مرحبًا بكم فى موقع بيان الإسلام الرد على الافتراءات والشبهات
 بحث متقدم ...   البحث عن

الصفحة الرئيسية

ميثاق الموقع

أخبار الموقع

قضايا الساعة

اسأل خبيراً

خريطة الموقع

من نحن

الزعم أن النصرانية أكثر واقعية من الإسلام وأصلح منه لحياة الناس (*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المشككين أن النصرانية أكثر صلاحية للحياة وارتباطا بالواقع من الإسلام، ويزعمون أن المدنية الحديثة مدنية نصرانية ترعرعت في أحضان الكنيسة، وأن الإسلام دين انتهى زمنه ولا مستقبل له.

وجوه إبطال الشبهة:

1) متى كان للنصرانية علاقة بواقع الحياة ومجرياتها من الأصل؟ وقد نظرت إلى الجانب الروحي فقط، وتحكمت الكنيسة في رقاب البلاد والعباد؛ فحاربت العلم وأعدمت العلماء وأحرقت المصلحين وسامت[1] الناس شتى صنوف الاضطهاد، حتى ضج[2] الناس وثاروا عليها وعزلوها عن واقع الحياة وحبسوها وراء جدران المعابد والكنائس.

2) شمولية الإسلام لأمر الدين والدنيا ووسطيته، أهلته للصلاحية لكل زمان ومكان، فهو دين المادة والروح والعقل والعلم والعبادات والمعاملات، وما تخلف المسلمون عن الصدارة والقيادة إلا بعد أن فرطوا في دينهم.

3) الحضارة الإسلامية ذات نزعة إنسانية؛ لأنها تميزت بالمزج بين الرقي المادي والمعنوي على حد سواء، وقامت على مبدأ العدالة والحرية والمساواة.

4)  العلمانية في بلادنا زرع شيطاني.

5)  حضارة الغرب تتسم[3] بقدر كبير من التوحش خصوصا في علاقتها بالآخر.

6)  المستقبل للإسلام بشرط تحقيق المسلمين له وتطبيقه، والتجديد والإحياء الحضاري.

التفصيل:

أولا. متى كان للمسيحية عهد بواقع الحياة، وعلاقة بمجرياتها من الأصل؟!

المسيحية ديانة يغلب عليها - في أصلها السماوي - الجانب الروحي الأخلاقي المثالي، وتعاليمها لم تهتم كثيرا بمسيرة الإنسان، ومعاملاته، وتفاعلات الحياة الإنسانية العملية في المجالات المختلفة على وجه الأرض.

فإنجيل متى يورد على لسان المسيح - عليه السلام - قوله: "طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السماوات. طوبى للحزانى، لأنهم يتعزون. طوبى للودعاء، لأنهم يرثون الأرض. طوبى للجياع والعطاش إلى البر، لأنهم يشبعون. طوبى للرحماء، لأنهم يرحمون. طوبى للأنقياء القلب، لأنهم يعاينون الله. طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يدعون. طوبى للمطرودين من أجل البر، لأن لهم ملكوت السماوات ". (متى 5: 3 - 10).

وفي إنجيل لوقا يجيب المسيح عن سؤال السائل: ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟ بقوله: "تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل قدرتك، ومن كل فكرك، وقريبك مثل نفسك. فقال له: بالصواب أجبت. افعل هذا فتحيا". (لوقا 10: 27، 28)، فهذا اللون من المبادئ والتعاليم يمثل لب ما ينسب للمسيح وجوهره، وعليه كان مدار رسالته، ومع هذا فبدافع شهوة التسلط والتحكم والسيطرة، والمصالح الدنيوية للباباوات، تحكمت الكنيسة - خلال العصور الوسطى - في رقاب البلاد والعباد في الغرب، وتدخلت في أخص خصوصياتهم وأمسكت بخناقهم.

يقول الشيخ محمد أبو زهرة: "اشتد ضغط الكنيسة الكاثوليكية على المسيحيين، وبالغت في فرض آرائها عليهم مبالغة تجاوزت حد الغلو، ولم تسلك في ذلك سبيل الموعظة الحسنة، والدعوة الصالحة والإرشاد القويم، ومخاطبة الأرواح والنفوس، وتمكينها من أن تتبعها وهي حرة مريدة مختارة، بل سلكت سبيل العنف، وركبت متن الشدة، فجعلت كل رأي في العلوم الكونية يخالف رأيها كفرا، ولا تدعو معتنقيه إلى الهداية، وترشده إلى الرشاد، كما يليق برجال الدين مع من يرونه ضالا، بل تكفر لأوهى الأسباب، وتحرق أو تعذب من تراه كافرا بلا رفق ولا هوادة.

فهذا المجمع الثاني عشر من مجامع الكنيسة هو المجمع المسمى باللاتيراني الرابع المنعقد سنة 1251م، يقرر استئصال الهراطقة[4]، ويعنون بذلك كل من يرى رأيا مخالفا للكنيسة، ولو كان رأيا في الكون أو طبائع الأشياء، ولم تكتف الكنيسة بقتل من يجهرون بآراء تخالف آراءها، بل أخذت تنقب على القلوب وتستكنه خبايا النفوس، وتكشف عن سرائر الناس، بما أسماه التاريخ محاكم التفتيش، التي دنست تاريخ الأديان بما ارتكبت من آثام، وما أزهقت من أرواح، وما سفكت من دماء، وما عذبت من أحياء، وإن جهر رجل من رجال الدين بالدعوة إلى الإصلاح، داعيا رجال الكنيسة إلى أخذ الناس بالرفق، وحاثا رجال الدين على الأخذ بهديه، كان عقابه الحرمان والقتل.

وحدث في أوائل القرن الخامس عشر أن أحس أساقفة فرنسا بوجوب إصلاح الباباوات، فانعقد لذلك مجمع مؤلف من 150 أسقفا، و 1800 من رجال الدين، ولكن هذا المجمع انتهى في قراراته بالأمر بإحراق يوحنا هوس مصلح كنيسة بوهيميا ورفيقه جيروم. ولقد حرق وعذب في هذا السبيل علماء قتلوا في سبيل العلم، بسبب مظالم تلك الكنيسة، وضيق صدر القوامين عليها، ومما يذكر في هذا أن أحد العلماء واسمه أبيلارد كان له رأي في تكفير المسيح عن خطيئة آدم، خالف به رأي الكنيسة، فقال: ليست حياة المسيح وصلبه، وما لاقى في ذلك من تعذيب سبيلا لإرضاء الله، وإنزال عفوه عن خطيئة الإنسان، فعفو الله أيسر من ذلك وأقرب، وإنما لاقى المسيح ما لاقى إعلانا لما يكنه قلبه من حب الله. وعسى أن يثير في الناس عاطفة الشكر، وعرفان الجميل، فيعيدهم إلى طاعة الله، ولكنه ما إن قال ذلك القول حتى انعقد مجلس لمحاكمته، فكان نصيب كتبه التحريق، ونصيبه السجن الدائم حتى وافته منيته، وجاليليو يرى رأيا في الكون فيسجن لذلك الرأي، مع أن رأيه ليس من أمور الدين في شيء.

بالغت الكنيسة في شدتها، كما رأيت، ولم ينج حتى الملوك من طغيانها، فقد كان انقسام الدولة الرومانية الغربية إلى ممالك مختلفة، واعتبار كل مملكة وحدة سياسية، لا تتصل بالأخرى إلا اتصال محبة وسلام، أو حرب وخصام، كان ذلك سببا في أن صار البابا لا سلطان لأحد من ولاة الأمر عليه، وقد تقرر هذا من بعد، كما صار تعيين الباباوات باختيار المجامع، لا بتعيين ملك أو أمير، مهما تكن قوته وسطوته.

وصار الباباوات بعد تعيينهم غير خاضعين بأي نوع من أنواع الخضوع لأي ملك من الملوك، وعلى النقيض من ذلك لهم هم السلطان الذي لا يرد على كل مسيحي، مهما تكن مكانته، يستوي في ذلك الأمير والخفير، والراعي والرعية، فليس لأي ملك سلطان على البابا، والبابا له سلطان على كل ملك؛ لأنه مسيحي، وله السلطان الكامل على كل المسيحيين. ولأن البابا خليفة لبطرس الرسول، وبطرس الرسول أقامه المسيح رئيسا على الحواريين من بعده، فالبابا على هذا الأساس خليفة للمسيح ينطق باسمه، ويتكلم بخلافته، وينفذ بسلطانه، ومن خرج عن طاعته فقد خرج عن طاعة المسيح وحارب دينه.

وبهذا المنطق فرضوا أوامرهم على الملوك، كما فرضوها على سائر الناس، ولذا لم ينج بعض الملوك من قرارات المجامع بحرمانهم، وطردهم من حظيرة المسيحية، ولعنهم، فقد جاء في كتاب "سوسنة سليمان": "المجمع الثالث عشر انعقد في ليون من أعمال فرنسا سنة 1245م بأمر البابا إينوسنت الرابع لأجل عزل فردريك ملك فرنسا وحرمانه، وهذا المجمع لم تسلم كنيسة فرنسا حتى الآن بصحته أو بسلطانه، مطلقا.

لم ينج إذن الملوك من قرارات الحرمان والطرد، وإن لذلك أثره في نفوس شعوبهم، كما أنه يحفز الملوك على العمل من جانبهم على حماية أنفسهم، وهم في ذلك لا يمتنعون عن أن يثيروا القالة[5] في رجال الكهنوت، ويكبروا صغائرهم، ويروجوا عنهم ما يحط من قداستهم، حتى ينفردوا بالاحترام، ولا يكون سلطان لأحد غيرهم.

هذه هي الكنيسة في معاملتها للناس، عنف، وزجر، وقسوة، لا إرشاد وهداية وإصلاح، وهي تضرب كل من يعترض طريقها، لا تفرق بين سائس ومسوس، وحاكم ومحكوم، وراع ورعية، وقد احتكمت لهذا بذوي السلطان، فكان لا بد من مغالبة بينهما، ولم يكن الأمر مقصورا على الأذى البدني تنزله بمن يخالفها، ولو فيما ليس بينه وبين الدين نسب، ولا يتصل به بسبب، بل تعدى ذلك إلى إرهاق المسيحيين بإتاوات مالية يفرضونها، وضرائب كبيرة يأخذونها، وعلى ذلك صار المسيحيون قاطبة يئنون تحت نير[6] ثقيل، سواء في ذلك من خالف ومن وافق.

فالمخالف بالعذاب يهرأ[7] به جسمه، والموافق بالمال يوثق به، وتفرض عليه ضرائب لأسباب غير معقولة وغير مقبولة أحيانا، وما يجمع من أموال الفقراء والمجدودين التي حصلوا عليها بالكد واللغوب[8] يتوزعه رجال الدين بينهم، وينفقونه إسرافا وبدارا[9] في سبيل تحقيق رغباتهم، وبذلك كانوا يجمعون المال من غير حله وينفقونه في غير حله أيضا، وبذلك انغمسوا في شر ما في هذه الدنيا، وتركوا لب الدين.

ولقد احتجزت الكنيسة لنفسها الحق في فهم الكتب المقدسة عندهم، واستبدت بتفسيرها دون سائر الناس، ولا معقب لما تقول في هذا التفسير، أو في رأي تبديه أو أمر تعلنه، وعلى الناس أن يتلقوا قولها بالقبول، وافق العقل أو خالفه، وعلى المسيحي إذا لم يستسغ عقله قولا قالته أو مبدأ دينيا أعلنته، أن يروض[10] عقله على قبوله، فإن لم يستطع، فعليه أن يشك في العقل، ولا يشك في قول البابا؛ لأن البابا خليفة لسلسلة الخلافة التي بيناها.

ولقد كانت تعلن - أي الكنيسة - أمورا ما جاء بها الكتاب المقدس عندهم، وما تعرض له المسيحيون الأولون، ولا المجامع الأولى، وهي أمور غريبة جد الغرابة، بعيدة عن القبول في أحكام العقل جد البعد، وتلزم المسيحيين بها، وتفرضها عليهم فرضا، ومن قال كلمة فيها فالويل له، ينزلونه به في الدنيا ولا ينتظرون حساب الديان في الآخرة.

ونذكر القارئ على سبيل المثال، بمسألتين كان لهما أثر في الفكر المسيحي، وبسببهما هما وغيرهما تقدم المصلحون في جرأة، داعين إلى إصلاح الكنيسة بالحسنى أو بغير الحسنى، هاتان المسألتان هما مسألة الاستحالة، ومسألة الغفران.

أما مسألة الاستحالة، فالأساس فيها ما علمت في الشعائر النصرانية، من أن المسيحيين يأكلون يوم الفصح خبزا، ويشربون خمرا، ويسمون ذلك بالعشاء الرباني، ولقد زعمت الكنيسة أن ذلك الخبز يستحيل إلى جسد المسيح، وذلك الخمر يستحيل إلى دم المسيح المسفوك، فمن أكلهما وقد استحالا هذه الاستحالة فقد أدخل المسيح في جسده بلحمه ودمه.

وذلك أمر غريب في العقل، لا يستطيع أن يستسيغه أحد بيسر وسهولة، بل لا يستطيع أن يستسيغه قط، إذ كيف يتحول الخبز لحما؟ وكيف يصير لحم شخص معين معروف؟ وكيف تتحول الخمر دما، وتصير دم شخص معين معروف؟ ذلك غريب بل مستحيل التصور والقبول في العقل، ولكن الكنيسة فرضت على الناس قبوله ومنعتهم من مناقشته، وإلا عرضوا للطرد والحرمان. وهل ورد هذا الأمر في الكتب المقدسة، حتى يجب الأخذ به من غير تفسير أو تأويل؟ إنه أمر استقلت به الكنيسة وأعلنته وأيدته في أحد مجامعها، غير معتمدة في ذلك على نص صريح من الكتب المقدسة عندهم.

ولقد خالفت في بعض شأنه الكنيسة الكاثوليكية غيرها من الكنائس، فالكنيسة الشرقية ترى أن العشاء الرباني لا يكون بالفطير، بينما تراه الكنيسة اللاتينية، ووجد من رجال الفكر من ينكرون هذه الاستحالة، ويعتقدون أنها غير ممكنة في العقل ولا سائغة في الفكر.

أما المسألة الثانية: فهي مسألة امتلاك الكنيسة حق الغفران للمسيء في الدنيا، فقد قررته الكنيسة حقا لنفسها، في المجتمع الثاني عشر أيضا. وقد جاء في كتاب "تاريخ الكنيسة" في بيان قرار المجمع في هذا الشأن: "أنهى المجمع تعليمه فيما يتعلق بأمر الغفران" فقال: "إن يسوع المسيح ما كان قد قلد الكنيسة سلطان منح الغفرانات، وقد استعملت الكنيسة هذا السلطان الذي نالته من العلا منذ الأيام الأولى، قد أعلم المجتمع المقدس، وأمر بأن تحفظ للكنيسة في الكنيسة هذه العملية الخلاصية للشعب المسيحي، المثبتة بسلطان المجامع. ثم ضرب بسيف الحرمان من يزعمون أن الغفرانات غير مفيدة، أو ينكرون على الكنيسة سلطان منحها، غير أنه قد رغب في أن يستعمل هذا السلطان باعتدال واحتراس، بسبب العادة المحفوظة قديما، والمثبتة في الكنيسة، لئلا يمس التهذيب الكنسي تراخ بفرط التساهل".

هذا قرار المجمع، وفيه تمكين للكنيسة من سلطان قوي جبار، وهو سلطان مسح الذنوب وغفرانها مهما يكن مقدارها، ومهما تكن قد دنست النفس، وأرهقت القلب، ولكنه قد أوصى الكنيسة بالاعتدال والاحتراس؛ حتى لا يؤدي الإفراط في منح الغفران إلى ترك التهذيب الديني، وهجر تعاليم الكنيسة، والعبث بهدي الدين، فهل أخذت الكنيسة بما أعطاها المجمع، وراعت حق الرعاية ما أوصاها به من عدم الإفراط في الإعطاء والمنح؟ لقد أتى حين من الدهر من بعد أن أعطى رجال الدين أنفسهم ذلك الحق، أن أفرطوا في إعطائه إفراطا شديدا، وأنشأوا له صكوكا تباع وتشتري، فباعوها كأنها عرض من أعراض الدنيا، ومتعة من متعها، وبذل العصاة في سبيلها المال، وما كان عليهم من حرج في أن يرتكبوا ما شاءوا من الموبقات، وينالوا ما تهوى الأنفس من معاص، ما دام ذلك يفتدى بمال قل أو جل، وهذا نص صك الغفران الذي يباع بيع السلعة: "ربنا يسوع المسيح يرحمك يا فلان، ويحلك باستحقاقات آلامه الكلية القداسة، وأنا بالسلطان الرسولي المعطى لي أحلك من جميع القصاصات والأحكام والطائلات الكنسية التي استوجبتها، وأيضا من جميع الإفراط والخطايا، والذنوب التي ارتكبتها مهما كانت عظيمة وفظيعة، ومن كل علة، وإن كانت محفوظة لأبينا الأقدس البابا، والكرسي الرسول، وأمحو جميع أقذار المذنب وكل علامات الملامة التي ربما جلبتها على نفسك في هذه الفرصة، وأرفع القصاصات التي كنت تلتزم بمكابدتها[11] في المطهر، وأردك حديثا إلى الشركة في أسرار الكنيسة وأقرنك في شركة القديسين، وأردك ثانية إلى الطهارة والبر اللذين كانا عند معموديتك، حتى إنه في ساعة الموت يغلق أمامك الباب الذي دخل منه الخطاة إلى محل العذاب والعقاب، ويفتح الباب الذي يؤدي إلى فردوس الفرح، وإن لم تمت سنين مستطيلة فهذه النعمة تبقى غير متغيرة، حتى تأتي ساعتك الأخيرة، باسم الآب، والابن، والروح القدس".

هذه صورة من صور صك الغفران تذكر أنها تمحو الآثام، وتغفر ذنوب العاصي، ما تقدم منها وما تأخر، تغسله من ذنوبه الماضية حتى يصير طاهرا، ثم لا يصير قابلا لأن تؤثر فيه الذنوب، مهما يرتكب من خطايا، ومهما ينغمس في المعاصي، كأن ذلك الصك جواز المرور إلى النعيم المقيم، لا يعوق حامله عائق، ولا يرده عن الوصول خازن أو حارس، هذا ما يدل عليه الصك، وهذا ما كانت تحاول الكنيسة أن تلقيه في روع الناس تمكينا لسلطانها، ورغبة في نقودهم التي يبذلونها للكنيسة في سبيل الحصول على ذلك الصك الذي يكون سر الأمان وطريق الوصول إلى الغاية.

لقد ابتدأت الكنيسة صك الغفران بمسألة الاعتراف بالذنوب عند الموت والتوبة، ثم تولى القسيس مسح هذه الذنوب، والشخص لم يودع الدنيا، ثم انتقلت من ذلك إلى أن جعلت لنفسها الحق في الغفران، ولشخص قوي يستقبل الحياة، ولا يودعها، ويقبل على متعها ولا يدبر عنها، وغالت فجعلت لنفسها غفران ما تقدم وما تأخر من الذنوب، ثم أغرقت في المغالاة فاتخذها رجال الدين بابا من أبواب الكسب للكنيسة، ثم إنهم ينفقون ما يجمعونه من مال فيما يحله الدين والأخلاق، وما قد يحرمانه، وبذلك طم السيل[12] حتى جاوز الحزام الطبيين[13].

وهل كان رجال الدين في سلوكهم الشخصي، وفي استمساكهم بعروة الأخلاق وهدى الدين، يستحقون أن يبذل الناس في طاعتهم ما يبذلون ويروضوا أنفسهم على الخضوع لآرائهم وقبولها بقبول حسن، متهمين العقول إن حاولت التمرد والعصيان؛ لأن حال رجال الدين بعيدة عن الظنة[14] منزهة عن الريبة، قد سموا بأنفسهم حتى ساموا في علو القديسين، والشهداء، والصالحين، وجعلوا أنفسهم عنوان العفة، ونجع النفس عن الشر، وافتدوا الفضيلة بأنفسهم، أو عرضوا أنفسهم للفداء، كما كانوا يرون أن المسيح قد فعل من قبل؟

لقد كانت حال رجال الدين تحوطها الريبة من كل جانب وتأخذهم الأنظار المتعقبة من كل ناحية من نواحي الحياة، حرموا على أنفسهم الزواج إذ سادت الرهبانية[15] وسيطرت على نفوسهم، فجعلوا زواجهم حراما؛ لينصرفوا لخدمة كنيسة الرب، ويقوموا على سدانتها، ويرعوها حق رعايتها، ولكن ما إن توردت عليهم الأموال، وكثرت أمامهم أسباب النعيم، حتى فكهوا فيها مترفين، وانغمسوا في الملاذ يستطيبون أطيبها ويطلبون أشدها، ولما مكنوا لأنفسهم من السلطان، اندفع بعضهم في طلبها اندفاعا، ومنهم من استهتر في سبيلها استهتارا، وخرجت حال بعض أولئك المنغمسين في الخطايا من السر إلى الجهر، ومن التستر إلى التفحش ومن الخفية إلى الإعلان.

واتصل بعضهم بالنساء اتصال سفاح، بعد أن حرموا على أنفسهم النكاح، ولم تتمنع النساء المتصلات بهم من أن يعلن ذلك مفاخرات به، وجاء من ذلك الاتصال الآثم أولاد لا آباء لهم، ولكن لهم حظوة؛ لأن بعض رجال الدين يعرفون آباءهم، كما يعرفون أبناءهم، فيمكنون لهم بسلطانهم الديني سلطانا دنيويا.

ولقد كانت تلك الحياة اللاهية العابثة الفاسقة ميزة اختص بها بعض رجال الطبقة الدينية أنفسهم، أما التحوت من رجال الدين ففي فقر مدقع[16]، وفي حياة هي أقرب إلى الدين المسيحي من حياة كبرائهم، وذوي السلطان فيهم وفي الشعب" [17].

فلما أخذت أوربا في النهوض في مطالع العصور الحديثة، كان أول ما سعت إليه هو التخلص من ربقة[18] الكنيسة، وتحكم الباباوات، بل عادي رجال الفكر ورموز النهضة أكثر ما عادوا الكنيسة وما ترمز إليه من دين، فأوغلوا[19] في الإلحاد والمروق من الدين[20] كما أوغلت الكنيسة في الغلو باسم الدين، ومن هنا نشأت العلمانية اللادينية.

يقول الشيخ أبو زهرة: "هذا سلطان الكنيسة، وتلك حال رجالها، يتدخلون في كل شيء، ينقبون عن القلوب، وقد سترها علام الغيوب، ويرهقون من يتهمونهم بأقسى أنواع العذاب، ويفرضون سلطانهم على الراعي والرعية، حتى يتململ[21] من تحكمهم الملوك والأمراء، وذوو الفكر من الشعوب، ويجبون[22] الإتاوات ويفرضون الضرائب حتى كأنهم الجباة العشارون لا رجال الدين المهذبون، ويعطون أنفسهم حق مسح الخطايا بعد اعتراف المذنب في آخر أيامه في الدنيا، وأول أيامه في الآخرة.

ثم يغالون فيمنحون أنفسهم حق غفران الذنوب السابقة واللاحقة للقوي الصحيح، ويكتبون في ذلك صكوكا يبيعونها بثمن قليل أو كثير، ثم يقضون أو بعضهم حياة كلها لهو، وحولهم الناس ينظرون.

ولقد بلغ السيل الزبى[23] في العصر المشهور في التاريخ الأوربي بعصر النهضة، وفيه نهضت الإرادة الإنسانية، والعقل الإنساني يفرضان وجودهما، وفيه استطاع الأوربيون أن يروا الله في الإسلام، والتدين الحقيقي فيما يدعو إليه هذا الدين، إذ اتصل الشرق بالغرب، فيما قبس الغرب من دراسات تلقاها على أساتذة من المسلمين بشكل خاص، ومن الشرقيين بشكل عام، وفيه علم أنه لا سلطان لأحد من رجال الدين على القلب، وأن لا وساطة بين الله والعبد، وأن الله قريب ممن يدعوه، ويجيب دعوة الداعي إذا دعاه.

حينئذ أخذت الأنظار المتربصة تحصي على رجال الدين ما يفعلونه، ووجد من بينهم من استنكروا حالهم، وأخذوا يدعون زملاءهم إلى إصلاح حالهم، ليردوهم إلى حكم دينهم قبل أن يفوت الوقت، وقبل أن ينفض الناس، وقبل أن يحملهم العامة على الإصلاح، ولقد جاهر بذلك جيروم وهوس، ولكن كان نصيبهما أن أعدما تحريقا بالنيران، وكان ذلك بقرار من مجمع كونستانس الذي انعقد من سنة 1414م إلى سنة 1418م، ولقد قرر ذلك المجمع قتل هذين العالمين حرقا بالنار؛ لأنهما دعوا الكنيسة إلى عدم الأخذ بما يسمى سر الاعتراف، مبينين أن الكنيسة ليس لها سلطان في محو الإثم أو تقريره، وإنما التوبة مع رحمة الله هي التي تمحو الآثام، وتطهر النفس من الخطايا، ولقد تقدم إلى المجتمع يوحنا هوس ليدافع عن آرائه، وهذا ما قاله كاتب متعصب للكاثوليك في ذلك الدفاع:

"لدى دخوله أخذ يعلن غواياته قبل انتظاره حكم المجمع على تعاليمه، فقر الرأي إلى إلقاء القبض عليه، وفوض المجمع إلى بعض أعضائه أن يفحصوا مؤلفاته وألحوا عليه أن يقلع عنها، ولكنهم لم يستفيدوا شيئا، ووجدوا في مؤلفاته فصولا كثيرة تتضمن أضاليل، وقد خولوه[24]الحرية ليوضح أقواله في كل منها، وحرضوه على الخضوع لحكم المجمع، وعرضوا عليه صورة الرجوع عن ضلاله، فأبى أن يمضيها، وبقي مصرا على غيه، ولم يشأ المجمع أن يتوصل معه إلى المضايقة الأخيرة، بل حاول مرارا أن يرده عن عناده فحكموا أولا على كتبه بالتحريق رجاء أن يخيفوه بذلك، لكنه لبث مصرا على عناده، فحينئذ حطوه عن الدرجات المقدسة حطا احتفاليا، وأسلموه لحكومته فحكمت عليه بالحرق حيا، بمقتضى نواميس المملكة، ثم نال جيروم تلميذه وقرينه في العناد، هذا العقاب نفسه.

أما المجمع فلم يطلب قط هذا العقاب، بل ترك للقضاء المدني أن يعمل بموجب شرائع المملكة التي كانت تعطي للملك حقا في أن يعاقب من يفسدون النظام المدني بينهم بتعاليم سيئة تقلق راحة الجمهور.

هذا ما يقوله الكتاب المدافعون عن الكنيسة، ومهما يكن قولهم في براءتها من دم أولئك الذين حاولوا من رجال الدين إصلاحا، فمما لا شك فيه أنها لم تصغ إلى أقوالهم، بل عاقبتهم عليها بالحرمان، فسلبتهم المنصب الديني، ثم عاونت بذلك على قتلهم أفظع قتلة، إن لم تكن هي الفاعلة[25].

يفهم مما سبق - وهو أمر معروف في تاريخ أوربا في ذلك الوقت - أن النهضة ثم التقدم الحضاري المعاصر في الغرب قد قام على أنقاض الدين والنظام الكنسي، ولم ينبن عليه، ويتكأ إليه وينطلق منه، ومن ثم فلا سبيل إلى القول بأن المسيحية ما زالت حية، وأن تعاليمها ما زالت تواكب الحياة في تدفقها المستمر.

ثانيا. شمولية الإسلام لأمر الدين والدنيا ووسطيته:

بالمقابل - وهذا أيضا من البدهيات، المفروغ منها - فإن الإسلام دين كامل عام شامل وسطى، دين مادة وروح، عبادات ومعاملات، أخلاق وممارسات، فكر وسلوك، علم وعمل، نقل وعقل. ومن ثم فتعاليمه على علاقة ماسة بواقع حياة البشر، بل إنه يمتلك منظومة تشريعية وتوجيهية لهذه الحياة الدنيا استعدادا للآخرة، يقول مراد هوفمان: "فبلفظ المسلم للقسم الأول من الشهادة (أشهد أن لا إله إلا الله) يؤكد اعترافه يقينا بوحدانية الله المطلقة.

الوحدانية أو التوحيد، كما يعرفه الإسلام، ينسحب على العلاقة بين الفكر والمادة، وبين الروح والجسد، والعلم والدين، والإنسان والطبيعة، وبين أعضاء الأمة الإسلامية التي خلقها الله فقال سبحانه وتعالى: )إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون (92)( (الأنبياء)، كذلك يعتقد المسلم أنه لا يمكنه أن يهتدي لولا هداية الله، إذا ترك للطبيعة وحدها يستهديها؛ لذا يؤمن بضرورة الوحي لمعرفة الهدى من الضلال، والحق في جانب المسلم استنادا إلى دراستنا لقوانين الطبيعة.

ثم إن المسلمين يؤمنون أن الله بين لعبيده حقا طريق الهدى، وذلك عن طريق أنبياء التوحيد المرسلين، مثل إبراهيم، وموسى، وعيسى، وختم الله هذه الرسالات بالقرآن (هدى للناس) والذي نزله على محمد خاتم النبيين والمرسلين، كما يشير إلى ذلك القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالى: )ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما (40)( (الأحزاب)؛ لهذا يؤكد الشطر الثاني من الشهادة أن محمدا رسول الله، وهذا الشطر لازم كل اللزوم لإتمام الشهادة، أما ختم شيء أو أمر فمعناه عند الحديث عن الوحي أنه تم واكتمل.

هذا الكمال لم يكن متوافرا قبل محمد، بالرغم من إبلاغ موسى لرسالة الله، وبالرغم من إبلاغ عيسى كذلك، فبقيت الحاجة بعد عهدهما ماسة إلى الإكمال، وكانت هناك إمكانية - في عهد الرسول - لتحقيق ذلك الإكمال، أما الحاجة إلى الإكمال والتقويم فلزمت لخروج اليهود والنصارى على الطريق المستقيم في اعتقاد المسلمين، فاليهود زعموا أن بينهم وبين الله عهدا، فهم شعبه المختار، الذي لن تمسه النار إلا أياما معدودة، وأما النصارى فقد زعموا أن عيسى ابن الله المماثل له في طبيعته الإلهية.

وأما توافر الإمكانية، فذلك أن التطور البشري في القرن السابع، سمح بنسخ المعايير السابقة غير المناسبة نسخا نهائيا، لتحل محلها المعايير الشرعية التي نزل بها الوحي من عند الله.

في ضوء هذا نتبين المغزى العميق للآية الثالثة من سورة المائدة، فقد نزلت تلك الآية الكريمة في اليوم التاسع من ذي الحجة للعام العاشر الهجري الموافق عام 632 الميلادي، أي قبل وفاة الرسول بواحد، أو اثنين وثمانين يوما، والمؤذنة بانتهاء مهمة الرسول في أداء الأمانة، وإبلاغ الرسالة: )اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا( (المائدة: ٣).

أما اليوم، فتصف كلمة "مسلم" الإنسان الذي يلتمس سلامته بإسلامه أموره لله، ويجد هذه السلامة في هدى القرآن الذي يبين له حدود الله، والذي يحوي غير المنسوخ من الكتب السماوية السابقة على الإسلام. هكذا يلتزم المسلم الحق بالوصايا العشر الواردة في التوراة، وبالإيثار وحب الآخرين الذي ألح عليه وأوصى به الإنجيل في العهد الجديد، وهو بعد ذلك يؤمن بالأصول الست التي يؤمن بها اليهودي والمسيحي الملتزمان.

وذلك كما بينها القرآن لنا في سورتي: (البقرة: 285)، و(النساء: 136):

·         وجود الله.

·         وجود مخلوقات غير مرئية لنا (الملائكة).

·         نزول كتب سماوية على بعض الأنبياء.

·         إرسال الله رسله وأنبياءه إلى الأمم.

·         القيامة والبعث يوم الحساب.

·         القضاء والقدر.

بعد ذلك ينفرد الإسلام بأنماط سلوكية تتمثل في الفرائض والعبادات، وقواعد الإسلام الخمس إلى جانب الشهادة:

·         شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.

·         إقامة الصلاة (الصلوات المفروضة).

·         إيتاء الزكاة.

·         صوم رمضان.

·         حج البيت من استطاع إليه سبيلا.

هذه القواعد الخمس وحدها كافية لبيان أن الإسلام دين وعمل، عبادة وأفعال، حتى الصلاة نفسها، وهي صلة روحية مصحوبة بالعمل، أو الفعل المتجلي في المشاركة الجسدية لأداء هذا الفرض، الإسلام يلح على الإيمان والعمل معا، كما في سورة العصر المكية: )والعصر (1) إن الإنسان لفي خسر (2) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر (3)( (العصر).

في هذه السورة الكريمة تصوير موجز مصغر، واضح أشد الوضوح للمسلم البر التقي، فهو يعبد الله ويتوكل عليه، يعمل الصالحات ويوصي نفسه وغيره بها، دون تظاهر ورياء، أو من أو اتباع العنف، مدلا بما يفعل[26].

ويقول: "أما إن الإسلام دين ودولة، فحقيقة يثبتها الإسلام، وإن لم تكن هذه الصيغة قد وردت في القرآن حرفيا، لكن القرآن يصور المسلم مخلوقا ملتزما بمبادئ خلقية، دون تقييد، بحيث ينبغي له أن يكون مواطنا حرا، وينبغي عليه في الوقت نفسه أن يصدر في أقواله وأفعاله عن إيمان بالله، فيكون الله - عز وجل - محور حياته أولا وآخرا. بهذا يملأ الإسلام حياة الإنسان أو يحتويها بكافة نواحيها[27].

حول هذه الخصيصة "شمولية الإسلام ووسطيته" يقول د. عبد القادر محمود: "من هنا لم يذهب الإسلام مذهب التفرقة بين ما لله وما لقيصر، فلم تنفصل فيه الدولة عن الشريعة؛ لأن الأمر كله لله، لله الأمر جميعا، ولله المشرق والمغرب، إنما كانت التفرقة بين ما لله وما لقيصر تفرقة الضرورة التي لا يقبلها المتدين، وهو قادر على تطويع قيصر بأمر الله، وهذا التطويع ولا شك هو الذي أوجبته العقيدة الشاملة، وكان له الفضل في صمود الأمم الإسلامية أمام سطوة الاستعمار والحركات الهدامة، كما كان له الفضل في إيمانها الراسخ بأن هذه الأباطيل والضلالات لا بد أنها زاهقة زائلة.

أمر آخر هو أن هذه العقيدة قد أبت على المسلم أن يطيع الحاكم بجزء منه ويطيع الله بغيره، كما أبت على المرأة المسلمة أن تعطي بدنها في الزواج لصاحبها، وتنأى عنه بروحها وسريرتها، وأبت على الإنسان جملة أن يستريح إلى الفصام الوجداني، ويحسبه حلا لمشكلة الحكم والطاعة، قابلا للدوام.

هذا الشأن، والشأن العظيم للعقيدة الإسلامية كما يصفها العقاد، بها وبمنهجها هو الذي جعل المسلم وحدة متكاملة، لا يتجلى واضحا قويا كما يتجلى من عمل الفرد في نشر العقيدة، ودليل ذلك إسلام عشرات الملايين في الصحاري الإفريقية وغيرها على يدي تاجر فرد، أو متصوف صاحب طريقة، أو مذهب أو اتجاه، منفرد في خلوة واعية، يحيا فيها أحيانا ليعود إلى رسالته مع الناس، والأحياء والحياة، غير معتصم بسلطان هيكل ولا بمراسم كهانة، وإنما هو مع الله متخلق بأخلاق الله الذي ليس كمثله شيء. ولا شك أن قدرة الفرد المسلم هنا تعمل، وتصنع ما لم تصنعه جموع التبشير والمبشرين من سدنة الاستعمار والاستشراق، وتصنع ما لم تصنعه سطوة الفتح والغلبة.

قوام الأمر كله هو شمول العقيدة، وشمول الدعوة، ولا يوصف بالشمول دين ينكر الجسد، كما لا يوصف بالشمول دين ينكر الروح، وما كان الشمول في العقيدة ليذهب فيها إفراط في ملكة من الملكات، وليس في الإسلام على الإطلاق أن الخطيئة موروثة في الإنسان قبل ولادته، ولا أنه يحتاج في التوبة عنها - دون جريرة[28] - إلى كفارة من غيره، فالإسلام عقيدة شمول؛ لأنها تشمل النفس الإنسانية بجملتها من عقل وروح وضمير وجسد مطمئن متوافق مع عقله وروحه وضميره.

أمر آخر خطير يمس عقيدة الإسلام، هو أن شمولها أفرد لها مزايا لم تعهد في دين آخر من الأديان الكتابية، فإن تاريخ التحول إلى هذه الأديان لم يسجل لنا قط تحولا اجتماعيا إليها من دين كتابي آخر بمحض الرضا والاقتناع، إذ كان المتحولون إلى المسيحية واليهودية قبلها في أول نشأتها أمما وثنية لا تدين بكتاب، ولم تعرف قبل ذلك عقيدة التوحيد السليم، أو الإله المحيط بكل شيء، ولم يحدث قط في أمة من الأمم ذات الحضارة العريقة، أنها تركت عقيدتها لتتحول إلى دين غير الإسلام، إنما تفرد الإسلام بهذه المزية دون سائر العقائد، فتحولت إليه الشعوب فيما بين النهرين، في أرض الهلال الخصيب، وفي مصر وفي فارس، وتحول إليه أناس من أهل الأندلس، وصقلية، كما تحول إليه أناس من أهل النوبة في السودان القديم، عاشوا مع المسيحية أكثر من قرنين كاملين.

ما الذي رغبهم وحبب إليهم التحول، والإنابة إلى دين الفطرة؟! إنه الشمول، الشمول الحي النابض بأعظم دفقات ونبضات الدنيا والآخرة جميعا على استواء واعتدال. إنه الشمول الذي يجمع بين النفس والضمير، ويعم بني الإنسان على تعدد الأقوام والأوطان، ويحقق المقصد الأكبر من العقيدة الدينية فيما امتازت به من عقائد الشرائع وعقائد الأخلاق وآداب الاجتماع[29].

لم تتوقف ميزات رسالة الإسلام وخصائصها على وقت نزولها فقط، بل صاحبتها في مسيرة التاريخ بحيوية مدهشة في تجاوبها مع واقع الحياة، ومتطلباتها وتقلباتها، وذلك أنها تضم نوعين من التعاليم، الأولى: ثوابت راسخة لا تتبدل بتبدل الزمان والمكان، وهي الأصول، وأخرى مرنة قابلة للتكيف مع متغيرات الزمان والمكان دون أن يمرق الإنسان أو يتفلت من إطار الأصول السابقة، وهذا هو ميدان الاجتهاد في الإسلام لإنزال الأحكام الشرعية على أرض الواقع، لضبط سلوك الإنسان، وظروف حياته المتغيرة، بضابط الشرع.

يقول د. محمد عمارة في هذا الشأن: "لا وحي بعد القرآن، ولا نبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم، هذه هي شريعة الرسالة الإسلامية، ختام كل الرسالات، فقد احتفظت هذه الشريعة بالثبات في كل الأحكام، ولكنها أتاحت الفرصة لكل ما هو متغير في شئون الدنيا، بحيث فتحت باب الاجتهاد أمام العقل المؤمن.

لقد وقفت الشريعة الإسلامية عند التفصيل في الأحكام لما هو ثابت، والإجمال في الأحكام لما هو متغير، فاكتفت إزاء المتغيرات من شئون الدنيا بما يمثل فلسفة للتشريع والتقنين، وذلك حتى لا ينسخ التطور الأحكام الإلهية إن هي فصلت وقننت لهذه المتغيرات، وأيضا حتى لا تحدث قطيعة معرفية في فلسفة بين الفقه المتطور وبين ثوابت الشريعة وروحها المتميزة، فاحتفظت الشريعة الإلهية بالثبات الذي حقق لها التواصل في حضارة الأمة وفقه فقهائها عبر الزمان والمكان.

وواكب الفقه كل المستجدات مع التزامه بفلسفة التشريع الإسلامية وهو يقنن لكل جديد. فكان كالفروع النامية التي تظلل المساحات الجديدة في الواقع المتطور مع استمدادها روح التشريع الإسلامي من المنابع والجذور.

ولهذه الحقيقة من حقائق الوسطية الجامعة بين الثوابت والمتغيرات، بين الشريعة التي هي وضع إلهي ثابت وبين الفقه الذي هو اجتهاد الفقهاء في إطار الشريعة الثابتة - لهذه الحقيقة كان الاجتهاد فريضة كفائية من فرائض الإسلام، يجب على الأمة أن تخصص له من علمائها من ينهض بفريضته، وإلا وقع عليها الإثم بكاملها.

وغير آيات التدبر والتعقل والتفكر والنظر، ففي القرآن الكريم أيضا: )ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم( (النساء: 83)، )وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون (122)( (التوبة)، وحتى في عصر البعثة النبوية عندما كان البلاغ القرآني، والبيان النبوي - يجيبان عن علامات استفهام المجتمع المسلم، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يرسي قواعد الاجتهاد الإسلامي، ليس بمجرد السماح به، بل بالحث عليه والترغيب فيه. فهو القائل: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر» [30].

ومن نعم الإسلام على العقل المسلم أنه لم يحظر عليه الاجتهاد في ميدان يستطيع الاجتهاد فيه، فباستثناء الغيب، وما لا يستطيع العقل أن يفقه كنهه، أو يستقل بإدراكه، فتح الإسلام أمام العقل المسلم آفاق الاجتهاد، ففي النصوص قطعية الثبوت والدلالة هناك اجتهاد في فهمها، وفي تقعيد وتقنين أحكامها، وفي تنزيل هذه الأحكام، وفي النصوص ظنية الدلالة هناك اجتهاد في دلالتها، وفي النصوص ظنية الثبوت هناك اجتهاد في ثبوتها، أما ما لا نص فيه، فأبواب الاجتهاد فيه مفتوحة لقياس أحكامه على غيره مما فيه أحكام نصية، وبينهما علاقات؛ ولأن الاجتهاد الإسلامي فريضة إسلامية، تحولت في الحضارة الإسلامية إلى علم من علوم الإسلام، فإن قواعدها وضوابطها وشروطها قد صانتها، ويجب أن تصونها دائما وأبدا، عن الأدعياء وعن الأعداء.

فهذا العلم ككل العلوم الشرعية مؤسس على الكتاب والسنة، والغاية منه تحقيق إسلامية المعرفة في كل ميادين الاجتهاد[31].

ثالثا. حضارة ذات نزعة إنسانية:

وعلى عكس المدنية الغربية الحديثة، التي نهضت على أنقاض الدين ونفوذ الكنيسة، مغرقة في العلمانية اللادينية، استندت الحضارة الإسلامية في أوج[32] ازدهارها إلى المرجعية الدينية الإسلامية، وظلت وثيقة الصلة بها، فجاءت حضارة فريدة في طابعها، وفي تأثيرها، وقد شهد لها البعيد قبل القريب، وقد أورد بعضا من هذه الشهادات الأستاذ محمد فريد وجدي تحت عنوان "ما أفاده الإسلام للمدنية، شهادات لا يمكن التماري[33] في صحتها"، فقال: "لقد أفاد الإسلام العالم كله من الناحيتين الدينية، والمدنية، إفادة يتعذر تقديرها، وليس المسلمون بحاجة لأن تبين لهم وجوه الإفادة الدينية، فإن ما يعلمونه من سلامة عقائدهم وأصالة أصولهم، وما أبيح لهم من حرية الفكر والنظر، والاعتماد على العقل وأعلام الوجود، لا تدعهم يشكون في أن دينهم سن للناس كافة سنة لا محيص[34] لهم عن القيام عليها.

فإن ظهر أن كثيرا منهم لا يزالون يتحامون الجري عليها، فسيضطرهم الترقي العلمي والفلسفي إلى الاعتراف بأحقيتها، وإذ ذاك يلتقى الناس كافة في حظيرة واحدة، هي حظيرة الإنسانية الموحدة تحت علم الدين الفطري، والمعارف الممحصة.

أما من الناحية المدنية، فقد شهد العالم كله بأن المسلمين حفظوا التراث العلمي العالمي، وتولوه بالزيادة والتمحيص، وطبقوه على حاجات الحياة الإنسانية، فأوجدوا بذلك مدنية ليس في العالم اليوم من يدعي أنه ليس مدينا للإسلام من هذه الناحية.

قد استشهدنا على صحة هذه الدعاوى، بجماهير من كبار المؤرخين والعلماء الأوربيين، وآخر ما وصل إلينا عنهم في هذا الباب كتاب حضارة العرب للعلامة الاجتماعي جوستاف لوبون، وقد ترجمه إلى العربية الأستاذ النابه محمد عادل زعيتر، ونرى أن نقتبس منه بعض ما قاله العلامة الاجتماعي المذكور في هذا الشأن ليتدبره المسلمون، ويعرفوا أن ما قصروا فيه من بيان هذا الحق، قد قام به من منصفي الغربيين من لا يمتون[35] إليهم بأقل صلة.

قال جوستاف لوبون تحت عنوان "تمدين العرب لأوربا، تأثير العرب في الشرق والغرب": "خضع الشرق لكثير من الشعوب كالفرس والإغريق، والرومان... إلخ، ولكن تأثير هذه الشعوب السياسي، إذا كان عظيما فيه، فإن تأثيره المدني فيه كان ضعيفا للغاية.

وما عجز عنه الإغريق والفرس والرومان قدر عليه العرب بسرعة، ومن غيره إكراه. وما وفق العرب له في مصر اتفق لهم مثله في كل بلد خفقت فوقه رايتهم كأفريقية - يريد تونس - وسورية وفارس، وقد بلغ نفوذهم بلاد الهند، التي لم يدخلوها إلا عابري سبيل، وقد كان لهم تأثير واضح في بلاد الصين التي لم يزوروها إلا تجارا.

ولا نرى في التاريخ أمة ذات تأثير بارز كالعرب، فجميع الأمم التي كانت ذات صلة بالعرب، اعتنقت حضارتهم، ولو حينا من الزمن.

ولم يتجل[36] تأثير العرب في الشرق في الديانة واللغة والفنون وحدها، بل كان لهم الأثر البالغ في ثقافته العلمية أيضا. وقد نقل العرب إلى الهند، والصين أثناء صلاتهم بهما قسما كبيرا من معارفهم العلمية التي عدها الأوربيون على غير حق من أصل هندي أو صيني، ويظهر أن ما اقتبسه الصينيون من العرب أهم مما أخذه الهنود عنهم، وأن علوم العرب دخلت الصين على إثر الغارة المغولية، وأن الفلكي الصيني الشهير كوشوكينغ تناول في سنة 1280م رسالة ابن يونس في الفلك، وأذاعها في بلاد الصين، وأن الطب العربي انتشر في الصين في سنة 1215م، وقتما غزاها كوبلاي خاقان المغول[37].

ولا يمكن إدراك أهمية شأن العرب في الغرب إلا بتصور حال أوربا حينما أدخل العرب الحضارة إليها، فإذا رجعنا إلى القرن التاسع من الميلاد حين كانت حضارة العرب الأندلسية في أوج نضارتها، رأينا أن مراكز الثقافة في الغرب كانت أبراجا يسكنها أمراء إقطاعيون متوحشون يفخرون بعجزهم عن القراءة، وأن أكثر رجال النصرانية معرفة هم الرهبان المساكين الجاهلون، الذين كانوا يصرفون أوقاتهم في أديارهم ليكشطوا بخشوع كتب الأقدمين النفيسة ليكون عندهم بذلك من الرقوق[38] ما هو ضروري لنسخ كتب العبادة.

مضت مدة طويلة قبل شعور أوربا بهمجيتها، ولم يبد[39] ميلها إلى العلم إلا في القرن الحادي عشر، والقرن الثاني عشر من الميلاد، فلما ظهر فيها أناس رأوا أن يرفعوا أكفان الجهل عنهم، ولوا وجوههم شطر العرب.. وإذا كانت هناك أمة نقر بأننا مدينون لها بمعرفتنا ما انطوت عليه القرون القديمة، فالعرب هم تلك الأمة، لا رهبان القرون الوسطى الذين كانوا يجهلون اسم اليونان، فعلى العالم أن يعترف للعرب بجميل صنعهم في إنقاذ تلك الكنوز الثمينة، قال المسيو ليبري: لو لم يظهر العرب على مسرح التاريخ لتأخرت نهضة أوربا الحديثة عدة قرون.

إن عرب الأندلس إذن هم الذين صانوا في القرن العاشر من الميلاد العلوم والآداب التي أهملت في كل مكان، حتى في القسطنطينية، ولم يكن في العالم في ذلك الزمن غير الأندلس العربية بلاد يمكن طلب العلم فيها، فإلى بلاد الأندلس كان يذهب أولئك النصارى القليلون لطلب العلم، ونذكر منهم على حسب بعض الروايات التي لا تزال موضوع جدال جربرت الذي صار بابا في سنة 999 ملقبا بسلفستر الثاني، ولما أراد هذا البابا أن ينشر في أوربا ما تعلمه عد الناس ذلك من الخوارق واتهموه بأنه باع روحه إلى الشيطان.

وقد كانت ترجمات كتب العرب العلمية المصدر الوحيد للتدريس في جامعات أوربا نحو ستة قرون، ويمكننا أن نقول إن تأثير العرب في بعض العلوم كعلم الطب مثلا، دام إلى الزمن الحاضر. فقد شرحت كتب ابن سينا في مونبيليبه في أواخر القرن الماضي.

 وإذا كان تأثير العرب عظيما في أنحاء أوربا التي لم يسيطروا عليها إلا بمؤلفاتهم، فقد كان تأثيرهم أعظم من ذلك في البلاد التي خضعت لسلطانهم كبلاد أسبانيا. ولن يرى الباحث مثالا أوضح من العرب على تأثير إحدى الأمم في أمة أخرى، ولم يشتمل التاريخ على ما هو أبرز من هذا المثال".

هذا ما يقوله العلماء الاجتماعيون الأوربيون الذين لا يصح اتهامهم بالمبالغة والإغراق في أمر لا تعود منه عليهم ولا على أقوامهم أية مفخرة، ونحن إن نشرناه هنا. كما نشرنا عشرات من مثله في تقدير تأثير أوائلنا في أحوال العالم الأدبية والمدنية، فما ذلك إلا لندلل على أن في الإسلام روحا تبعث الآحاد والجماعات إلى الارتقاء لا يوجد ما يشبهها في التعاليم البشرية. ولنا من وراء ذلك مطلب أكبر قيمة من هذا، وهو أن نستفيد منه لنستعيد مجدنا القديم، ومكانتنا العالمية الماضية، وهو أمر لا سبيل إليه إلا بعملنا المتواصل لتجلية الإسلام في صورته الحقيقية باجتثاث جذور البدع المتفشية في جميع الشعوب الإسلامية، وقطع دابر الآراء الضالة في الدين والدنيا والآداب العامة والخاصة، والعمل في دؤوب ومضاء على توهين[40] أصول الفلسفة المادية التي تعتبر أقوى عدو للأديان في العصر الحاضر، ومن الله التوفيق[41].

ومما لا مماراة فيه عند العقلاء أن ميزة الحضارة الإسلامية الفريدة، أنها حضارة ذات نزعة إنسانية عامة لا عنصرية خاصة، في ذلك يقول د. عبد الله علوان: الحضارة من حيث مفهومها لا تكون ذات طابع إنساني حتى تتصف بالرقي المادي، والرقي المعنوي على حد سواء. والمقصود بالرقي المادي للحضارة مظهرها المتمثل بالصناعة والزراعة، والتجارة، وأصناف الفنون، وأنواع العلوم، لكل أمة ناهضة وشعب طموح. والمقصود بالرقي المعنوي المبادئ الروحية، والقيم الخلقية، والمفاهيم الفكرية، التي تعبر عن معتقدات الأمة وسلوكها، وفلسفتها في الحياة.

والحضارة في تحقيق هدفها، لا تقاس بالتقدم الفكري والعلمي، أو الإبداع الصناعي والآلي، أو التفوق الزراعي والعمراني، إلا بمقدار ما يكون ذلك تعبيرا عن مقاصد إنسانية سامية، وتجسيدا لأهداف خلقية نبيلة.. وهنا يرد السؤال: هل الحضارة في الإسلام تتميز بالطابع المادي، والطابع المعنوي على حد سواء أم تقتصر على أحدهما دون الآخر؟

وإذا كانت تتميز بالطابع المعنوي، فهي ذات قيم روحية، وذات مبادئ خلقية، وذات فلسفة فكرية، وبالاختصار إنها ذات نزعة إنسانية تجلت زمنا في حياة الشعوب، وبناء الأمم. والآن نريد أن نكشف لكل ذي عينين عن حقيقة هذه النزعة، وأن نبين مبادئها في عالم الفكر، وأن نوضح آثارها وتطبيقاتها في عالم الواقع، ليعلم من يريد أن يعلم أن الحضارة في الإسلام لم تقتصر على الجانب المادي فحسب، وإنما شملت الفضائل الإنسانية، والمكارم الخلقية والقيم الروحية، على حد سواء[42].

وبعد أن يسهب المؤلف في تبيان خصائص النزعة الإنسانية في هذه الحضارة مثل: مبدأ لا إكراه في الدين، ومبدأ التعارف بين الشعوب، ومبدأ تحقيق العدالة والمساواة بين الجميع، ومبدأ الجنوح للسلم، ومبدأ الإحسان للأسرى، ومبدأ الحرب الرحيمة، ومبدأ حفظ العهود والمواثيق، ومبدأ الاستفادة من حضارات الأمم الأخرى، الحكمة ضالة المؤمن، يقول: "ولكن هل كانت هذه المعارف في تقرير النزعة الإنسانية بين الأقوام غير المسلمة، حبرا على الورق، أو بوقا للدعاية، أو سرابا لخداع الشعوب، أو كانت حقيقة قائمة في عالم الواقع، وميدان التنفيذ؟

فلنستقرئ التاريخ ليقول كلمته ويدلي بحجته، لكونه الحكم الفصل:

·  السلطان سليم الأول العثماني رأى أن الرومان والبلغار والأرمن، قد كثروا في مملكته كثرة مزعجة، وأقضوا مضجع الدولة الإسلامية بفتنهم ومؤامراتهم، فقرر أن يجبرهم على الإسلام، أو يخرجهم من مملكته، فعارض شيخ الإسلام زنبيلي علي أفندي معارضة شديدة، وقال له بلهجة فيها حدة: ليس لك على اليهود والنصارى إلا الجزية، وليس لك أن تزعجهم عن أوطانهم، فرجع السلطان سليم عند عزمه امتثالا لإرادة الشرع. وهذه الحادثة التاريخية تدل على أنه لا إكراه في الدين.

·  أبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقاتل أهل جرباء وأيلة وأذرح بعد أن انسحبت أمامه جحافل الروم في تبوك، أبى أن يقاتلهم لما وجد من جنوحهم للسلم امتثالا لقوله سبحانه وتعالى: )وإن جنحوا للسلم فاجنح لها( (الأنفال: 61).

وهو الذي أنكر على أسامة بن زيد فعلته لقتله رجلا من المشركين استسلم للإسلام، وقال كلمة الحق، وقد قال له صلى الله عليه وسلم: «أقال لا إله إلا الله وقتلته؟ قال: قلت: يا رسول الله، إنما قالها خوفا من السلاح! قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا».[43] فهذه الأفعال تدل على أن من جنح للسلم فعلينا أن نجنح له.

·  ومما يرويه التاريخ أن عاملا من عمال عمر بن عبد العزيز كتب إلى عمر يقول: إن الدخول في الإسلام أضر بالجزية، أفأفرضها على من أسلم؟ فأرسل إليه عمر بن عبد العزيز يقول: قبح الله رأيك، إن الله - عز وجل - لم يرسل محمدا - صلى الله عليه وسلم - جابيا، وإنما أرسله هاديا، فإذا أتاك كتابي هذا، فارفع الجزية عمن أسلم من أهل الجزية!!

وهذا الموقف من الخليفة الأموي عمر يدل على أن الذمي إذا أسلم بطوعه واختياره يكون شأنه كأي مسلم آخر له ما لنا وعليه ما علينا، بلا ظلم ولا عدوان!!

·  لمـا غزا التتار بلاد الإسلام، ووقع كثير من المسلمين والنصارى في أسرهم، ثم عادت الغلبة للمسلمين، ودان ملوكهم بالإسلام، خاطب شيخ الإسلام ابن تيمية أمير التتار بإطلاق الأسرى، فسمح له الأمير التتاري بفك أسرى المسلمين وأبى أن يسمح بأهل الذمة، فقال له شيخ الإسلام: لا بد من فك الأسرى من اليهود والنصارى؛ لأنهم أهل ذمتنا، فأطلقهم له.

·  ومن أروع ما نسوقه في هذا الصدد ما ذكره البلاذري في كتابه "فتوح البلدان" من أنه لما استخلف عمر بن عبد العزيز، وفد عليه قوم من أهل سمرقند، وشكوا إليه قتيبة بن مسلم الباهلي بأنه دخل مدينتهم على غدر منهم وأسكن المسلمين بها؟ فكتب عمر إلى واليه في الولاية المجاورة وأمره بأن يرفع شكواهم إلى القاضي، فإن ثبت لديه ما ادعوه أمر بإخراج المسلمين من سمرقند، فلما رفعت القضية إلى قاضي المسلمين ابن خاطر الباجي، حكم بإخراج المسلمين، فعجب أهل سمرقند من عدالة المسلمين وأكبروها، ودخلوا في الإسلام طائعين.

·  وكان للذميين نوع من التأمين الاجتماعي ضد الشيخوخة، والمرض، والفقر، فإن خالد بن الوليد - رضي الله عنه - حين كان يقود معارك الفتح في العراق أعلن في معاهدة الصلح مع أهل الحيرة - وكانوا مسيحيين -: "وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنيا فافتقر، وصار أهل دينه يتصدقون عليه طرحت جزيته، وعيل[44] من بيت مال المسلمين هو وعياله ما أقاموا بدار الإسلام".

وروى أبو يوسف في كتاب "الخراج" أن شيخا كان يسأل الناس في عهد عمر، وكان ذميا يهوديا - فقال له عمر: ما أنصفناك، أكلنا شبيبتك ثم نضيعك في هرمك، ثم أخذه إلى بيته فأعطاه ما وجده، وأرسل إلى خازن بيت المال يقول: انظر إلى هذا وضربائه[45] فافرض لهم من بيت المال ما يكفيهم وعيالهم، إنما الصدقات للفقراء والمساكين، وهذا من مساكين أهل الكتاب.

وروى البلاذري في كتاب "فتوح البلدان" أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مر وهو في طريقه إلى الشام بقوم مجذومين[46] من النصارى، فأمر أن ينفق عليهم من بيت المال ما يكفيهم وعيالهم، وبأن يجعل لكل واحد منهم من يخدمه، ويقوم على شئونه، فهذا غيض من فيض، مما شهد به التاريخ على ظاهرة النزعة الإنسانية المتمثلة في مبادئ الإسلام، والمتحققة في معاملة الحكام، والقائمة في عالم الواقع عبر العصور، فقد طوف نظام الإسلام في الآفاق شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا، ونزل السهول والوديان، وساح في الجبال والصحاري، وتقلب في جميع البيئات والأمصار، وعاصر الرخاء والشدة، والسلم والحرب، والحضارة والتخلف، وواجه الأحداث في جميع الأزمنة والقرون.

فكانت المعاملة الحسنة لأبناء الشعوب لا مثيل لها في التاريخ، بل كان الانفتاح على الأمم ظاهرة من ظواهر هذا الدين، بل كان التسامح الذي شهده أصحاب العقائد والملل من حكام المسلمين مفخرة من مفاخر الإسلام. ومن الشهادات الحقة من شهادات المنصفين.

 يتبين أن التاريخ لم يعرف أنبل ولا أكرم ولا أرحم من سماحة المسلمين وعدلهم في معاملة الأعداء فضلا عن الأصدقاء.

عقم التاريخ أن يلد حكاما كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعمر بن عبد العزيز، وصلاح الدين... وعشرات غيرهم رضي الله عنهم، وعقمت الدساتير أن تصنع دستورا كمبادئ الشريعة الإسلامية، وأنظمة القرآن الكريم في العمق، والموضوعية، والدقة، والشمول؛ لأن العظمة في هؤلاء الحكام أنهم أخذوا بأنظمة القرآن الكريم، ومشوا على سنته، والعظمة بالقرآن الكريم أن اختار الله له رجالا بحكمته، وساروا على هديه: )وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون (49) أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون (50)( (المائدة).

والذي نخلص إليه مما تقدم: أن الحضارة في الإسلام تميزت بشيئين:

·     تميزت بالرقي المادي؛ لكونها شملت جميع جوانب الحياة.

·     وتميزت بالرقي المعنوي؛ لكونها شملت مبادئ النزعة الإنسانية، وعواملها الروحية والخلقية على حد سواء.

وهاتان الميزتان للحضارة الإسلامية تؤكد أن الحضارة في الإسلام ذات طابع إنساني لكونها سبيلا إلى السعادة البشرية، وطريقا لبناء شخصية الإنسان على أساس الاحترام والكرامة[47].

رابعا. زرع شيطاني:

رغم هذا البون الشاسع بين طبيعة الحضارة الغربية الحديثة الناهضة على رفات الدين النصراني، وبين الحضارة الإسلامية المرتكزة على الدين، إلا أن قوما من إخواننا في المشرق ممن هواهم غربي خالص قد حاولوا أن يسيروا بنا مسيرة الغرب نفسها، ويوجهونا وجهته ذاتها، المتنكرة للدين في نهضتها، بأن جاهدوا ولا يزالون في سبيل استزراع هذا النموذج الغربي في مجتمعات الشرق، فنما زرعهم شيطانيا غريبا، ملفوظا من هذه المجتمعات، كجسم مريض يلفظ عضوا غريبا استزرع فيه دون مواءمة، فلم يتكيف معه، وجاءت ثمرة حصادهم حنظلا مرا.

وقد أغراهم بتكرار التجربة الغربية في مجتمعات الشرق في العصر الحديث تراجع المسلمين السياسي والحضاري، وتعطل الاجتهاد ورسوخ التقليد، فحملوا وزر هذا كله على رقبة الدين - وهو منه براء - فأرادوا أن يلفظوه من حياة المسلمين كما لفظه الغرب إبان مطلع نهضته الحديثة، لكن الجهة منفكة بين التجربتين والحالتين، فالمعروف أن الكنيسة - باسم الدين - تتحمل جانبا كبيرا من أسباب تخلف أوربا في العصور الوسطى، بينما الثابت في الحالة الإسلامية - حيث لا كنيسة ولا كهنوت - أن مجافاة المسلمين لدينهم - الذي ارتكزت عليه حضارتهم الباكرة الزاهرة - هي أكبر أسباب تراجعهم وانحطاط شأنهم. فالمقدمات في الحالتين ليست متماثلة أو متشابهة حتى تؤدي إلى النتيجة نفسها، ومن ثم تستدعي العلاج ذاته.

تحت عنوان "أغلفة تغطي الحقيقة العظمى" يحدثنا الشيخ محمد الغزالي - رحمه الله - عن أثر هذه العوامل السابقة وما نتج عنها من اختلاط الحق بالباطل في واقع المسلمين المعاصر، فيقول: "يطيب لي أحيانا أن أقيس نفسي بسكان الأرض من البشر كما تقيس القطرة نفسها أحيانا بأمواج اليم! أقول: ما أنا؟ واحد من خمسة مليارات يطعمها قيم السماوات والأرض. انتشر بين المدائن والقرى، ما أقل شأني!

لكن القضية ليست قضية طعام ميسور، أو مجهد يحيا به هذا الجسد، إن لكل واحد منا عينين وأذنين يطل بهما على الوجود من حوله، والإبصار وظيفة معقدة تنقل صور الأشياء إلى المخ ليميز بعضها عن بعض ثم يتصرف. وكذلك الآذان في أصداغ الناس كلهم، وقد تكون وظائفها أعقد وأصعب.

علي - كي أستبين الحق - أن أجيب عن خمسة أسئلة في هذه الآية: )قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر( (يونس: 31).

إن عشرين مليارا من الآذان والعيون، تقوم بوظائفها في هذه اللحظة تحت إشراف بالغ الدقة، وهناك أضعاف هذا العدد من الخلايا التي تولد، والخلايا التي تفنى، في كل كيان حي تظل فيه الحرارة، وتتجدد فيه الأنسجة، إلى أن يأذن الله بقبضه، فتخلو منه الدنيا بعد أن جاءها كما كانت خالية منه قبل أن يجيئها!

من المشرف على هذه الكواكب المتصلة؟ من يدبر أمرها كله؟ إنني في دنيا الناس الآن - عندما أقيس نفسي بسكان الأرض - أهون من ذبابة. فكيف إذا قست نفسي بجموع المستقدمين والمستأخرين من أزل الدنيا إلى أبدها؟ كم أساوي والحالة هذه؟

لقد تضاءلت كثيرا وهذا الخاطر يمر بي، وزاح عني غروري، وعرفت أن المحصورين في أنفسهم يعيشون في وهم كبير، أو في ظلمة دامسة! ثم طفر بي الطفر طفرة أخرى: ما يكون وزن الناس كلهم بعدما أسمع هذا النبأ عن أبعاد الكون الذي نرمق[48] ملكوته بقصور شديد؟ يقول الله سبحانه وتعالى: )لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون (57)( (غافر).

إن الأرض إذا قيست بأمها الشمس هباءة طائرة، والشمس إذا قيست بالمجرات الأخرى هباءة[49] شاحبة، والشموس والمجرات إذا قيست بملكوت الله حلقة في فلاة[50]، وليس يبقى في العالم الرحب شيء له قيمة تذكر إلا عقل ساجد لله جاث أمام عظمته يقول: "سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم".

إن الألسنة اللاهثة[51] تنقطع وهي في سباق مع ذرات الوجود قبل أن تحصي ما ينبغي لله من مجد، وما يستحقه من حمد.

إن الإنسان الأول الذي أحسن تنزيه الله وتوحيده ومدحه، والثناء عليه، بما هو أهله، والحضارة التي أقامها على ظهر الأرض، أساسها الربانية الخالصة، وشعارها الفذ: الله أكبر، وجهادها الزاكي الباقي هو لحراسة الحقيقة الواحدة، وإخماد المناوشات التي تعاديها، وقد لاحظت - وأنا وزملائي ندرس العلوم الحديثة - كأن هناك مؤامرة طويلة الذيول لتجهيل الناس بالله، وصرفهم عنه، وتعليقهم بأوهام ما أنزل الله بها من سلطان.

اسمع هذه الكلمة: "إن الطبيعة زودت الأرحام بوسائد ينقلب فوقها الجنين فلا تضطرب له أجهزة، ولا تشوه له ملامح مهما كانت الاهتزازات التي تتعرض لها الأم!!

ما الطبيعة التي قامت بهذه المهمة الصعبة؟ ذكر هي أم أنثى؟ جن هي أم ملك؟ كيف قامت بمهمتها هذه في أرجاء القارات الخمس؟ ظاهر أن الكاتبين يتعمدون إسدال حجب خادعة على عمل القدرة العليا، ظاهر أن المراد إهالة التراب على اسم الله! أهذه معرفة إنسانية، أم جهالة إنسانية؟

إن البيئة التي نشأ فيها العلم المادي، كانت أبعد ما تكون عن احترام الدين؛ لأن الدين الذي عرفته كان أبعد ما يكون عن احترام العقل، بيد أن الحقيقة لا يجوز أن تضيع في هذه المتاهات الغريبة!

واسمع هذا الكلام في تفسير بدء الخلق: "منذ 50 مليون سنة وقع انفجار عظيم في الكون، انطلقت منه سحب هائلة من الغازات والذرات أخذت تدور هنا وهناك، ثم تجمعت على مر السنين، فإذا هي تلك النجوم والشموس، والعوالم العليا والدنيا التي تشرق وتغرب في أرجاء السماوات!!

انفجار نشأت عن أنقاضه المتناثرة هذه الكواكب الدوارة، بحساب دقيق: )لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار( (يس: 40).

ونشأت عن مصادفته العمياء أو العوراء أرضنا التي قال موسى في وصفها لفرعون، أو في عمل الله بها كما عبر القرآن الكريم: )الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى (53) كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى (54)( (طه).

أي انفجار هنا؟ من صاحبه؟ كيف تمخض تلقائيا عن هذه الأفلاك التي لا يعوج لها مدار، والتي لا يتخلف لها ميعاد في شروق أو غروب؟! هذا هذر باسم العلم! هذا تجهيل متعمد للخالق الحق بديع السماوات والأرض، والذي يراه أولو الألباب أن العلم الحديث يجب أن يبرأ من هذا التجهيل الكنود[52]، وأن يترك هذه التي ينطلق منها في علوم الكيمياء، والفيزياء، والأحياء، وأن يتحدث بأدب وخشوع عن الخالق الكبير.

وهذا التصحيح هو عمل المسلمين الأول، وهو ألف باء الرسالة الإسلامية، والواقع أن علم التوحيد، أو علم الكلام هو الذي ينهض بهذا العبء عندما ينسجم مع قواعده القرآنية، ويتخلص من أدران[53] الفكر الإغريقي القديم، ويتخلص في الوقت نفسه من العوام الذين يقفون عند الظواهر القرآنية، ويتحدثون عن الله حديثا يشبه حديث الخرافيين من أهل الكتاب الأولين، ويكادون يجسدونه لفرط سذاجتهم.

المظنون أن البلاد التي سعدت بالوحي أدنى إلى الرشد، وأحق بالاستقرار من البلاد التي حرمت منه، فقد تمهد لها الطريق، وانزاحت العقبات، ولعلها تجد في مسيرتها ما يعرفها بالوجهة ويؤمنها من الأخطار.

لكن ملاحظة الماضي والحاضر تخلف هذا الظن، وتلقي في أنفسنا أن جماهير غفيرة تحرم من بركات الدين لسببين: إما زيغ في القلب، أو أفن في الرأي![54] وقد يلتقي السببان في بعض الأفراد أو في بعض الطوائف، والذي يتدبر القرآن الكريم يشعر بأنه أكثر الحديث عن أهل الكتاب السابقين كي يجنب أصحاب الرسالة الخاتمة قسوة القلب، وضعف الفكر، ويربطهم بالفكرة السليمة، والعقل الواعي! وليتنا أبصرنا على أشعة الوعي الخاتم هذه الحقائق!

فإن الإيمان يضيع أثره مع كل خلل يصيب العقل، ومع كل هوى يخالط القلب، أو بتعبير أصرح لن يكون للدين موضع يحتله ويعمل منه، إذا اختفى الإنسان السوي وتعطلت مشاعره، وتعطل أسمى ما فيه وهو تفكيره وضميره! وقد أعجبني كتاب الأستاذ عبد المنعم خلاف "أؤمن بالإنسان" لهذا الملحظ!!

عندما يكون الدين مراسم لفكر سطحي فإنه يتحول إلى أشكال وترانيم، وعندما يكون ذكاء مع شح مطاع وهوى متبع، فإنه يتحول إلى مصيدة للمغانم والمآرب[55]، وأخطأ سقراط عندما قال: الفضيلة المعرفة! ما قيمة المعرفة عند الذين تقودهم شهواتهم؟ )أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون (23)( (الجاثية)

لا بد - مع المعرفة الواسعة - من ضميمة أخرى هي النية الشريفة، وإخلاص القلب لله! وقد أفاض علماؤنا الأولون في أن النجاة تعتمد على الفقه - وهو المعرفة الصحيحة للحكم - وعلى التجرد - وهو البراءة من المآرب الشخصية والتمحض لله عز وجل، ويظهر أن الجمع بين الأمرين يحتاج إلى جهود مضنية.

هل كان الخوارج مخلصين؟ يرى الكثيرون أنهم أتوا من بلادة الفقه، وقصر النظر مع حسن نيتهم!! ورأيي أن رفضهم السماع من أولي الألباب وأهل الذكر هو لون من العناد، يقدح في إخلاصهم للحق ويخرجهم من دائرة الاجتهاد المحترم!

الفضيلة هي المعرفة حقا عندما تكون المعرفة باعثة على إرضاء الله وفعل الخير، ونصرة الحق، ومحق الباطل وتحسين الحسن وتقبيح القبيح، وما أحوج العالم الإسلامي إلى عارفين من هذا النوع الشريف. إن البيئات المتدينة في أرجاء شتى من العالم الإسلامي تتسم بالقصور والجمود، وتشدها إلى التراب طبائع معتلة، والجو الذي تحيا فيه - يخالف مخالفة تامة جو القرآن الكريم المليء بالصحو والضوء والتألق والانطلاق. لقد شرح لنا الوحي الخاتم علاقتنا بربنا وعلاقتنا بالناس، فعرفنا أن الله واحد، وأن ما عداه خلق يعنو له، ويهلك إن فقد إيجاده وإمداده، وأننا عائدون إليه ألبتة بعد انقضاء آجالنا هنا، وأننا محاسبون على الطريقة التي قضينا بها أيامنا على ظهر الأرض، شرح القرآن ذلك بوضوح لم يعهد في فلسفة سابقة، ولا في دين مضى! فالإله كما صوره أرسطو يحيا في غيبوبة خاصة لا يدري ما يفعله غيره، ولا يعنيه، وهو بتعبير ول ديورانت: يملك ولا يحكم مثل ملكة إنجلترا! ولعل العالم صدر عنه بطريق التفاعلات الكيماوية! إنها ألوهية سخيفة!

أما الإله الثالث فشأنه لا يقل عجبا، إن إدخال جبل في قارورة أيسر من إدخال فكرة التثليث والتوحيد في دماغ بشر، وكذلك فكرة الخطيئة والفداء، من أجل ذلك انفصل العلم عن الدين، واتخذ كل منهما وجهة خاصة به، على نحو ما قيل:

سارت مشرقة وسرت مغربا

 

شتان بين مشرق ومغرب

أما الوحي الخاتم - وما نحسب في الدنيا الآن وحيا غيره - فهو يقود البشر من بصائرهم إلى كون يدل على الله، أو إلى إله تتجلى عظمته في ملكوته، وتتضح الآفاق بوحدانيته، وامتداد سلطانه!! )الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين (64)( (غافر).

ومن عجائب الدنيا أن أمة لديها هذا الوحي لا تحسن صحبته، ولا تستضيء بسناه، ولا تتعرف منه على حقوق الله، وحقوق الناس!! بل ينظر الناظرون إليها فيجدونها متخلفة عن الركب الإنساني السائر، يجود عليها هذا بآلة، وذاك برغيف، أو يمن هذا عليها بدواء تعالج به عللها، أو سلاح ترد به العادين عليها، أما إنتاجها لنفسها ودينها فصفر!

إن الهزائم النفسية والعلمية أنكى[56] - في نظري - من الهزائم السياسية والعسكرية، ويغلب أن تكون هذه نتيجة لتلك. وقد رمقت الصنم[57] الذي هوى في أوربا الشرقية، وكيف تدافعت الشعوب إلى الخروج من سجن الشيوعية، وكيف تعالت صيحاتها وهي تطارد حكام الأمس الدابر، وتستنزل عليهم اللعنات!! وكنت أحسب الشيوعيين العرب سوف يتوارون خجلا بعدما انكشفت عوراتهم هناك! لكن الذي حدث أنهم تماسكوا ونظموا في الجزائر مظاهرة نسوية لإلغاء قوانين الأسرة الإسلامية!

إن أشرف ما تزين به العلمانية دعواها هو تطلعها إلى إنسانية سليمة، تنمو مواهبها في جو ضاح[58] من الحريات المصونة، تحرسها عدالة اجتماعية وسياسية ممتدة، وينعم فيها الرجال، والنساء، والصغار، والكبار، بحقوق لا يعكرها أمنيات طبقي أو عرقي، وينتفع الناس فيها على الحياة، فيستغلون قوى الكون باقتدار مادي وعلمي لا حدود له.

إن حضارتنا الأولى كفلت هذا كله، وضمت إليه أمرا آخر لا تعرفه الحضارة المعاصرة، هو الإيمان بالله والتزام هداه والإعداد للقائه، والشعور بأن هذه الحياة الدنيا جسر إلى ما بعدها من خلود! ذاك تاريخ سلفنا العظيم.

عندما أسقط المرتدون الخلافة الإسلامية في تركيا، أقاموا نظاما علمانيا ظاهره الانفلات من الأديان كلها، وباطنه مخاصمة الإسلام وحده، ومتابعة أوربا في مظاهر حضارتها المنتصرة، وكان النظام الجديد عسكريا صارما، بدأ عهده بقتل عدد كبير من رجال الدين الذين قادوه، والحق أن الشعب كان كارها له، مؤثرا الإسلام في شئون حياته كلها، بيد أنه فشل في مقاومة الارتداد المسلح، فاستكان على مضض[59]، وإلى حين، منتهزا كل فرصة لإظهار ولائه الإسلامي وحنينه إلى أن يعود الإسلام المستبعد.

وبدهي أن تكون شئون الأسرة والعلاقات بين الجنسين هي في مقدمة ميادين الصراع بين العلمانية والإسلام، فقد كان الحكام حراصا على نقل الاختلاط الأوربي الماجن إلى الشرق الإسلامي كله، وإذا كانوا قد تركوا القرآن خلف ظهورهم، فما الذي كان يرجى منهم؟!

)ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر( (النور: 21) وقاومت طالبات الجامعات والمعاهد هذا الزحف المنحل، وأصررن على ارتداء الحجاب الإسلامي! إنه سمة الفضيلة والتحفظ! تبقى المرأة طاهرة مصونة عن الأعين المتلصصة! بيد أن هذا الاحتشام أحفظ الملاحدة، فاستصدر قائد الجيش قرارا من المحكمة العليا بأن هذا الاتجاه الإسلامي يخالف الثورة الكمالية العلمانية، ومن ثم يجب منعه! وقد لاحظنا أن المحكمة الدستورية العليا في فرنسا أقرت الحجاب الإسلامي، ولم تر فيه تناقضا مع النظام العام السائد، وهو حكم معقول، لكن التابع الأحمق قد يكون ملكيا أكثر من الملك، أفكان النظام التركي قادرا على منع الراهبات المسيحيات من ارتداء ملابسهن، وهي أقرب ما تكون إلى الحجاب الإسلامي؟! إنه استأسد[60] على العفيفات المحصنات من طالبات الجامعات وحدهن[61]!

خامسا. حضارة متوحشة:

هكذا يريد العلمانيون استغلال لحظة الوهن الحضاري في الجسد الإسلامي - الناشئة عن مجافاة الإسلام لا موالاته - كما ذكرنا - في استزراع ملامح مدنية، لا ننكر فائدتها وجدواها المستحبة في كثير من الجوانب المادية، لكن سجلها في الجانب الروحي والقيمي والإنساني شائن إلى حد كبير.

وقد كان منطقيا أن نقتبس منه الجانب المادي - شأن حضارات التاريخ البشري في التأثير والتأثر - مع إبقائنا على قيم عقيدتا وهويتنا - كما فعلت كثير من الأمم المعاصرة؛ كاليابانيين والصينيين - لكن هؤلاء يريدون اقتلاعنا من جذورنا ومسخ هويتنا وإزاحة عقيدتنا، ثم يقال إن الإسلام قد بطل مفعوله وانتهى دوره في الحياة!!

ورغم تفلت هذه المدنية الغربية - المراد لنا أن نحذو حذوها حذو النعل بالنعل - من إسار[62] الدين فيبدو أنها قد استندت منه إلى ما يناسب وحشيتها، ففي الكتاب المقدس: "حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك. وإن لم تسالمك، بل عملت معك حربا، فحاصرها. وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف. وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة، كل غنيمتها، فتغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك. هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدا التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا. وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا فلا تستبق منها نسمة ما، بل تحرمها تحريما: الحثيين والأموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين واليبوسيين، كما أمرك الرب إلهك، لكي لا يعلموكم أن تعملوا حسب جميع أرجاسهم التي عملوا لآلهتهم، فتخطئوا إلى الرب إلهكم". (التثنية 20: 10 - 18).

"فتجندوا على مديان كما أمر الرب وقتلوا كل ذكر. وملوك مديان قتلوهم فوق قتلاهم: أوي وراقم وصور وحور ورابع. خمسة ملوك مديان. وبلعام بن بعور قتلوه بالسيف، وسبى بنو إسرائيل نساء مديان وأطفالهم، ونهبوا جميع بهائمهم، وجميع مواشيهم وكل أملاكهم. وأحرقوا جميع مدنهم بمساكنهم، وجميع حصونهم بالنار. وأخذوا كل الغنيمة وكل النهب من الناس والبهائم، وأتوا إلى موسى وألعازار الكاهن وإلى جماعة بني إسرائيل بالسبي والنهب والغنيمة إلى المحلة إلى عربات موآب التي على أردن أريحا". (العدد 31: 7 - 12).

"فهتف الشعب وضربوا بالأبواق. وكان حين سمع الشعب صوت البوق أن الشعب هتف هتافا عظيما، فسقط السور في مكانه، وصعد الشعب إلى المدينة كل رجل مع وجهه، وأخذوا المدينة. وحرموا كل ما في المدينة من رجل وامرأة، من طفل وشيخ، حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف. وقال يشوع للرجلين اللذين تجسسا الأرض: «ادخلا بيت المرأة الزانية وأخرجا من هناك المرأة وكل ما لها كما حلفتما لها». فدخل الغلامان الجاسوسان وأخرجا راحاب وأباها وأمها وإخوتها وكل ما لها، وأخرجا كل عشائرها وتركاهم خارج محلة إسرائيل. وأحرقوا المدينة بالنار مع كل ما بها، إنما الفضة والذهب وآنية النحاس والحديد جعلوها في خزانة بيت الرب". (يشوع 6: 20 - 24)[63].

"فقال الرب ليشوع: «مد المزراق الذي بيدك نحو عاي لأني بيدك أدفعها». فمد يشوع المزراق الذي بيده نحو المدينة. فقام الكمين بسرعة من مكانه وركضوا عندما مد يده، ودخلوا المدينة وأخذوها، وأسرعوا وأحرقوا المدينة بالنار... وكان لما انتهى إسرائيل من قتل جميع سكان عاي في الحقل في البرية حيث لحقوهم وسقطوا جميعا بحد السيف حتى فنوا، أن جميع إسرائيل رجع إلى عاي وضربوها بحد السيف. فكان جميع الذين سقطوا في ذلك اليوم من رجال ونساء اثني عشر ألفا، جميع أهل عاي. ويشوع لم يرد يده التي مدها بالمزراق حتى حرم جميع سكان عاي. لكن البهائم وغنيمة تلك المدينة نهبها إسرائيل لأنفسهم حسب قول الرب الذي أمر به يشوع. وأحرق يشوع عاي وجعلها تلا أبديا خرابا إلى هذا اليوم. وملك عاي علقه على الخشبة إلى وقت المساء. وعند غروب الشمس أمر يشوع فأنزلوا جثته عن الخشبة وطرحوها عند مدخل باب المدينة، وأقاموا عليها رجمة حجارة عظيمة إلى هذا اليوم. حينئذ بني يشوع مذبحا للرب إله إسرائيل في جبل عيبال". (يشوع 8: 18 ـ30).

"من خارج السيف يثكل، ومن داخل الخدور الرعبة. الفتى مع الفتاة والرضيع مع الأشيب. قلت: أبددهم إلى الزوايا، وأبطل من الناس ذكرهم". (التثنية 32: 25، 26).

وكذلك فعل يشوع بالشعوب الآتية: مقيدة وأريحا ولبنة، ولخيس، وحبرون، ودبير، وضربهم بحد السيف، وكل نفس بها ولم يبق بها شاردا، بل حرم كل نسمة بها، كما أمر الرب!! "فضرب يشوع كل أرض الجبل والجنوب والسهل والسفوح وكل ملوكها. لم يبق شاردا، بل حرم كل نسمة كما أمر الرب إله إسرائيل". (يشوع 10: 40). " ثم رجع يشوع في ذلك الوقت وأخذ حاصور وضرب ملكها بالسيف، لأن حاصور كانت قبلا رأس جميع تلك الممالك. وضربوا كل نفس بها بحد السيف. حرموهم، ولم تبق نسمة، وأحرق حاصور بالنار. فأخذ يشوع كل مدن أولئك الملوك وجميع ملوكها وضربهم بحد السيف. حرمهم كما أمر موسى عبد الرب". (يشوع 11: 10ـ 12). "وخرج رجال إسرائيل لمحاربة بنيامين، وصف رجال إسرائيل أنفسهم للحرب عند جبعة. فخرج بنو بنيامين من جبعة وأهلكوا من إسرائيل في ذلك اليوم اثنين وعشرين ألف رجل إلى الأرض". (القضاة 20: 20، 21).

"فضرب الرب بنيامين أمام إسرائيل، وأهلك بنو إسرائيل من بنيامين في ذلك اليوم خمسة وعشرين ألف رجل ومائة رجل. كل هؤلاء مخترطو السيف". (القضاة 35: 20). "وجاء إلى السامرة، وقتل جميع الذين بقوا لأخآب في السامرة حتى أفناه، حسب كلام الرب الذي كلم به إيليا". (الملوك الثاني 17: 10).

"وقال لأولئك في سمعي: اعبروا في المدينة وراءه واضربوا. لا تشفق أعينكم ولا تعفوا. الشيخ والشاب والعذراء والطفل والنساء، اقتلوا للهلاك. ولا تقربوا من إنسان عليه السمة، وابتدئوا من مقدسي. فابتدأوا بالرجال الشيوخ الذين أمام البيت. وقال لهم: "نجسوا البيت، واملأوا الدور قتلى. اخرجوا". فخرجوا وقتلوا في المدينة". (حزقيال 9: 5 - 7).

وفي العهد الجديد أيضا أن إله المحبة أتى من أجل دمار البشرية: "جئت لألقي نارا على الأرض، فماذا أريد لو اضطرمت؟ ولي صبغة أصطبغها، وكيف أنحصر حتى تكمل؟ أتظنون أني جئت لأعطي سلاما على الأرض؟ كلا، أقول لكم: بل انقساما. لأنه يكون من الآن خمسة في بيت واحد منقسمين: ثلاثة على اثنين، واثنان على ثلاثة. ينقسم الأب على الابن، والابن على الأب، والأم على البنت، والبنت على الأم، والحماة على كنتها، [64] والكنة على حماتها". (لوقا 12: 49 - 53).

والغريب في تفسير الأنبا شنودة في هذه الفقرة أنه يزعم أن عيسى - عليه السلام - يعني بها أن هذا الدين عندما يدخل في بيت ما، سيؤمن أحد أفراد البيت به ويكفر الآخرون، مما سيؤدي إلى اصطدام أفراد البيت بعضهم ببعض.

وهذا تفسير بعيد عن واقع النص، إذ لا يقول إله أو نبي إنه أتى بالانقسام ونشر العداوة بين أهل البيت الواحد، بل من العقل أن يقول لهم: إنه أتى بالحق المبين، إنه أتى بالفضيلة، إنه أتى بالحب لمن يتبعه، فيكون بذلك مبشرا وليس منفرا. وكذلك فإن من طبيعة النار أنها حارقة، مدمرة، وهذا ما رأيناه من سياق النص، فأين البشارة السارة في هذا الدين الذي ينذر متبعيه بالدمار الشامل لهم ولأسرهم؟ فهل البشارة السارة والدين القويم يطلق عليه النار المدمرة؟

 "لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض. ما جئت لألقي سلاما بل سيفا. فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه، والابنة ضد أمها، والكنة ضد حماتها. وأعداء الإنسان أهل بيته". (متى 10: 34 - 36).

وهذا النص مؤكد لتفسيرنا السابق، فالسيف المقصود هنا ليس سيف الحق، كما يدعي النصارى، ولو كان هو سيف الحق، لكان لزاما عليه أن يقول: جئتكم بالحق، والخير والسلام، لمن يتبعني، وليس بالسيف؛ لأن النار مفرقة ومدمرة لأفراد البيت الواحد، ومقوضة[65] للمجتمع بأكمله. ثم هل سيف الحق يكون شرا على مقتنيه؟ وهل لا يسمى سيف الحق سيف سلام، ويطلق عليه سيف التفريق بين الناس؟ وهل سيف الحق يؤجج العداوة[66] بين أفراد أهل البيت الواحد؟ وإذا كان السيف سيفرق بين أفراد الأسرة الواحدة، فكيف نفهم هذا في ضوء قوله: "سمعتم أنه قيل: عين بعين وسن بسن. وأما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضا. ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضا. ومن سخرك ميلا واحدا فاذهب معه اثنين. من سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده". (متى 5: 38 - 42).

فإذا كان هذا الدين سيفا لتفريق الناس والأحبة، فهو دين لدمار البشرية، فماذا كان سيفعل الشيطان غير ذلك لو أرسل كتابا للبشرية؟

 وفي الوقت الذي يكون الكتاب المقدس فيه هو الكتاب الأوحد في الكون الذي يأمر بقتل العجائز والنساء والأطفال، وشق بطون الحوامل: "وحرموا كل ما في المدينة من رجل وامرأة، من طفل وشيخ، حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف. وقال يشوع للرجلين اللذين تجسسا الأرض: «ادخلا بيت المرأة الزانية وأخرجا من هناك المرأة وكل ما لها كما حلفتما لها». فدخل الغلامان الجاسوسان وأخرجا راحاب وأباها وأمها وإخوتها وكل ما لها، وأخرجا كل عشائرها وتركاهم خارج محلة إسرائيل. وأحرقوا المدينة بالنار مع كل ما بها، إنما الفضة والذهب وآنية النحاس والحديد جعلوها في خزانة بيت الرب". (يشوع 6: 21 - 24).. "فالآن اذهب واضرب عماليق، وحرموا كل ما له ولا تعف عنهم، بل اقتل رجلا وامرأة، طفلا ورضيعا، بقرا وغنما، جملا وحمارا". (صموئيل الأول 15: 3).

"وأخرج الشعب الذين بها ونشرهم بمناشير ونوارج حديد وفئوس. وهكذا صنع داود لكل مدن بني عمون. ثم رجع داود وكل الشعب إلى أورشليم". (أخبار الأيام الأول 20: 3)، "فالذي ينجو من سيف حزائيل يقتله ياهو، والذي ينجو من سيف ياهو يقتله أليشع". (الملوك الأول 17: 19)، "فتضربون كل مدينة محصنة، وكل مدينة مختارة، وتقطعون كل شجرة طيبة، وتطمون جميع عيون الماء، وتفسدون كل حقلة جيدة بالحجارة". (الملوك الثاني 3: 19). "يا بنت بابل المخربة، طوبى لمن يجازيك جزاءك الذي جازيتنا! طوبى لمن يمسك أطفالك ويضرب بهم الصخرة!". (مزامير 137: 8، 9).

"تجازى السامرة لأنها قد تمردت على إلهها. بالسيف يسقطون. تحطم أطفالهم، والحوامل تشق". (هوشع 13: 16). وليس هذا شأن العهد القديم فقط، بل إن بولس نفسه قد أيد كل ما ورد فيه من دموية، فنجده يقول في الرسالة إلى العبرانيين: "بالإيمان سقطت أسوار أريحا بعدما طيف حولها سبعة أيام. بالإيمان راحاب الزانية لم تهلك مع العصاة، إذ قبلت الجاسوسين بسلام. وماذا أقول أيضا؟ لأنه يعوزني الوقت إن أخبرت عن جدعون، وباراق، وشمشون، ويفتاح، وداود، وصموئيل، والأنبياء، الذين بالإيمان: قهروا ممالك، صنعوا برا، نالوا مواعيد، سدوا أفواه أسود، 34 أطفأوا قوة النار، نجوا من حد السيف، تقووا من ضعف، صاروا أشداء في الحرب، هزموا جيوش غرباء". (الرسالة إلى العبرانيين 11: 30 - 34). "لا تكونوا تحت نير مع غير المؤمنين، لأنه أية خلطة للبر والإثم؟ وأية شركة للنور مع الظلمة؟ وأي اتفاق للمسيح مع بليعال؟ وأي نصيب للمؤمن مع غير المؤمن؟ وأية موافقة لهيكل الله مع الأوثان؟". (رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنثوس 6: 14 - 16).

إذن فبولس نفسه يرى أن ما فعله هؤلاء من سفك دماء وجرائم حرب إنما هو تقوى وإيمان وخير!! أضف إلى ذلك أن عيسى - عليه السلام - لم يأت بدين جديد، فما كان له أن يعلم دينا جديدا في معبد اليهود بين ظهرانيهم وينشره في ربوع اليهودية، فكم من مرة احتكم إلى التوراة؟ وكم من مرة أعاد على أذهان مستمعيه من اليهود أقوال التوراة والأنبياء في القضايا المختلفة؟ وكم مرة صحح أفهامهم ومعتقداتهم بشأن كتب موسى والأنبياء؟

وبذلك لن يبقى الغرض من مجيئه إلا تدمير الأسر والحياة الاجتماعية الهادئة، إلا إذا أقرت الكنيسة بأن هذا النص ليس من أقوال عيسى عليه السلام.

فما هو إذن الدين الجديد الذي أتى هو به وليس بولس، الذي من شأنه أن يفرق به بين أفراد الأسرة الواحدة؟ وأين واجبه كإله للمحبة أن يهدي البشرية؟ وهل خلق البشرية بهذا السوء، لدرجة أن هذا الدين لن يجتمع في أسرة كاملة؟ أم أرسل دينا سيئا لدرجة أن الأتقياء من أهل البيت الواحد لن يقبلوه، وبذلك يصطدمون بالأشرار الذين يجمعهم هذا البيت؟ فالإله في زعمهم يفترض بذلك أنه لن يؤمن به بيت كامل بالمرة، بل سيكون الانقسام داخل كل بيت، منهم الكافرون ومنهم المؤمنون، فرسالته ينبغي أن تكون هي رسالة الحب، ومن لا يتبعها يكن من الآثمين، فكان ينبغي لهذا الإله أن يكون من المتفائلين، وأن ينظروا إلى النور الذي تشعه رسالته، وليس إلى ظلام قلوب الآثمين. فتبريراتهم في هذا الشأن إذا متهافتة"[67].

هذا عن التاريخ القديم، فماذا عن التاريخ الحديث في ظل التمدن الحضاري، وعلو نبرة حقوق الإنسان، يقول د. عبد الله علوان: "صحيح أن أمريكا وروسيا بلغتا الذروة في الرقي المادي في عصرنا اليوم، ولكنهما صفر على الشمال في التحضر الإنساني والتعامل البشري!! نعم إنهما صفر على الشمال لماذا؟

لأن أمريكا تضع على فنادقها ونواديها لافتات تكتب عليها "للبيض فقط" أو تكتب عليها في وقاحة متناهية "ممنوع دخول السود والكلاب"!!

لأن أمريكا مكنت دولة القزم - إسرائيل - في فلسطين بعد أن أخرجت الآلاف من أهلها من ديارهم بغير حق، فهاموا على وجوههم مشردين في كل أرض وتحت كل سماء.

لأن أمريكا سرطان الاستعمار في العصر الحديث، وكم استعمرت من أمم مستضعفة؟ وكم استذلت من شعوب صغيرة؟ وكم امتصت من خيرات دول لا حول لها ولا قوة!!

وقس على ذلك إنجلترا التي حرمت الملونين في أفريقيا من حقوقهم البشرية، وقتلتهم بالجملة؛ لأنهم طالبوا بحريتهم حين أحسوا بالكرامة.

وقس على ذلك فرنسا حين قتلت مئات الألوف في تونس والجزائر ومراكش، لا لشيء سوى أنهم طالبوا بالحرية والكرامة والاستقلال.

هذه هي الحضارة الغربية على حقيقتها، وهذه هي المدنية الأوربية في أوجها، كيف يجيزون لأنفسهم رفع الشعارات المزيفة، وطرح فكرة الوصاية على العالم، وهذه هي أفعالهم القبيحة ومعاملتهم الوحشية؟!!

وماذا صنعت الشيوعية؟ يقول د. عبد الله عزام في كتابه "السرطان الأحمر":

·  في تركستان الشرقية: احتلتها الصين سنة 1934م، بمساعدة الجيش الأحمر الروسي وقتلوا ربع مليون مسلم من المفكرين والعلماء والشباب.

·     قامت الثورة الصينية سنة 1952م فقتلت 122 ألفا من المسلمين.

·     في يوغسلافيا أباد تيتو بعد الحرب العالمية من المسلمين 24 ألفا.

·     في القرم أبادت الشيوعية سنة 1921م مائة ألف.

·  في القفقاس نفى ستالين إلى سيبريا وآذربيجان حوالي مليونين من المسلمين، وهدم المساجد وحولها إلى اصطبلات ودور للسينما ومراكز للحزب، وأماكن للترفيه.

·  في تركستان الغربية كان مجموع من قتل من المسلمين فيها 6 ملايين مسلم سنة 1919م، هرب منها مليون ونصف. عدا ثلاثة ملايين قتلوا ما بين سنة 1920م إلى سنة 1951م.

·     وقد ثبت بالإحصائيات الروسية أن ستالين قد قتل 11 مليونا من المسلمين.

ولا شك أن هذه الهمجية والاستعباد وخنادق القتل الجماعي ومسابح حمامات الدم - وصمة عار في جبين الإنسانية، بل وحشية متناهية لم يشهد مثلها التاريخ: )وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد (8)( (البروج)، وما اقترفوا من إثم سوى أن قالوا: إننا نرفض اعتناق مبادئ الكفر والإلحاد، فكان هذا مصيرهم وجزاءهم، أين هذا كله من إنسانية الإسلام وحضارة الإسلام، وسماحة الإسلام، وعدالة الإسلام"[68]؟!

فماذا لو تأخر هذا الكلام حتى يشهد قائله فواجع اللحظة الراهنة في البوسنة وكوسوفا والشيشان، وتركستان، والعراق، وأفغانستان، وفلسطين وغيرها؟!

فضلا عن السجون السرية حول العالم، ناهيك عن معتقل "جوانتانامو" وسام العدالة والحرية وحقوق الإنسان على صدر حضارة الغرب المعاصرة والذي لا يليق حتى بحقوق الحيوان!!

سادسا. المستقبل للإسلام إن شاء الله:

هذه ملامح مسيرة الديانتين (النصرانية والإسلام) ومدى تأثيرهما في مجريات الواقع تاريخيا، وقبل هذا مدى قابلية جوهرهما وطبيعتهما للتأثير في واقع البشر، وما من شك في أن الإسلام ينفرد بإلحاحه على الالتفات لواقع الإنسان والمجتمع، ومجريات الحياة الإنسانية والتنظير لها وتقويمها، فهل لهذا الدين مستقبل في حياة البشر؟

يجيب عن هذا التساؤل مجموعة من أعلام المفكرين، يقول الأستاذ محمد فريد وجدي في ختام مقال له بعنوان "المستقبل للإسلام": "هذا هو الدين الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - دينا عاما للبشر كافة، فهل تجد محيصا للبشر عنه؟ كيف يعقل ذلك والفطرة أساسه والعقل نبراسه والعلم مادته؟ وهل للبشر محيص عن هذه الأصول الطبيعية مهما حاولوا ذلك وتكلفوه؟ فإن كان في العالم أصول كلما أمعنت في البعد عنها ازدادت قربا منها، فهي الفطرة والعقل والعلم.

وهذا كله معنى قوله سبحانه وتعالى: )أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون (83) قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (84)( (آل عمران)، وقوله جل شأنه: )يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا (174) فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما (175)( (النساء). وقوله عز وجل: )ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد (6)( (سبأ) [69].

وتحت عنوان "هل استنفدت الحضارة الإسلامية أغراضها"؟ يقول د. عبد الله علوان: بلغت الحضارة الإسلامية من النضج والازدهار، ما جعلها بحق أن تكون أستاذة الحضارات في فترات طويلة من التاريخ، بل كانت البشرية شرقا وغربا تنهل من سلسبيلها العذب، وترتشف من معينها الصافي على مدى العصور وكر الدهور، بل إن أوربا بأسرها - كما اعترف رجال الفكر فيها - لم تنهض حضاريا، ولم تتقدم علميا، ولم تنضج فكريا، إلا بفضل ما أخذوه عن المسلمين من علوم حضارية حية ومعارف كونية متجددة!! إذن فما الذي أصاب المسلمين اليوم؟

هل الذي أصابهم من تخلف حضاري، وانحسار سياسي، وتفكك اجتماعي؛ لأن الإسلام لم يعد صالحا لهذا الزمن، أو لأن مفاتيح الحضارة التي وجدت في الماضي لم تعد صالحة اليوم؟!

في الحقيقة ليس هذا ولا ذاك؛ لأن الإسلام يتسم بالخصائص التالية:

·     يتسم بالربانية؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد.

·     ويتسم بالعالمية؛ لأنه شريعة البشرية جمعاء.

·     ويتسم بالشمول؛ لأنه تنزل لمناهج الحياة.

·     ويتسم باليسر؛ لأنه دين التيسير ودفع الحرج.

·     ويتسم بالتجدد؛ لأنه يفي بحاجات البشرية في كل زمان ومكان.

·     ويتسم بالخلود؛ لأن الله تكفل بحفظه إلى يوم الدين.

ومن هنا نعلم السر في قوله سبحانه وتعالى: )اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا( (المائدة: 3).

ويكفي الإسلام خلودا وعظمة أن يشهد لصلاحيته كبار رجال القانون الوضعي في الغرب، وهي شهادات معللة، تحمل في عباراتها براهين صدقها، بل معترفة بسبق الشريعة وفضلها وتفوقها، ولا بأس أن نسوق هنا بعض هذه الشهادات للذين لا يزالون يثقون بالفكرة إذا هبت ريحها من جهة الغرب:

1. يقول د. إيزكو انساباتو: إن الشريعة الإسلامية تفوق في كثير من بحوثها الشرائع الأوربية، بل هي التي تعطي للعالم أرسخ الشرائع ثباتا.

2. ويقول العلامة شبرل عميد كلية الحقوق بجامعة فيينا في مؤتمر الحقوق سنة 1927م: إن البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد - صلى الله عليه وسلم - إليها؛ إذ رغم أميته استطاع قبل بضعة عشر قرنا أن يأتي بتشريع سنكون نحن الأوربيين أسعد ما نكون، لو وصلنا إلى قمته بعد ألفي سنة.

3. ويقول الفيلسوف الإنجليزي برنارد شو قولته الخالدة: لقد كان دين محمد موضع تقدير سام لما ينطوي عليه من حيوية مدهشة، وأنه الدين الوحيد الذي له ملكة الهضم لأطوار الحياة المختلفة، وأرى واجبا أن يدعى محمد - صلى الله عليه وسلم - منقذ الإنسانية، وإن رجلا كشاكلته إذا تولى زعامة العالم الحديث فسوف ينجح في حل مشكلاته.

4. ويقول المؤرخ الإنجليزي ويلز في كتابه "ملامح تاريخ الإنسانية": إن أوربا مدينة للإسلام بالجانب الأكبر من قوانينها الإدارية والتجارية.

5. أما المؤرخ الفرنسي سيديو فيؤكد: أن قانون نابليون منقول عن كتاب فقهي في مذهب الإمام مالك هو: "شرح الدردير على متن خليل"

ويكفي الإسلام عطاء وتجددا أن تشهد المؤتمرات الدولية على صلاحيته وملكة خلوده على مدى الزمان والأيام:

ففي مدينة لاهاي انعقد مؤتمر دولي للقانون المقارن سنة 1937م.

وفي نفس المدينة - لاهاي - انعقد مؤتمر المحامين الدولي سنة 1948م.

وفي باريس عقدت شعبة الحقوق الشرقية من المجتمع الدولي، مؤتمرا تحت اسم "أسبوع الفقه الإسلامي" سنة 1950، وقد سجلت هذه المؤتمرات القرارات التاريخية التالية:

·         اعتبار الشريعة الإسلامية مصدرا من مصادر التشريع.

·         وأنها حية قابلة للتطور.

·         وأنها شرع قائم بذاته ليس مأخوذا عن غيره.

·         يجب على جمعية المحامين الدولية أن تتبنى الدراسة المقارنة لهذا التشريع، نظرا لما في التشريع الإسلامي من مرونة.

·         إن مبادئ الفقه الإسلامي لها قيمة حقوقية تشريعية لا يماري فيها.

·         بإمكان الفقه الإسلامي أن يستجيب لجميع مطالب الحياة الحديثة والتوفيق بين حاجاتها"[70].

وقد تعددت التصورات وتنوعت اجتهادات المفكرين الإسلاميين حول أنجح السبل لإقامة مجتمع إسلامي رشيد، بعبارة أخرى لإحداث أكبر تأثير لتعاليم الإسلام الصالحة سلفا للتطبيق والتأثير، كما وضح لنا مما سبق، على عكس زعم الزاعمين أنه بطل مفعولها وتلاشى أثرها. وعن السبيل إلى إقامة مجتمع إسلامي يقول الشيخ الشعراوي - رحمه الله - دعوا الإسلام محققا، وإن لم يكن مطبقا، وبعد ذلك طبق الإسلام فيما ولايتك فيه على نفسك، فلو أن كل واحد فينا طبق الإسلام فيما ولايته على نفسه، لسقط الحاكمون بغير الإسلام وحدهم.

ولو أن الحكام يعلمون أن الناس يحبون منهج الله؛ لأنهم يرونهم يطبقونه في نفوسهم، لتقربوا إلى شعوبهم بتطبيق منهج الله.. إن مهمتنا في الحياة نحو مجتمع إسلامي ذات شقين:

الأول: أن نسعى ونلحق ونجاهد في تطبيق الإسلام.

الثاني: إذا لم يتحقق التطبيق فعلينا أن نحقق الإسلام ونصفيه علما، علما يجلي عقيدة الإسلام تجلية صافية، ويبين حقيقة القرآن، وما فيه من كنوز ثمينة، وأنه ليس من قول بشر؛ لأن فيه غيبيات تتسامى على قدرات البشر، وعملنا حاليا أن نجلي الإسلام عقيدة وعبادة"[71].

وتحت عنوان "تجديد الإسلام: كيف؟" بمعنى كيفية تنشيط تأثير الإسلام في واقع حياة المسلمين يبين الشيخ محمد الغزالي - رحمه الله - أنه: "وإن كنا يخامرنا الأسى لحال المسلمين في القرون الأخيرة، ولمستواهم العلمي الهابط، ولغيابهم عن المجامع العلمية الناشطة، وقد كان من أثر هذا الغياب أن ألف بعض الأوربيين رسالة عن أثر: ألف ليلة وليلة في التشريع الإسلامي. والتعتيم على حقائق الإسلام تبذل فيه جهود هائلة، ويشارك فيها شياطين الشرق والغرب، حتى ليكاد الدين الصحيح يستخفي من دنيا الناس، فماذا نعمل للنهوض بأعباء المنصب الكبير الذي اصطفانا القدر له بعدما أورثنا القرآن الكريم، وكلفنا أن نتعلمه ونعلمه للآخرين؟

قبل الإجابة المفصلة عن هذا السؤال أود أن أقرر أمورا ذات بال:

o    أن دار الإسلام لم تنصف الوحي الذي شرفت به، ولم تحسن القيام عليه.

o  أن العالم - بعيدا عن ديار الوحي، وفي غياب تعاليمه - لم يقف مكتوف الأيدي، بل خط لنفسه مناهج من عنده، اختلط فيها الصالح والطالح.

o  أنه منذ سقوط بيزنطة، وافتتاح المسلمين للقسطنطينية، اكتشف الأوربيون أمريكا واستولوا على الأندلس، وبدأ عصر الإحياء، ووقعت طفرة علمية لم تعرف الدنيا شبيها لها منذ بدء الخليقة، كما استقرت نظم اجتماعية وسياسية، كثر الحديث فيها عن حقوق الإنسان وكرامات الشعوب.

o  كان الوجود الإسلامي خلال هذا التحول العالمي يتقلص ويتراجع حتى أمسى أطلالا بالية مع مرور القرن الرابع عشر للهجرة!!

وقد اضطررت أن أضع عشرة تعاليم جديدة تنضاف إلى التعاليم العشرين التي وضعها الإمام حسن البنا لترميم العالم الإسلامي وإصلاح فهمه وعمله به، والواقع أن الجهاد العلمي في معركة البناء فريضة لازمة، وإذا لم ننتصر فيها فسيكون عقابنا شديدا.

 إن تجديد الإسلام ليس نشاطا في ميدان واحد بل في ميادين شتى، وليس صمودا أمام عدو واحد بل أعداء كثيرين، لعل أشدهم بأسا يكمن في داخل بلادنا. ولا بأس أن أعيد هنا المبادئ العشرة التي اقترحتها ترشيدا لمسيرة الإصلاح عندنا:

1.  النساء شقائق الرجال وطلب العلم فريضة على الجنسين كليهما، وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وللنساء - في حدود الآداب الإسلامية - حق المشاركة في بناء المجتمع وحمايته.

2.  الأسرة أساس الكيان الخلقي والاجتماعي للأمة، والمحضن[72] الطبيعي للأجيال الناشئة، وعلى الآباء والأمهات واجبات مشتركة لتهيئة الجو الصالح بينهما، والرجل هو رب الأسرة، ومسئوليته محدودة بما شرع الله لأفرادها جميعا.

3.  للإنسان حقوق مادية، وأدبية تناسب تكريم الله له، ومنزلته الرفيعة على ظهر الأرض، وقد شرع الإسلام هذه الحقوق ودعا إلى احترامها.

4.  الحكام - ملوكا كانوا أم رؤساء - أجراء لدى شعوبهم، يرعون مصالحها الدينية والدنيوية، ووجودهم مستمد من هذه الرعاية المفروضة ومن رضا السواد الأعظم بها، وليس لأحد أن يفرض نفسه على الأمة كرها، أو يسوس[73] أمورها استبدادا.

5.  الشورى أساس الحكم، ولكل شعب أن يختار أسلوب تحقيقها، وأشرف الأساليب ما تمحض لله، وابتعد عن الرياء والمكاثرة والغش وحب الدنيا.

6.  الملكية الخاصة مصونة بشروطها وحقوقها التي قررها الإسلام، والأمة جسد واحد، لا يهمل منها عضو، ولا تزدرى فيها طائفة، والأخوة العامة هي القانون الذي ينتظم الجماعة كلها فردا فردا، وتخضع له شئونها المادية والأدبية.

7.  أسرة الدول الإسلامية مسئولة عن الدعوة الإسلامية، وذود المفتريات عنها، ودفع الأذى عن أتباعها حيث كانوا، وعليها أن تبذل الجهود لإحياء الخلافة في الشكل اللائق بمكانتها الدينية.

8.  اختلاف الدين ليس مصدر خصومة واستعداء، وإنما تشب الحروب إذا وقع عدوان وحدثت فتنة أو ظلمت فئات من الناس.

9.  علاقة المسلمين بالأسرة الدولية تحكمها مواثيق الإخاء الإنساني المجرد، والمسلمون دعاة لدينهم بالحجة والإقناع فحسب، ولا يضمرون شرا لعباد الله.

10. يسهم المسلمون مع الأمم الأخرى - على اختلاف دينها ومذاهبها - في كل ما يرقى ماديا ومعنويا بالجنس البشري، وذلك من منطلق الفطرة الإسلامية والقيم التي توارثوها عن خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم.

تلك هي المبادئ العشرة التي أقترح إضافتها، والتي أتقدم بها مع التعاليم العشرين لمجدد القرن الرابع عشر الإمام الشهيد حسن البنا، ولمن شاء أن يقبل أو يرفض، وآخر ما ندعو به: )واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين (286)( (البقرة)، )ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين (118) إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم( (هود) [74].

بل إن بعض هؤلاء المفكرين، إمعانا في التأكيد والإلحاح على الصلة الوثيقة المستمرة، غير المنقطعة أو الجامدة، أو باطلة المفعول، كما يزعم المغالطون - بين تعاليم الإسلام وواقع الحياة، يتواصل بالرؤية الإسلامية مع أحدث التجليات والنظم والأفكار في حياة البشر ليقيمها من المنظور الإسلامي الحي، فحول ما يسمى بالنظام العالمي الجديد وما يثيره من جدل، كتب د. محمد عمارة تحت عنوان "النظام العالمي الجديد، رؤية إسلامية" يقول: "إقامة العلاقات الدولية بين الأمم والشعوب والدول والحضارات على قاعدة من المساواة في الكرامة، والعدالة في تبادل المنافع، وفق الرؤية الإسلامية هو امتثال لحكم الله، فالتكريم الإلهي هو لبني آدم وليس لشعب أو جنس أو حتى لأبناء دين معين.

ليست للإسلام وأمته وحضارته وعالمه مشكلة مع علاقات دولية عادلة ونظام علمي رشيد، بل إن مشاركة المسلمين في إقامة هذه العلاقات الدولية العادلة والنظام العالمي الرشيد هو تكليف إلهي فرضه الله ـعز وجل - على المسلمين، فالتعددية في الشرائع - ومن ثم في الحضارات - وفي اللغات والألوان - أي القوميات والأجناس - وفي القبائل والأمم والشعوب، هذه التعددية - بالنص القرآني - وفي التصور الإسلامي - سنة إلهية وقضاء تكويني لا تبديل ولا تحويل.. وإقامة العلاقات بين فرقاء هذه التعددية بالمعروف، ووفق ما يتعارف عليه الناس، والتعارف أي التفاعل في المعروف هو التكليف الإلهي بإقامة العلاقات مع الآخرين، قال تعالى: )ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين (118) إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم( (هود)، وقال عز وجل: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون (48)( (المائدة)، وقال عز وجل: )يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير (13)( (الحجرات).

والتفاعل بين الحضارة الإسلامية وسائر الحضارات الإنسانية، البائدة منها والحية، الماضية منها والمعاصرة، تكليف إلهي أقامه المسلمون بانفتاحهم على مختلف الحضارات، فشريعة من قبلنا شريعة لنا، ما لم تكن هناك خصوصية لشريعتنا نسخت نظيرها في الشرائع الأخرى، والسياسة الشرعية لا تقف عند البلاغ القرآني والبيان النبوي، وإنما يدخل فيها كل ما يحقق الصلاح، وينفي الفساد، إذ هي - في تعريف السلف: "الأعمال والتدابير التي يكون الناس معها أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم ينزل بها وحي، أو ينطق بها رسول" ذلك أن "الحكمة" هي في التعريف النبوي - "الإصابة في غير النبوة"، أي الصواب الذي يدركه البشر بالعقل والوجدان، والحواس والتجريب، والمسلمون مدعوون إلى طلب هذه الحكمة - الصواب - من أي مصدر، وأية أمة وأية حضارة، وكما قيل الحكمة ضالة المؤمن أني وجد ها فهو أحق الناس بها.

ومنذ فجر الإسلام، وضع المسلمون هذا المنهاج في التفاعل الحضاري موضع التطبيق، فأخذوا من تجارب وقواعد وتراتيب الحضارات الأخرى "المشترك الإنساني العام"، وأضافوه إلى "الخصوصيات الإسلامية" التي تميز بها منهاج الرسالة الإسلامية الخاتمة، فاختاروا "التفاعل الحضاري" من موقع "الراشد المستقل"، رافضين "التبعية والتشبه والتقليد" وكذلك العزلة والانغلاق، صنعوا ذلك عندما أخذوا عن الرومان "تدوين الدواوين" ولم يأخذوا "القانون الروماني" استغناء بالشريعة الإسلامية المتميزة، وعندما أخذوا عن الهند الفلك والحساب ولم يأخذوا فلسفة الهند استغناء بالتوحيد، وعندما أخذوا من الإغريق "العلوم التجريبية" ولم يأخذوا أساطيرهم الوثنية، المنافية للتوحيد الإسلامي.

بل وصنعت ذلك الحضارة الغربية إبان نهضتها الحديثة، عندما أخذت عن الحضارة الإسلامية العلوم التجريبية، والمنهج التجريبي، ولم تأخذ عنا التوحيد ولا الوسطية ولا القيم، وأحيت خصوصياتها الإغريقية والرومانية، فكان هذا الصنيع دليلا على أن التفاعل الصحيح بين الحضارات والعلاقات العادلة والحرة بين الأمم والدول، لا بد أن تتأسس على حرية اختيار الأمم والحضارات لما يناسب هويتها الحضارية المتميزة، فيدعم الاستقلال والتميز لهذه الهوية، وحرية الرفض لما يمسخ ويشوه هذه الخصوصيات، وهذا هو القانون المعيار الذي نريده حاكما للعلاقات بين أمتنا وحضارتنا والأمم والحضارات الأخرى.

وإذا كانت أمتنا تشكو من التخلف الحضاري، فإن طوق نجاتها من هذا التخلف هو التجديد، والإحياء الحضاري، وأعدى أعداء هذا التجديد هو التقليد، فالتقليد للنماذج الحضارية الغربية والوافدة، يعطل ملكة الإبداع والابتكار. ولن تنهض الأمة إلا بالتجديد، ولن يكون هناك تجديد إلا إذا شعرت الأمة بالحاجة إليه، وبأنه ضروري، ولن يتأتى ذلك إلا إذا آمنت بأن لها في النهضة مشروعا متميزا عن المشاريع الأخرى للحضارات الأخرى، عند ذلك تدفعها الحاجة إلى التجديد والإحياء، وتنمو لديها ملكات الابتكار والإبداع، تلك التي تذبل وتموت في ظل التشبه والمحاكاة والتقليد للآخرين.

ولقد كانت اليقظة الإسلامية، الحديثة والمعاصرة، على وعي بهذه الحقيقة منذ بداياتها، فدعا أعلامها إلى التمييز في التفاعل الحضاري، والعلاقات مع أمم الحضارات الأخرى، بين النافع والضار، بين الملائم التجريبي ذي القوانين والحقائق العامة والمحايد، وبين الفلسفات والثقافات والعلوم الإنسانية والآداب والفنون، التي موضوعها النفس الإنسانية المتميزة بتميز الحضارات، فقال جمال الدين الأفغاني: "وإن أبا العلم وأمه هو الدليل، والدليل ليس أرسطو بالذات ولا جاليليو بالذات، والحقيقة تلتمس حيث يوجد الدليل. والتمدن الأوربي هو في الحقيقة تمدن للبلاد التي نشأ فيها على نظام الطبيعة وسير الاجتماع الإنساني، والمسلمون الذين يقلدونه إنما يشوهون وجه الأمة، ويضيعون ثروتها، ويحطون من شأنها، إنهم المنافذ لجيوش الغزاة، يمهدون لهم السبيل، ويفتحون لهم الأبواب"، والإمام حسن البنا هو القائل "إن الإسلام لا يأبى أن نقتبس النافع وأن نأخذ الحكمة أنى وجدناها"، ولكنه يأبى كل الإباء أن نتشبه في كل شيء بمن ليسوا من دين الله على شيء، إن الأمة إذا أسلمت في عبادتها، وقلدت غير المسلمين في بقية شئونها، فهي أمة ناقصة الإسلام، تضاهي الذين قال الله تعالى فيهم: )أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون (85)( (البقرة: 85).

إننا نريد أن نفكر تفكيرا استقلاليا، يعتمد على أساس الإسلام الحنيف، لا على أساس الفكرة التقليدية التي جعلتنا نتقيد بنظريات الغرب واتجاهاته في كل شيء، نريد أن نتميز بمقوماتنا ومشخصات حياتنا كأمة عظيمة مجيدة، تجر وراءها أقدم وأفضل ما عرف التاريخ من دلائل ومظاهر الفخار والمجد.

تلك هي صورة العلاقات الدولية العادلة التي نريد أن يكون عالمنا "منتدى حضارات مستقلة"، تتفاعل فيما هو "مشترك إنساني عام"، وتتمايز فيما هو "خصوصيات حضارية"، وتتبادل المنافع وفق معايير عادلة؛ يتحقق الأمن والتقدم والسلام للإنسانية، التي شملها الله - عز وجل - بالتكريم، وحملها أمانة الاستخلاف في إقامة العمران.

ونحن نؤمن أننا المالكون للنبأ العظيم، والكتاب المبين، والوحي الوحيد الذي لم يصبه التحريف، وإننا حملة الشريعة الإلهية الخاتمة والخالدة، المصححة لانحرافات وتحريفات الشرائع السابقة، والمصدقة بأنبياء ورسل كل الرسالات الإلهية، والمهيمنة على التراث الديني للإنسانية جمعاء.

وفي ذلك الوقت نؤمن بمبدأ وقيمة حرية الاعتقاد، فالإيمان الديني في الرؤية الإسلامية هو تصديق قلبي يبلغ مرتبة اليقين، ومحال أن يكون هذا الإيمان ثمرة للإكراه له والترهيب )لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي( (البقرة: 256)،