دعوى تشابه مضامين القرآن مع التوراة والإنجيل(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المشككين أن القرآن الكريم يتشابه مع الكتب السابقة: التوراة والإنجيل، ويستدلون على ذلك ببعض الآيات التي تذكر كلمات ورد ذكرها في هذه الكتب، وأكثر هذه الآيات من سور: الرحمن والنحل والنور وإبراهيم والجاثية... وغيرها من السور.
كما يستدلون ببعض الكلمات التي ذكرت في القرآن، ويزعمون أنها من الكتب المقدسة عندهم، ومن هذه الكلمات: فرقان، أمر، أمانة، بركة، تبارك، بهيمة، مثاني، خلاق، سكينة، قيوم، كفارة، ماعون، منهاج، جبار، سورة، قدوس... إلخ. فمثل هذه الآيات والكلمات دليل في زعمهم على أن القرآن ليس من عند الله، بل هو مأخوذ أو منحول من الكتب السابقة عليه.
ويزعمون أن القرآن ترجم عن التوراة بدليل قوله سبحانه وتعالى: )ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة( (هود: 17). ويتساءلون: ما الجديد الذي أتى به محمد -صلى الله عليه وسلم- ما دام قد أخذ القرآن وأصول دينه وأخبار الأنبياء عن "بحيرا الراهب" عندما لقيه بالشام، وعن ورقة بن نوفل، وعن الغلام الرومي الأعجمي الذي كان يعمل حدادا في مكة المكرمة. هادفين من وراء ذلك إلى الطعن في مصدر القرآن الكريم.
وجوه إبطال الشبهة:
1) الآيات والكلمات التي ادعوا أنها منقولة من التوراة والإنجيل لا تدل على ذلك، إذ إنه لا يوجد أدنى شبه بين معناها في القرآن الكريم ومعناها في نصوص التوراة والإنجيل، أو اللغات التي ترجمت هذه الكتب، أضف إلى ذلك أن النبي –صلى الله عليه وسلم - كان أميا لا يقرأ ولا يكتب باعترافهم، فكيف يترجم هذه الآيات وتلك الكلمات؟!!
2) لقد تكفل الله - سبحانه وتعالى ــ بحفظ القرآن الكريم من الضياع أو التحريف؛ حيث قال سبحانه وتعالى: )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)( (الحجر)، في حين أن الكتب السابقة تعرضت للتحريف والتغيير على أيدى أتباعها، قال سبحانه وتعالى: )يحرفون الكلم عن مواضعه( (النساء: ٤٦).
3) إذا سلمنا جدلا أن القرآن ترجم عن التوراة، فعن أي توراة ترجم، الصحيحة أم المحرفة؟ وإذا كان ذلك كذلك، فلماذا لم يؤمنوا به؟! ولماذا لم يترجمه أحد أحبارهم أو رهبانهم، بل ترجمه رجل أمي كمحمد صلى الله عليه وسلم.
4) الآية التي يستدلون بها ليست دليلا على أن القرآن مترجم عن التوراة، ولكنها تثبت أن الإمامة والرحمة انتقلت إلى القرآن بعد نزوله لشموله كل ما سبقه من كتب وعموم رسالته.
5) الثابت تاريخيا أن النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ لم يسافر إلى الشام إلا مرتين في حياته: مرة بصحبة عمه أبي طالب، والأخرى بصحبة ميسرة غلام خديجة، وهذا يؤكد أنه يستحيل عقلا أن ينتج عن هذين اللقاءين العابرين بين النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ وبحيرا كل هذا الفيض المعجز البليغ في هذا الوقت المحدود، وإذا كان بحيرا هو مصدر القرآن فلماذا لم ينسبه لنفسه، وترك هذا الفضل العظيم لغيره؟!
6) لقد سلمنا يقينا بأن القرآن بليغ معجز، فهل يعقل أن يكون مصدره هذا الحداد الرومي الذي كان منهكا بين مطرقته وسندانه طوال يومه؟!
7) لم يثبت عن النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ أنه كان يتردد على ورقة بن نوفل، إذ الثابت تاريخيا أنه لم يقابله إلا مرة واحدة، وذلك عندما نزل عليه الوحي أول مرة، وتمنى أن يكون فتيا يدافع عن الإسلام والنبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ فكيف يتهمونه ــ صلى الله عليه وسلم ــ بالأخذ عنه؟!!
التفصيل:
أولا. اختلاف معنى الآيات والكلمات في القرآن عن معناها في الكتاب المقدس واللغات التي ترجمت هذا الكتاب:
اختلاف معنى الآيات في القرآن الكريم عن معناها في الكتاب المقدس:
إذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نقل نصوص القرآن الكريم من الكتب السابقة عليه، فهذا يستدعي معرفته - صلى الله عليه وسلم - بالعديد من اللغات الأخرى غير اللغة العربية، مثل: العبرية والسريانية واليونانية، ويستدعي أيضا وجود مكتبة ضخمة من الكتب بهذه اللغات تحت يديه - صلى الله عليه وسلم - ولكن هذا لم يقع في الحقيقة، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أمي لا يعرف القراءة ولا الكتابة، فأنى له أن ينقل بعض هذه الآيات من الكتب السابقة عليه، وأمية النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر مسلم به بين أعداء الإسلام، فضلا عن المسلمين، فهذا يؤكد كذب هذا الادعاء وبطلانه. والآيات التي يتوهم أن بينها وبين نصوص الإنجيل تشابها كما أوردوها هي:
سورة الرحمن
|
|
سفر المزمور 136
|
)الشمس والقمر بحسبان(5)( (الرحمن) )والنجم والشجر يسجدان (6)(
(الرحمن) )والسماء رفعها( (الرحمن: 7)
)والأرض وضعها للأنام (10)( (الرحمن).
|
|
الشمس لحكـم النهار (8)
القمر والكواكب لحكم الليل (9) الصانع السماوات بفهم (5) الباسط الأرض على المياه (6)
|
ويمكن الرد على التشابه بما يأتي:
· يتحدث القرآن عن الطابع الدوري لحركة الشمس والقمر، ولا يذكر العهد القديم شيئا عن هذا.
· النبات والشجر في القرآن يسجد لله، ولا يوجد لهذا مثيل في العهد القديم.
· يتحدث القرآن عن رفع السماء فحسب، بينما العهد القديم يتحدث عن الحكمة من هذا الرفع.
· يتحدث القرآن عن بسط الأرض لصالح الإنسانية جمعاء، بينما يذكر العهد القديم حالة جغرافية من حالات الأرض، فأين هذا التشابه المزعوم بين القرآن الكريم والكتاب المقدس المحرف؟!
سورة النحل
|
|
المزمور 104
|
)ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون (2)( (النحل).
|
|
الصانع ملائكته رياحا، وخدامه نارا ملتهبة (4)
|
تتحدث آية القرآن عن مطلق إرادة الله في اختيار من يشاء من عباده، ويضع على عاتقه عبء تبليغ الرسالة والنبوة، وينزل على هذا النبي جبريل - عليه السلام - بالرسالة من عنده - تعالى ذكره - بينما يتحدث نص المزمور عن مجرد ظواهر طبيعية، فأين هذا التشابه المزعوم بين آية القرآن الكريم وبين نص الإنجيل.
سورة النحل
|
|
المزمور 104
|
)خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون (3)( (النحل). |
|
اللابس النور كثوب، الباسط السماوات كشقة (2) المؤسس الأرض على قواعدها (5) |
أين هذا التشابه المزعوم بين نص الآية الكريمة ونص الإنجيل، فالآية الكريمة تتحدث عن حكمة الله - سبحانه وتعالى - في خلق السماوات والأرض، وعن مدى الانسجام التام بينهما دون أي خلل في نظامهما، وكل هذا دليل على مدى عظمة الله وقدرته في خلقه.
أما المزمور فيتحدث عن تشبيه السماء بالستار،والتأكيد على أن الأرض مثبتة على قواعد راسخة، فمن أين لاحظ هؤلاء المتوهمون تشابها بين القرآن والإنجيل؟!
سورة النحل
|
|
المزمور 104
|
)هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون (10)( (النحل).
|
|
المسقف علاليه بالمياه. الجاعل السحاب مركبته، الماشي على أجنحة الريح (3) |
)ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون (11)( (النحل). |
|
المنبت عشبا للبهائم، وخضرة لخدمة الإنسان، لإخراج خبز من الأرض، وخمر تفرح قلب الإنسان، لإلماع وجهه أكثر من الزيت، وخبز يسند قلب الإنسان (14، 15) |
وهناك فرق كبير بين حديث القرآن الكريم وحديث الإنجيل، ففي حين يتحدث القرآن عن المنفعة التي نزلت بالناس المتمثلة في الماء، فهو الذي يخرج به الزرع والزيتون، والنخيل والأعناب وجميع ثمرات الأرض، وجعل هذا كله آية؛ لكي يتفكر فيها الخلق لمعرفة مدى قدرة الله تعالى، وفي مقابل هذا يتحدث نص الإنجيل عن الرياح التي يمتطيها الله تعالى، ويتحدث عن صفات الله، وكأنها مثل صفات البشر المادية، وكذلك لم يذكر نص الإنجيل إلا العشب، ولم يتطرق إلى الثمار والأشجار التي في القرآن، والخمر التي في المزمور لا وجود لها في نص القرآن، فأي تشابه بين النصين أيها المتوهمون؟!
مثل هذا الكلام يقال عن آيات كثيرة في سورة النحل، توهم هؤلاء المدعون أن بينها وبين نصوص من الإنجيل تشابها كبيرا، ولكن هذا الادعاء غير صحيح، وقد اتضح مما سبق بطلان هذا الزعم[1].
يرى أصحاب هذا الادعاء أن هناك تشابها بين قوله - سبحانه وتعالى - في سورة النور: )الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم (35)( (النور)، وبين الإنجيل، ويدعون أنها مأخوذة منه ويفسرون هذا النور عدة تفسيرات منها:
· النور الذي في القرآن مأخوذ من الأنوار التي في الكنائس والأديرة التي تضاء للخدمة.
· هذا النور له علاقة بـ "نور الكون" في الإنجيل، و "نور النور" في الإعلان العقائدي لمجمع نيقيا.
ولكن هذا الزعم ليس صحيحا؛ لأن النور في الآية نور واحد، وهو في الكنيسة أنوار متعددة، وهو كذلك في القرآن "نور على نور" ولكنه في الإعلان العقائدي نور يأتي من نور، ويحاول بعضهم - عبثا - الربط بين الآية الكريمة، وبين فقرة من كتاب زكريا من العهد القديم الإصحاح الرابع الآيات 1: 3، ولكن هذا زعم مفترى مثل سابقه[2].
وبهذا، فلا يوجد أدنى تشابه بين الآيات القرآنية المشار إليها، وبين آيات الإنجيل، فضلا عن أن يكون هذا التشابه واضحا، فضلا عن أن تكون آيات القرآن مأخوذة منها، فدعواهم تلك لا تستند إلى دليل، وها هي قد سقطت بالمقارنة اليسيرة والتحليل الصحيح والأدلة المقنعة.
ومثلما حاول المخالفون للإسلام وللقرآن وللنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يثبتوا أن القرآن الكريم مأخوذ من الإنجيل، حاولوا كذلك الربط بين بعض الألفاظ القرآنية وبين ألفاظ أخرى تقابلها في العبرية؛ لا لشيء إلا لكي يصفوا القرآن بالنقص والنقل من الكتب السابقة، ويمكن الرد على هذا الادعاء بما يأتي:
· اللغة العربية واللغة العبرية لغتان تنتميان إلى أصل واحد، وهذا الأصل هو الأصل السامي، فهناك كلمات عربية موجودة في اللغة العبرية والعكس صحيح، وكل منهما فرع عن أصل، وهذا الفرع يأخذ من الأصل بعض الصفات المشتركة.
· ادعاء أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخذ هذه الكلمات من اللغة العبرية أو الآرامية يستدعي معرفة النبي -صلى الله عليه وسلم - بهذه اللغات معرفة جيدة قراءة وكتابة، وهذا ما تتوافر المصادر على نفيه عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو رجل أمي لا يعرف القراءة والكتابة باللغة العربية، ومن الثابت أنه لم يتعلم أية لغة أخرى، فهل ألهم العلم بتلك اللغات؟! وهل يصل الإلهام بالشخص إلى أن يتعلم لغة قراءة وكتابة؟! ولماذا لم يحدث مثل هذا الإلهام لغيره؟!
· الكلمات التي يستشهد بها أصحاب هذا الادعاء نجدها موجودة في المعاجم العربية القديمة، وفي نصوص الشعر العربي الجاهلي، ومعنى هذا أنها معروفة قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس هو الذي أدخلها في القرآن الكريم، كما يدعي هؤلاء.
من هذه الكلمات كلمة "خلاق" التي قيل: إن أصلها اليهودي هو "حيليق" أو أصلها آرامي وهو "حولاق"، وهي تعني في هذه اللغات "جزء" أما معناها في اللغة العربية فهو "نصيب" كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: )وما له في الآخرة من خلاق (200)( (البقرة). فأين التشابه بين المعنيين؟ ونجدها في شعر حسان بن ثابت الجاهلي الذي كتبه قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم.
وكذلك كلمة "بعير" التي قيل: إن أصلها العبري هو "بيعير Beir" وتعني الماشية، ولكن معنى هذه الكلمة في المعاجم العربية القديمة هو: الجمل القوي أو الحمار، وعليه الآية التي جاءت في قوله سبحانه وتعالى: )ولمن جاء به حمل بعير( (يوسف: ٧٢). وهذه الكلمة مستخدمة في المعاجم القديمة بمعنى الحمار، وكذلك استخدم أحد الشعراء الجاهليين الجمع من هذه الكلمة، "أباعير".
ومن هذه الكلمات التي ادعى هؤلاء أنها ذات أصل عبري كلمة "بهيمة" ويدعون أن أصلها هو الكلمة العبرية "Berema"، وهذه الكلمة في القرآن تعني: الحيوان ذا اللون الخالص الذي لا تتخلله ألوان مثل الأبيض، أو الأسود، وعليه ما جاء في معاجم اللغة القديمة، فهذه الكلمة في العربية تستعمل صفة دائمة للأنعام، ولكنها في العبرية تستعمل اسما لا صفة، فأين التشابه بينهما؟!
وكذلك كلمة "سورة" التي قيل: إن أصلها عبري وهو "Shura" بمعنى الخط أو الطابور، وقيل: إن أصلها آرامي هو "Sidra"، وكلا المعنيين لا يتفق مع المعنى القرآني لهذه الكلمة، وقد ورد لهذه الكلمات تفسيرات عدة في كتب المفسرين، فقيل: هي المنزلة، وبقية الشيء، والمرتبة العليا وغير ذلك، فهي من الكلمات غير واضحة الدلالة.
ومنها كلمة "مثاني" التي قيل: إن أصلها عبري، وقيل: أصلها آرامي Mathnitha بمعنى التقليد أو العرف، ولكن هذا يخالف كل المعاني التي ذكرها المفسرون لهذه الكلمة التي جاءت في كتاب الله - عز وجل - في مواضع عدة، منها قوله سبحانه وتعالى: )ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم (87)( (الحجر). فقيل: هي الفاتحة، وقيل: ما ثني مرة بعد مرة، وقيل: لأنها يثنى بها في كل ركعة.
ولم تسلم كلمة "خاتم" من هذه الشبهة، فقد قيل: هي مأخوذة من سفر حجى الإصحاح الثاني الآية 23 التي تقول: "وأجعلك كخاتم، لأني قد اخترتك"، وكذلك في سفر الملوك الأول الإصحاح 21 الآية التي تقول: " ثم كتبت رسائل باسم أخآب، وختمتها بخاتمه". وهي عندهم تعني الختم الذي يوضع على الأوراق، أو الختم المعلق في الصدر، أو الختم الذي يحمل في اليد لشدة الحرص عليه، وكل هذه المعاني لا تتفق مع المعنى الذي جاء في القرآن لهذه الكلمة التي جاءت في قوله سبحانه وتعالى: )ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما (40)( (الأحزاب)، فهي في القرآن تعني الأخير الذي ختمت به الرسالات والنبوات، وكلمة "خاتم" من ألقاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم لا والإسلام هو آخر الديانات السماوية المنزلة من قبل الله تعالى، قال سبحانه وتعالى: )إن الدين عند الله الإسلام( (آل عمران: ١٩)، وقال: )ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه( (آل عمران: ٨٥).
وهناك العديد من الآيات التي تؤكد أن معنى كلمة خاتم هو الأخير، ومن هذه الأحاديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا خاتم النبيين».[3] فأين هذا التشابه المزعوم بين معنى كلمة "خاتم" في الإسلام ومعناها في العبرية؟ أو غيرها من اللغات الأخرى؟ )قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين (111)( (البقرة) [4].
ومن الكلمات التي تعرضت لظلم كبير من قبل أعداء الإسلام كلمة "فرقان" التي جاءت في العديد من سور القرآن الكريم، فمن هؤلاء من ينسبها إلى الكلمة العبرية "بيركي Pirke" أو مأخوذة من "بريكي أبوت Pirke Abot" وتعني الأحكام الدينية التي نص عليها حكماء ورجال الدين اليهودي، ومنهم من ينسبها إلى الكلمة السريانية "فرقانا Furqana"، أو الكلمة اليهودية الآرامية "فرقان Furqan" التي تعني الإنقاذ.
وعلى هذا قيل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخذ هذه الكلمة من هذه اللغات وأدخلها إلى القرآن الكريم بعد أن خلطها باللفظ العربي "فرق"، ونرد على هذا الزعم بما يأتي:
1. الأحكام الدينية التي تشير إليها كلمة "Pirke Abot بيركي أبوت"، من وضع حكماء المعبد اليهودي، وليست من وضع موسى أو هارون، فهي إذن ليست من النصوص المقدسة الصحيحة.
2. هل كان النبي ـصلى الله عليه وسلم - على علم باللغة العبرية أو السريانية أو الآرامية حتى يأخذ هذه الكلمة من هذه اللغات ويدخلها إلى القرآن الكريم؟
3. الأصل السرياني للكلمة "فرقانا" يعني الإنقاذ، وهذا المعنى لا يوجد له أية صلة بالمعاني التي جاءت لهذه الكلمة في المعاجم العربية، إذ في هذه المعاجم أن هذه الكلمة تعني التفريق بين أمرين: الحق والباطل، الخير والشر... فأين التشابه؟! وكذلك جاء معناها في كتب المفسرين للقرآن على عكس المعنى الذي توهمه هؤلاء لهذه الكلمة، فهي في كتب المفسرين تعني شيئا مما يأتي:
· مصدر للفعل "فرق"، وكل ما يدل على التفريق بين أمرين متناقضين، مثل الخير والشر، والمشروع واللامشروع... إلخ.
· أي كتاب من الكتب المقدسة، مثل التوراة، والإنجيل، والقرآن، وعلى المعنى الأول جاء قوله سبحانه وتعالى: )وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان( (الأنفال:٤١)، وقوله سبحانه وتعالى: )وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون (53)( (البقرة)، ومن المعنى الثاني قوله سبحانه وتعالى: )نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل (3) من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام (4)( (آل عمران)، وقوله سبحانه وتعالى: )تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا (1)( (الفرقان)[5].
ثانيا. القرآن الكريم محفوظ بحفظ الله له، بيد أن الكتاب المقدس محرف بشهادة الله - عز وجل - بذلك:
لقد تكفل الله تعالى بحفظ هذا القرآن الكريم من أي تحريف أو ضياع أو نقص، ولم يترك هذه المهمة لأحد من البشر حتى ولو كان هذا البشر رجلا في مكانة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يترك هذه المهمة لملك ولو كان في مكانة جبريل ـ عليه وسلم - فقالسبحانه وتعالى في محكم تنزيله: )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)( (الحجر)، )أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (82)( (النساء)، فمن أين يأتي القرآن مثل هذا التشابه المزعوم بالكتب المقدسة المحرفة من قبل أتباع اليهودية والنصرانية؟!
فقبل أن ينظر أصحاب هذا الادعاء في القرآن الكريم، وقبل أن يفتشوا فيه عن تشابه بينه، وبين الكتب السابقة، عليهم أولا أن ينظروا في كتابهم المحرف بنص القرآن الكريم، واعتراف بعض أحبارهم بهذا التحريف، فكلما جاء حبر، أو راهب كتب له كتابا مقدسا ليشتري به ثمنا قليلا، فقال سبحانه وتعالى: )يحرفون الكلم من بعد مواضعه( (المائدة: ٤١) ومنه قوله سبحانه وتعالى: )فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون (79)( (البقرة)، فقد توعد الله الذين يفترون على الله كذبا، ويكتبون الكتاب بأيديهم، ويقولون: هذا ما أنزل الله لكي يجمعوا مال الدنيا، ولكنهم في الآخرة يصلون جهنم، ويقعون في وادي الويل المخصص لهم فيها، جزاء وفاقا على ما كسبت أيديهم.
ثالثا. إذا كان القرآن ترجم عن التوراة، فعن أي توراة ترجم، التوراة الحقة أم المحرفة:
لقد ثبت تاريخيا أن التوراة لم تسلم من التبديل والتغيير، ومن حيثيات ذلك[6]:
· أن نسخة التوراة التي بأيدي السامريين تزيد في عمر الدنيا نحوا من ألف عام على ما جاء في نسخة العنانيين، وأن نسخة النصارى تزيد ألفا وثلاثمائة سنة.
· أن نسخ التوراة التي بأيديهم تحكي عن الله وعن أنبيائه وملائكته أمورا ينكرها العقل ويمجها الطبع، ويتأذى بها السمع، مما يستحيل معها أن يكون هذا الكتاب صادرا عن نفس بشرية مؤمنة طاهرة، فضلا عن أن ينسب إلى ولي، فضلا عن أن ينسب إلى نبي، فضلا عن أن ينسب إلى الله رب العالمين.
ومن هذه الأباطيل أن الله ندم على إرسال الطوفان إلى العالم، وأنه بكى حتى رمدت عيناه، وأن يعقوب صارعه - جل الله عن ذلك - فصرعه، ومن ذلك أيضا أن لوطا ـعليه السلام - شرب الخمر حتى ثمل وزنى بابنتيه.
· ما جاء في بعض نسخ التوراة يفيد أن نوحا أدرك جميع آبائه إلى آدم، وأنه أدرك من عهد آدم نحوا من مائتي سنة، وجاء في نسخ أخرى ما يفيد أنه أدرك من عمر إبراهيم ثماني وخمسين سنة، وكل هذا باطل تاريخيا.
· ما ثبت بالتواتر عند المؤرخين، بل عند اليهود أنفسهم من أن بني إسرائيل، وهم حملة التوراة وحفاظها - قد ارتدوا عن الدين مرات كثيرة، وعبدوا الأصنام، وقتلوا أنبياءهم شر تقتيل.
وإذا ثبت وقوع التحريف في التوراة الحقيقية - نعم الحقيقية، فنحن المسلمين نؤمن بأن هناك كتابا مقدسا، هو التوراة نزل على نبي الله موسى - عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، إذا ثبت ذلك فعن أي التوراتين ترجم القرآن؟
وهب أن القرآن ترجم عن التوراة، فلماذا لم يؤمنوا به؟
إن كلمة ترجم الكلام: أي بينه ووضحه، تعني أيضا نقله من لغة إلى لغة أخرى.
فإذا كان القرآن - كما يزعمون - منقولا عن التوراة، فلماذا لم يؤمنوا به، أوما يشتمل المترجم على ما يشتمل عليه المترجم عنه من أوامر ونواه وحقائق ومعارف، ومعان وكلمات مترجمة عن اللغة الأصل؟!
ليس الأمر كما يرون، فالبون شاسع بين القرآن والتوراة، فأسلوب القرآن فصيح بليغ، أما أسلوب التوراة فضعيف ركيك، وأوامر التوراة تختلف عن أوامر القرآن.
فتوراتهم المحرفة تأمرهم بقتل الأبرياء وتشريد الضعفاء، وبخاصة وإذا كانوا مسلمين: )ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل( (آل عمران: ٧٥) وما يحدث في فلسطين والعراق، وشتى بقاع العالم الإسلامي خير شاهد على ذلك.
توراتهم تقول لهم: إنهم شعب الله المختار، وكل الشعوب سواهم عبيد لهم، وهم أسياد عليهم، بئست العنصرية هي.
أما إسلامنا وقرآننا فالأمر فيه مختلف، فما عرفت مساواة كمساواة الإسلام بين الناس، هذا نبيه ـ صلى الله عليه وسلم - يطلقها في الآذان مدوية: «ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى»[7].
فهذا القاضي شريح يحكم بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأحد اليهود في درع، فينادي القاضي على أمير المؤمنين بكنيته، وعلى اليهودي باسمه، فيأبى أمير المؤمنين ذلك، وينكر على القاضي ما فعل، ثم لضعف حجة أمير المؤمنين يحكم القاضي لليهودي بالدرع.
وهذا الفاروق عمر يشتكي إليه القبطي من صفع ابن عمرو بن العاص له؛ لأنه سبقه قائلا له: خذها وأنا ابن الأكرمين، فيرسل على الفور إلى عمرو وولده آمرا إياه بالحضور، ويطلب من الرجل القبطي أن يقتص ممن ضربه، ثم قال كلمته المشهورة "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا".
هذا قرآننا، وهذا فعله في أتباعه، وها هي توراتهم وفعلها في أتباعها، ثم يقولون: إن القرآن ترجم عن التوراة، هيهات هيهات!!
إذا كان القرآن ترجمة عن التوراة، فلماذا لم يترجمه أحد من أحبار اليهود، أو رهبان النصارى، أو فطاحل اللغة من العرب، وتقدم لذلك النبي الأمي؟
لقد ثبت تاريخيا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أميا لا يقرأ ولا يكتب، ودليل ذلك كتبة الوحي أمثال حسان بن ثابت وغيره، فلم يكتب النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن بنفسه.
ثم إننا نتساءل: كيف يقرأ النبي التوراة ويترجم عنها، ولم يكن له حظ حتى من قراءة "أشعار العرب"؟ فقد روت كتب التاريخ أن النبي ـصلى الله عليه وسلم - كان يتمثل قول أحد الشعراء "كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا" بزيادة باء على كلمة الشيب، فكان يقول: "كفى بالشيب والإسلام للمرء ناهيا" فيصوبها له أبو بكر الصديق معقبا: صدق من قال فيك: )وما علمناه الشعر وما ينبغي له( (يس:٦٩)، ثم أين أحبار اليهود؟ وأين رهبان النصارى، وأين أرباب اللسان من العرب؟ ما الذي عدل بهم عن أن يكسبوا هذه الشهرة الواسعة بترجمة التوراة، وجعلها كتابا يدون عليه اسمهم؟ فهل يقبل العقل أن يتحرك النبي الأمي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الصدد ويكسل الفطاحل وكبار القوم؟
الآية ليست دليلا على ترجمة القرآن عن التوراة، فلكي أقول: إن كتاب كذا مترجم عن كتاب كذا، ومجالهما العلمى واحد، فيجب أن يكون مضمونا الكتابين واحد، والمعاني التي أورداها واحدة، فكلمة ترجمة تعني نقل كلام من لغة إلى أخرى.
فبالله عليكم هل معاني القرآن كمعاني التوراة؟ هل أسلوب القرآن البليغ كأسلوب التوراة الركيك؟ هل حقائق القرآن الثابتة علميا كأباطيل التوراة التي تناقض العلم؟ فهذا موريس بوكاي ينظر ويتأمل الكتب السماوية الثلاث - القرآن والتوراة والإنجيل، فيقول شهادته للتاريخ، وللأجيال القادمة على ألا تنخدع.
يقول: لقد نظرت في التوراة والإنجيل والقرآن، فوجدت أن الحقائق العلمية الواردة في الكتابين المتقدمين - يعني التوراة والإنجيل - كما متهافتا فيه، أما في القرآن الكريم فوجدت كما هائلا من الحقائق العملية، وهي متطابقة تماما مع حقائق العلم الحديث.
رابعا. الآية التي استدلوا بها على إمامة التوراة:
الآية التي استدلوا بها حينما نحللها نجد أنها تذكر أن التوراة كانت قبل القرآن إماما ورحمة، ولكن لمن؟ هل للقرآن؟ والله ما سمعنا أبدا أن كتابا يرحم كتابا، قد يكون له إماما، لكن عطف الكلمتين - إماما ورحمة، تعني أن حكمهما واحد، وفقهاء اللغة العربية يقولون: إن في الآية محذوفا معلوما من السياق، هو من تقع عليهم إمامة الكتاب ورحمته وهم الناس، فيكون المعنى بعد رد المحذوف، إن التوراة كانت قبل القرآن إماما ورحمة للناس.
وهنا تتجلى الحقيقة الناصعة، هي أن الإمامة والرحمة قد انتقلتا إلى القرآن، وبقية الآية تدلل على صدق هذا المعنى، )وهذا كتاب مصدق( (الأحقاف:12) يعني أن القرآن يثبت هذه الإمامة والرحمة للتوراة قبل نزوله، ويعني أيضا أن القرآن قد اشتمل على هذه الإمامة والرحمة بعد نزوله، فقد انتقلت إليه الإمامة والرحمة، وذلك لأن الإسلام دين عام شامل لكل الأديان السابقة.
فجميع رسل الله وأنبيائه جاءوا بالإسلام العام، فلا دين عند الله إلا الإسلام: )إن الدين عند الله الإسلام( (آل عمران: ١٩)، والإسلام العام بالمعنى اللغوي الذي فعله أسلم: أي انقاد، وأذعن وخضع، وسلم أمره لله، فهل جاء تشريع سماوي بغير ذلك؟ إئتونا بدليل، أما دليلنا فأقوال أنبياء الله - عليهم الصلاة والسلام - لأقوامهم:
فهذا سيدنا نوح يقول: )وأمرت أن أكون من المسلمين (72)( (يونس)، وهذا نبي الله يعقوب يقول: )ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون (132) أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي( (البقرة). ويرد أبناؤه: قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون (133)( (البقرة)، والحواريون يقولون كما قال تعالى: )قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون (52)( (آل عمران)، وعلى لسان سيدنا موسى: )وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين (84)( (يونس).
خامسا. أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن عن بحيرا زعم لا يؤيده عقل ولا منطق:
إن التاريخ لا يعرف أكثر من أنه ـصلى الله عليه وسلم - سافر إلى الشام في تجارة مرتين: مرة في طفولته، ومرة في شبابه، ولم يسافر غير هاتين المرتين، ولم يجاوز سوق البصرة فيهما، ولم يسمع من بحيرا ولا من غيره شيئا من الدين، ولم يكن أمره سرا هناك، بل كان معه شاهد في المرة الأولى هو عمه أبو طالب، وشاهد في المرة الثانية، هو ميسرة غلام خديجة التي خرج الرسول ـصلى الله عليه وسلم ــ بتجارتها يومئذ، وكل ما هنالك أن بحيرا رأى سحابة تظلله ـصلى الله عليه وسلم ـمن الشمس، فذكر لعمه أن سيكون لهذا الغلام شأن، ثم حذره من اليهود، وقد رجع به عمه خوفا عليه، ولم تتم رحلته، كذلك روي هذا الحديث من طرق في بعض أسانيدها ضعف، ورواية الترمذي ليس فيها اسم بحيرا، وليس في شيء من الروايات أنه ـصلى الله عليه وسلم - سمع من بحيرا الراهب أو تلقى منه درسا واحدا، أو كلمة واحدة لا في العقائد ولا في العبادات ولا في المعاملات ولا في الأخلاق، فأنى يؤفكون؟
إن تلك الروايات التاريخية نفسها تنفي أن يقف هذا الراهب موقف المعلم لمحمد - صلى الله عليه وسلمـ لأنه بشره أو بشر عمه بنبوته، وليس بمعقول أن يؤمن رجل بهذه البشارة التي يزفها، ثم ينصب نفسه أستاذا لصاحبها الذي سيأخذ عن الله ويتلقى من جبريل، ويكون هو أستاذ الأساتذة وهادي الهداة والمرشدين، وإلا كان هذا الراهب متناقضا مع نفسه.
لو كان بحيرا الراهب مصدر هذا الفيض القرآني المعجز لكان هو الأحرى بالنبوة والرسالة:
إنه من المستحيل - في مجرى العادة - أن يتم إنسان على وجه الأرض تعليمه وثقافته، ثم ينضج النضج الخارق للمعهود فيما تعلم وتثقف، بحيث يصبح أستاذ العالم كله؛ لمجرد أنه لقى - مصادفة أو اتفاقا - راهبا من الرهبان مرتين، على حين أن هذا التلميذ كان في كلتا المرتين مشتغلا عن التعليم بالتجارة، وكان أميا لا يعرف القراءة ولا الكتابة، وكان صغيرا تابعا لعمه في المرة الأولى، وكان حاملا لأمانة ثقيلة في عنقه لا بد أن يؤديها في المرة الثانية، وهي أمانة الإخلاص في مال خديجة وتجارتها.
إن طبيعة الدين الذي ينتمي إليه الراهب بحيرا، تأبى أن تكون مصدرا للقرآن وهدايته، خصوصا بعدما أصاب ذلك الدين ما أصابه من تغيير وتحريف، وحسبك دليلا على ذلك أن القرآن قد صور علوم أهل الكتاب في زمانه بأنها الجهالات ثم تصدى لتصحيحها، وصور عقائدهم بأنها الضلالات ثم عمل على تقويمها، وصور أعمالهم بأنها المخازي والمنكرات ثم حض على تركها، ثم تذكر أن فاقد الشيء لا يعطيه، وأن الخطأ لا يمكن أن يكون مصدرا للصواب، وأن الظلام لا يمكن أن يكون منبعا للنور.
إن أصحاب هذه الشبهة يقولون: إن القرآن هو الأثر التاريخي الوحيد الذي يمثل روح عصره أصدق تمثيل، فإذا كانوا صادقين في هذه الكلمة فإننا نحاكمهم في هذه الشبهة إلى القرآن نفسه، وندعوهم ليقرأوه ولو مرة واحدة بتعقل وإنصاف، ليعرفوا منه كيف كانت الأديان وعلماؤها وكتبها في عصره؟ وليعلموا أنها ما كانت لتصلح لأستاذية رشيدة، بل كانت هي في أشد الحاجة إلى أستاذية رشيدة، إنهم إن فعلوا ذلك فسيستريحوا ويريحوا الناس من هذا الضلال والزيغ، ومن ذلك الخبط والخلط: )ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور (40)( (النور).
سادسا. استحالة أن يكون الغلام الرومي الحداد هو مصدر القرآن:
فهذه التهمة لو كان لها نصيب من الصحة لفرح بها قومه، وقاموا لها ولم يقعدوا؛ لأنهم كانوا أعرف الناس برسول الله - صلى الله عليه وسلم ـوكانوا أحرص الناس على تبهيته وتكذيبه، وإحباط دعوته بأية وسيلة، ولكنهم كانوا أكرم على أنفسهم من هؤلاء المدعين، فحين أرادوا طعنه بأنه تعلم القرآن من غيره، لم يفكروا في أن يقولوا: إنه تعلم من بحيرا الراهب كما قال هؤلاء؛ لأن العقل لا يصدق ذلك، والهزل لا يسعه، بل لجئوا إلى رجل في نسبة الأستاذية إليه شيء من الطرافة والهزل، حتى إذا مجت العقول نسبة الأستاذية إليه لاستحالتها، قبلتها النفوس لهزلها وطرافتها، فقالوا: إنما يعلمه بشر، وأرادوا بالبشر حدادا روميا منهمكا بين مطرقته وسندانه، يظل طول يومه في خبث الحديد وناره ودخانه، غير أنه اجتمع فيه أمران حسبوهما مناط ترويج تهمتهم:
أحدهما: أنه مقيم بمكة إقامة تيسر لمحمد ـصلى الله عليه وسلم - الاتصال الدائم الوثيق به والتلقي عنه.
والآخر: أنه غريب عنهم وليس منهم؛ ليخيلوا إلى قومهم أن عند هذا الرجل علم ما لم يعلموا هم ولا آباؤهم، فيكون ذلك أدنى إلى التصديق بأستاذيته لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وغاب عنهم أن الحق لا يزال نوره ساطعا يدل عليه؛ لأن هذا الحداد الرومي أعجمي لا يحسن العربية، فليس بمعقول أن يكون مصدرا لهذا القرآن الذي هو أبلغ نصوص العربية، بل هو معجزة المعجزات ومفخرة العرب واللغة العربية )لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين (103)( (النحل)[8].
سابعا. لا يمكن أن يكون ورقة بن نوفل هو مصدر القرآن:
إذا كان هؤلاء يدعون أن محمدا ـصلى الله عليه وسلم - كان يلقى ورقة بن نوفل، فيأخذ عنه ويسمع منه، وورقة لا يبخل عليه؛ لأنه قريب لخديجة - زوج محمد - ويريدون بهذا أن يوهموا قارئيهم وسامعيهم بأن هذا القرآن استمد علومه من هذا النصراني الكبير، الذي يجيد اللغة العبرية ويقرأ بها.
فإذا كان هؤلاء يدعون ذلك فإننا نقول لهم: ما الدليل على تلك الدعوى؟ وما الذي تعلمه محمد ـصلى الله عليه وسلم - من ورقة بن نوفل؟ كما أنهم لم يذكروا لنا: كم لقاء التقى فيه محمد ــ صلى الله عليه وسلم ــ بورقة بن نوفل، بل إنهم لم يذكروا كم عاش ورقة بعد لقائه الأول مع رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم - ونحن نقرر هنا: إنه لا دليل عندهم على هذا الذي يتوهمونه، وأن خديجة ذهبت بالنبي ــ صلى الله عليه وسلم - حين بدأه الوحي إلى ورقة، ولما قص الرسول قصصه قال: هذا هو الناموس الذي أنزله الله على موسى.
ثم تمنى أن يكون شابا فيه حياة وقوة ينصر بها الرسول ويؤازره حين يخرجه قومه، ثم لم يلبث أن مات ورقة، وفتر الوحي مدة ستة أشهر - على خلاف بين العلماء - ولم تذكر الروايات الصحيحة أنه ألقى إلى الرسول عظة، أو درس له درسا في العقائد أو التشريع، ولا ذكر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يتردد عليه حتى يتلقى منه، بل تؤكد الروايات أن ورقة لم يعش بعد هذا اللقاء إلا بضعة أشهر، ثم مات وهذه مدة قصيرة لا تكفي لأخذ كل هذا الفيض الإسلامي العظيم[9].
وإذا كان ما يدعيه هؤلاء حقا، وأن النبي أخذ عن ورقة عقائد النصارى، فهل ما جاء به النبي ــ صلى الله عليه وسلم - هو ما عند النصارى من عقائد وتشريعات، أم أنه يخالف عقائدهم وينكرها عليهم، وينقضهم فيما حرفوه من الكلم وما كتموه من الحق؟!
إن كل الذي كان من أمر ورقة بن نوفل أنه بشر النبي - صلى الله عليه وسلم - وتمنى أن يعيش حتى يكون جنديا مخلصا في الدفاع عن الإسلام.
الخلاصة:
· الزعم القائل بأن النبي نقل الكثير من الكلمات والآيات من كتب السابقين زعم باطل؛ لأن هذا يستدعي معرفة النبي ـصلى الله عليه وسلم - باللغات السابقة كتابة وقراءة، وهذا ما تجمع المصادر على نفيه؛ لأن النبي ـصلى الله عليه وسلم - كان أميا لا يعرف القراءة ولا الكتابة.
· الآيات التي يعتقد أصحاب هذا الادعاء أن بينها وبين آيات الإنجيل والتوراة تشابها - تختلف في معناها عن معاني تلك التي جاءت في كتبهم، فلا يوجد أدنى تشابه بينهما.
· الكلمات التي قيل: إن أصلها عبري أو آرامي أو سرياني، كلمات عربية أصيلة، فهي موجودة في نصوص شعرية قبل بعثة النبي ـصلى الله عليه وسلم - وكذلك في معاجم اللغة القديمة، وتحمل معاني تخالف المعاني التي جاءت في اللغات العبرية الآرامية والسريانية.
· الله ـ عز وجل - تكفل بحفظ القرآن الكريم من الضياع و التحريف، و غير ذلك من أعمال البشر، ولم يترك هذه المهمة لبشر، ولو كان في مقام النبي ـ صلى الله عليه وسلم - أو جبريل - عليه السلام - ولهذا جاء القرآن صحيحا متناسقا لا يعارض بعضه بعضا - كما يدعي هؤلاء المتوهمون.
· قبل أن يطعن هؤلاء في القرآن الكريم، عليهم أولا أن ينظروا في كتابهم الذي يظنون أنه مقدس؛ ليلمسوا ما فيه من مخالفات فاضحة وواضحة، وتناقضات بينة، فكلما جاء حبر من أحبارهم أو راهب من رهبانهم كتب لهم كتابا جديدا ليشتري به ثمنا قليلا، أما القرآن الكريم فهو عكس ذلك، فقد جاء من عند الله - عز وجل - ولم يتغير منذ نزوله إلى أن تقوم الساعة.
· النبي ـصلى الله عليه وسلم - لم يسافر إلى الشام إلا مرتين، وكان مشغولا فيهما بالتجارة، وكان لقاؤه بالراهب "بحيرا" عابرا، إذ كان طفلا صغيرا في الأولى، وكان مؤتمنا على تجارة خديجة في الثانية، ويستحيل أن ينتج هذا الفيض القرآني المعجز عن لقاء خاطف بين رجل أمي وراهب نصراني.
· لو كان بحيرا هو مصدر القرآن لنسبه لنفسه، ونال ذلك الأمر العظيم بالأحرى! ولماذا لم يقدح قومه في القرآن بهذا، وهم كانوا أحرص الناس على تكذيبه؟
· أما عن الغلام الرومي، فهل يعقل أن يكون مصدر القرآن البليغ المعجز ذلك الحداد الرومي الأعجمي، الذي لا يعرف شيئا عن لغة العرب، والذي كان يقضي يومه منهكا بين مطرقته وسندانه في خبث الحديد.
· أما عن ورقة فلم يرد أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم - كان يتردد عليه، كما أن ورقة لم يعش إلا قليلا بعد البعثة، كما أن ما جاء به النبي ـ صلى الله عليه وسلم - يخالف عقائد النصارى وأصولهم التي كان ورقة يدين بها كما يزعمون.
· إن غاية ما ورد في هذا الصدد أن ورقة بشر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم - وتمنى أن يكون حيا وفيه قوة حتى يدافع عن الإسلام ونبيه.
(*) الدفاع عن القرآن ضد منتقديه، عبد الرحمن بدوي، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط1، 1998م.
[1]. لمتابعة هذه الآيات انظر كلام هؤلاء المتوهمين عن التشابه بين الآيات (14، 38، 65، 68، 70، 32، 49، 50، 61، 79) من سورة النحل، وما يقابلها من نصوص الإنجيل في المزمور (104) تحت الأرقام الآتية(12، 17 25، 26، 29، 27، 33، 34، 35)، فسوف ترى عجبا، وهذا كله في كتاب: الدفاع عن القرآن ضد منتقديه، عبد الرحمن بدوي، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط1، 1998م، ص 31: 28.
[2]. الدفاع عن القرآن ضد منتقديه، عبد الرحمن بدوي، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط1، 1998م، ص38: 37 بتصرف.
[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم (3342)، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب ذكر كونه خاتم النبيين (6101).
[4]. الدفاع عن القرآن ضد منتقديه، عبد الرحمن بدوي، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط1، 1998م، ص43: 54 بتصرف.
[5]. الدفاع عن القرآن ضد منتقديه، عبد الرحمن بدوي، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط1، 1998م، ص61، 62 بتصرف.
[6]. نظرية النسخ في الشرائع السماوية، شعبان محمد إسماعيل، دار السلام، القاهرة، ط1، 1408هـ/ 1988م،ص34، 35.
[7]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (23536)، والطبراني في الأوسط، باب العين، من اسمه عبد الرحمن (4749)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2700).
[8]. مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط1، 1417هـ/ 1996م، ج2، ص340: 338 بتصرف.
[9]. مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط1، 1417هـ/ 1996م، ج2، ص343 بتصرف.
click here
online women cheat husband
generic viagra softabs po box delivery
viagra 50 mg buy viagra generic
generic viagra softabs po box delivery
viagra 50 mg buy viagra generic