبنوه وامرأته ونساء بنيه معه إلى الفلك من وجه مياه الطوفان. ومن البهائم الطاهرة والبهائم التي ليست بطاهرة، ومن الطيور وكل ما يدب على الأرض: دخل اثنان اثنان إلى نوح إلى الفلك، ذكرا وأنثى، كما أمر الله نوحا". (التكوين 7: 6ـ 9). ويعلم من السفر المذكور أيضا أنه يدخل سبع سبع ذكر وأنثى من البهائم الطاهرة، ومن الطيور مطلقا ومن البهائم غير الطاهرة اثنان اثنان: "وقال الرب لنوح: «ادخل أنت وجميع بيتك إلى الفلك، لأني إياك رأيت بارا لدي في هذا الجيل. من جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعة سبعة ذكرا وأنثى. ومن البهائم التي ليست بطاهرة اثنين: ذكرا وأنثى. ومن طيور السماء أيضا سبعة سبعة: ذكرا وأنثى. لاستبقاء نسل على وجه كل الأرض". (التكوين 7: 1ـ 3)، ثم يعلم من الإصحاح المذكور أنه دخل من كل جنس اثنان اثنان، فنسخ هذا الحكم مرتين.
· في سفر الملوك الثاني: "في تلك الأيام مرض حزقيا للموت، فجاء إليه إشعيا بن آموص النبي وقال له: «هكذا قال الرب: أوص بيتك لأنك تموت ولا تعيش». فوجه وجهه إلى الحائط وصلى إلى الرب قائلا: «آه يا رب، اذكر كيف سرت أمامك بالأمانة وبقلب سليم، وفعلت الحسن في عينيك». وبكي حزقيا بكاء عظيما. ولم يخرج إشعيا إلى المدينة الوسطى حتى كان كلام الرب إليه قائلا: «ارجع وقل لحزقيا رئيس شعبي: هكذا قال الرب إله داود أبيك: قد سمعت صلاتك. قد رأيت دموعك. هأنذا أشفيك. في اليوم الثالث تصعد إلى بيت الرب. وأزيد على أيامك خمس عشرة سنة»". (الملوك الثاني 20: 1ـ 6)، فأمر الله حزقيا على لسان إشعياء بأن أوص على بيتك لأنك ميت، ثم نسخ هذا الحكم قبل أن يصل إشعياء إلى وسط الدار بعد تبليغ الحكم، وزاد على عمره خمس عشرة سنة.
· في إنجيل متى: "هؤلاء الاثنا عشر أرسلهم يسوع وأوصاهم قائلا: «إلى طريق أمم لا تمضوا، وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا. بل اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة»". (متى 10: 5، 6)، وجاء فىه أيضا: "لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة". (متى 15: 24). وبناء على هذه النصوص كان عيسى - عليه السلام - يخصص رسالته إلى بني إسرائيل، وجاء على لسانه في إنجيل مرقس: "وقال لهم: "اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها". (مرقس 16: 15)؛ فالحكم الأول منسوخ بالثاني.
· في إنجيل متى: "حينئذ خاطب يسوع الجموع وتلاميذه قائلا: «على كرسي موسى جلس الكتبة والفريسيون، فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وافعلوه". (متى 23: 1ـ 3)؛ فحكم بأن كل ما قالوا لكم فافعلوه، ولا شك أنهم يقولون بحفظ جميع الأحكام العملية للتوراة، لا سيما الأبدية على زعمهم، وكلها منسوخة في الشريعة العيسوية، فهذا الحكم منسوخ ألبتة، والعجب من علماء البروتستانت أنهم يوردون في رسائلهم هذه الآيات تغليطا لعوام أهل الإسلام، مستدلين بها على بطلان النسخ في التوراة، فيلزم أن يكونوا واجبي القتل؛ لأنهم لا يعظمون السبت، وناقض تعظيمه - على حكم التوراة - واجب القتل.
· في إنجيل لوقا قول المسيح عليه السلام: "لأن ابن الإنسان لم يأت ليهلك أنفس الناس، بل ليخلص. فمضوا إلى قرية أخرى". (لوقا 9: 56)، ومثله في إنجيل يوحنا: "لأنه لم يرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم، بل ليخلص به العالم". (يوحنا 3: 17)، "وإن سمع أحد كلامي ولم يؤمن فأنا لا أدينه، لأني لم آت لأدين العالم، بل لأخلص العالم". (يوحنا 12: 47)، ووقع في رسالة بولس الثانية إلى أهل تسالونيكي: "وحينئذ سيستعلن الأثيم، الذي الرب يبيده بنفخة فمه، ويبطله بظهور مجيئه". (رسالة بولس الثانية إلى أهل تسالونيكي 2: 8)؛ فالقول الثاني ناسخ للأول.
وقد علم من هذه الأمثلة السابقة أن نسخ أحكام الإنجيل واقع بالفعل، وظهر أيضا أن ما نقل عن المسيح - عليه السلام - في قوله: "السماء والأرض تزولان ولكن كلامي لا يزول. (متى 24: 35، ولوقا 21: 33) ليس المراد به أن قولا من أقوالي وحكما من أحكامي لا ينسخ، وألا يلزم تكذيب إنجيلهم. بل المراد بقوله "كلامي" هو الكلام المعهود الذي أخبر عن الحادثات التي تقع بعده، وهي مذكورة قبل هذا القول في الإنجيلين، فالإضافة في قوله "كلامي" للعهد لا للاستغراق، وحمل مفسروهم أيضا هذا القول على ما قلت في تفسير دوالي ورجرد مينت في ذيل شرح عبارة إنجيل متى هكذا: "قال القسيس بيروس: مراده أنه تقع الأمور التي أخبرت بها يقينا"، وقال دين استاين هوب: "إن السماء والأرض وإن كانتا غير قابلتين للتبديل بالنسبة إلى الأشياء الأخرى، لكنهما ليستا بمحكمتين مثل إحكام إخباري بالأمور التي أخبرت بها فتلك كلها تزول، وإخباري بالأمور التي أخبرت بها لا تزول، بل القول الذي قلته الآن لا يتجاوز شيئا عن مطلبه"، فالاستدلال بهذا القول ضعيف جدا.
وإذا عرفت أمثلة القسمين ما بقي لك شك من وقوع النسخ بكلا قسميه في الشريعة الموسوية والعيسوية، وظهر أن ما يدعيه أهل الكتاب من امتناع النسخ باطل لا ريب فيه، فكيف لا والمصالح قد تختلف باختلاف الزمان والمكان والمكلفين، فبعض الأحكام يكون مقدورا للمكلفين في بعض الأوقات، ولا يكون مقدورا في بعض آخر، ويكون بعضها مناسبا لبعض المكلفين دون بعض، ألا ترى أن المسيح - عليه السلام - قال مخاطبا للحواريين: "إن لي أمورا كثيرة أيضا لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. وأما متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية". (يوحنا 16: 12، 13)، وقال للأبرص الذي شفاه: "لا تقول لأحد. بل اذهب أر نفسك للكاهن، وقدم القربان الذي أمر به موسى شهادة لهم". (متى 8: 4)، "ولما جاء إلى البيت تقدم إليه الأعميان، فقال لهما يسوع: «أتؤمنان أني أقدر أن أفعل هذا؟» قالا له: «نعم، يا سيد!» حينئذ لمس أعينهما قائلا: «بحسب إيمانكما ليكن لكما». فانفتحت أعينهما. فانتهرهما يسوع قائلا: «انظرا، لا يعلم أحد!»". (متى 9: 28 - 30)، "أخرج - عيسى عليه السلام - الجميع خارجا، وأمسك بيدها ونادى قائلا: «يا صبية، قومي!». فرجعت روحها وقامت في الحال. فأمر أن تعطى لتأكل. فبهت والداها. فأوصاهما أن لا يقولا لأحد عما كان". (لوقا 8: 54ـ 56)، وأمر الرجل الذي أخرج الشياطين منه أن يرجع إلى بيته ويخبر بما صنع الله به: "أما الرجل الذي خرجت منه الشياطين فطلب إليه أن يكون معه، ولكن يسوع صرفه قائلا: «ارجع إلى بيتك وحدث بكم صنع الله بك». فمضى وهو ينادي في المدينة كلها بكم صنع به يسوع". (لوقا 8: 38، 39)[3].
ويستدلون على نفي النسخ بقول المسيح: "لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل. فإني الحق أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل". (متى 5: 17، 18)، ونرد عليهم بالآتي: إن هذا الكلام منه - عليه السلام - محمول على أن رسالته جزء لا يتجزأ من رسالات الرسل، فهو جاء متمما ومكملا، فالرسل جميعا أصحاب دعوة واحدة، والعقائد وأصول العبادات، ومكارم الأخلاق وتجنب الفواحش ورذائل الأخلاق - كل هذه التقت عليها جميع الشرائع، وكل رسول جاء ليكمل ما بناه السابقون.
ولهذا الكلام نظائره في القرآن والسنة، مثل قوله سبحانه وتعالى: )شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى( (الشورى: 13)، وقوله: )وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين( (البينة: 5)، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن مثلي مثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بني بيتا، فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين».[4] وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» [5].
وهذا الناموس الإلهي قانون لا يتبدل، كما قال سبحانه وتعالى: )فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا (43)( (فاطر). أما تغيير الأحكام العملية التي تقبل التغيير تبعا لاختلاف أحوال الناس واختلاف حاجاتهم فليس في ذلك نقضا لسنن الله ونواميس كونه، سواء كانت هذه الأحكام بين شريعة وأخرى أم في شريعة واحدة، وقد جاء على لسان عيسى - عليه السلام - في القرآن: )ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم( (آل عمران: 50).
ثانيا. ليس في النسخ منافاة لحكمة الله - عز وجل - وصدقه وعلمه، بل فيه تحقيق لكل ذلك:
من العيوب التي رتبها الزاعمون على النسخ: الزعم أن الناسخ والمنسوخ ضد حكمة الله - عز وجل - وصدقه وعلمه، فالإنسان القصير النظر هو الذي يضع قوانين ويغيرها ويبدلها، بحسب ما يبدو له من أحوال وظروف، لكن الله يعلم بكل شيء قبل حدوثه، فكيف يقال إن الله يغير كلامه ويبدله، وينسخه ويزيله، أليس من الأوفق أن ننزه الله فنقول: "ليس في النسخ منافاة لحكمته وصدقه وعلمه تعالى، بل فيه تحقيق لكل ذلك:
فالنسخ: عبارة عن استبدال حكم شرعي، بحكم شرعي آخر، اقتضى ذلك مراعاة أحوال الناس؛ لتكون الأحكام الشرعية مواكبة لأحوال الناس المختلفة. وكلا الحكمين الناسخ والمنسوخ في علم الله عز وجل، فالله - عز وجل - حينما شرع السابق، علم أزلا أنه سيستمر إلى أن ينسخه بحكم لاحق، وإن لم يخبر عباده بذلك، وقد عرفنا أن النسخ لا يتناول القوانين والسنن التي لا تتبدل ولا تتحول.
هب أن طبيبا كتب لمريضه دواء يتناوله إلى أن يأتيه في زيارة لاحقة، فأعطاه لاحقا ما يتناسب مع حالته المتغيرة، فالطبيب بهذا محقق لقانون كلي وهو أن لكل داء دواء، فلكل حالة ما يناسبها من الدواء.
وإن كان الطبيب بالنسبة لمريضه يحدث له علم متجدد بتغير حالة مريضه، فإن الأمر بالنسبة لله - عز وجل - مختلف، فهو يعلم أزلا تغير الأحوال وتعاقبها على عباده، ولكل حالة ما يناسبها من الأحكام، فالنسخ "تبديل في المعلوم لا في العلم، وتغيير في المخلوق لا في الخالق، وكشف لنا، وبيان عن بعض ما سبق به علم الله القديم المحيط بكل شيء" [6].
ثالثا. النبي - صلى الله عليه وسلم - أبعد ما يكون عن الكذب، فقد ثبت صدقه - صلى الله عليه وسلم - قبل أن تنزل الأحكام المتضمنة الناسخ والمنسوخ:
يزعم المتوهم أن الناسخ والمنسوخ يفتح باب الكذب والادعاء، فإذا قال مدعي النبوة قولا وظهر خطؤه، أو إذا اعترض سامعوه عليه قال: إنه منسوخ، ويأتي بقول آخر: )فينسخ الله ما يلقي الشيطان( (الحج: 52)، كما ينسخ إله محمد ما يلقيه عليه من قرآن، يقصد قوله سبحانه وتعالى: )ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها( (البقرة: 106).
وللرد على هذه الفرية نقول: إن النبي ثبت صدقه قبل أن تنزل عليه الأحكام المتضمنة الناسخ والمنسوخ، ثبت صدقه بكل دلائل الصدق: بسيرته بين الناس، واعتراف الكفار بصدقه، وأمانته، وبالمعجزات التي أجراها الله على يديه، وبالآية الخالدة - القرآن العظيم، فهو أبعد ما يكون عن الكذب، والناسخ والمنسوخ من الأحكام موجه لمن آمن به لا للمكذب، فالناسخ والمنسوخ لا يرد من استقر في قلبه الإيمان عن إيمانه، وعدم مجيء الناسخ والمنسوخ لا يرد من أصر على الكفر عن كفره: )وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله( (البقرة: 143).
ومدعي النبوة كذبا كذاب بما شرع قبل الناسخ والمنسوخ، وبما جاء بعدهما.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق الأمين المبلغ عن ربه لا ينطق عن الهوى، فهو يبلغ عن الله الحكم الناسخ كما بلغ عنه قبل الحكم المنسوخ، ولو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفتري ذلك على الله لحقق بكل حكم منسوخ مصلحة شخصية له سعى إليها، وسوغ بذلك لكنه لم يعرف عنه ذلك حتى من قبل أعدائه.
رابعا. إن اللوح المحفوظ جامع لكل من الناسخ والمنسوخ، فلا يهمل اللوح المحفوظ شيئا، ولا يزول منه شيء:
يثير بعض المشككين إشكالا متوهما وهو أن محمدا اعتبر الناسخ والمنسوخ من نفس كلام الله، فهل كان المنسوخ كلاما إلهيا مكتوبا في اللوح المحفوظ؟ وكيف يسمح الله لكلامه العزيز بالزوال والإهمال؟ وإلا فلماذا كتب؟
إن اللوح المحفوظ جامع لكل من الناسخ والمنسوخ، فلا يهمل اللوح المحفوظ شيئا، ولا يزول منه شيء: )يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب (39)( (الرعد)، وهذا يشبه ما يضمه اللوح المحفوظ من تقلبات الكون من ليل ونهار، وصيف وشتاء، وحرارة وبرودة، وتعاقب الأقدار على الناس من غنى وفقر، وقوة وضعف، وصحة ومرض: )ما فرطنا في الكتاب من شيء( (الأنعام: 38).
خامسا. إن الآيات التي تضمنت النسخ سواء أكانت متضمنة الحكم الناسخ أم المنسوخ فهي قرآن يأخذ خصائص القرآن كلها من إعجازه والتعبد بتلاوته:
يتوهم بعضهم أن القرآن الكريم بعد استبعاد السور التي شملها النسخ، سواء ما حمل منها ناسخا دون المنسوخ أو العكس، أو ما شملهما معا يئول أمره إلى كراسة صغيرة، ومع هذا يدعون أنه المعجزة الكبرى.
ونقول لهذا ولأمثاله: إن وجود نسخ في سورة لا يجردها من قرآنيتها، فالسورة التي ورد بها آية أو آيتان أو آيات فيها نسخ - لا يلغيها ورود ذلك من حسبانها قرآنا، بل الآية والآيات التي تضمنت النسخ سواء أكانت متضمنة الحكم الناسخ أم المنسوخ؛ فهي قرآن يأخذ خصائص القرآن كله، من إعجاز وتعبد بتلاوتها وتحد بها، فيبقى القرآن قرآنا بكل آياته، وسوره ما دخله النسخ منه وما لم يدخله، وهذه الآيات المنسوخ حكمها أمامه تتحدى المتوهم وأمثاله من المعاندين المكابرين، فليأتوا بمثلها إن كانوا صادقين.
سادسا. الله - عز وجل - يقلب الأحكام على المكلفين بوجوه النسخ الثلاثة؛ ليختبرهم في إيمانهم بالله وعبوديتهم له، كما يبتلي الله عباده بالمحن والمنح، والرخاء والشدة:
يتساءل بعضهم عن النوع الثالث من النسخ، وهو نسخ التلاوة وبقاء الحكم قائلا: لماذا يكلفنا الله أن نعمل بآية غير موجودة؟ ألم يكن الأولى أن تبقى في كتابه حتى يحاسبنا بمقتضاها؟
وردا على ذلك نقول: إن الآية المنسوخ تلاوتها الباقي حكمها - لا تكون كذلك إلا إذا قامت قرينة على بقاء الحكم ونسخ التلاوة، مثل رجم الزناة المحصنين، فكانت سنة النبي العملية دليلا على بقاء الحكم، وكفاها قرينة ودليلا.
وفي وجود الأنواع الثلاثة من النسخ، بما فيها نسخ التلاوة مع بقاء الحكم - تقليب وجوه البلاء على العبد حتى يختبر في عبوديته لله، فالوجوه الثلاثة: ما نسخ حكما وتلاوة أو حكما فقط - أو تلاوة فقط هي كل الوجوه المحتملة عقلا، فهي تتقلب على المكلفين حتى يختبروا في إيمانهم بالله وعبوديتهم وامتثالهم له، كما يبتلي الله عباده بالمحن والمنح، والرخاء والشدة، فالمؤمن يتمثل في كل الأحوال وتظهر عبوديته لله رب العالمين، كما قال تعالى في شأن تحويل القبلة: )وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه( (البقرة: 143)".
سابعا. الأمثلة التي ذكرها الزاعمون عن النسخ لا تمت للنسخ بصلة، وإنما اتخذوها مطعنا ومدخلا لترويج إفكهم:
مما لا يتفق ومنهجية البحث العلمي السليم - أن يمحور الباحث فكرة في عقله مسبقة لا تستند إلى دليل يعتمد عليه، ثم يذهب يصدر أحكاما باطلة ويلتمس أدلة واهية[7] بناء على هذه الفكرة المسبقة الفاسدة هذه، والحال التي ذكرناها هي التي نحن بصددها الآن، فقد ذهب بعض الواهمين يذكر أمثلة لآيات ناسخة لآيات منسوخة، وعندما لم يجد مغمزا في هذه الآيات يلجأ إلى آيات أخرى يتخذ منها مطعنا ومدخلا لترويج إفكهم تحت ما يسمونه الأسباب الحقيقية.
فمثالهم الأول: يذكرون فيه قوله سبحانه وتعالى: )يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير( (البقرة: 217):
فيتوهمون أن هذه الآية ناسخة دون أن يذكروا الآية المنسوخة؛ ولأنهم فهموا منها أنها تأذن بالقتال في الشهر الحرام، لنزولها بعدما ذكروه من حدث سرية عبد الله بن جحش الأسدي ظنوا أنها ناسخة لتحريم القتال في الشهر الحرام. بينما الآية تنص على تحريم القتال في الشهر الحرام، ومعنى قوله سبحانه وتعالى: )قل قتال فيه كبير(، أي من المعاصي والكبائر، وكلام العلماء في كونها منسوخة، لا كونها ناسخة[8].
أما تصويره لحدث سرية عبد الله بن جحش على أنه أعطى خمس ما استلبه من القرشيين للنبي - صلى الله عليه وسلم - وكأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا هم له إلا قطع الطريق على الناس، ببعث أعوانه ليحملوا إليه حصته!! ثم لما عير القرشيون المسلمين بارتكاب القتال في الشهر الحرام أسكتهم وأرضى أصحابه، وسوغ سلبه أموال القرشيين بهذه الآية، فهذا تصوير فاحش، وتلفيق غريب لا يستند إلى دليل ولا يحتكم إلى برهان.
إن فهم هذا وغيره للآية مضحك، وتفسيرهم للحديث مضحك أكثر، فهم فهموا كلمة "كبير" التي وصف بها "قتال" أو أخبر عنه بها على أنه قتال ضخم!! ولم يلتفتوا إلى أن الآية تقول: )يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل( (البقرة: 217) أي: ما ارتكبه القرشيون من عظائم أكبر مما ارتكبه المسلمون، فهم صدوا عن سبيل الله، وكفروا بالله وأخرجوا أهله وهم المسلمون منه.
وخلاصة القصة التي نزلت الآية بسببها، والتي يستخدمها هؤلاء المتوهمون للغمز والهمز خلاصتها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل عبد الله بن جحش على رأس سرية من أصحابه إلى واد بين مكة والطائف، يسمى نخلة، فلما وصلوا اعترضوا قافلة لقريش محملة بالطعام والتجارة، وهم مع قريش في حالة حرب منذ أن أخرجوا من ديارهم وأموالهم، فالاعتراض على القافلة وأخذ ما فيها - ما هو إلا استرداد لبعض حقهم المسلوب، وليس سلبا ولا نهبا كما يصور هؤلاء.
هنالك تشاور المسلمون، وقالوا: نحن في آخر يوم من رجب، لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم، فليمتنعن منكم به، فترددوا ثم أجمعوا على مقاتلتهم، وقتلوا وأسروا وغنموا، وعزلوا الخمس حتى قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما فعلوا، وعابت قريش ذلك وأنكرته، وزعموا أنهم قد وجدوا فيما فعله المسلمون مقالا، فقالوا: قد أحل محمد الشهر الحرام، واشتد ذلك على المسلمين حتى أنزل الله تعالى الآية: )يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل( (البقرة: 217) [9].
ومثالهم الثاني: هو تحول النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيت المقدس إلى المسجد الحرام:
فيزعمون أنه فعل ذلك لكي يستميل العرب إليه، ولكي لا يتحولوا إلى اليهودية التي كان يقدس قبلتها، فحكم النسخ هنا ليس حسب المشيئة الإلهية الثابتة، بل حسب هوى محمد ورضاه.
نرد على هذا فنقول: إن الثابت من سيرته - صلى الله عليه وسلم - أنه رفض الاستجابة لقريش عندما أرادوا إثناءه[10]عن دعوته، وعرضوا عليه من العروض ما لو كان هدفه استمالتهم لاستجاب لهم من أول الأمر، وإذا كان هدفه مجرد استمالتهم فلم لم يتوجه إلى المسجد الحرام من أول الأمر؟!! أما كان يخشى على العرب من البداية أن يتحولوا إلى اليهودية من أول ما اتجه إلى بيت المقدس، وقد مضى على ذلك ستة عشر شهرا بعد هجرته؟
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة يجمع بين القبلتين: الكعبة وبيت المقدس، حيث صلى بين الركنين، فلما هاجر تعذر عليه ذلك، وكان يكثر الدعاء والابتهال أن يتوجه إلى الكعبة قبلة إبراهيم - عليه السلام - فاستجاب الله له[11].
ومثالهم الثالث: هو قصة زيد بن حارثة، وزينب بنت جحش:
والآية التي تتحدث عن هذا الموضوع هي قوله سبحانه وتعالى: )وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا (37)( (الأحزاب)، لا تدخل في عداد الناسخ والمنسوخ، فليست ناسخة لآية سابقة.
ولكن الله - عز وجل - لما أبطل التبني بقوله عز وجل: )وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل (4)( (الأحزاب)، وقوله: )ادعوهم لآبائهم( (الأحزاب: 5)، أراد - عز وجل - أن يبطل الآثار المترتبة عليه، ومنها تحريم الزواج من زوجة الابن بالتبني، فشرع الله - عز وجل - إباحة الزواج من زوجة المتبنى؛ لأنه ليس ابنا على الحقيقة، وكان ذلك في صورة عملية في شخص النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يعد زيد بن حارثة الذي كان ينسب إليه فيقال: زيد بن محمد ابنا له، ومن ثم تحل له زوجته زينب.
أما قوله - عز وجل - عن رسوله: )أمسك عليك زوجك واتق الله( (الأحزاب: 37)، فإن معناه أن زيدا الذي زوجه النبي بابنة عمته زينب، وهي من الأشراف وزيد من الخدم، فكان زيد يشعر بالجفوة من زينب بسبب عدم التكافؤ الاجتماعي، فكان يشكو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوحي إليه أنه سيتزوج بزينب تحقيقا لحكمة إبطال التبني وآثاره، وقد حدد الله - عز وجل - السبب في الآية بما لا يدع مجالا للتخرص[12] والظن فقال سبحانه وتعالى: )لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا( (الأحزاب: ٣٧).
ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخفي هذا الأمر ولا يجاهر به لأحد، ولا عيب أن يحافظ النبي - صلى الله عليه وسلم - على سمعته أن يخدشها أحد في مجتمع يتربص به الدوائر ويتتبع له العثرات، فهو يحاول أن يفوت على الانتهازيين أي فرصة للتشويه والتشويش، ولكن الله - عز وجل - يرده إلى أنه - عز وجل - سيظهر هذا الأمر مهما حاول النبي - صلى الله عليه وسلم - كتمانه، وأن الله - عز وجل - أحق بالخشية، وهو توجيه وتثبيت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقوية له.
وما لفقه الكذابون من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخفى رغبة الزواج من زينب حين رأها واشتهاها فهذا افتراء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكذبه الواقع.
فهل كانت زينب غائبة عنه، وهي التي تعيش معه في مكة في قريش، وهي ابنة عمته، ولو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرغب فيها لرغب فيها وهو شاب يبحث عن الزواج لا في شيخوخته، ولو كان قد تقدم للزواج منها في شبابه لما رفضت وهو يشبهها في الشرف ونضارة الشباب، لكنه آثر أن يزوجها لمولاه وخادمه على شرفها ليقاوم هذه الفوارق الطبقية، ولينشر تعاليم الإسلام التي تسوى بين أبناء آدم، ولا تفرق بينهم إلا على أساس العمل الصالح: )إن أكرمكم عند الله أتقاكم( (الحجرات: 13). بطريقة عملية[13].
ومثالهم الرابع: هو قوله سبحانه وتعالى: )أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم( (البقرة: 187)، التي فهموها ناسخة لحكم سابق هي بدورها ليست ناسخة، فإذا كانت ناسخة فأين الآية المنسوخة؟
إن الآية تقضي بإباحة المعاشرة الزوجية في ليلة الصيام، والسبب في النص على إباحة ذلك - أن الصحابة بعد أن شرعت فريضة الصوم كانوا يتحرجون من إتيان النساء في ليالي رمضان، ظنا منهم أن ذلك من تتمة الصوم، وكان ذلك شاقا على بعضهم، مما جعلهم يخالفون ما أخذوا أنفسهم به، فالآية جاءت تذكر لهم إباحة ما ظنوه محرما، فأزالت من نفوسهم التحرج والتأثم[14].
ومثالهم الخامس هو: قوله سبحانه وتعالى: )يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم (1)( (التحريم):
هذه الآية لا علاقة لها بالناسخ والمنسوخ، ولكنهم يؤلفون ناسخا ومنسوخا على هواهم، ليقولوا: إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - يبيح لنفسه وأصحابه ما شاء، ويتقلب في تصرفاته، والتسويغ حاضر جاهز؛ لأن هذا التحليل من الله، وأن اللاحق نسخ السابق.
إن آيات سورة التحريم تنقل صورة حية من بيت النبوة، الذي يمتلئ بالزوجات الضرائر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يدرك ببصيرته النافذة الاعتبارات الفطرية والاجتماعية التي لها أثر على نسائه، مهما كان موقعهن كزوجات للنبي وأمهات للمؤمنين، فهن في نهاية الأمر وقبل كل شيء نساء ضرائر، وينظرن إلى مارية على أنها ملك يمين وليست زوجة، وهن الحرائر الزوجات النسيبات الحسيبات، فإذا استرضى النبي حفصة ليخفف حدة التوتر في بيته؛ فذلك يبرهن على حكمته - صلى الله عليه وسلم - في معالجته الأزمات.
لكن الأمر إذا تجاوز حدود حفصة ومارية إلى بقية أزواجه - صلى الله عليه وسلم - فعلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتخذ موقفا حاسما رادعا، وهذا ما حدث، فقد آلى على نفسه ألا يقرب زوجاته اللائي اشتركن في توسيع دائرة هذه الأزمة، وبعد أن أخذت الحكمة البشرية في شخص النبي حظها وحقها في معالجة الموقف، تدخلت العناية الإلهية بتشريع للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولأمته فيما لو وجد مثل ذلك الأمر من الإيلاء[15] بأن يكفر عن يمينه ويراجع زوجته: )قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم (2)( (التحريم)[16].
ومثالهم السادس: هو قوله سبحانه وتعالى: )ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين (5)( (الحشر):
هذه الآية أيضا ليست من قبيل الآيات الناسخة كذلك، ولكنها قضت بحكم استثنائى يتناسب مع هذا الحدث، ولا يخلو قانون دولة من أحكام استثنائية تفرضها حالات استثنائية خاصة. وفي حصار بني النضير أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يوقع الضعف في نفوسهم، وهو يعرف - من حالهم - حبهم الشديد للمال، فأمر بقطع بعض نخيلهم وترك بعضها، وهي أجود النخيل "وقطع النخيل يخزيهم بالحسرة على قطعه، وتركه يخزيهم بالحسرة على فوته وإرادة الله وراء هذا وذاك على السواء"[17]. ولما قال يهود بني النضير لرسول الله: إنك تنهى عن التخريب والتحريق فكيف تفعل ذلك؟
يقولون هذا وهم يتجاهلون التخريب والتدمير والتآمر الذي يحاولون به اجتثاث الإسلام والمسلمين[18]، بدءا من نبي الإسلام وانتهاء إلى كل ما يمت[19] إليه بسبب، فلما سمع بعض المسلمين ذلك من اليهود ساورهم[20] بعض الشك والتردد فيما فعلوه فثبتهم الله على الحق بنزول قوله سبحانه وتعالى: )ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين (5)( (الحشر).
المتوهمون يدافعون عن اليهود، شأن النصارى الذين ارتموا في أحضان اليهود وخطبوا ودهم، ولو كان على حساب الحق، وأغفلوا عيونهم عن كل ما ارتكبوه من جرائم من أول تاريخهم وحتى اليوم يصفون هذه الأفعال - قطع النخيل - بأنها فاسدة ويغمضون عيونهم عن فساد اليهود وإفسادهم، ونقضهم للعهود وتآمرهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - لقتله؛ لاسئتصال شأفة الإسلام والمسلمين!!
ومثالهم السابع: هو قول الله - عز وجل - لنبيه: )ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره( (التوبة: 84):
هذه الآية ليس فيها نسخ لحكم سابق، وإنما هو ابتداء حكم، وهو النهي عن الصلاة على كافر؛ لأن الصلاة دعاء واستشفاع، ولا يكون ذلك لغير المؤمن، ولذلك علل الله - عز وجل - النهي بقوله: )إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون (84)( (التوبة)، وليس في امتناع النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك عن الصلاة على منافق إرضاء لعمر - رضي الله عنه - ولكنه امتثال لنهي الله - عز وجل - أن يصلي على أحد منهم، ولو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسترضي بفعله عمر - رضي الله عنه - لما صلى على عبد الله بن أبي بن سلول، فقال رسول الله: «إني خيرت فاخترت»، وقد قيل: إنه - صلى الله عليه وسلم - استغفر لهم سبعين مرة، فأنزل الله سبحانه وتعالى: )استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين (80)( (التوبة)، فقال صلى الله عليه وسلم: «لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها، فقال عمر رضي الله عنه: ثم صلى عليه ومشي معه، وقام على قبره حتى فرغ منه، فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ورسوله أعلم»[21] [22].
الخلاصة:
· دعوى أن القرآن تفرد بوقوع النسخ فيه دعوى باطلة، فالتوراة والإنجيل تضمنتا النسخ باعتراف اليهود والنصارى أنفسهم.
· النسخ إذا فهمت حقيقته سقطت كل المزاعم التي ذكرها هؤلاء المتوهمون، فهو لا يدخل في العقائد والأخبار والقصص وأصول العبادات ومكارم الأخلاق والفضائل والرذائل، ولكن النسخ يأتي في الأحكام العملية التي تختلف باختلاف أحوال الناس.
· النسخ لا يتنافى مع حكمة الله وصدقه وعلمه، بل يحققها، فالله - عز وجل - يعلم أزلا أن الحكم المنسوخ يستمر الخطاب به إلى أن يخاطب المكلفون بالحكم الناسخ، فالأول المنسوخ مناسب لأحوال المكلفين في مدة الخطاب به، والناسخ مناسب لهم في أثناء الخطاب به، وذلك يحقق حكمته وعلمه وصدقه تعالى.
· مجيء الناسخ والمنسوخ في شريعة نبي لا يفتح باب الكذب، والتلاعب بالأحكام باسم الناسخ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبتت نبوته قبل نزول الأحكام عليه، فهو أبعد ما يكون عن الكذب.
· وجود الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم - لا يلغي قرآنيته، ولا يذهب بخصائصه القرآنية من الإعجاز والتحدي به والتعبد به.
· ما نسخت تلاوته وبقي حكمه - قامت أدلة عليه، فأصبح معلوما للمكلفين، كرجم المحصن، وفي وجود أنواع النسخ كلها تمام الابتلاء للعبد، ليكمل امتثاله وعبوديته لربه.
· الأمثلة التي ذكروها لا تمت للنسخ بصلة، ولكنهم وجدوها فرصة للتشويه، فهم يرددون أكاذيب من سبقهم حول تلك الآيات.
(*) هل القرآن معصوم؟ موقع إسلاميات www.Eslameyat.com.
[1]. الغرلة: جلدة الصبي التي يقطع في الختان، والجمع غرل.
[2]. الزبل: الروث.
[3]. نظرية النسخ في الشرائع الإسلامية، د. شعبان محمد إسماعيل، دار السلام، القاهرة، ط1، 1988م، ص43: 60 بتصرف.
[4]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب خاتم النبين صلى الله عليه وسلم (3342)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب ذكر كونه خاتم النبيين (6101).
[5]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة رضي الله عنه (8939)، والبخاري في الأدب المفرد، كتاب حسن الخلق، باب حسن الخلق (273)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (45).
[6]. مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، دار الحديث، القاهرة، 2001م، ج2، ص183.
[7]. الواهية: الضعيفة والساقطة.
[8]. انظر: الناسخ والمنسوخ، أبو عبيد بن سلام، ص207.
[9]. محاسن التأويل، جمال الدين القاسمي، دار الحديث، القاهرة، 1424هـ/ 2003م، ج3، ص539.
[10]. الإثناء: الإبعاد.
[11]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، علق عليه: هاني الحاج، المكتبة التوفيقية، القاهرة، ج1، ص260 بتصرف يسير.
[12]. التخرص: الظن.
[13]. يراجع لفهم الآية والقصة: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، علق عليه: هاني الحاج، المكتبة التوفيقية، القاهرة، ج6، ص257 وما بعدها.
[14]. انظر: محاسن التأويل، جمال الدين القاسمي، دار الحديث، القاهرة، 1424هـ/ 2003م، ج3، ص451.
[15]. الإيلاء لغة: الحلف مطلقا، سواء أكان على ترك قربان زوجة، أم على شيء آخر، مأخوذ من"آلى على كذا يولي إيلاء": إذا حلف على فعل شيء أو تركه. كان الرجل في الجاهلية إذا غضب من زوجته حلف ألا يطأها السنة والسنتين، ويمضي في يمينه من غير لوم أو حرج، حتى جاء الإسلام ووضع للإيلاء أحكاما خففت من أضراره، وحدد له المولى أربعة أشهر، وألزمه إما بالرجوع إلى معاشرة زوجته، وإما بالطلاق.
[16]. لمراجعة تفاصيل أسباب نزول الآيات وتفهم موقف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الصحيح انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج6، ص3613.
[17]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج6، ص3523.
[18]. اجتثاث الإسلام والمسلمين: القضاء عليهم.
[19]. يمت: يتصل ويرتبط.
[20]. ساور: تملك.
[21]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجنائز، باب ما يكره من الصلاة على المنافقين والاستغفار للمشركين (1300)، وفي موضع آخر.
[22]. انظر: محاسن التأويل، جمال الدين القاسمي، دار الحديث، القاهرة، 1424هـ/ 2003م، ج5، ص485 وما بعدها.
read
go want my wife to cheat
go
online how long for viagra to work