الزعم بأن القرآن منتج
ثقافي(*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المشككين أن القرآن منتـج ثقافـي جمعـه محمــد - صلى الله عليه وسلم - من المعارف التي حصل عليها بالسماع، وأن أحكامه كانت صالحة لعصره، ثم نسخت صلاحيتها بالتطور التاريخي والتغيرات التاريخية. هادفين من وراء ذلك إلى أن شريعة الإسلام لا تصلح لكل زمان ومكان.
وجها إبطال الشبهة:
1) إعجاز القرآن وعدم قدرة العرب الفصحاء على الإتيان بمثله مع تحديهم بذلك يتنافى مع كونه منتجا ثقافيا أو كلاما مخلوقا.
2) لقد جمع القرآن الكريم بين ثبات النص وتطور التفسير، والاجتهاد الفقهي في فهم النص الإلهي، فواكب المتغيرات عبر الزمان والمكان.
التفصيل:
أولا. التحدي القرآني يتنافى مع القول ببشريته:
إذا كان زعم هؤلاء وقيامهم بمحاولاتهم الساذجة الفجة[1] يشفي غليلهم من الإسلام والقرآن؛ فليقوموا بجهد دءوب ولينفق بعضهم فيه عمره، ولتنفق عليهم دولهم الملايين للتشكيك في المصدر الرباني للقرآن، ومهاجمته بكل وسيلة.
هو فعل قديم وإفك قالته الجاهلية العربية من قبل ولا تزال كل جاهلية تردده! ولقد عرض القرآن كل تلك المزاعم والافتراءات وفندها تفنيدا عقليا مقنعا قال تعالى: )وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون( (الفرقان: 4) ويـرد عليهـم القـرآن في نفـس الآيــة: )فقد جاءوا ظلما وزورا (4)( (الفرقان)، وقال تعالى: )وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا (5)( (الفرقان)، ويرد عليهم القرآن أيضا: )قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما (6)( (الفرقان) أي: قل يا محمد: أنزل هذا القرآن الذي يعلم السر فهو عالم الغيب فلا يحتاج إلى معلم، وذكر "السر" دون الجهر؛ لأنه من علم السر، فهو في الجهر أعلم، ولو كان القرآن مأخوذا من أهل الكتاب وغيرهم لما زاد عليها وقد جاء بفنون تخرج عنها، فليس مأخوذا منها، وأيضا لو كان مأخوذا من هؤلاء لتمكن المشركون منه أيضا، كما تمكن محمد - صلى الله عليه وسلم - فهل عارضوه فبطل اعتراضهم من كل وجه[2]. وقال تعالى: )ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر( (النحل: ١٠٣) فرد الله عليهم: )لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين (103)( (النحل) أي: كيف يعلم شخص أعجمي هذا الكلام الذي لا يستطيع الإنس والجن أن يعارضوا منه سورة واحدة فما فوقها[3].
ولنسأل: هل تأتى لبشر في التاريخ كله أن يؤلف كتابا يحوي من الحقائق ما جاء به القرآن الكريم؟ إن القرآن ليس فقط معجزا بأسلوبه، ولكن كذلك بمحتوياته، وبكون هذه المحتويات - بكل شمولها وتكاملها - معروضة بأسلوب معجز، أي إنه إعجاز فوق إعجاز. قال تعالى: )وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله( (يونس: 37).
فلو أن الإعجاز كان في الأسلوب وحده الذي عجز الناس خلال كل القرون عن أن يأتوا بمثله - لكان هذا كافيا لإثبات مصدره الرباني، ودليلا قاطعا على صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دعواه أنه رسول مرسل من عند الله، وأنه: )وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4)( (النجم).
فكيف إذا كان الإعجاز موضوعيا إلى جانب الإعجاز البياني[4]؟
لقد كان العرب في جاهليتهم قوما أولي فصاحة نادرة، فكانت معجزة النبي - صلى الله عليه وسلم - الكبرى هي هذا القرآن الذي تحداهم أن يأتوا بمثله فلم يستطيعوا، فتحداهم أن يأتوا بعشر سور من مثله فلم يستطيعوا، فتحداهم أن يأتوا بسورة من مثله فلم يستطيعوا.
وإذا كان القدامى قد وجهوا أكبر اهتمامهم للإعجاز البياني، الذي تحدى به القرآن الجاهلية العربية وآلهتها المزيفة، فقد آن لنا أن نتدبر جوانب الإعجاز الأخرى في هذا الكتاب المعجز لتحدي الجاهلية المعاصرة التي تريد أن تفتن الناس عن ربهم ودينهم، وتؤله "الإنسان" بدلا من الله - وتسعى إلى تدمير الإنسان بإبعاده عن مصدر النور الحقيقي )الله نور السماوات والأرض( (النور: 35).
ولقد اشتمل النص القرآني على أنواع متعددة من الإعجاز، فإلى جانب إعجازه البياني الذي لا تنفد عجائبه، هناك الإعجاز الدعوى بوصفه كتاب دعوة، فقد أبرز عقيدة التوحيد الصافية كما لم يبرزها كتاب قط، وهناك الإعجاز التشريعي الذي يتضمن شريعة متكاملة وافية بكل حاجات البشر الحياتية، ومتطلبات وجودهم لا في زمان نزولها فحسب، بل مهما امتد بهم الزمن وتعددت مجالات الوجود، وهناك الإعجاز التربوي الذي أخرج خير أمة أخرجت للناس، وهناك الإعجاز العلمي الذي تتكشف آياته كلما زاد البشر علما بما حولهم من الكون، وهذه مجرد إشارات لحث الباحثين إلى أن يبحثوا، والمفكرين إلى أن يتدبروا كما أمرهم الله، قال تعالى: )أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (82)( (النساء)[5].
خذ حقيقة الألوهية وحدها، وما جرى فيها على أيدي البشر من تخبطات مقارنة بصفاء الوحي وشفافيته، ووضوحه، وتألقه، وعمقه ونصاعته، وخذ إلى جانبها عشرات الحقائق الواردة في كتاب الله: حقيقة خلق الإنسان، حقيقة الدنيا والآخرة، حقيقة البعث والنشور، والحساب، والجزاء، حقيقة القيم التي ينبغي أن تحكم حياة الإنسان على الأرض، حقيقة الكون المادي وما يجري فيه، حقيقة المهمة التي خلق الإنسان من أجلها، حقيقة الإيمان، حقيقة المعركة القائمة بين الإيمان والكفر، حقيقة السنن الربانية التي تحكم حياة البشر، وانظر وتفكر.
أي كتاب من صنع البشر جمع هذا الحشد من الحقائق بالتناسق الذي عرضت به في هذا الكتاب، وبقوة التأثير الذي يبعثه في النفوس؟ وأي بشر تبلغ اهتماماته هذا الشمول الذي لا يغادر شيئا من أساسيات الحياة إلا ويتعرض له في عمق وتمكن مثل ما جاء في هذا الكتاب؟ ولكن بعض المستشرقين لهم في ذلك تخرصات!
يقولون: لقد جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - بما جاء به نقلا عن كتب أهل الكتاب، أو سطوا عليها، أو تلقيا من أصحابها! وقد بلغت فريتهم حدا من الكذب المفضوح أكبر من باقي مزاعمهم، فكيف يتأتى للذي ينقل من كتاب يقول إن الله ثالث ثلاثة أن يقرر أن الله واحد؟
وكيف يتأتى للذي ينقل من كتاب يقرر أن لله ولدا يشاركه في الألوهية، أن يقرر أن الله لا شريك له ولا ولد؟! وكيف يتأتى للذي ينقل من كتب لم تترك نبيا من أنبياء الله إلا لطخت سمعته وشوهت صورته، واتهمته بما لا يجوز في الرجل العادي فضلا عن النبي المرسل، أن يسرد سير الأنبياء وقصصهم بالنصاعة والطهر والسمو الذي وردت به سير الأنبياء في القرآن؟
وكيف يتأتى للذي ينقل من كتب أو يسمع من أناس لم يتعرفوا على آيات الله في الكون، أو لم يدركوها، ولا علم لهم بأطوار الجنين البشري من النطفة للعلقة للمضغة للعظام لاكتمال التكوين، أن يسرد في كل هذه الأمور حقائق لم يتعرف العلم عليها إلا منذ زمن قريب؟!
قال تعالى: )ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون (21)( (الأنعام)، ولكن المعركة لن تكف، قال تعالى: )ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا( (البقرة: 217) [6].
ثانيا. الجمع بين الثبات والتطور لمواكبة المتغيرات:
إن القول بتاريخية ووقتية أحكام القرآن الكريم ليس بجديد، فلقد سبق وتبناها فلاسفة التنوير الغربي الوضعي العلماني، بالنسبة للتوراة والإنجيل، فرأوا أن قصصها مجرد رموز، بل ورأوا أن الدين والتدين إنما يمثل "مرحلة تاريخية" في عمر التطور الإنساني، مثلت مرحلة الطفولة للعقل البشري، ثم تلتها - على طريق النضج - مرحلة "الميتافيزيقا" التي توارت هي الأخرى لحساب المرحلة الوضعية، التي لا ترى علما إلا إذا كان نابعا من الواقع، ولا ترى سبلا للعلم والمعرفة إلا العقل والتجارب الحسية، وما عدا ذلك - من الدين وأحكام شرائعه - فهي "إيمان" مثل مرحلة تاريخية على درب التطور العقلي، ولم يعد صالحا لعصر العلم الوضعي - اللهم إلا لحكم العامة والسيطرة على نزعاتهم وغرائزهم!
وإذا كان هذا القول قد جاز، ووجد له بعض المبررات - في الغرب - بالنسبة لكتب رسالات خاصة بقوم بعينهم - بني إسرائيل - الذين جاءتهم اليهودية والمسيحية، ونزلت لهم التوراة والإنجيل، لزمان معين وبتفاصيل تشريعات - وخاصة في التوراة - تجاوزها تطور الواقع، فإن دعوى تاريخية النص الديني لا مكان لها ولا ضرورة تستدعيها بالنسبة للقرآن الكريم؛ ذلك لأن القرآن هو كتاب الشريعة الخاتمة، والرسالة التي ختمت بها النبوات والرسالات، فلو طبقنا عليه قاعدة تاريخية النصوص الدينية لحدث "فراغ" في المرجعية الدينية، إذ لا رسالة بعد رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا وحي بعد القرآن.
وإذا حدث هذا "الفراغ" في المرجعية والحجة الإلهية على الناس، زالت حجة الله على العباد في الحساب والجزاء، إذ سيقولون: يا ربنا، لقد أنزلت علينا كتابا نسخه التطور، فماذا كان علينا أن نطبق، بعد أن تجاوز الواقع المتطور آيات وأحكام الكتاب الذي أنزلته لهدايتنا؟!
إن التاريخية ووقتية الأحكام لا يقول بها أحد في أحكام العبادات، وإنما يقول بها أصحابها في آيات وأحكام المعاملات. وهم يخطئون إذا ظنوا أن هناك حاجة إليها في أحكام المعاملات التي جاء بها القرآن الكريم، ذلك أن القرآن الكريم - في العبادات - قد وقف عند "فلسفة" و "كليات" و "قواعد" و "نظريات" التشريع أكثر مما فصل في تشريع المعاملات.
فهو قد فصل في الأمور الثوابت التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان، مثل منظومة القيم والأخلاق، والقواعد الشرعية التي تستنبط منها الأحكام التفصيلية، والحدود المتعلقة بالحفاظ على المقاصد الكلية للشريعة، وترك تفصيل أحكام المعاملات لعلم الفقه، الذي هو اجتهاد محكوم بثوابت الشريعة الإلهية، وذلك حتى يظل الفقه - فقه المعاملات - متطورا دائما أبدا، عبر الزمان والمكان؛ ليواكب تغير الواقع ومستجدات الأحداث في إطار كليات الشريعة وقواعدها ومبادئها، التي تحفظ على أحكامه المتطورة إسلاميتها دائما وأبدا.
وهذه "الصيغة الإسلامية" الفريدة التي جاءت بالنص الإلهي الثابت - أي الشريعة التي هي وضع إلهي ثابت - تحفظ إسلامية وإلهية المرجعية والمصدر دائما وأبدا، بينما وكلت أمر المتغيرات إلى الفقه - المتجدد والمتطور - والفقه هو علم الفروع، هذه "الصيغة الإسلامية" هي التي وازنت بين ثبات النص وتطور التفسير البشري للنص الإلهي الثابت، وجمعت بين ثبات "الوضع الإلهي" وتطور "الاجتهاد الفقهي" أي جمعت بين ثبات المرجعية والنص، وبين تطور "الاجتهاد الفقهي" المواكب لمتغيرات الواقع عبر الزمان والمكان[7].
الخلاصة:
· ما يشتمل عليه النص القرآني من كافة وجوه الإعجاز: البياني، والدعوى، والتربوي، والتشريعي، والعلمي، بجانب عجز البشر عن المجيء بمثل أو بسورة من مثله وتحديه لهم بهذا - لدليل كاف على أنه لا يمكن أن يكون منتجا ثقافيا جمعه محمد - صلى الله عليه وسلم - من المعارف التي حصل عليها بالسماع.
· القرآن الكريم قد جمع بين ثبات النص، وتطور التفسير والاجتهاد الفقهي للنص الإلهي، فواكب المتغيرات عبر الزمان والمكان، ويدل على ذلك صلاحية شريعته منذ أن نزل القرآن إلى الآن، وستظل تحكم بعدل الله وإحسانه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها - يشعر بهذا ويحسه كل من ظل على فطرته التي فطره الله عليها.
· إن رسالة الإسلام هي خاتمة الرسالات السماوية إلى الأرض، وهذا يستدعي أن تكون شريعته ملائمة لكل زمان ومكان إلى قيام الساعة، حتى لا يكون للبشر حجة على الله - سبحانه وتعالى - وإذا نظرنا إلى شريعة الإسلام وجدناها متطورة حسب مقتضيات كل عصر.
(*) الاستشراق وجه للاستعمار الفكري، د. عبد المتعال محمد الجبري، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1416هـ/ 1995م. خطاب التطرف العلماني في الميزان، فهمي هويدي، 1996م. الشريعة الإسلامية والعلمانية الغربية، د. محمد عمارة، نهضة مصر، القاهرة، 2003م.
[1]. الفجة: الخاطئة والمخالفة للحقيقة.
[2]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج13، ص4.
[3]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج10، ص177 بتصرف يسير.
[4]. لا يأتون بمثله، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م، ص204 بتصرف.
[5]. لا يأتون بمثله، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م، ص8: 10 بتصرف.
[6]. لا يأتون بمثله، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م، ص204: 206 بتصرف.
[7]. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط4، 1427هـ/ 2006م، ص307: 309.
wives that cheat
link read here
My girlfriend cheated on me
read here signs of unfaithful husband