مرحبًا بكم فى موقع بيان الإسلام الرد على الافتراءات والشبهات
 بحث متقدم ...   البحث عن

الصفحة الرئيسية

ميثاق الموقع

أخبار الموقع

قضايا الساعة

اسأل خبيراً

خريطة الموقع

من نحن

ادعاء أن القرآن الكريم من وضع البشر (*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المغرضين أن القرآن من صنع البشر، وليس من عند الله، وأنه خلاصة ثقافات وديانات سابقة؛ معللين ذلك بما يزعمونه من أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - تعلم كثيرا من الأحبار والرهبان، فاستطاع أن ينقل منهم بعض الأخبار أو يصوغها بنفسه، وأنه أخذ كثيرا من الثقافات الهندية واليونانية والرومانية، واقتبس كثيرا من الشعر الجاهلي. ثم إن ما كان ينتابه أحيانا ليس وحيا، ولكنه محض هوس أصابه من كثرة اختلائه بنفسه، ولا يبعد أن يكون محمد قد استغل مناخ هذه الخلوة - التي اعتادها - بما فيها من هدوء في تلخيص ما أفاد منه وما تعلمه من سابقيه ومعاصريه في نظم القرآن، ويستدلون على هذا بـ:

o       نزول القرآن منجما[1] لا جملة واحدة.

o       نزول القرآن بقراءات متعددة.

o       إمكانية الإتيان بمثل سور القرآن؛ إذ لا وجه للإعجاز، أو للإلهية فيه.

o       ما نصت عليه بعض آيات القرآن نفسه: )إنه لقول رسول كريم (40)( (الحاقة)

ويرمون من وراء هذا إلى الطعن في إلهية القرآن والتشكيك في مصدره؛ إيذانا للتشكيك في سلامته.

وجوه إبطال الشبهة:

1) للمفسرين في تحديد المراد بــ "الرسول" في الآية - مناط الاستدلال - قولان؛ أحدهما: قول جبريل، والثاني: قول محمد - صلى الله عليه وسلم - ولو افترضنا أن القول الثاني هو الأرجح فإن هذا لا يعني أكثر من كونه - صلى الله عليه وسلم - مبلغه لا منشئه.

2) لقد زامن نزول القرآن دهشة معاصريه من مصدره، ولو علم هؤلاء المشركون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ القرآن من اليهود أو النصارى؛ لأشاعوا ذلك، واتخذوه مطعنا في الإسلام عامة وفي القرآن خاصة، وهذا ما لم يحدث.

3) إننا لو سلمنا لهؤلاء بأن في القرآن بعض الألفاظ اليونانية والرومانية، فلن نسلم لهم بذلك فيما يتعلق بالثقافة الهندية؛ ذاك أنه لم يرد أي لفظ هندي في القرآن، على أن ما ورد فيه من الثقافات إنما هو من قبيل الألفاظ التي عربت، ولا تقل فصاحة بعد تعريبها واستخدام النص القرآني إياها عن تلك التي اشتملها القرآن من ألفاظ العرب أنفسهم - شعرا ونثرا - ولا يعني اشتمال القرآن على الألفاظ الأعجمية أنه مقتبس من غيره.

4) كثير من آيات القرآن نزلت مرتبطة بوقائع وأحداث معروفة، وهذه الأحداث كانت تالية لفترة تحنث النبي - صلى الله عليه وسلم - في غار حراء، فكيف نظم محمد - صلى الله عليه وسلم - هذه الأحداث قرآنا قبل وقوعها أصلا؟!

5) لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة أو بعدها - أنه كان من ذوي الوساوس، فكيف يسمى ما كان يحدث له أثناء نزول القرآن عليه هوسا لا وحيا؟!

6) لقد نزل القرآن منجما، وليس في هذا ما يدل على بشريته، بل كان تنجيمه لحكم متعددة؛ منها: التدرج، وتثبيت الإيمان، ومجاراة الحوادث، وإثبات إعجاز القرآن.

7) لو جيء حقا بسورة أو أكثر من مثل القرآن الكريم؛ لوصلت إلينا، ولذاعت بين الناس، وهذا ما لم يحدث وما ينبغي له أن يحدث.

8) القراءات القرآنية توقيفية خاصة بكلمات محددة، وتعددها لا يعني تضارب المعاني، وتناقض الأحكام، بل هو في الغالب اختلاف صوتي، وتنوع في طرق الأداء - بقراءة الكلمة القرآنية على وجهين أو أكثر - بما يثري المعنى، ويوسع الدلالة، وييسر على العرب، ولا يمس من التشريع أصلا ولا فرعا.

9) نجد فيما اشتملت عليه آيات القرآن من وجوه الإعجاز - العلمي والبياني والتشريعي - من جهة، وما أخبر به من غيبيات - الماضي والمستقبل - من جهة أخرى - ما يشهد بإلهيته في مقابل ما ادعاه بعضهم من القول ببشريته.

التفصيل:

أولا. المقصود بالرسول في قوله سبحانه وتعالى: )إنه لقول رسول كريم (40)( (الحاقة):

إذا تأملنا الآية في سياقها القرآني - في محاولة منا للوقوف على مدلولها بشيء من الموضوعية - وجدناها مصدرة بالتأكيد بـ إن واللام " للرد على من كذبوا بأن يكون القرآن من كلام الله ونسبوه إلى غير ذلك"[2].

"ولقد كان مما تقول به المشركون على القرآن وعلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولهم: إنه شاعر أو كاهن؛" متأثرين في هذا بشبهة سطحية، منشؤها أن هذا القول فائق في طبيعته على كلام البشر"[3]، فلما كان اعتقادهم أن لأحد هذين الاحتمالين اللذين نسبوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهما - الشعر والكهانة - ما يمده بالقول الفائق على كلام البشر بما فيهما من اتصال بالجن وخلافه؛ جاءت الآية الكريمة في مقام نفي تلك الشبهة عنه صلى الله عليه وسلم.

وإذا استقر في أذهاننا ما قررنا من كون الآية - مناط الاستدلال - واردة في سياق نفي بشرية القرآن وإثبات إلهيته في مقابل ما حاول المشركون ادعاءه نقول: إذا استقر في أذهاننا هذا إلى - جانب ما هو معهود من منطقية الحجاج في القرآن الكريم عامة بما اتسم به من قوة ومحاجة واتساق - تساءلنا: هل يعقل أن يذهب القرآن الكريم لينفي بشرية مصدره فينسبه للنبي - صلى الله عليه وسلم - مؤكدا ذلك بأداتي توكيد في قوله سبحانه وتعالى:: )إنه لقول رسول كريم (40)( (الحاقة)، فضلا عن كون الجملة الاسمية تفيد التوكيد؟!

إن هذا مما لا يستقيم عقلا ولا منطقا، ونحن نشهد أن في القرآن نماذج أكثر من أن تحصى تندرج تحت قائمة الحجة بالحجة، وتقرع الوهم والزعم بالدليل والمنطق، وقرآن هذا دأبه وذاك منواله وتلك سجيته لا يحسن بكم أيها المشككون أن تقطعوا منه دليلا على خلاف ما أكد عليه في غير ما موضع من إثبات إلهيته ونفي بشريته.

وكان من الجدير بهم أن يتلمسوا لهم دليلا - ولن يجدوا - في غير هذا الموضع من القرآن بما فيه من إثبات خلاف دعواهم، ناسين أن في التماس الدليل - مما لا يعد دليلا، فضلا عن أن يكون دليلا على خلاف الدعوى - ضربا من فقدان المرجعية وبطلان الحجة؛ وبالتالي وهن الدعوى.

أما وقد وقع القوم فيما استحسنا لهم ألا يقعوا فيه؛ فإنه يجدر بنا - نحن الآخرين - أن نقف بهم على طبيعة المعنى الذي جهلوه - أو تجاهلوه - في الآية مناط الاستدلال؛ إبطالا لدعواهم من جهة، وتفصيلا للمعنى وإيضاحا للسياق من جهة ثانية.

والمفسرون في تفسير هذه الآية على قولين:

الأول: أن المراد بالرسول - في قوله عز وجل:: )إنه لقول رسول كريم (40)( (الحاقة) جبريل عليه السلام - ودليلهم قوله - عز وجل - في موضع آخر: )إنه لقول رسول كريم (19) ذي قوة عند ذي العرش مكين (20)( (التكوير).

الثاني: أن الرسول في الآية هو محمد - صلى الله عليه وسلم - لقوله - سبحانه وتعالى - بعدها: )وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون (41)( (الحاقة) [4]. ويقول ابن عاشور: فالمراد بالرسول الكريم: محمد - صلى الله عليه وسلم - كما يقتضيه قوله: )ولو تقول علينا بعض الأقاويل (44)( (الحاقة). وهذا كما وصف موسى بـ "رسول كريم" في قوله سبحانه وتعالى: )ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم (17)( (الدخان)[5].

على أن ما ينبغي أن نلمح إليه أن كون الرسول في الآية هو محمد - صلى الله عليه وسلم - إن أخذنا بقول الفريق الثاني من المفسرين - لا يعني أن يكون القرآن من تأليفه ولا أن يكون صادرا عنه - كما يزعمون ـ؛ بل المعنى: أنه ليس " قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما هو من قول الله - عز وجل - وإنما نسب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأنه تاليه ومبلغه والعامل به، كقولنا: هذا قول مالك"[6] فلا يعني هذا بالضرورة أن منشئه في الأساس مالك، وإنما يكفي مسوغا لتلك النسبة أن يكون مالك من أتباع هذا القول العاملين بمقتضاه الناقلين له، وهذه كتلك.

ولمزيد من الإيضاح نقول: " إن إضافة " قول" إلى " رسول" ما جاءت إلا لأنه - صلى الله عليه وسلم - هو الذي بلغه فهو قائله، والإضافة هنا لأدنى ملابسة، وإلا فالقرآن كلام الله - سبحانه وتعالى - أنزله وأجراه على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - كما صدر من جبريل بإيحائه بواسطته قال سبحانه وتعالى: )فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا (97)( (مريم).

 وأيا ما كان من أمر فإن ثمة شيئا تجدر الإشارة إليه في تفسير الآية الكريمة، ذاك أن كلمة رسول نفسها دالة على خلاف ما زعموا، حتى لو افترضنا أن إضافة القول له على سبيل الملكية، سواء كان المراد محمدا - صلى الله عليه وسلم - أم جبريل - عليه السلام - فما زالت دلالة كلمة "رسول" واقفة بها عند مجرد حمل الرسالة وتبليغها، أيا كان المبلغ في الآية محمد - صلى الله عليه وسلم - أو جبريل - عليه السلام - فإن قوله - سبحانه وتعالـى - فـي السـورة نفسهـا: )تنزيـل من رب العالميـن (43)( (الحاقة) فيه تصريح بعد كناية، فلما وصف القرآن بأنه )لقول رسول كريم (40)( ونفي عنه أن يكون قول شاعر أو قول كاهن، ترقب السامع معرفة كنهه، فبين أنه منزل من رب العالمين على الرسول الكريم، ليقوله للناس ويتلوه عليهم.

وتأسيسا على ما سبق يمكننا إجمال ما أسلفنا تفصيله، انطلاقا من كون الإضافة في الآية: )إنه لقول رسول كريم (40)( بمعنى: "من" - نقول: إن إضافة القول - القرآن - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إضافة أداء، وليست إضافة إنشاء، أيا كان المراد من المضاف إليه، والتقدير: إنه لقول من رسول كريم؛ ومعلوم أن للإضافة معاني كثيرة غير الملكية، من ذلك قولنا: باب حديد، فلا يمكن أن تكون الإضافة هنا للملكية، وإنما التقدير: باب من حديد، ناهيك عما تحمله كلمة "رسول" ذاتها - أيا كان المراد منها - من دلالة التبليغ وتحمل الرسالة، فضلا عن أن الآية واردة في سياق نفي بشرية القرآن، فلا يعقل أن تثبت الآية نسبة القرآن للنبي - صلى الله عليه وسلم - في سياق نفي بشريته وإثبات كونه: )تنزيل من رب العالمين (80)( (الواقعة)!!

ثانيا. كيف يتلقى النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن - الذي تحير المشركون في إدراك مصدره - عن اليهود والنصارى ثم يسكت المشركون عن هذا؟!

لو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ عن اليهود والنصارى حقا، لما سكت عنه المشركون ولأشاعوا ذلك، واتخذوه مطعنا في الإسلام وفي القرآن، لكن هذا لم يحدث. كما أن أحبار اليهود، ورهبان النصارى - أنفسهم - لم يدعوا ذلك.

وفي قصة إسلام الحبر اليهودي عبد الله بن سلام ما يؤيد صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه يوحى إليه من ربه؛ حيث أراد عبد الله بن سلام أن يختبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأسئلته التي لا يعرفها إلا نبي، فلما أجاب عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - سلم له الحبر اليهودي بالعلم وصدق الدعوة، وجمع قومه وأشهدهم على صدقه - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به، ثم أعلن إسلامه واتباعه للنبي - صلى الله عليه وسلم - فراحوا يطعنون فيه.

وإن من العجب بمكان أن يزعم هؤلاء أن القرآن خلاصة تلك الديانات، وهو الكتاب المتمم الذي خالف ما حرفوه من معتقدات وكشف حقيقة أمرهم؛ ومن أمثلة ذلك قوله سبحانه وتعالى: )وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون (30)( (التوبة). في سياق رده على المعتقد الشركي القديم المتأصل عند اليهود: أن عزيرا ابن الله، وعند النصارى: أن عيسى ابن الله [7].

ولا يخفى علينا ما في القرآن من مخالفة بينة لمعتقدات النصارى، وخلافه معهم في عقائد التثليث وما شابه ذلك من أمور - هي من الجوهر - منذ اللحظة الأولى للبعثة، وهذا أدل دليل على إلهية مصدره وتفرده عن كل محرف من الكتب والديانات الأخرى.

هذا بالإضافة لما في القرآن الكريم من العبادات والشعائر التي جاء بها على نسق لم يعهد في غيره من الكتب الأخرى بهذه الطريقة ولا تلك التفاصيل، فكيف إذن يتسنى لهؤلاء هذا القول بالاقتباس؟ ولماذا - لو صح ما زعموا - لم نجد في القرآن صدى موافقته عقائد مثل: التثليث، والصلب، والخطيئة، وألوهية المسيح؟! وإذا كان القرآن من عند النصارى فلماذا كل هذا الخلاف وكل ذاك البون بينهما[8]؟!

ومما يحسن ذكره في هذا المقام، ما عرض له الكثيرون بالتشكيك تارة، والتقول والزعم تارة أخرى بشأن سفر النبي - صلى الله عليه وسلم - للشام، وما يذكر تحت هذا الباب من كونه - صلى الله عليه وسلم - تعلم القرآن عن بحيرا أو عن نسطورا أو غيرهما، وخروجا عن تلك الأقاويل التي لا تستند إلى دليل نورد - مجملا - أسباب بطلان تلك الدعوى فيما يأتي:

نحن لا ننكر سفر النبي - صلى الله عليه وسلم - للشام مطلقا، لكننا في الوقت ذاته نحيط هؤلاء علما بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يسافر للشام إلا مرتين فقط على مدار عشرة أعوام في زيارتين عابرتين، ولم يكن بشكل فردي بل كان ضمن جماعة - جمعتهم قوافل التجارة -، فأنى له - صلى الله عليه وسلم - أن يتعلم في هذه الظروف وفي تلك المدة؟

ولو افترضنا جدلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلقى بالفعل عن هذين الراهبين أو عن أحدهما، فلماذا ضيع فترة الشباب - وفيها من القوة والثورة ما فيها - ليعلن عن نبوته بعد ثلاثين سنة من اللقاء الأول تقريبا، وبعد خمسة عشر عاما من اللقاء الثاني؟!

لو سلمنا لهؤلاء بأن لبعض رهبان النصارى من العلم ما يصح - منطلقا - أن يفرز مثل هذ القرآن؛ نتساءل: لماذا علموه النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان أولى بهم أن ينسبوه لأنفسهم أصالة لعلمهم بما لهذا النبي من الشرف؟! أو ليس أحدهم أولى بهذا الشرف وتلك المكرمة من تلميذه؟!

على أننا لو تجاوزنا كل ما سبق وجدنا أنفسنا أمام حصن منيع لا نكاد نجد منه ملاذا ولا عنه محيدا، ذاك ما عرف من أميته - صلى الله عليه وسلم - من جهة، وعبرانية تلك الكتب من جهة أخرى، فلو تجوزنا في الأولى - نعني الأمية - ونفيناها جدلا فأنى لنا أن ننسب له - صلى الله عليه وسلم - قراءة واقتباسا وتلفيقا من مسطر بغير العربية[9]؟!

 لم يعاصر بحيرا أو نسطورا الحوادث الواردة في القرآن الكريم، فأين هما من سؤال يسأله النبي - صلى الله عليه وسلم - فنرى الإجابة تواتيه في أول وحي ينزل عليه؟!

 ولو قلنا معهم بأن لبعض هؤلاء الرهبان من القرآن نصيبا؛ تساءلنا: أين نجد أنفسنا أمام قرآن متحد الأسلوب موحد النسق؟ ثم أنى لبحيرا أو لغيره أن يدرك من الأمور مالم يشاهده بعينه؟! إن هذا لا يكون ولا يستقيم.

ومما يهدم هذه الشبهة من أساسها حقيقة ملموسة فيما يتعلق بمسألة تعلم القرآن هذه، مؤداها أن اسم هذا المعلم المدعي كان يتغير باختلاف المصدر الذي تثار فيه هذه الفرية؛ فإن كان المصدر أو المرجع مسيحيا فالراهب هو سرجيوس أو بحيرا أو نسطورا أو ورقة، وإذا كان المصدر أو المرجع يهوديا، فصاحب القرآن حاخام إسرائيلي مجهول الاسم، وأمام هذا الاضطراب والاختلاف نتساءل: أليس هذا الاختلاف - في حد ذاته - دليلا قويا يكفي لرد هذه الفرية من أساسها[10]؟!

على أنه من البدهي - ونحن نثبت ما انفرد به القرآن عن سابقيه من الكتب موازاة لما اختص به الإسلام عامة عن غيره من الديانات - أن تقر حقيقة واقعة بالفعل، تتمثل في التقاء القرآن الكريم مع الكتب السابقة في قصصها العام باعتبار أن المشكاة التي خرجت منها و احدة، ولكن تفاصيل القصة في القرآن قد فضحت أهل الكتاب، وافتراءاتهم على الله ورسله.

ويحسن بنا أن نذكر كلمة للدكتور نظمي لوقا - وهو من الباحثين المنصفين من غير المسلمين - في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - وبحيرا حيث يقول: "محمد بغير ذلك اللقاء في عرض الفلاة - يعني لقاءه ببحيرا - كان حريا أن يغدو بقضه وقضيضه، وفضله وعقله وهداه، أما بحيرا بغير هذا اللقاء فكان حريا به أن يذهب في التاريخ نسيا منسيا - كغيره من النساك، فأدخله لقاؤه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - دولة التاريخ وأحدث له ذكرا باقيا"!

إن الباحث يريد أن يقول بعبارة أخرى: إن بحيرا لم يكن سقراط عصره، ولا فيلسوف زمانه، ولم يعرف له ذكر قبل هذا اللقاء ولا بعده، فمن بحيرا هذا حتى ينسب القرآن له؟!

يقول أحد المستشرقين ردا على فرية تعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - من بحيرا: "لا تسمح النصوص العربية التي عثر عليها ونشرت وبحثت منذ ذلك الوقت بأن نرى في الدور المسند إلى هذا الراهب النسطوري إلا مجرد نسج خيال" [11].

ثالثا. القرآن والثقافات الأخرى:

نحن لا ننكر أن في القرآن ألفاظا في أصلها يونانية ورومانية وفارسية مثل: القسطاس،[12] الفردوس،[13] قطران،[14] قسورة،[15]... وغيرها، لكن اشتمال القرآن الكريم على هذه الألفاظ لا يعد تأثرا بتلك الثقافات ولا اقتباسا منها؛ لأن مثل هذه الألفاظ قد عربت واندمجت في لغة العرب، وأجروها على قواعدهم، فأصبحت - بذلك - جزءا من لغتهم التي نزل القرآن بها، وقد وردت هذه الألفاظ كثيرا في الشعر العربي قبل الإسلام.

وهذا شأن كل لغة حية تتأثر بغيرها وتؤثر في غيرها، فليس ثمة لغة خالصة، ولو وجدت لدل ذلك على انعزال أهلها عن العلم وتقوقعهم على أنفسهم وبعدهم عن الحضارة.

هذا بشأن الثقافتين اليونانية والرومانية، أما قبول مثل هذا الكلام فيما يتعلق بالثقافة الهندية، ففيه كثير من التجوز المرفوض والتحامل غير المسوغ؛ ذاك أنه ليست في القرآن الكريم إشارة واحدة إلى الهند، ولا إلى ثقافتها، وإنما جاءت هذه الثقافة إلى بلاد العرب بعد الفتوحات الإسلامية، والاتصال الواسع مع العالم شرقه وغربه، وهذا نوع من التلاقح الثقافي بين الأمم والشعوب، أما نزول القرآن فقد كان أسبق من تلك المرحلة بكثير؛ وعليه فلا يستقيم أن نرده لتلك الثقافة خاصة أو لغيرها عامة.

وقريب من هذا - في تحامل الدعوى ورفض قبولها - أن ينسب القرآن للشعر الجاهلي بحجة ما بينهما من تلاق في الألفاظ، وإذا أحطنا هؤلاء علما بأن القرآن إنما أنزل بلغة العرب: مفردات، وأساليب، وتراكيب؛ جاز لنا أن نسأل ما وجه الاعتراض في ذلك ما دام القرآن نفسه منزل بلغتهم تلك؟! ثم أو ليس مرد القرآن والشعر إلى تلك اللغة العربية؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل من المنطق أن نتجاهل الأصل المستقى منه ونتهم أحد أشكاله بأنه فرع عن شكل آخر مستقى من نفس الأصل؟!

ويندرج تحت هذا الباب أيضا ما يثار من أن أشعار الحنفاء[16] عامة، وأمية بن أبي الصلت خاصة ألهمت محمدا - صلى الله عليه وسلم - القرآن بما فيها من تنكر لعبادة الأصنام ونقد للمجتمع الجاهلي، لكننا لا نعمم الكلام على الحنفاء جملة، فمنهم من أسلم ثم تنصر - كعبيد الله بن جحش -، ومنهم من قدم على قيصر وتنصر - كعثمان بن الحويرث - حتى إن أمية نفسه لم يسلم؛ حنقا على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ما شهد له بأنه على الحق، ورثى قتلى بدر من المشركين، وأخذ يهجو الإسلام، ولا ندري من أي شعر أمية اقتبس النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن؟! أمن شعر الحنيفية الذي كتبه قبل البعثة؟! فلو كان لما سكت أمية على ذلك وهو الحانق على نبوته - صلى الله عليه وسلم - الحاسد له، ولم لا وقد قال: " إنما كنت أرجو أن أكونه" [17]، أم من هجائه للإسلام ونبيه وأصحابه، ونصرته المشركين ورثائه قتلاهم؟! ونعتقد أن موازنة يسيرة بين القرآن وتلك الأشعار خاصة تغنينا عن مزيد تفصيل وفضل بيان.

رابعا. هل من شأن الخلوة - في حراء أو غيره - أن تفرز قرآنا؟

وإذا علمنا أن كثيرا من آيات القرآن نزلت مرتبطة بوقائع وأحداث معروفة، وأن هذه الأحداث وتلك الوقائع وقعت بعد زمن من خلوته - صلى الله عليه وسلم - في غار حراء؛ نتساءل: كيف نظم محمد - صلى الله عليه وسلم - هذه الأحداث وتلك الوقائع في خلوته قرآنا قبل وقوعها أصلا؟!

كما أن الاختلاء بالنفس قد يتولد عنه خواطر وتأملات. أما أن يتولد عنه دستور ينظم حياة الناس تنظيما أبديا فلا، ولنا أن نسأل هؤلاء: إذا كان محمد - صلى الله عليه وسلم - قد ألف القرآن في فترة تعبده واختلائه في غار حراء، فلماذا انتظر كل هذا الوقت حتى يعلن أنه مرسل من ربه؟ ثم أليس ثمة تناقض بين ما يستلزمه ادعاؤهم من خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - على قومه بالقرآن جملة واحدة، وبين ما استدلوا به على بشرية القرآن في مضمون هذه الشبهة من نزوله منجما؟!

ويحسن بنا - بعد الوقوف على ما وقع فيه أولئك من خلط واضطراب - أن نقرر جملة حقائق مشفوعة بتساؤلات تحتاج إلى إجابة شافية من قبل هؤلاء الأدعياء المتقولين، ومن تلك الحقائق ما يأتي:

·  كانت خلوة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتحنثه[18] في غار حراء من جملة ما من به الله - عز وجل - على نبيه - صلى الله عليه وسلم - حين حبب - له دون غيره من قومه - تلك الخلوة؛ هروبا به - صلى الله عليه وسلم - مما كانوا عليه من عبادة الأصنام؛ ليتناسى بذلك المألوف من عاداتهم، ويستمر على هجران ما لا يحمد من أخلاقهم، وألزمه شعار التقوى وأقامه في مقام العبودية بين يديه، فيخشع قلبه، وتلين عريكته لورود الوحي [19]، وهنا نتساءل: ألم يكن من الإنصاف أن يستدل بتلك الخلوة على نبوته - إذ هي من إرهاصاتها - وبالتالي إلهية رسالته صلى الله عليه وسلم؟! ثم، أمن المنطق أن يؤلف النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن في غار حراء، ثم يخرج على قومه مدعيا النبوة من المكان ذاته؟! ألم يكن من الأولى - لو كان كما قالوا - أن ينفي خلوته أو يخفيها، وحينما يؤلف قرآنها الدال على نبوته يخرج عليهم به من مكان غيره؟!

·  يشهد التاريخ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن بدعا من الرسل في اعتزاله مساوئ قومه، وتجنبه منكراتهم ومفاسدهم، وخلوته للتأمل في بديع صنع الله - سبحانه وتعالى - ومن هؤلاء زكريا - عليه السلام - مريم الصديقة [20]، وإذا ثبت هذا، فلماذا غض أولئك الطرف عن هاتين العزلتين ونالوا من خلوته صلى الله عليه وسلم؟

·  إذا علمنا أن غار حراء هذا اكتنف في جنباته قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - جده عبد المطلب، وبعض قريش؛ تساءلنا: لماذا لم يخرج إلينا أحد هؤلاء بما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بقريب منه، إن كان للخلوة أن تصنع نبوة أو تفرز قرآنا؟!

خامسا. القرآن وحي وليس هوسا ولا صرعا:

إن الوحي[21] ليس نوعا من الهوس، وإنما هو ظاهرة روحية خص الله بها من اصطفاهم للنبوة، وبه يكون اتصالهم بالله من غير حلول ولا اتحاد؛ ليكلفهم[22] إبلاغ تعاليمه للناس.

وليس ما كان يحدث لسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - إلهاما فائضا من استعداد النفس العالية، حتى يمكن القول بأن معلوماته وأفكاره وآماله ولدت له إلهاما فاض من عقله الباطن أو نفسه الروحانية على مخيلته، ثم انعكس اعتقاده على بصره، فرأى الملك ماثلا له أو على سمعه، فوعى ما حدثه به الملك.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن الوحي أنواع مختلفة؛ فمنه ما يكون مناما، بأن يرى النبي - صلى الله عليه وسلم - في منامه رؤيا؛ فتتحقق بعد في اليقظة كما رآها في نومه تماما، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: «إن رؤيا الأنبياء وحي». [23] ومن الوحي ما يكون إلهاما يلقيه الله في قلب نبيه؛ فيجد من نفسه علما ضروريا بأن هذا من عند الله سبحانه وتعالى... ومنه ما يكون تكليما من الله لنبيه بكلام يسمعه ويدرك معناه، مع يقينه بأنه كلام الله وليس كلام أحد سواه، كما حدث لموسى، وآخر صور الوحي ما يكون بواسطة أمين الوحي جبريل - عليه السلام - هذا أغلب أنواع الوحي لرسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وغيره من الرسل، والقرآن كله من هذا القبيل[24].

نخلص من هذا إلى أن ما كان يصيب النبي - صلى الله عليه وسلم - حال تلقيه الوحي ليس هوسا ولا صرعا وما ينبغي له أن يكون كذلك، ومعلوم أن الوحي كان يأتيه - صلى الله عليه وسلم - مثل صلصلة الجرس، وأحيانا يأتيه جبريل في صورته الملائكية، وأحيانا أخرى كان يتشكل في صورة بشرية[25].

فالوحي من خارج نفسه - صلى الله عليه وسلم - وليس نابعا من داخله كما يزعمون، إضافة إلى أن رؤى النائم أو المضطرب ذهنيا - بصرع أو هوس أو غيره - لا يمكن أن تبلغ هذه الدرجة العالية من الدقة والنظامية والتناسق البديع الذي نجده في القرآن الكريم.

سادسا. الحكم الربانية من نزول القرآن منجما:

لعل في تلك الحكم - لو فطنها هؤلاء - ما يدل على إلهية القرآن لا على بشريته المزعومة، ومن تلك الحكم ما يأتي:

·  تثبيت فؤاد النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ما أشار إليه الحق - سبحانه وتعالى - في رده على المكذبين في قوله سبحانه وتعالى: )كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا (32)( (الفرقان).

·  التدرج في تربية الأمة دينيا، وخلقيا، واجتماعيا، وعقائديا، وعلميا، وعمليا، وهذه الحكمة هي التي أشار إليها - سبحانه وتعالى - بقوله: )وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا (106)( (الإسراء).

·  مجاراة الحوادث والنوازل والأحوال والملابسات - في تتابعها وتجددها - وهذا ما نلمحه في قوله سبحانه وتعالى: )ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا (33)( (الفرقان).

·  إثبات إعجاز القرآن على أبلغ وجه؛ لأنه لو نزل جملة واحدة؛ لقال المشككون: "شيء جاءنا مرة واحدة، فلا نستطيع أن نعارضه، ولو أنه جاءنا قطعا قطعا لعارضناه". فالقرآن بنزوله مفرقا، على تباعد أزمان النزول جاء في سلسلة ذهبية مترابطة الحلقات منسجمة الشكل، لا تنبو كلمة عن كلمة، أوتنفر آية من آية، بل كله غاية في الفصاحة، والبلاغة، والإعجاز، والإحكام.

سابعا. تحدي القرآن أرباب الفصاحة والبيان:

معلوم أن القرآن تحدى فصحاء العرب وبلغاءهم أن يأتوا بمثل هذا الكلام الذي نزل بلغتهم في غير ما موضع، متبعا التدريج العددي في التحدي بدءا من التحدي بالقرآن كله ومرورا بعشر سور وانتهاء بسورة واحدة - إنها قمة التحدي وغاية الاستنفار وذروة التعجيز - والأكثر من هذا أن القرآن قرن ذاك التحدي بالجزم بفشلهم فيه؛ ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: )قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (88)( (الإسراء).

فإذا علم أن فصحاء العرب قاطبة فشلوا في ذاك التحدي مع شدة حاجتهم للنجاح فيه، مع ما لهم من الفصاحة والبيان؛ علم بذلك أن غيرهم بذاك الفشل أولى. ولو ثبت أنه قد جيء بسورة من مثله - كما يدعون ـ؛ لوصلت إلينا، ولذاعت بين الناس، بل لو عرف المكذبون المعاندون أنهم سينجحون في الإتيان بمثل ما تحداهم به القرآن؛ لحسموا الأمر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من البداية، ولما لجئوا للحرب، وفيها فناء الأنفس وضياع الأموال، لو كانوا يملكون ما يوفر عليهم ذلك كله - وهو الإتيان بمثل القرآن أو بمثل سورة منه، وما أيسرها لو استطاعوا.

على أن جميع ما أثر من محاولات في القديم والحديث - إن هي إلا محاولات فاشلة مضحكة؛ لأنها مجرد محاكاة شكلية هزيلة لبعض ألفاظ القرآن الحق، مجردة من مضمون القرآن، ومن أقل صور الإعجاز التي يحملها.

وفي التاريخ الغابر أناس كثيرون زعموا أن بوسعهم أن يأتوا بمثل القرآن الكريم، فإذا ما بحثنا وفتشنا في طوايا التاريخ؛ لن نجد وراء دعاواهم شيئا. وما أكثر الدعاوى التي من هذا القبيل، على أنها جميعا تفتقد شاهد صدق واحد عليها.

ولعل سبب ذلك - كما يشير المعري - أن أحد أولئك الأدعياء يستنجد بما يملك من البيان؛ ليأتي بشيء من مثل القرآن، فتخونه سليقته العربية، وتغيب عنه ملكته، فلا يأتي إلا بمرذول الكلام وسخيفه؛ فيتكتم على عمله ويطويه عن فكره؛ حذرا من التشنيع عليه، وتضاحك الناس منه، أو يلصقه بأديب ذاع صيته، ليجعل من ذلك أحدوثة المجالس، ومادة فكاهة لهم فيها.

على أن باب التحدي لمن يريد أن ينكر سمة الإعجاز في القرآن - ما يزال مفتوحا لكل من آنس من نفسه قدرة على كسر طوق هذا المتحدى به - القرآن -، وهل في الناس من يملك أن يغلق باب التحدي بعد أن فتحه الله على مصراعيه؛ دليلا على إعجاز القرآن وخلوده؟! إن هذا الإعجاز وذاك الخلود الإلهي للقرآن باقيان طالما بقي باب التحدي مفتوحا، يعجز عن وصده الأدعياء[26].

ثامنا. القراءات القرآنية توقيفية أغلب اختلافها صوتي يثري المعنى ولا يبدل الأحكام:

نقر في البدء بأن القرآن نزل بقراءات متعددة، لكننا في الوقت ذاته نقر بحقيقة أخرى تتمثل في أن هذا التعدد لا يشمل القرآن كله، وإنما هو مقتصر على كلمات محددة، ثم إن هذا التعدد في القراءات أمر توقيفي قليلا كان أو كثيرا؟!

ولعل حقيقة ربانية القراءات القرآنية - وأنها وحي لا يختلف عن جملة القرآن - تدفعنا لمحاولة الوقوف على حكمة اختلاف تلك القراءات وما يقتضيه ذاك التنوع في طرق أداء القرآن - بقراءة الكلمة القرآنية على وجهين أو أكثر - من إثراء المعنى، وتوسيع الدلالة، والتيسير على الأمة العربية ذات اللهجات المتعددة والألسنة المتباينة؛ كي لا يشق عليها التزام وجه واحد في القراءة.

نضيف إلى كل ما سبق أن أغلب اختلاف القراءات في القرآن صوتي لا يوقع المعاني في تضاد، ولا المدلولات في تناقض، ولا الأحكام في تضارب؛ إذ إنها لا تمس من التشريع أصلا ولا فرعا، ولا تحلل حراما، ولا تحرم حلالا.

وعليه فليس معنى نزول القرآن بقراءات متعددة أن فيه اضطرابا، وأن اختلاف القراءات فيه بمعنى تناقض الأحكام وتدافع معانيه وتعاليمه؛ بل هي - كما أشرنا - من قبيل إثراء المعنى، وتوسيع الدلالة، والتيسير.

ويؤكد هذا المعنى أحاديث عدة؛ منها ما جاء عن أبي «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عند أضاة بني غفار، فأتاه جبريل - عليه السلام - فقال: "إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف"، قال: "أسأل الله معافاته ومغفرته، إن أمتي لا تطيق ذلك"، ثم أتاه ثانية فذكر نحو هذا حتى بلغ سبعة أحرف، قال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك على سبعة أحرف، وأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا»[27].

وكان نزول القرآن على قراءات متعددة - أيضا - لإثبات إعجازه للفطرة اللغوية عند العرب قاطبة، فتعددت مناحي التنزيل للقرآن تعددا يكافئ الفروع اللسانية التي عليها فطرة اللغة في العرب، حتى يستطيع كل عربي أن يوقع بأحرفه وكلماته على لحنه الفطري ولهجة قومه، ومع بقاء الإعجاز الذي تحدى به الرسول - صلى الله عليه وسلم - العرب، ومع اليأس من معارضته لا يكون القرآن إعجازا للسان دون آخر، وإنما يكون إعجازا للفطرة اللغوية نفسها عند العرب.

تاسعا. وجوه إعجاز القرآن الدالة على ربانيته:

إن المتأمل في آيات القرآن يقف على كثير من الأمثلة الدالة على تلك الوجوه، من ذلك: الإخبار بالغيب - من ماض ومستقبل وكشف خفايا النفوس -، والإعجاز العلمي، والبياني، والتشريعي. ولمزيد من الإيضاح نفصل كل جانب من تلك الجوانب بما يشكل في النهاية حقيقة الإقرار بربانية المصدر المشتمل على تلك الجوانب جميعها، وبيان ذلك على التفصيل الآتي:

1. إخبار القرآن الكريم بالغيب:

وهذا من أدل الوجوه على أن القرآن كلام الله وليس من صنع بشر، ولما كان الغيب لله وحده مستأثر به دون سائر خلقه، لا يطلع أحد منهم - حتى الأنبياء والرسل والملائكة - على شيء منه إلا إذا أطلعه الله عليه، وصدق القرآن فيما أخبر به من ذاك - علم يقينا أن هذا القرآن إنما هو من عند الله الذي أخبر فيه - بما صدقه الواقع وشاهده الناس - بما لا علم لأحد به إلا هو - سبحانه وتعالى - ومن صور الإخبار بالغيب ما يأتي:

·     الإخبار عن الغيوب الماضية: ومن ذلك ما ورد في القرآن من أخبار القرون كقصة هود وصالح ونوح وشعيب وغير ذلك من الأخبار الماضية التي لم يكن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - علم بها، لا هو ولا قومه من قبل أن ينزل بها القرآن.

·       الإخبار عن الغيوب المستقبلية: وقد أخبر القرآن بأخبار لم تكن وقعت بعد، وثم وقعت في المستقبل طبقا لما أخبر، من ذلك:

o     الإخبار بغلبة الروم على الفرس: وذلك في قوله سبحانه وتعالى: )الم (1) غلبت الروم (2) في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون (3) في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون (4)( (الروم).

o      الإخبار بهزيمة قريش: في قوله سبحانه وتعالى: )سيهزم الجمع ويولون الدبر (45)( (القمر)، وقوله سبحانه وتعالى: )جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب (11)( (ص)، وهذا ما وقع في بدر.

o     الإخبار بدخول النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام البيت الحرام: في قوله سبحانه وتعالى: )لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون( (الفتح: 27). وهو ما كان في فتح مكة.

o    الإخبار بموت أبي لهب والوليد بن المغيرة على الكفر: فقال في شأن أبي لهب: )تبت يدا أبي لهب وتب (1) ما أغنى عنه ماله وما كسب (2) سيصلى نارا ذات لهب (3)( (المسد)، وقال في شأن الوليد: )سأصليه سقر (26)( (المدثر)، ولم يسلما، وهذا دليل على كونه من لدن حكيم خبير.

والأمثلة في هذا الجانب في القرآن كثيرة تند عن الحصر في مثل هذا المقام[28].

·  كشف خفايا النفوس: وهو أمر ليس بمقدور البشر، إلا إذا حدث به صاحبه وكشف عما يخالج نفسه ويخطر في قلبه، فإذا أخبر القرآن عن هذا الجانب بما لم ينكره أولئك الذين كشف طواياهم علم بذلك أنه كلام خارج مضمونه عن مقدور البشر، فلو لم يكن وحيا إلهيا لما كان لأحد سبيل إلى معرفته، ومن ذلك ما يأتي:

o     الكشف عن حقيقة المنافقين وموالاتهم لليهود؛ وذلك في قوله سبحانه وتعالى: )ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون (11) لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون (12)( (الحشر).

وهذا ما أكده عبد الله بن أبي حين لم يخرج مع يهود بني النضير لما أجلاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من ديارهم.

o     الكشف عما أراده المنافقون يوم الأحزاب؛ وذلك في قوله سبحانه وتعالى: )يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل (1)( (الممتحنة)، وهو ما وقع من حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه.

o     إعلام النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن زوجته أفشت سره؛ وذلك في قوله سبحانه وتعالى: )وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير (3)( (التحريم).

وهذا قليل من كثير من الأمثلة الواردة في القرآن، والتي تتضمن نمادج بينة تؤكد أن هذا القرآن الإلهي معجزة حية ناطقة أبد الدهر[29].

2. الإعجاز العلمي في القرآن الكريم:

وهذا الجانب من جوانب الإعجاز لا يقبل مجالا للشك - أو التشكيك - من قبل أعداء الإسلام؛ فمن من البشر بوسعه أن يحيط علما بكل الحقائق العلمية التي وردت في القرآن في هذا الوقت المبكر من تاريخ البشرية، هذه الحقائق التي لم يدرك الإنسان بعضها إلا منذ عهد قريب جدا بعد أن فتح الله عليه ببعض العلم، ولا يزال القرآن عامرا بالأسرار والمعجزات التي لم يعرفها الإنسان بعد، وسنكتفي بضرب الأمثلة عليه فيما يأتي:

·  ذكر القرآن الكريـم أن الفضـاء الخارجـي مظلـم تماما، وأن من يريد الصعـود لهذا الفضـاء لا بد أن يصعـد في خطـوط متعرجة لا في خـط مستقيـم، وهذا ما نقـرؤه في قولـه سبحانـه وتعالـى: )ولو فتحنا عليهم بابا مـن السمـاء فظلـوا فيـه يعرجــون (14) لقالــوا إنمـا سكــرت أبصارنـــا بــل نحـن قــوم مسحــورون (15)( (الحجر)، وهذا لم يعرفه العلم الحديث إلا بعد انطلاق رحلات الفضاء الخارجي، فجاء رواد الفضاء الذين اشتركوا في هذه الرحلات الحديثة ليؤكدوا هذه الحقيقة التي أقرها القرآن الكريم منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام.

·      تحدث القرآن عن نشأة السماوات والأرض فقال: )أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون (30)( (الأنبياء). فالسماوات والأرض كانتا رتقا، أي: متلاصقتين، ففتقهما الله - سبحانه وتعالى - أي: فصلهما عن بعضهما، وهذا ما توصلت إليه الأبحاث العلمية الحديثة.

·      قال الله - سبحانه وتعالى - عن الأرض: )والأرض بعد ذلك دحاها (30) أخرج منها ماءها ومرعاها (31)( (النازعات)، وقد أثبت العلم الحديث - فيما ذكره د. زغلول النجار" تعليقا على هذه الآية - أن الثورات البركانية وما ألقته حول الأرض من غازات وأبخرة، وعلى سطحها من حمم ورماد بركاني، قد لعبت دورا أساسيا في بناء اليابسة، وفي تكون كل من الغلافين الغازي والمائي للأرض.

وقد أثبتت الدراسات الحديثة أن غالبية ما يتصاعد من فوهات البراكين أثناء ثورانها هو بخار الماء؛ إذ يتصاعد بنسبة 70%، ويليه أكسيد الكربون، وبعض الغازات الأخرى، وأن البخار المتصاعد من فوهات البراكين سرعان ما يتكثف ويعود إلى الأرض مطرا، وقد أدى ذلك إلى إثبات أن جميع الماء على سطح الأرض وفي غلافها الغازي قد أخرج أصلا من داخلها مع ثورات البراكين، وهذه حقيقة لم يعرفها الإنسان إلا منذ سنوات قليلة.

كذلك أدرك العلماء أن "ثاني أكسيد الكربون" يلعب دورا مهما في عملية التمثيل الضوئي التي يقوم النبات بها من أجل تمثيل غذائه وتحويله إلى المواد البانية لخلاياه والمنتجة لثماره وأعشابه وأوراقه، والتي بغيرها لا يمكن للأرض أن تنبت.

فخروج الماء من داخل الأرض هو تعبير عن حقيقة واقعة، مؤداها: أن كل ماء الأرض - على كثرته - قد أخرج أصلا من داخلها، وأن ثاني أكسيد الكربون اللازم لحياة كل نبات يقوم بعملية التمثيل الضوئي وإنتاج المادة الخضراء فيه (اليخضور) قد أخرج أيضا من داخل الأرض[30].

·      نقرأ في القرآن الكريم قوله سبحانه وتعالى: )مرج البحرين يلتقيان (19) بينهما برزخ لا يبغيان (20)( (الرحمن)، فالآيتان تتحدثان عن البحرين اللذين لا يختلطان ببعضهما، وهذه الظاهرة لم يتمكن العلماء من معرفة سببها إلا مؤخرا، ويرجع سبب عدم الاختلاط بين البحرين إلى قوة تسمى "الانشداد السطحي" تلك القوة التي تمنع اختلاط مياه البحار المتجاورة كما لو كان بينها جدار عازل، فالبحار رغم ما فيها من مد وجزر وأمواج وأعاصير وغير ذلك لا تتغير نسبة ملوحتها ولا حرارتها ولا كثافتها من مجاورتها لبحر آخر، ومثال ذلك البحر المتوسط والمحيط الأطلنطي، فكلا البحرين له كثافته وحرارته و ملوحته على الرغم من اتصالهما عن طريق مضيق جبل طارق.

ونحن في هذا الصدد لا نستطيع أن نحصر كل الحقائق العلمية التي أثبتها الله - سبحانه وتعالى - في القرآن الكريم من انشطار القمر، وظلمات البحار، ومراحل نمو الطفل، وطبقات الغلاف الجوي، ونسبية الزمن، ودوران الأفلاك، وغير ذلك من الآيات الكونية التي أقرها القرآن قديما، ثم جاء العلم الحديث ليؤكد ما أثبته القرآن من تلك المعجزات الكونية، ودلالة هذا في إثبات إلهية القرآن قوية على مستويين:

أحدهما: أن اكتشافها إنما جاء مؤخرا على أيدي الغربيين خاصة.

ثانيهما: أن تلك المعجزات خاضعة للبحث العلمي والتجربة والملاحظة ومنضوية تحت سيطرة العقل الذي لا يؤمن أعداء الإسلام بغيره في الوقت الحاضر.

وفي ضوء هذين المستويين نتساءل: أنى لبشر - كائنا من كان - أن يدرك كل تلك الحقائق التي لم يدركها العلم إلا مؤخرا؟

 وإذا أخذنا في اعتبارنا التطور العلمي الكبير الذي حدث للبشرية، وافترضنا أن هذا التطور لم يحدث بعد، الواقع أن هذا الافتراض من شأنه أن يؤدي إلى أن يتأخر وقت إدراك الناس تلك الحقائق ردحا من الزمن. والحق أن هذا الجانب - العلمي - في القرآن خير شاهد على إلهيته؛ لثبوت هذه الحقائق علميا من جهة، واستحالة قدرة النبي - صلى الله عليه وسلم - على الإتيان بها من جهة ثانية.

3. الإعجاز البياني في القرآن الكريم:

من أكبر الأدلة على وجود الإعجاز البياني في القرآن: أن الله تعالى تحدى العرب في أن يأتوا بسورة واحدة منه، وفي كل مرة من هذا التحدي كان العرب يقفون عاجزين لا يستطيعون أن يحاكوا النص القرآني ولو بآية واحدة، على الرغم من نزوله بألسنتهم ولغتهم التي تميزوا فيها، فمن المعروف أن العرب كانوا أصحاب بلاغة وفصاحة، وعلى الرغم من ذلك فإنهم سقطوا في هذا التحدي.

إن القرآن الكريم عبارة عن منظومة بيانية، بحيث لا تستطيع أن تضع كلمة مكان أخرى فيه، وحسبنا أن نمثل على ذلك بما يأتي:

·      قال الله - سبحانه وتعالـى - ردا على سيدنا زكريا - عليه السلام - عندمـا طلـب من الله الولـد: )قال كذلك الله يفعل ما يشاء (40)( (آل عمـران)، وقـال - في موضـع آخـر ردا علـى مريـم - عليها السلام - عندما تعجبت من أن تلد من غير زوج: )قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (47)( (آل عمران)؛ ففي الآية الأولى جاء لفظ "يفعل" بالنسبة لمولد يحيى - عليه السلام - أن أسباب الفعل موجودة وهي أن سيدنا زكريا له زوجة فأصلحها الله - سبحانه وتعالى - فجاء الولد، وفي الآية الثانية قال سبحانه وتعالى: "يخلق" بالنسبة لمولد عيسى - عليه السلام - لأن أسباب الفعل غير موجودة، فليس هناك زوج لمريم حتى تستطيع أن تنجب، فجاء لفظ الخلق؛ لأنه إيجاد من العدم فيتناسب معه الخلق، أما يحيى - عليه السلام - فيتناسب معه الفعل؛ لأنه إيجاد بسبب. فانظر إلى أي مدى بلغت دقة الألفاظ القرآنية.

·      عندما تحدث القرآن الكريم عن تفجر الاثنتي عشرة عينا لبني إسرائيل عندما ضرب موسى - عليه السلام - لحجر بعصاه، جاء الحديث عن هذا في موضعين:

o     قوله سبحانه وتعالى: )وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين (60)( (البقرة).

o     وقوله سبحانه وتعالى: )وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (160)( (الأعراف). ففي الآية الأولى جاء لفظ "انفجرت"؛ لأن موسى - عليه السلام - طلب السقاية من ربه؛ فخرج الماء بانفجار وكثرة، أما في الآية الثانية فقد جاء لفظ "انبجست"؛ إذ إن بني إسرائيل هم الذين طلبوا السقاية من موسى - عليه السلام - وكانوا ظالمين؛ فخرج الماء انبجاسا، والانبجاس أقل من الانفجار، ففي هذا وصف قرآني محكم.

·      وفي حديث القرآن عن الأشياء التي استأثر الله - عز وجل - بعلمها نقرأ قوله: )ويعلم ما في الأرحام( (لقمان: 34)، فقال الله سبحانه وتعالى: "ما" ولم يقل: "من"؛ لأن كلمة "ما" أشمل من "من"؛ فـ "من" تختص بنوع الجنين هل هو ذكر أو أنثى فقط، أما "ما " فهي تشمل نوع الجنين وعمره ورزقه وحياته وشقي هو أم سعيد...إلخ. وهذا هو ما قصد له التعبير القرآني قصدا.

وأخيرا... نخلص من جانب الإعجاز البياني في القرآن ببيان سمة تفرد بها نظمه بشكل واضح، تلك التي أسماها د. البوطي: " مظهر جلال الربوبية في القرآن " ويتجسد هذا الجلال في صفات الألوهية المتواترة في القرآن من خلق وإعدام وقدرة وجبروت وإحاطة... وغير ذلك.

إن بشرا بالغا من التجبر والتكبر ما بلغ - ليس في ذرعه أن يتحدث بكلام فيه من الجلال مثل ما في قوله سبحانه وتعالى: )إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري (14)( (طه)، ولا مثل قوله سبحانه وتعالى: )نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم (49) وأن عذابي هو العذاب الأليم (50)( (الحجر) ولا مثل قول: )وإذا سألك عبادي عني فإني قريب( (البقرة: 186)،ولا مثل قوله: ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون (68)( (يس) إلى آخر تلك النماذج التي لا يدل تفرد القرآن بها إلا على ربانية مصدره وتفرد قائله سبحانه وتعالى.

وجدير بالذكر في هذا المقام أن نلمح إلى أن فرعون حين طغى وادعى لنفسه الألوهية جاء كلامه دليلا على تكذيب ربوبيته الزائفة؛ إذ فرضت بشريته نفسها على كلامه، وهذا ما صوره القرآن الكريم خير تصوير، حيث قال تعالى حكاية عنه: )وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين (38)( (القصص).

إن خلو صفات الله الحق في القرآن من مثل تلك العبارة الدالة على بشرية قائلها - بما تنضوي عليه من العجز وقلة الحيلة - في قوله: )فأوقد لي يا هامان على الطين(، )فاجعل لي صرحا(، )لعلي(، )لأظنه(.

نقول إن خلو صفات الله المتجسدة في القرآن مما وقع فيه مدعو الألوهية من البشر - فرعون - من العجز والاستعانة ببشر مثله، والاستعانة بالطين وأسبابه، والرجاء في)لعلي(، والظن وهو منزلة مثله، خير دليل على إلهية قائله سبحانه وتنزيهه عن أن يكون من تقول بشر حتى لو كان ذاك البشر هو النبي صلى الله عليه وسلم [31].

4. الإعجاز التشريعي في القرآن الكريم:

إن الشريعة الربانية التي نزل بها القرآن وأرسى قواعدها في كثير من آياته خير دليل على إلهيته، وتلك التشريعات بحق أعظم الأدلة على ذلك، فلا يمكن بحال من الأحوال أن تكون تلك التشريعات من تأليف بشر بما اتسمت به من شمولية الإصلاح، ومخالفة ما كان سائدا قبلها من قوانين وشرائع جاهلية، والاستقلال عما سبقها من شرائع سماوية والهيمنة عليها. وارتفاع سماتها المتميزة عن مستوى عقول البشر وأعرافهم وقوانينهم.

ولعل نظرة متأملة منصفة في آيات القرآن تغنينا عن مزيد بيان يضيق عنه المقام، فلا يكاد ينكر منصف ما بشريعة القرآن الكريم من شمولية وكمال، لم يتركا جانبا من جوانب الحياة البشرية إلا وضعا له النظام الأكمل والدستور الأمثل، ولا يكاد ينكر - أيضا - ما فيها من أسس كلية ثابتة تتسم بالمرونة والملاءمة لمختلف الأجواء والبيئات في مختلف العصور بما لها من صلاحية للتطبيق في كل زمان ومكان.

فشريعة القرآن نظمت صلة المخلوقين بالخالق، وأقامتها على أسس فكرية بعيدة عن الخرافات والأباطيل، كما نظمت صلة الحاكم بالرعية وجعلت له حقا وعليه واجبا، فعاش الجميع آمنين تحت الراية التي رفعها القرآن في قوله: )وشاورهم في الأمر( (آل عمران: 159). إلى آخر تلك الجوانب.

وموازنة سريعة بين ما اتسمت به شريعة القرآن الربانية - من شمولية وعالمية وتمام وثبات ومرونة - وبين ما وصمت به النظم والقوانين الوضعية بما فيها من عجز واضعيها من البشر وقصورهم - تؤكد بما لا يدع مجالا لأدنى شك إلهية القرآن الكريم[32].

وبعد... فليس في الكلام فضل بيان نثبت به إلهية القرآن، وحسبنا منه ما فصلنا؛ ففيه لمن أراد الحجة قوي دليل، ولمن أراد التثبت خير شاهد.

الخلاصة:

·  المقصود بالرسول في قوله عز وجل: )إنه لقول رسول كريم (40)( (الحاقة) إما ملك الوحي جبريل - عليه السلام - وإما محمد - صلى الله عليه وسلم - على أن القول بأنه - صلى الله عليه وسلم - المقصود بالرسول في الآية لا يعني أكثر من كونه مبلغ الوحي لا منشئه.

·  لو علم المشركون وغيرهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ القرآن من اليهود والنصارى؛ لأشاعوا ذلك، ولاتخذوه مطعنا في الإسلام والقرآن، فضلا عن أن أحبار اليهود ورهبان النصارى - أنفسهم - لم يدعوا ذلك.

·  اشتمال القرآن الكريم على ألفاظ يونانية، ورومانية، وغيرها لا يعد تأثرا بها، ولا اقتباسا من الثقافات المنتسبة لها؛ لأن هذه الألفاظ قد عربت واندمجت في لغة العرب، وأجروها على قواعدهم فجرى عليها ما يجري على العربية التي نزل القرآن بها.

·  إن موازنة سريعة بين القرآن وبين شعر أمية بن أبي الصلت؛ تجعلنا نتساءل: من أي شعر أمية اقتبس النبي القرآن؟ أمن شعر الحنيفية الذي كتبه قبل البعثة؟ أم من هجائه للإسلام ونبيه وأصحابه ونصرته المشركين ورثائه قتلاهم؟! وهذا ما لا صوت له في القرآن ولا صدى!

·  ليس من شأن الخلوة - في حراء أو غيره - أن تفرز قرآنا، ثم إن كثيرا من آيات القرآن نزلت مرتبطة بوقائع وأحداث معروفة، وهذه الوقائع وتلك الأحداث كانت تالية لفترة غار حراء، فكيف نظم محمد - صلى الله عليه وسلم - هذه الأحداث قبل وقوعها؟! وإذا كان ألف القرآن في فترة تعبده واختلائه بنفسه في غار حراء، فلماذا انتظر كل هذا الوقت حتى بلغ الأربعين، ليعلن أنه نبي مرسل؟! ثم أليس ثمة تناقض بين ما يقتضيه هذا الادعاء - من خروج النبي بالقرآن دفعة واحدة عليهم، وبين ما استدلوا به على بشرية القرآن من نزوله منجما؟!

·  الوحي ليس هوسا ولا صرعا، فالمضطرب ذهنيا بصرع أو هوس أو غيره، لا تبلغ رؤياه هذه الدرجة من الدقة والنظامية والتناسق البديع الذي نجده في القرآن الكريم.

·  لقد نزل القرآن الكريم منجما ولا يعد هذا عيبا فيه، ولا انتقاصا منه، بل كان لهذا حكم ربانية عدة؛ منها: تثبيت فؤاد النبي - صلى الله عليه وسلم - والتدرج في تربية الأمة دينيا واجتماعيا وعقديا، ومجاراة الأحداث والنوازل والأحوال في تفرقها وتجددها.

·  لقد تحدى القرآن أرباب الفصاحة والبيان أن يأتوا بمثله؛ فعجزوا عن ذلك ولو ثبت أن القرآن الكريم قد جيء بسورة مثله أو أكثر، لوصلت إلينا، ولذاعت بين الناس. وكل ما أثر من محاولات في القديم والحديث، إن هي إلا محاولات فاشلة مضحكة؛ لأنها محاكاة شكلية هزيلة لبعض ألفاظ القرآن، أما تراكيبها فشيء خال من المضمون، ومن أدنى صور الإعجاز، وفي هذا ما يؤكد إلهية القرآن وينفي بشريته.

·  تعدد القراءات القرآنية لا يشمل القرآن كله، وإنما هو خاص بكلمات محددة، ثم إنه توقيفي، له من الحكم الربانية - من إثراء المعنى، وتوسيع الدلالة، والتيسير على العرب - ما جهله هؤلاء؛ فتناسوا كونه اختلافا صوتيا - في الأغلب - وتوهموه دليلا على بشرية القرآن وليس الأمر كذلك؛ إذ إنه لا يمس من التشريع أصلا ولا فرعا، ولا يحلل حراما، ولا يحرم حلالا.

·      إن في القرآن من وجوه الإعجاز ما يقطع بربانيته؛ لخروج تلك الوجوه الإعجازية عن المستوى البشري؛ ومنها:

o     الإخبار بالغيب الماضي والمستقبل وما تخفي النفوس وتكن الضمائر.

o      الإعجاز العلمي الذي أكدت صحته الأبحاث والدراسات العلمية حديثا.

o       الإعجاز البياني وما فيه من مظاهر جلال الربوبية في السياق القرآني.

o       الإعجاز التشريعي بما فيه من ثبات ومرونة، وشمولية وكمال، وصلاحية للتطبيق في كل زمان ومكان.

 

 



(*) هل القرآن معصوم، عبدالله عبد الفادي، موقع إسلاميات.

[1]. المنجم: المفرق.

[2]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مجلد14، ج29، ص141.

[3]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج6، ص 3686.

[4]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج18، ص274.

[5]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مجلد 14، ج29، ص141.

[6]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م ، ج18، ص274.

[7]. مصدر القرآن، د. إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، القاهرة، 1417هـ/ 1997م، ص225.

[8]. الرد على كتاب جورج بوش "حياة محمد"، السيد حامد السيد علي، مطابع الولاء الحديثة، مصر، 2006م، ص91.

[9]. القرآن والرسول ومقولات ظالمة، د. عبد الصبور مرزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، 1425هـ/ 2004م، ص24 بتصرف.

[10]. الإسلام في قفص الاتهام، د. شوقي أبو خليل، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط5، 1425هـ/2004م، ص33 بتصرف.

[11]. الرد على كتاب جورج بوش "حياة محمد"، السيد حامد السيد علي، مطابع الولاء الحديثة، مصر، 2006م، ص 89 بتصرف.

[12]. القسطاس: الميزان.

[13]. الفردوس: البستان.

[14]. القطران: هو عصارة بعض الأشجار مثل الأرز، وفي التنزيل: ) سرابيلهم من قطران ( (إبراهيم:50)؛ لأنه شديد الاشتعال، وهو مادة سوداء لزجة تستخرج من الخشب والفحم ونحوهما بالتقطير الجاف، تستعمل لحفظ الخشب من التسوس، والحديد من الصدأ.

[15]. القسور والقسورة: الأسد. قال الله تعالى: ) فرت من قسورة (51) ( (المدثر)، ويقال: هم الرماة من الصيادين.

[16]. الحنفاء: جمع حنيف، والحنيف: صحيح الميل إلى الإسلام الثابت عليه. وقيل: هو المائل إلى الاستقامة. وقيل: المسلم. وقيل: الحنيف هو المخلص. وقيل: من كان على دين إبراهيم ـ عليه السلام ـ في استقبال قبلة البيت الحرام وسنة الاختتان. وقال الزجاج: الحنيف في الجاهلية: من كان يحج البيت ويغتسل من الجنابة ويختتن، فلما جاء الإسلام كان الحنيف: المسلم؛ لعدوله عن الشرك.

[17]. محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعظم البشر، حمزة النشرتي، وعبد الحفيظ فرغلي، دار النشرتي، القاهرة، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص48: 54 بتصرف.

[18]. تحنث: تعبد واعتزل الأصنام مثل تحنف. وتحنث من كذا: أي تأثم منه.

[19]. افتراءات المستشرقين على الإسلام، د. عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1،1413هـ/ 1992م، ص7 بتصرف.

[20]. سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، محمد بن يوسف الصالحي الشامي، دار الكتاب المصري، القاهرة، ط2، 1407هـ/ 1986م، ج2، ص319 بتصرف.

[21]. الوحي: ما يلقيه الله تعالى على قلب نبي من الأنبياء بواسطة ملك أو بغير واسطة ملك ، وقد يطلق الوحي على جبريل ـ عليه السلام ـ باعتباره الواسطة.

[22]. التكليف لغة: إلزام ما فيه كلفة، أي مشقة ، وشرعا: إلزام مقتضى خطاب الشرع ، وعلى هذا تكون الإباحة تكليفا؛ لأنها من مقتضيات الخطاب المذكور.

[23]. أخرجـه البخـاري في صحيحـه، كتـاب الوضـوء، بـاب التخفيـف في الوضـوء (138)، وفي موضع آخر.

[24]. الوحي والقرآن الكريم، د. محمد حسين الذهبي، مكتبة وهبة، مصر، ط1، 1406هـ/ 1986م، ص7، 8 بتصرف.

[25]. النبوة المحمدية: دلائلها وخصائصها، د. محمد سيد أحمد المسير، دار الاعتصام، القاهرة، 1421هـ/ 2000م، ص175: 177 باختصار.

[26]. لا يأتيه الباطل، د. محمد سعيد رمضان البوطي، دار الفكر، دمشق، ط1، 1428هـ/ 2007م، ص223: 225 بتصرف.

[27]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه (1943).

[28]. انظر: الأدلة على صدق النبوة المحمدية، هدى عبد الكريم مرعي، دار الفرقان، الأردن، 1411هـ/ 1991م، ص166: 180 بتصرف.

[29]. الأدلة على صدق النبوة المحمدية، هدى عبد الكريم مرعي، دار الفرقان، الأردن، 1411هـ/ 1991م، ص180: 186 بتصرف.

[30]. الدر المنقوش في الرد علي جورج بوش، عبد البديع كفافي، دار الفتح للإعلام العربي، القاهرة، 2005م، ص194، 195.

[31]. لا يأتيه الباطل، د. محمد سعيد رمضان البوطي، دار الفكر، دمشق، ط1، 1428هـ/ 2007م، ص231: 225.

[32]. الأدلة على صدق النبوة المحمدية، هدى عبد الكريم مرعي، دار الفرقان، الأردن، 1411هـ/ 1991م، ص161: 157 بتصرف.

redirect redirect unfaithful wives
read women who cheat on husband want my wife to cheat
wives that cheat redirect read here
click here unfaithful spouse women cheat husband
open online black women white men
signs of a cheater why women cheat website
online why men have affairs read here
go link how long for viagra to work
go using viagra on females how long for viagra to work
generic viagra softabs po box delivery us drugstore pharmacy viagra buy viagra generic
generic viagra softabs po box delivery viagra 50 mg buy viagra generic
viagra vison loss vasodilator viagra read
why do wife cheat on husband website reasons why married men cheat
website why some women cheat redirect
dating a married woman cheat on my wife i cheated on my husband
read here website why women cheat on men
مواضيع ذات ارتباط

أضف تعليقا
عنوان التعليق 
نص التعليق 
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء كاتبيها فقط ولا تعبر عن الموقع
 
 
 
  
المتواجدون الآن
  5046
إجمالي عدد الزوار
  38497522

الرئيسية

من نحن

ميثاق موقع البيان

خريطة موقع البيان

اقتراحات وشكاوي


أخى المسلم: يمكنك الأستفادة بمحتويات موقع بيان الإسلام لأغراض غير تجارية بشرط الإشارة لرابط الموقع